سلسلة منهاج المسلم - (59)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة.. ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب: (منهاج المسلم)، ذلكم الكتاب الحاوي للعقيدة والآداب والأخلاق والعبادات والمعاملات الإسلامية، احتوى شريعة الله عز وجل، وهو كتاب لا يتعصب لمذهب من المذاهب، ويقول بكل ما عليه أهل السنة والجماعة.

وها نحن مع الفصل الرابع من كتاب الأخلاق، الفصل الرابع في الإيثار وحب الخير، في الإيثار بأن تؤثر غيرك عن نفسك، وتعطيه ما لم تعطه لنفسك، وتحب الخير لك وله، فهيا نصغي بتأمل إلى ما في هذا الباب.

قال: [ من أخلاق المسلم ] المسلم الذي أسلم قلبه ووجهه لله، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125] المسلم بحق [التي اكتسبها من تعاليم دينه ] الإسلام [ ومحاسن إسلامه ] من تلك الآداب والأخلاق [ الإيثار على النفس، وحب الغير ] الإيثار للغير على النفس وحبها الخير [ فالمسلم متى رأى محلاً للإيثار آثر غيره على نفسه ] أي: فضل غيره على نفسه [ وفضله عليها، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروى سواه، بل قد يموت في سبيل حياة آخرين، وما ذلك ببعيد ولا غريب على مسلم تشبعت روحه بمعاني الكمال، وانطبعت نفسه بطابع الخير وحب الفضيلة والجميل.. تلك هي صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة؟

والمسلم في إيثاره وحبه للخير ناهج نهج الصالحين السابقين، وضارب في درب الأولين الفائزين الذين قال الله تعالى فيهم في ثنائه عليهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] إن كل خلائق المسلم الفاضلة، وكل خصاله الحميدة الجميلة، إنما هي مستقاة ] أي: مأخوذة [ من ينابيع الحكمة المحمدية، أو مستوحاة من فيوضات الرحمة الإلهية، فعلى مثل قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المتفق عليه: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ] أي: لا يبلغ أحدكم درجة الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [ تزداد ] لما يسمع هذا الحديث ويقرأ تزداد [أخلاق المسلم سمواً وعلواً. وعلى مثل قول الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] كان شعور المسلم بحب الخير والرغبة في الإيثار على النفس والأهل والولد يزداد قوة ونمواً ] إذا سمع هذا الحديث وقرأ هذه الآية، فـ [ إن عبداً كالمسلم يعيش موصولاً بالله، لسانه لا يفتأ رطباً بذكره، وقلبه لا يبرح عاكفاً على حبه، إن سرح في ملكوت النظر جنى العبر، وإن أورد الخاطر على مثل آيات المزمل وفاطر: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوه عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30] ] لما قرأ المسلم هذا [ احتقر الدنيا وازدراها واصطفى الآخرة واجتباها. ومن كان هذا حاله فكيف لا يبذل بسخاء ماله، ولِم لا يحب الخير ولا يؤثر الغير من علم أن ما يقدمه اليوم يجده غداً هو خيراً وأعظم أجراً؟]

قال: [ وها هي ذي خمس من آيات إيثار المسلم وحبه للخير نتلوها بالحق لقوم يعقلون:

