سلسلة منهاج المسلم - (18)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم، وها نحن مع [ الفصل الثالث عشر: في توحيد العبادة].

إن العقيدة الإسلامية هي بمثابة الروح للبدن، فذو العقيدة الإسلامية الصحيحة حي، يعي ويسمع، يعطي ويمنع؛ وذلك لكمال حياته، ومن فقدها فهو في عداد الموتى، لا يسمع إن ناديت، ولا يعطي إن طلبت، ولا يمتنع إن منعت، فهو ميت.

والبرهنة والاستدلال على هذه الحقيقة: أن أهل الذمة في ديار المسلمين لا يكلفون بصلاة ولا زكاة؛ لموتهم، فإذا نفخنا فيهم الروح وقال أحدهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله حيي، وحينئذ مره يمتثل، وقل له: اغتسل يغتسل، أو اشهد الصلاة يشهدها، أما قبل إسلامه فهو ميت، لا يكلف.

ثانياً: المسلم إذا ضعفت عقيدته داخلها الزيد والنقصان، وداخلها الشك والريب، فهذا كالمريض، يقوى يوماً على فعل طاعة، ويعجز يوماً عنها وعن مثلها، فلهذا يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يصحح عقيدته، حتى تصبح عقيدة إسلامية حقيقية.

والطريق: أن يعرضها على القرآن، فإن وافق عليها فذاك، أو يعرضها على السنة النبوية فإن وافقتها فذاك، وإذا كان لا يحسن عرضها على الكتاب ولا السنة يعرضها على العلماء، فيقول: يا شيخ! أنا أعتقد كذا وكذا، فماذا تقول؟ أنا لا أعتقد في كذا وكذا، فماذا تقول؟ فالشيخ العالم يصحح له معتقده، وإن لم يصل إلى هذا المستوى فليلازم حلق العلم؛ فإنه يتعلم شيئاً فشيئاً؛ حتى يصبح ذا عقيدة سليمة ربانية.

ثم علمنا أن أركان هذه العقيدة هي ستة أركان: الإيمان بالله، الإيمان بملائكته، الإيمان بكتب الله، الإيمان برسله، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالقضاء والقدر، ستة أركان، لو سقط ركن سقط البناء عن آخره، فلو آمن بكل الرسل إلا رسولاً واحداً فقال: لا أؤمن به لانهار البناء وكفر، ووالله ما هو بمؤمن، ولو آمن بكل الأركان إلا بالقدر وقال: لا أؤمن بالقدر فهو كافر.

الآن وبعد أن درسنا الأركان الستة بالتفصيل في هذه المدة الطويلة خلصنا إلى: [ الفصل الثالث عشر: في توحيد العبادة] وتوحيد العبادة معناه: أن تعبد الله بما تعبدك به وحده، لا تلتفت إلى غيره، فما تعبدك الله به وأصبحت عبده المؤمن به المتقي له من قول أو عمل أو اعتقاد فيجب أن تخصه به وحده، فلا تلتفت إلى غيره، ولا تشرك به سواه.

قال: [ يؤمن المسلم ] من أسلم قلبه ووجهه لله، فقلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، ووجهه لا يقبل به إلا على الله، فلا يخاف ولا يهاب ولا يطمع ولا يرجو ولا يتوكل إلا على الله عز وجل، هذا المسلم يؤمن [ بألوهية الله تعالى للأولين والآخرين ] أي: بأن الله إله الأولين والآخرين، فالله جل جلاله هو معبود الأولين والآخرين، ولا معبود سواه [ وربوبيته لجميع العالمين ] فالله هو رب العالمين، فلا يوجد فرد من أفراد الكون من عالم الملائكة .. من عالم الجن .. من عالم الإنس .. من عالم الحيوان ليس الله ربه، هذا لا وجود له. أي: لا يوجد من ليس الله خالقه وخالق رزقه ومدبر حياته، فلا يوجد رب إلا الله، فهو رب العالمين، ورب كل شيء ومليكه، هكذا تؤمن يا عبد الله المسلم! [ وأنه لا إله غيره ] أي: لا يوجد من يستحق أن يؤله وأن يعبد إلا هو [ وأنه لا رب سواه ] أي: لا يوجد خالق ولا مدبر في الكون إلا هو [ فلذا هو ] أي: المسلم [ يخص الله تعالى بكل العبادات التي شرعها لعباده ] أي: يفرد الله تعالى وحده بكل العبادات التي شرعها الله عز وجل لعباده [ وتعبدهم بها، ولا يصرف منها شيئاً لغير الله تعالى، فإذا سأل ] أي: طلب [ سأل الله، وإذا استعان استعان بالله ] أي: طلب العون طلبه من الله، [ وإذا نذر لا ينذر لغير الله، فلله وحده جميع أعماله الباطنة، من خوف ورجاء وإنابة ومحبة وتعظيم وتوكل، والظاهرة من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد ] كل ذلك لله عز وجل [ وذلك للأدلة النقلية والعقلية الآتية ] فالمؤمن هذا هو حاله، والدليل له على ذلك أدلة نقلية قال الله وقال رسوله، وأدلة عقلية، فهيا بنا نستعرض هذه الأدلة.

