فهرس الكتاب
الصفحة 185 من 218

و من أخطر تلك الانحرافات المنهجية: موقفهم من الوحي و العقل، فلم يضعوا أيا منهما في مكانه الصحيح من جهة، ثم قدموا آراءهم و أهواءهم عليهما من جهة أخرى، بدعوى تقديم العقل على الشرع، مع أن العقل الصريح من ذلك بريء، و الشرع الصحيح له رافض. فترتب عن ذلك أن افتقد المعتزلة للمنهج الصحيح في الفهم و البحث و الاستدلال. فجعلوا الشرع وراء ظهورهم، و داسوا على عقولهم، و سخّروها لخدمة أفكارهم و أهوائهم على حساب الوحي الصحيح و العقل الصريح. فوجدناهم يُقدمون آراءهم و ظنونهم على الشرع، ثم يهجمون عليه تحريفاً و انتقاءً و إغفالا في الأمور المخالفة لمذهبهم، مُستخدمين في ذلك التلبيس و التغليط، و التأويل الفاسد، و التلاعب بالألفاظ.

و الأخير- الرابع من الأسباب المباشرة- يتمثل في أن مواقف المعتزلة من قضايا ظروفهم التي حركتهم كانت ردود فعل غير عقلانية، و ليست صحيحة في معظم الأحيان. فكان الغالب عليهم أنهم اتخذوا منها مواقف ذاتية من دون الرغبة و الحرص على البحث عن الحكم الشرعي الصحيح من تلك القضايا المختلف فيها من جهة، و من دون البحث عن الموقف الصحيح من الناحيتين العقلية و العلمية فيما يخص تلك القضايا من جهة أخرى. فكان همهم الأساسي هو الرد على معارضيهم و الانتصار لأفكارهم، سواء وافقت الشرع و العقل أم لم توافقهما!!. فلم يكن فكرهم عند نشأته يبحث في أساسه عن الفهم الصحيح لتلك القضايا، و إنما كان يعمل على الانتصار لها بحق و بغير حق. و لهذا وجدناهم يُخالفون الوحي و العقل في أكثر أصولهم، و هذا أمر سبق أن بيناه.

و أما الأسباب غير المباشرة، فهي ذات أهمية كبرى، و كان لها تأثير كبير و أساسي فيما حدث للمعتزلة و فكرهم، و المُتمثلة في الأرضية الإيمانية و العلمية التي نشأ عليها مذهب المعتزلة. و قد تبين مما ذكرناه أن مؤسسي فكر المعتزلة كواصل ابن عطاء، و عمرو بن عبيد، و أمثالهما كانوا قليلي التقوى و الالتزام بدين الإسلام، و كثيري الغرور و التكبر، و لم يكونوا من الراسخين في العلم منهجا، و لا معرفة، ولا ممارسة. فأقاموا مذهبهم على هذه الأرضية الضعيفة و المهزوزة و المنحرفة، فضلوا و أضلوا. و المسلم المخلص التقي، و العالم بدين الإسلام لا يُمكن أن يتقدم على الشرع في أي حال من أحوال، لأن التقدم عليه هو نقض لإيمانه. قال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام