شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب الآنية


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

قال رحمه الله تعالى: [باب الآنية] الآنية جمع إناء، وقد ناسب أن ينتقل المصنف رحمه الله تعالى بعد المياه إلى الظروف والأوعية التي تكون فيها المياه، وهي الآنية.

حكم استعمال آنية الذهب والفضة

المسألة الأولى: قال: [لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارة ولا غيرها].

[لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة ] أي: الآنية المصنوعة من الذهب أو الفضة، ومثلها في ذلك الآنية التي تصبغ وتطلى بالذهب والفضة، أو تموه بهما، وذلك لأنه يطلق عليها جميعاً آنية ذهب أو فضة بحسب الظاهر منها.

[في طهارة] يعني: في وضوء أو غسل.

[ولا في غيرها] يعني: كالشرب أو سائر ألوان الاستعمالات.

ويدخل في الآنية الأوعية التي يوجد فيها الماء كما يدخل فيها غيرها، فيدخل فيها مثلاً الدواة التي يكون فيها الحبر، ويدخل فيها المكحلة التي يكون فيها الكحل، والمرود الذي يكون في المكحلة، وغير ذلك مما يستعمل وليس بثياب ونحوها.

أدلة تحريم استعمال آنية الذهب والفضة

قال: [في طهارة ولا في غيرها] فهو حرام استعماله، والدليل على ذلك الحديث المتفق عليه عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا -يعني: المشركين- ولكم في الآخرة )، والحديث صريح في النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والنهي يدل على التحريم، وكذلك الأكل؛ لأنه قال: ( ولا تأكلوا في صحافهما ) فهو دليل على تحريم الشرب والأكل بطريق النص؛ بل جاء في الحديث الآخر المتفق عليه عن أم سلمة رضي الله عنها ما يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب، فإنه قال عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة : ( الذي يأكل -وفي رواية: أو يشرب- في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم )، فهذا دليل على أن ذلك من كبائر الذنوب.

والحديث دليل بطريق الإيماء والإشارة إلى تحريم جميع الاستعمالات غير الأكل وغير الشرب، كالوضوء بها مثلاً أو ما أشبه ذلك، وذلك لأنه قال: ( فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة ) (فهي لهم) يعني للمشركين والكفار في الدنيا، هل الكفار يقتصرون فيها على الأكل والشرب فحسب؟ كلا، بل يستعملونها في سائر أنواع الاستعمال. وكذلك المؤمنون في الآخرة يستخدمون الذهب والفضة كيف شاءوا، فدل على أن العلة عامة في الأكل والشرب وغيرهما. وبعض ألوان الاستعمال أشد وأعظم من الأكل والشرب، فإذا حرم الأكل والشرب فيها فالتبول فيها مثلاً واستخدامها كمراحيض هو من باب الأولى، وفيه أعظم مما في الأكل والشرب من تضييق النقدين، وكسر قلوب الفقراء، ومن الخيلاء والفخر وغير ذلك، وإنما نص على الأكل والشرب لأنه هو الغالب حسب وليس المعنى تخصيص الحكم بهما.

حكم ارتفاع حدث من تطهر بآنية ذهب أو فضة

ثم إذا تطهر الإنسان في آنية ذهب أو فضة فهل يرتفع حدثه أو لا يرتفع؟

أقوال في المذهب: قيل: يرتفع حدثه، وهو قول معروف. وقيل: لا يرتفع حدثه، بل عليه أن يعيد الوضوء والغسل، وهو اختيار الشيخ الإمام ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة .

والظاهر -والله تعالى أعلم- أن حدثه يرتفع مع إثمه بذلك؛ لأن الإناء ليس من شروط الطهارة ولا من أركانها، فإذا أتى بشروط الطهارة وواجباتها، فإنه حينئذ يرتفع حدثه ويأثم باستخدام هذا الإناء.

