الأرزاق و أخبرنا أنه سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين، فلا رازق و لا متحكم في الرزق إلا هو، و أنه سبحانه يرزق كل مخلوقاته كما سبق أن بيناه من جهة، ثم خلق الإنسان و جعله مختارا مُكلفا و فرض عليه أن يطلب رزقه بالحلال، و إن طلبه بالحرام فهو يستطيع طلبه من ذلك، لكنه سيكون مُخالفا لخالقه و يُعرض نفسه لسخطه و عذابه. فإن طلب رزقه بالحرام فإن الله تعالى سيرزقه من حرام لأمرين: الأول هو أن الله تعالى هو الرزاق، و لا رازق غيره. و الثاني أن هذا الإنسان هو الذي طلب رزقه من حرام فأعطاه الله له، و ليس من الحكمة و لا من سنة الابتلاء بأن لا يُرزقه الله تعالى من الطريق الذي طلبه هو بنفسه. و إلا بطُلت سنة الابتلاء و التكليف و إنزال الرسالات و إرسال الرسل، فلو كان الله تعالى لا يرزق إلا المؤمنين و الصالحين، فلا معنى للتكليف. لذا اقتضت السُنة الإلهية انه سبحانه أمر بإتباع شريعته، و حذّر من مخالفتها من جهة، و انه يرزق الملتزمين بشريعته الرزق الحلال، و يرزق الخارجين عليها الرزق الحرام من جهة ثانية. و في الحالتين فإن العبد هو المسؤول عن أعماله و ليس الله تعالى، فهو سبحانه لم يظلم أحدا، و كان رازقا عادلا حكيما في الحالتين. و هذا يُبطل كل مغالطات الرجل و مزاعمه و تهويلاته.
و أما اعتراض الزمخشري فهو غير صحيح في معظمه عقلا و شرعا، لأنه أولا إن العالم مملوء بمختلف الأرزاق، من أموال، و ثروات، و دواب. و هي كلها من خلق الله تعالى صخّرها لبني آدم. فكل ما يناله البشر من خيرات هي من أرزاق الله تعالى. و هو الذي يرزق بها كل الأجناس و الشعوب و الأمم على اختلاف لغاتها و أديانها. و هذا واضح جدا من قوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً} الإسراء: 18 - 20 - . و هذا العطاء رزق من أرزاق الله يرزق به المؤمن و الكافر. فهو سبحانه يُعطي من يُحب من عباده، و من لا يُحب، لكنه لا يُدخل الجنة إلا من يُحب، و لا يُدخل النار إلا من لا يُحب.
و ثانيا إن الأموال و الخيرات مهما كانت مصادرها، و كيفية تحصيلها، فهي أرزاق بلا شك. غير أنه توجد فيها أرزاق حرام لأنها اُكتسبت بطريقة مخالفة للشرع، و توجد فيها أرزاق حلال، لأنها اُكتسبت بطريقة موافقة للشرع. و الشاهد على هذا أيضا أنه رُوي لابن عباس قول وردت فيه عبارتا: الرزق الحلال، و الرزق الحرام [1] .و فسّر مجاهد قوله تعالى: {وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} النساء 2، بقوله: لا تعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال» [2] . و هذا يعني أن العبارتين كانتا معروفتين عند السلف، و قد تداولها أهل العلم فيما بينهم.
و ثالثا إن في كلام الزمخشري مغالطات و تلاعبات انتصر بها لمذهبيته الاعتزالية. منها قوله: (( ولذلك لم يسم مال الغاصب رزقا ) ). و هذا باطل، لأن الرزق هو الرزق في ذاته، و إنما طريقة تحصيله هي التي قد تختلف، من جهة الحلال و الحرام. و منها قوله: (( لأن الله تعالى منعه من الانتفاع به ودعا غيره إلى منعه منه ) ). و هذا لا يرفع اسم الرزق عن الرزق، و إنما حدد الطريق الشرعي لتحصيله، و نهى عن تحصيله بما يُخالف ذلك. و منها قوله: (( ولو كان الحرام رزقا؛ لجاز أن ينفق منه الغاصب، وبالإجماع لا يجوز، بل يجب الرد ) ). و هذا لا يصح أيضا، لأن عدم جواز الإنفاق منه ليس سببه أنه ليس رزقا، و إنما سببه أنه حُصّل بطريق حرام، فهو رزق حرام.
و منها زعمه بأن من أكل الحرام طول عمره فهو ليس من رزق الله، و إنما الله (( رزقه حيث مكنه من التوصل إلى المنافع بالطرق المباحة، لكنه خالف عنها إلى غيرها ) ) [3] . و هذا لا يصح، لأن الرزق مهما كانت طريقة تحصيله فهو من رزق الله، و هو الذي أعطاه للبشر من المؤمنين و الكفار، و مكنهم منه، بل و ذكر صراحة أن أقوامهم ضالين توسع في رزقهم ثم أخذهم أخذ عزيز منتقم، كما في قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} الأنعام 44 - . و هذا التمكين قائم على أساس أن الله تعالى خلق الإنسان حرا و هداه النجدين ليبتليه. و الدليل القاطع على هذا قوله سبحانه {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً} الإسراء: 18 - 20 - . و لا يصح قول
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت، 1992، ج 3، ص: 389.
(2) ابن بطة العكبري: الإبانة الكبرى، 3 ص: 468. ابن كثير: نفس المصدر،، ج 2 ص: 207.
(3) الزمخشري: المنهاج في أصول الدين، ص: 25.