[الأدلة النقلية] أي: المنقولة من الكتاب والسنة.

أولاً: أمره تعالى بتوحيده في كتابه العزيز

[ أولاً: أمره تعالى بذلك في قوله: لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] ] هذا خطاب وجهه سبحانه إلى موسى الكليم عليه السلام، وهذا دليل نقلي [ وفي قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] ] أي: لا ترهبون سواي، هذا أمر الله [ وفي قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] ] تتقون عذابه وسخطه ونقمه [ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22] ] أي: شركاء [ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]. وفي قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] ] هذا أمر الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال: اعلم أنه لا معبود بحق إلا الله [ وفي قوله عز وجل: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36] ] اطلب حفظك ومعاذك من الله عز وجل؛ لأنه سميع لقولك، عليم بحالك، أما أن تستعيذ بمن لا يسمعك ولا يراك ولا يقوى على أن يحفظك فهذه الاستعاذة عبث [ وقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122] ] وعلى الله لا على سواه وحده فليتوكل المؤمنون، هذا أمر الله، أمرنا الله بالتوكل عليه.

ثانياً: إخباره تعالى بوحدانيته وتفرده بالألوهية

[ثانياً: إخباره تعالى عن ذلك بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ] كل أمة بعثنا فيها رسولاً بمهمة، وهي أن يقول لقومه: (اعبدوا الله) أي: وحده، (واجتنبوا الطاغوت)، وهو ما يعبد من دون الله، وهذا خبر عظيم. وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]. والطواغيت كثيرون ورأسهم إبليس عليه لعنة الله، والثاني منهم: من حكم بغير ما أنزل الله [ وفي قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256] ] هذا خبر عظيم، يخبر تعالى أن من يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى، ولن ينقطع ولن يهلك لا في الدنيا ولا في الآخرة [ وفي قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] ] هذا خبر عظيم أخبر به الله [ وفي قوله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر:64] ] قل يا رسولنا! لقومك: أفغير الله تأمرونني أن أعبد أيها الجاهلون! فأدغمت النون في النون فأصبحت ( أفغير الله تأمروني)، أصلها تأمرونني، فالتقت النونات فسكنت الأولى وأدغمت في الثانية، وهذه قراءة سبعية [ وفي قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] ] خبر، لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك.

[ وفي قوله جل جلاله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا [النحل:2] ] ننذرهم [ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2] ] اسمع الخبر هذا، يقول تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ [النحل:2]، والذي ينزلهم الله، بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل:2]، أي: بالأمر والنهي، وبالوحي وبالرسالة والنبوة، عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، ممن يصطفي من الأنبياء والرسل، ويقول لهم: أَنْ أَنذِرُوا [النحل:2]، أنذروا عباد الله، وخوفوهم وعلموهم، أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2] ومعنى تقوى الله: الخوف منه الذي يحمل الخائف على أن يطيع فلا يعصي.

ثالثاً: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بوحدانية الله عز وجل وتفرده بالألوهية والعبادة