وينبغي أن يعلم أن هذا الاستعمال منهي عنه بالنسبة للذكر والأنثى على حد سواء، وإن كان الشارع أباح استخدام الذهب للأنثى -والفضة- كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها. وأشار إلى الذهب وإلى الحرير )، وإنما المقصود أنه حل للإناث في لبسه، أما استخدامه كأوانٍ فهو حرام على الذكور والإناث على حد سواء.

حكم الأواني المضببة بالذهب والفضة

المسألة الثانية: قال: [وحكم المضبب بهما حكمهما] أو حكمها.

والمضبب هو الذي وضعت فيه الضبة، والضبة هي ما يوصل به الإناء من السلسلة والخيط الذي إذا شعب الإناء جمع بين شعبتين، فقال: حكم المضبب بالذهب حكم الذهب بالتحريم، وحكم المضبب بالفضة حكم الفضة بالتحريم أيضاً، إلا في حال واحدة وهو أن تكون الضبة يسيرة، فلا تكون كبيرة أو كثيرة بحيث تغلب على الإناء أو تكون كثيرة فيه، والثاني: أن تكون الضبة من فضة فلا تباح ضبة من ذهب بحال من الأحوال، لا يسيرة ولا كثيرة، وهناك شرط ثالث ذكره أبو الخطاب وغيره من الفقهاء هو أن تكون الضبة لحاجة، يعني: لم توضع زينة، ولا للجمال، ولكن وضعت للحاجة، كأن يكون الإناء انشعب أو انكسر فيسلسل بهذه الضبة ويجمع بين شعبتيه.

إذاً: لا يجوز من المضبب إلا ما كانت ضبته يسيرة ومن فضة ولحاجة، بهذه الشروط الثلاثة تجوز، وبذلك يعلم أن الضبة الكثيرة لا تجوز مطلقاً، يعني: سواء كانت لحاجة أو لغير حاجة، وقيل: تجوز للحاجة.

ثانياً: أن الضبة من الذهب لا تجوز مطلقاً، سواء كانت لحاجة أو لغير حاجة، وسواء كانت يسيرة أم غير يسيرة.

وثالثاً: أن الضبة لغير حاجة لا تجوز مطلقاً، لا من الذهب ولا من الفضة.

بقي أن نعلم، إذا كانت الضبة لحاجة، ما معنى الحاجة؟ هل معنى الحاجة أن لا يقوم غير الفضة مقامها، مثال: لو وجد عند الإنسان إناء فانكسر وانشعب، وكان يمكن أن يسلسله بفضة، ويمكن أن يسلسله بحديد، ويمكن أن يسلسله بخيط، فهل تعتبر هذه حاجة تباح فيها الفضة أو لا تعتبر حاجة؟ الصحيح أنها تعتبر؛ لأن هذه هي الحاجة، يعني: أنه وضع الفضة لحاجة ولو أجزأ غيرها عنها، فحينئذ يجوز أن يستخدم الفضة، وتعتبر هذه حاجة.

طيب، لو كان لا يجزي أو لا يمكن أن يسلسل الإناء حينئذ إلا بالفضة، فماذا تسمى هذه؟ تسمى ضرورة.

وهل يجزئ الذهب للضرورة؟ أي: عندي إناء انكسر، ولم يمكن أن يسلسل أو يضبب إلا بذهب، فهل يجزئ حينئذ، أو يجوز أن يستخدم الذهب أو لا يجوز؟

الصواب أنه حينئذ يجوز.

إذا: الذهب تجوز ضبته اليسيرة إذا كانت لضرورة، بحيث لا يجزئ غيره، ومن أمثلة ذلك: لو أن الإنسان احتاج إليه في بدنه كما جاء في حديث عرفجة : ( أن أنفه قطع يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من ورق- يعني: من فضة- فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب؛ لأنه لا ينتن ). والحديث صحيح، فهذا دليل على أن استخدام الذهب للضرورة جائز.

المسألة الأولى: قال: [لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارة ولا غيرها].

[لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة ] أي: الآنية المصنوعة من الذهب أو الفضة، ومثلها في ذلك الآنية التي تصبغ وتطلى بالذهب والفضة، أو تموه بهما، وذلك لأنه يطلق عليها جميعاً آنية ذهب أو فضة بحسب الظاهر منها.