أولاً: في دار الندوة ] في مكة والرسول الكريم بمكة [ وافق مجلس شيوخ قريش بإجماع الآراء على اقتراح تقدم به أبو مرة -إبليس لعنة الله عليه- يقضي بقتل النبي صلى الله عليه وسلم واغتياله في منزله، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرار الجائر، وقد أذن له بالهجرة ] أي: سمح الله له بأن يهاجر [ فعزم عليها ] أي: على الهجرة [ وبحث على من ينام على فراشه ليلاً ] طلب من ينام على فراشه ليلاً [ ليموه على المتربصين له ليبطشوا به، فيغادر المنزل ويتركهم ينتظرون قيامه من فراشه، فوجد ابن عمه الشاب المسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أهلاً للفداء والتضحية، فعرض عليه الأمر فلم يتردد علي في أن يقدم نفسه فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فينام على فراش لا يدري متى تتخطفه الأيدي منه لترمي به إلى المتعطشين إلى الدماء يلعبون به بسيوفهم لعب الكرة بالأرجل، ونام علي وآثر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة، فضرب بذلك على حداثة سنه ] أي: صغر سنه [ أروع مثل في التضحية والفداء، وهكذا يؤثر المسلم على نفسه، ويجود حتى بنفسه والجود بالنفس أقصى غاية الجود ] هذه حادثة وواقعة تاريخية صحيحة، لقد فدى علي رسول الله بنفسه.

[ ثانياً: قال حذيفة العدوي رضي الله عنه: انطلقت يوم اليرموك ] حرب بين المسلمين والروم [ أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، ومسحت به وجهه ] هذا في الجرحى [ فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إلي أن نعم، فإذا رجل يقول: آه! فأشار ابن عمي إلي أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه! فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات، رحمة الله عليهم أجمعين ] فهذا معنى الإيثار على النفس [ وهكذا يضرب هؤلاء الشهداء الثلاثة الأبرار أعلى مثال في الإيثار، وبتفضيل الغير على النفس، وهذا هو شأن المسلم في هذه الحياة ] المسلم الحقيقي لا الصوري.

ما الفرق بين المسلم الحق والمسلم العادي؟ المسلم الحق ذاك الذي قلبه لا يتقلب طول الحياة إلا في طلب رضا الله، ووجهه لا يقبل به سائلاً ولا طالباً إلا الله.

[ ثالثاً: روي أنه اجتمع عند أبي الحسن الأنطاكي نيف وثلاثون رجلاً لهم أرغفة ] خبز [ معدودة لا تكفيهم شبعاً، فكسروها ] قطعاً قطعاً [ وأطفئوا السراج ] المصباح [ وجلسوا للأكل، فلما رفعت السفرة فإذا الأرغفة بحالها لم ينقص منها شيء ] لماذا؟ [ لأن أحداً منهم لم يأكل إيثاراً للآخرين على نفسه حتى لم يأكلوا جميعاً، وهكذا آثر كل مسلم جائع منهم غيره، فكانوا من أهل الإيثار جميعاً ] واليوم المسلمون يقتل بعضهم بعضاً ويقولون: مسلمون.

[ رابعاً: ] تأملوا هذه الحادثة [ روى الشيخان ] البخاري ومسلم [ أنه نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف ] نزل عنده ضيف [ فلم يجد عند أهله شيئاً من الطعام، فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله ] ليعشيه أو يغديه [ ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج ] الضوء [ وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل، حتى أكل الضيف إيثاراً للضيف على نفسه وأهله، فلما أصبح قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( لقد عجب الله من صنيعكم الليلة بضيفكم ) ] (لقد عجب الله من صنعكم الليلة بضيفكم حيث أكل ولم تأكلوا، شبع وأنتم جياع [ ونزلت هذه الآية: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] ] أي: حاجة وجوع واحتياج.

[ خامساً: حكي أن بشر بن الحارث أتاه رجل في مرضه الذي توفي فيه، فشكا إليه الحاجة ] أي: الفقر [ فنزع بشر قميصه الذي كان عليه ] ثوبه [ فأعطاه إياه، واستعار قميصاً مات فيه ].

قال المؤلف غفر الله لكم وله وإياكم ورحمكم جميعاً: [ هذه خمس صور تشكل أنموذجاً حياً لخلق المسلم في الإيثار وحب الخير ذكرناها هنا ليورد المسلم عليها خاطره فيعود مشبعاً بروح حب الخير والإيثار، ويواصل أداء رسالته ] الخلقية [ المثالية في الحياة وهو المسلم قبل كل شيء ].

وصلى اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.