[ثالثاً: إخبار رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن ] يجبي الزكاة أو والياً حاكماً [ ( فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى ) ] يا معاذ ! فليكن أول ما تدعو إليه أهل اليمن أن يوحدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئاً [ وفي قوله أيضاً: ( يا معاذ ! أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) ] وما قال: الله أعلم فقط لأن الرسول يعلم وهو معه، أما اليوم فلا تقل: الله ورسوله أعلم، في أمور دنياك كلها، وبعضهم إذا سئل: جاء فلان من مكة؟ يقول: الله ورسوله أعلم، وهذا خطأ، بل قل: الله أعلم فقط، فلا شأن للرسول في هذا، وإذا قيل له: ما اسمك؟ قال: الله ورسوله أعلم، فلا تدخل الرسول. أما إذا كان في العلم بالإلهيات والعبادات والشرائع والأحكام قل: الله ورسوله أعلم. قال له: ( يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ). هذا حق الله علينا، وقد ثبت له هذا الحق لأنه خلقنا ووهبنا حياتنا، وخلق كل شيء من أجلنا، ومن أجل أن نعبده، هذا هو الحق. فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ومما استوجب هذا الحق كيف كان له مقابل أن خلقهم ورزقهم وحفظهم وخلق الحياة كلها من أجلهم، ولا حق أعظم من هذا [ وفي قوله لـعبد الله بن عباس رضي الله عنه: ( إذا سألت )] وهو غلام صغير [ ( إذا سألت فاسأل الله ) ] لا تسأل غيره [ ( وإذا استعنت ) ] أي: طلبت عوناً فاطلبه من الله [ ( فاستعن بالله ) ] يا ابن عباس !: ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ) [ وفي قوله لمن قال له: ( ما شاء الله وشئت قل: ما شاء الله وحده ) ] فقد صاحب يحدث النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال: لا، قل: ما شاء الله وحده ). فلا تشركني مع الله في المشيئة، وإذا كان ولا بد أن تنسب المشيئة إلى شخص فلابد وأن تقول: ما شاء الله ثم شئت؛ لأن ثم عاطفة لكن للفصل، أي: بعد أن يشاء الله تشاء أنت، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29]. أما ما شاء الله وشئت مع بعضكم بعضاً فمستحيل، بل الله أولاً يشاء ثم أنت تشاء. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29]. ولا تتصور أنك تشاء شيئاً وترغب فيه قبل أن يشاء الله، والله ما كان هذا، وإنما أولاً شاءه الله لك، ثم تشاؤه أنت بعد ذلك وتعمل على تحقيقه، فيكون لك، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]. ولولا القضاء والقدر لارتبكت الحياة وتحطمت في قرونها الأولى، ولكن هناك النظام الدقيق، فهذه يدي عندما تتحرك والله مكتوبة علي هذه الحركة قبل أن أوجد أنا وأمي وأبي وجدي والعرب كلهم، هذا القضاء والقدر الذي نظم هذه الحياة، وإلا لارتبكت واختلطت، وقد ضربنا المثل لذلك، وهو أنه لو في عام فقط كل الوالدات من النساء ولدن أولاداً بصورة واحدة فكيف تكون الحياة؟ هذا يقول: ابني، وهذا يقول: ولدي، فكيف يعملون؟ ولكن الملايين يولدون في اليوم الواحد أو في العام ولا يوجد أحد يشبه الآخر، بل يفرق بينهما، فهذه العظمة وهذا العلم وهذه القدرة نظام الحياة.

قال: [ وفي قوله: ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ) ]. هذا يواجه المؤمنين من أصحابه، [ قالوا: ( وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ ) ] سألوه البيان والمعرفة وما سكتوا، وقالوا له: بين لنا ما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: [ ( الرياء ) ] والرياء اسم من راءى يرائي بعمله فلاناً وفلاناً [ ( يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم ) ] يقول لأهل الرياء: [ ( اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا ) ] امشوا إلى الذين كنتم تعملون من أجلهم وتظهرون لكم أعمالكم؛ ليمدحوكم أو لئلا يذموكم، أو ليعطوكم ما تريدون، اذهبوا إليهم فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء؟ والجواب: لا والله. والرياء اسم من راءى بعمله يرائي الناس؛ إما ليمدحوه ويثنوا عليه، أو لئلا يذموه ويسبوه ويشتموه، أو ليعطوه ما يريد أن يعطى، أو لخشية أن يمنعوه مما عندهم. هذا الذي يقول كلمة فقط لا يريد بها وجه الله مرائياً، فضلاً على أن يصلي أو يزكي أو يجاهد أو يرابط، ومعنى هذا: لا إله إلا الله، فلا يتقلب قلبك إلا في طلب رضا الله، وأما الناس يسخطون أو يبكون أو يصيعون فدعهم وشأنهم، ولست بمسئول عنهم، وإنما أنت مسئول عن أن تعبد ربك وحده، فلا تعمل عملاً من أجل أن يراك الناس فيمدحوك، أو يرفعوا عنك الذم والملام [ وفي قوله: ( أليسوا يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قالوا: بلى، قال: فتلك عبادتهم ) ] هذه قالها لـعدي بن حاتم لما سمع الرسول يقرأ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا [التوبة:31] قال: ( يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً، قال: أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتحرموه؟ أليسوا يحلون الحرام فتحلوه؟ قال: بلى، قال: تلك عبادتهم ). فقد أصبحوا أرباباً يشرعون ويقنون، فهم آلهتكم وأربابكم. فلا يحل لامرئ أن يحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله؛ لأن المشرع المقنن يجب أن يكون مالكاً لمن يشرع لهم ويقنن أولاً.