[في طهارة] يعني: في وضوء أو غسل.

[ولا في غيرها] يعني: كالشرب أو سائر ألوان الاستعمالات.

ويدخل في الآنية الأوعية التي يوجد فيها الماء كما يدخل فيها غيرها، فيدخل فيها مثلاً الدواة التي يكون فيها الحبر، ويدخل فيها المكحلة التي يكون فيها الكحل، والمرود الذي يكون في المكحلة، وغير ذلك مما يستعمل وليس بثياب ونحوها.

قال: [في طهارة ولا في غيرها] فهو حرام استعماله، والدليل على ذلك الحديث المتفق عليه عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا -يعني: المشركين- ولكم في الآخرة )، والحديث صريح في النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والنهي يدل على التحريم، وكذلك الأكل؛ لأنه قال: ( ولا تأكلوا في صحافهما ) فهو دليل على تحريم الشرب والأكل بطريق النص؛ بل جاء في الحديث الآخر المتفق عليه عن أم سلمة رضي الله عنها ما يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب، فإنه قال عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة : ( الذي يأكل -وفي رواية: أو يشرب- في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم )، فهذا دليل على أن ذلك من كبائر الذنوب.

والحديث دليل بطريق الإيماء والإشارة إلى تحريم جميع الاستعمالات غير الأكل وغير الشرب، كالوضوء بها مثلاً أو ما أشبه ذلك، وذلك لأنه قال: ( فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة ) (فهي لهم) يعني للمشركين والكفار في الدنيا، هل الكفار يقتصرون فيها على الأكل والشرب فحسب؟ كلا، بل يستعملونها في سائر أنواع الاستعمال. وكذلك المؤمنون في الآخرة يستخدمون الذهب والفضة كيف شاءوا، فدل على أن العلة عامة في الأكل والشرب وغيرهما. وبعض ألوان الاستعمال أشد وأعظم من الأكل والشرب، فإذا حرم الأكل والشرب فيها فالتبول فيها مثلاً واستخدامها كمراحيض هو من باب الأولى، وفيه أعظم مما في الأكل والشرب من تضييق النقدين، وكسر قلوب الفقراء، ومن الخيلاء والفخر وغير ذلك، وإنما نص على الأكل والشرب لأنه هو الغالب حسب وليس المعنى تخصيص الحكم بهما.

ثم إذا تطهر الإنسان في آنية ذهب أو فضة فهل يرتفع حدثه أو لا يرتفع؟

أقوال في المذهب: قيل: يرتفع حدثه، وهو قول معروف. وقيل: لا يرتفع حدثه، بل عليه أن يعيد الوضوء والغسل، وهو اختيار الشيخ الإمام ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة .

والظاهر -والله تعالى أعلم- أن حدثه يرتفع مع إثمه بذلك؛ لأن الإناء ليس من شروط الطهارة ولا من أركانها، فإذا أتى بشروط الطهارة وواجباتها، فإنه حينئذ يرتفع حدثه ويأثم باستخدام هذا الإناء.

وينبغي أن يعلم أن هذا الاستعمال منهي عنه بالنسبة للذكر والأنثى على حد سواء، وإن كان الشارع أباح استخدام الذهب للأنثى -والفضة- كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها. وأشار إلى الذهب وإلى الحرير )، وإنما المقصود أنه حل للإناث في لبسه، أما استخدامه كأوانٍ فهو حرام على الذكور والإناث على حد سواء.

المسألة الثانية: قال: [وحكم المضبب بهما حكمهما] أو حكمها.

والمضبب هو الذي وضعت فيه الضبة، والضبة هي ما يوصل به الإناء من السلسلة والخيط الذي إذا شعب الإناء جمع بين شعبتين، فقال: حكم المضبب بالذهب حكم الذهب بالتحريم، وحكم المضبب بالفضة حكم الفضة بالتحريم أيضاً، إلا في حال واحدة وهو أن تكون الضبة يسيرة، فلا تكون كبيرة أو كثيرة بحيث تغلب على الإناء أو تكون كثيرة فيه، والثاني: أن تكون الضبة من فضة فلا تباح ضبة من ذهب بحال من الأحوال، لا يسيرة ولا كثيرة، وهناك شرط ثالث ذكره أبو الخطاب وغيره من الفقهاء هو أن تكون الضبة لحاجة، يعني: لم توضع زينة، ولا للجمال، ولكن وضعت للحاجة، كأن يكون الإناء انشعب أو انكسر فيسلسل بهذه الضبة ويجمع بين شعبتيه.

إذاً: لا يجوز من المضبب إلا ما كانت ضبته يسيرة ومن فضة ولحاجة، بهذه الشروط الثلاثة تجوز، وبذلك يعلم أن الضبة الكثيرة لا تجوز مطلقاً، يعني: سواء كانت لحاجة أو لغير حاجة، وقيل: تجوز للحاجة.

ثانياً: أن الضبة من الذهب لا تجوز مطلقاً، سواء كانت لحاجة أو لغير حاجة، وسواء كانت يسيرة أم غير يسيرة.

وثالثاً: أن الضبة لغير حاجة لا تجوز مطلقاً، لا من الذهب ولا من الفضة.

بقي أن نعلم، إذا كانت الضبة لحاجة، ما معنى الحاجة؟ هل معنى الحاجة أن لا يقوم غير الفضة مقامها، مثال: لو وجد عند الإنسان إناء فانكسر وانشعب، وكان يمكن أن يسلسله بفضة، ويمكن أن يسلسله بحديد، ويمكن أن يسلسله بخيط، فهل تعتبر هذه حاجة تباح فيها الفضة أو لا تعتبر حاجة؟ الصحيح أنها تعتبر؛ لأن هذه هي الحاجة، يعني: أنه وضع الفضة لحاجة ولو أجزأ غيرها عنها، فحينئذ يجوز أن يستخدم الفضة، وتعتبر هذه حاجة.

طيب، لو كان لا يجزي أو لا يمكن أن يسلسل الإناء حينئذ إلا بالفضة، فماذا تسمى هذه؟ تسمى ضرورة.

وهل يجزئ الذهب للضرورة؟ أي: عندي إناء انكسر، ولم يمكن أن يسلسل أو يضبب إلا بذهب، فهل يجزئ حينئذ، أو يجوز أن يستخدم الذهب أو لا يجوز؟

الصواب أنه حينئذ يجوز.

إذا: الذهب تجوز ضبته اليسيرة إذا كانت لضرورة، بحيث لا يجزئ غيره، ومن أمثلة ذلك: لو أن الإنسان احتاج إليه في بدنه كما جاء في حديث عرفجة : ( أن أنفه قطع يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من ورق- يعني: من فضة- فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب؛ لأنه لا ينتن ). والحديث صحيح، فهذا دليل على أن استخدام الذهب للضرورة جائز.

قال المصنف: [ويجوز استعمال سائر الآنية الطاهرة واتخاذها] هذه هي المسألة الثالثة: استعمال سائر الآنية الطاهرة، يعني: من أي شيء كان، سواء كانت من معادن نفيسة غالية قد تكون أحياناً أغلى من الذهب وأغلى من الفضة، وذلك كالياقوت والبلور والعقيق والبرونز وغيرها من المعادن الغالية التي قد تكون أغلى من الذهب وأغلى من الفضة؛ لأنه لم يأت فيها نص، ولا يمكن طرد العلة فيها؛ لأن مثل هذه المعادن لا تستخدم في الغالب، فلا يستخدمها إلا القليل النادر من الناس، ولا يكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء، ولا يكون فيه تضييق للنقدين، ولم يرد فيها نص فيجوز استعمالها في كل ألوان الاستعمال، أو كانت هذه الآنية غير ثمينة كأن تكون آنية رخيصة كالخزف والصفر وآنية الجلود، والآنية التي صنعت من الحجارة، والخشب وغيرها، فكل هذه الأواني جائزة، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كره آنية الصفر ونحوها، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ثبت في صحيح البخاري: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من تور من صفر ) وهو دليل على جوازه بلا كراهة، ولا وجه للكراهة حينئذ، وما ورد عن ابن عمر إن صح فهو اجتهاد منقوض بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إذاً: ما سوى ذلك من الآنية يجوز استعمالها واتخاذها، وإنما عبر بالاستعمال ليشمل ذلك الطهارة والشرب والأكل، كما يشمل ما أسلفنا من اتخاذها محبرة أو دواة أو للكحل أو للزينة أو لغير ذلك من ألوان الاستعمالات.