ثانياً: أن يكون عالماً بأحوالهم الظاهرة والباطنة.

ثالثاً: أن يكون عالماً بمستقبلهم وما يطرأ عليهم. وأما الذي ما خلقهم ولا دبر حياتهم فلا يشرع لهم ولا يقنن، وبأي حق يشرع هو لا يعرف ذلك؟ وهيا ننظر إلى قوانين أوروبا الراقية السامية، والله لو تكتشفون قبائحهم لتقززتم من باطلهم وخبثهم وشرهم وفسادهم، ولم تنفعهم تلك القوانين، وكثيراً ما نقول والله يشهد: يا سيد! يا زعيم! إذا أردت أن تقنن وتشرع فاخلق مجموعة من البشر ولو من الخشب أو البلاستيك ألفاً أو ألفين أو ثلاث آلاف أو قرية، وحينئذ اجلس على الكرسي ولك الحق أن تقنن وتشرع فتحلل وتحرم وتمنع؛ لأنك ربهم وخالقهم.

أما أن يخلق الله ويرزق وتقول: ابعد يا رب! أنا أولى منك به، فأعوذ بالله! ولا يوجد كفر أعظم من هذا، ولا وقاحة وقبح أعظم من هذا القبح، ويا ليت قومنا يسمعون، فهم لا يسمعون، والذين معنا منذ أربعين سنة لا يبلغون أيضاً؛ لأنهم ما يصلون إليهم، وإن وصلوا يخافون.

قال: [ ( قال: بلى قال: فتلك عبادتهم ) قاله صلى الله عليه وسلم لـعدي بن حاتم لما قرأ قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] فقال عدي : ( يا رسول الله! لسنا نعبدهم ) ] على جهل منه قال: ما عبدناهم، فقد ظن أن العبادة هي السجود فقط والركوع، ولم يعلم أن طاعتهم فيما هو معصية هي العبادة.

[ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ). قاله ] هذا الكلام [ لما قال بعض الصحابة ] في الروضة وحجرة الرسول إلى جنبهم، والباب ليس حديداً، بل كان يسمع الكلام، [ ( قوموا نستغيث برسول الله من هذا المنافق ) ] فقد كانوا مجموعة يتأذون من منافق في المدينة ويتألمون في بداية الإسلام، فقالوا: ( هيا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق ) [ ( لمنافق كان يؤذيهم ) ] فقال لهم الرسول: ( إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ). وبعض الطوائف اليوم ينادون: يا رسول الله! يا فاطمة ! يا حسين ! يا بدوي ! يا عيدروس ! يا كذا! ينادون الإنس والجن، ويزعمون أنهم مؤمنون، وهم يغضبون الله عز وجل، أفتعمى عن خالق الكون كله الذي أوهبك حياتك وتلتفت إلى مخلوق وتقول: يا سيدي فلان! تستغيث به؟ والرسول حي والهراوة عنده ومع هذا ما قبل كلمة ( نستغيث برسول الله)، مع أن الاستغاثة به جائزة؛ إذ هو السلطان، فهذا المنافق لو أمر به عمر لقتله، ومع هذا ما رضي كلمة الاستغاثة، ( نستغيث برسول الله)؛ إذ هذا اللفظ يقال لله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]. وانظروا إلى إخوانكم في الشرق والغرب، والله لولا الله بحماية هذه الروضة الشريفة بما أودع فيها من رجال الأمن وإلا لو تركوا عوام البشر والمسلمين لوجدتم من يركع ومن يسجد ومن يصرخ، وكأنهم ما سمعوا بلا إله إلا الله، وإن قلت: كيف يا شيخ؟! فاذهب إلى البدوي وفلان والقباب وكذا وستجد الناس عاكفين يتمرغون، فلنحمد الله على أن علمنا وهدانا، الحمد لله، الحمد لله الذي علمنا وهدانا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

[ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) ] وإخواننا المصريون يحلفون: والنبي، فقد يأتي إخواننا المصريون يسألون بعد الدرس فأقول لهم: لا تحلفوا بغير الله، فيقولون لي: والنبي، فأقول لهم: لا تحلفوا، فيقولون: والنبي ما نزيد، وهي نفسها، وذلك لأنهم اعتادوها وألفوها وما فهموا معناها، ولم يقل لهم: هذا لا يصح، وهذا شرك، ولكنهم ما سمعوا بهذا الحديث في سنن الترمذي. فكلمة والنبي لا تحل أبداً؛ لأن الواو حرف قسم، فقد أقسمت بالنبي، وجعلته بمنزلة الله، وبدلاً أن تحلف بالله فقد حلفت بعبد من عباد الله، وقد نازعت الله في حقه، فالحلف حق الله. إذاً: فإذا أقسمت أنت بغير الله فقد نزعت ذلك الحق من الله وأعطيته لعبد من عباده، وهذا قبيح، فلهذا يقول صلى الله عليه وسلم: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ). أي: أشرك المحلوف به في حق الله وتعظيمه وجلاله. فلنحفظ هذا الحديث: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ). وقلها في بيتك إذا أمك قالت: والنبي، قل لها: لا تحلفي بهذا، بهذا تنشر الدعوة.

[ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) ] الرقى: جمع رقية بألفاظ لا نعرف معناها، وهي نداءات للجن واستغاثة بالجن، وهذه الرقى شرك؛ لأنه ينادي الجني ويقول: افعل وافعل، فيجعله إلهاً يسمع وينادى ويدعوه.

والتمائم: جمع تميمة، وهي ما يعلق في العنق أو يعلق في الذراع أو يعلق في الصدر على أن تدفع العين أو تدفع المرض أو تدفع كذا، جمع تميمة، يتتمم بها قصداً، فهذه من الشرك.

والتولة خاصة بالنساء، تستعمله لأجل أن يحبها زوجها أو يكرهها، وهي شرك.

الآن فرغنا من الأدلة النقلية، وهي عن الله أوامر وأخبار، وعن رسول الله أوامر وأخبار، أبعد هذا يجدنا الله نشرك به؟ والله ما كان.

[ أولاً: أمره تعالى بذلك في قوله: لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] ] هذا خطاب وجهه سبحانه إلى موسى الكليم عليه السلام، وهذا دليل نقلي [ وفي قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] ] أي: لا ترهبون سواي، هذا أمر الله [ وفي قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] ] تتقون عذابه وسخطه ونقمه [ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22] ] أي: شركاء [ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]. وفي قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] ] هذا أمر الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال: اعلم أنه لا معبود بحق إلا الله [ وفي قوله عز وجل: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36] ] اطلب حفظك ومعاذك من الله عز وجل؛ لأنه سميع لقولك، عليم بحالك، أما أن تستعيذ بمن لا يسمعك ولا يراك ولا يقوى على أن يحفظك فهذه الاستعاذة عبث [ وقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122] ] وعلى الله لا على سواه وحده فليتوكل المؤمنون، هذا أمر الله، أمرنا الله بالتوكل عليه.

[ثانياً: إخباره تعالى عن ذلك بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ] كل أمة بعثنا فيها رسولاً بمهمة، وهي أن يقول لقومه: (اعبدوا الله) أي: وحده، (واجتنبوا الطاغوت)، وهو ما يعبد من دون الله، وهذا خبر عظيم. وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]. والطواغيت كثيرون ورأسهم إبليس عليه لعنة الله، والثاني منهم: من حكم بغير ما أنزل الله [ وفي قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256] ] هذا خبر عظيم، يخبر تعالى أن من يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى، ولن ينقطع ولن يهلك لا في الدنيا ولا في الآخرة [ وفي قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] ] هذا خبر عظيم أخبر به الله [ وفي قوله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر:64] ] قل يا رسولنا! لقومك: أفغير الله تأمرونني أن أعبد أيها الجاهلون! فأدغمت النون في النون فأصبحت ( أفغير الله تأمروني)، أصلها تأمرونني، فالتقت النونات فسكنت الأولى وأدغمت في الثانية، وهذه قراءة سبعية [ وفي قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] ] خبر، لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك.

[ وفي قوله جل جلاله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا [النحل:2] ] ننذرهم [ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2] ] اسمع الخبر هذا، يقول تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ [النحل:2]، والذي ينزلهم الله، بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل:2]، أي: بالأمر والنهي، وبالوحي وبالرسالة والنبوة، عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، ممن يصطفي من الأنبياء والرسل، ويقول لهم: أَنْ أَنذِرُوا [النحل:2]، أنذروا عباد الله، وخوفوهم وعلموهم، أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2] ومعنى تقوى الله: الخوف منه الذي يحمل الخائف على أن يطيع فلا يعصي.