المسألة الرابعة: قال: [واستعمال أواني أهل الكتاب وثيابهم ما لم تعلم نجاستها] أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، ويدخل فيهم المجوس ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) كما جاء في حديث، وفي الحديث ضعف، ولكن يشهد له أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أخذ الجزية من مجوس هجر )، فدل على أن حكمهم حكم أهل الكتاب، وقيل: إنه كان لهم كتاب فرفع، فهم يشبهون أهل الكتاب.

إذاً: استعمال أواني أهل الكتاب جائز ما لم تعلم نجاستها، أما إذا علمت نجاستها فإن النجاسة لا يجوز استعمالها بل لابد من غسلها، إذا علم أن فيها خمراً أو ميتة أو غير ذلك من النجاسات حرم عليه استعمالها حتى يغسلها، ولذلك جاء في الصحيح من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب -زاد في رواية-: وإنهم يشربون في قدورهم الخمر ويطبخون في قدورهم الخنزير- أفنشرب في آنيتهم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها ) وفي رواية: ( فارحبوها في الماء )، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمالها حتى تغسل، هذا إذا علمت فيها النجاسة؛ لأنه قال: ( يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها الخنزير )، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسلها.

إذاً: إذا عرف النجاسة في آنية الكتاب فلا يجوز استعمالها حتى تغسل، أما إذا لم تعلم فيها النجاسة وشك في نجاستها، فإن الأصل فيها الطهارة، فيجوز له أن يستعملها حتى ولو لم يغسلها، وذلك لحديث جابر الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح، قال: ( كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنصيب آنية أهل الكتاب ونستعملها )، فذلك دليل على جوازها بلا كراهة إذا لم يعلم نجاستها. ومن المعلوم المستفيض أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يداخلون أهل الكتاب، ويأكلون بآنيتهم، ويأكلون من طعامهم، ويشربون أيضاً، وقد ( أكل النبي صلى الله عليه وسلم عند يهودي خبز شعير وإهالة سنخة )، كما في مسند أحمد بسند صحيح، بل الحديث في صحيح البخاري : ( أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة أنس بن مالك إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه النبي عليه الصلاة والسلام )، ولو كان الأكل في آنيتهم حراماً لما أكل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ( أكل النبي صلى الله عليه وسلم عند اليهودية التي دعته بـخيبر وأكل معه أصحابه ) رضي الله عنهم، وكان المسلمون في المدينة يداخلون أهل الكتاب ويأكلون ويشربون في آنيتهم، وقد توضأ عمر رضي الله عنه من جرة امرأة نصرانية كما رواه البخاري تعليقاً وهو حديث صحيح، وذلك دليل على جواز ذلك كله إذا لم يعلم نجاسته بلا كراهة، أما إن علم نجاسته فلا بد من غسله كما سبق.

هذا فيما يتعلق بالأواني.

وفي المسألة ثلاثة أقوال في المذهب:

القول الأول: أن ذلك جائز مطلقاً بلا كراهة.

القول الثاني: أن ذلك مكروه مطلقاً.

القول الثالث: التفريق بين من يتعبدون باستعمال النجاسات، وبين من لا يتعبدون بذلك ولا يستخدمونها، والتفريق بين من يأكلون الميتة، وبين من لا يأكلون الميتة. ذكرها الإمام ابن تيمية ثلاث روايات في المذهب.

والصواب -والله تعالى أعلم- أنه إن رأى النجاسة وجب عليه غسلها كما هو معلوم بالإجماع، وإن لم ير النجاسة فالأصل الطهارة، فإن غلب على ظنه أنها نجسة استحب له أن يغسلها احتياطاً لا وجوباً، وذلك كما إذا كانوا يستخدمون النجاسات ويشربون الخمور ويأكلون الخنزير وما أشبه ذلك، فإنه يستحب له أن يغسلها حينئذ ولكن لا يجب عليه ذلك؛ لأنه لا يجب الغسل إلا إذا تيقن النجاسة.

أما فيما يتعلق بثيابهم، فإن كانت الثياب مما صنعه أهل الكتاب ونسجوه وخاطوه ولكنهم لم يستعملوه، فهو جائز أن يستعمل ويلبس بلا غسل بإجماع المسلمين، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم والنبي صلى الله عليه وسلم يستخدمون الثياب التي نسجها الكفار من اليهود والروم والفرس وغيرهم، ولم يقل أحد بنجاستها قط ولا بتحريم استعمالها، وذلك دليل على جواز استعمال واستخدام كل ما صنعه المشركون مما لا يوجد دليل على نجاسته أو على تحريمه، هذا إذا كانوا صنعوها ونسجوها ولم يستعملوها.

أما إذا استعملوها وكان استعمالهم لها أيضاً استعمالاً ظاهراً، يعني: في ظاهر ثيابهم، ولم يوجد عليها نجاسة فهي طاهرة أيضاً، ويجوز للمسلم أن يلبسها ويستعملها ويصلي فيها، وهي طاهرة ولا يجب عليه غسلها، بل يتجه أن يقال: ولا يستحب له غسلها.

أما إن كانت الثياب في باطنهم كالثياب التي تلي عوراتهم كـ السراويل -وهو مفرد، جمعه سراويلات-، فقال بعض أهل العلم: يستحب له أن يغسلها، ونقل هذا عن الإمام أحمد قال: [ أحب إلي إذا صلى فيها أن يعيد الصلاة ]؛ لاحتمال أن يكون خالطها شيء من نجاساتهم؛ لأنهم لا يزيلون النجاسات ولا يتعبدون بذلك، ووجوب الإعادة حينئذ احتمال، ويحتمل أن يقال: إن كان عليها نجاسة وجب غسلها وإزالتها وإعادة الصلاة، وإلا لم يجب عليه أن يعيد الصلاة. هذا ما يتعلق بملابسهم، وذلك لأن الأصل الطهارة، ولا تزول الطهارة بالشك.

المسألة الخامسة: قال: [وصوف الميتة وشعرها طاهر] أي: إذا ماتت فإن شعرها وصوفها طاهر يجوز استعماله، وذلك لأن الصوف والشعر لا تحله الحياة، وإنما نموه كنمو الحشيش والعشب وغيره، لا يدل على الحياة؛ حياته حياة نمو وليست حياة حس وحركة، فالصوف لا يحس ولا يتحرك، ولذلك فلو جز الصوف أو الشعر من حي فهل ينجس أم يكون طاهراً؟ يكون طاهراً بالإجماع كما نقله غير واحد؛ لأنه لا روح فيه، ولا تحله الحياة، فلا يحله الموت ولا ينجس بالموت، ومثل ذلك الريش أيضاً ونحوه فإنه طاهر من الميتة.

ويبقى الكلام في أصل الريش الذي فيه الرطوبة هل يغسل فتزول نجاسته بالغسل أم لابد من قطع ما لامس رطوبة الميتة وإزالته؟ وجهان وقولان في المذهب.

المهم أن صوف الميتة وشعرها ونحوهما طاهر، سواء جز في حال الحياة أو أخذ منها بعد الموت، وذلك لأن الحياة لا تحله، وكذلك الموت لا يحله، فهو باق على أصله.

المسألة السادسة: قال: [وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس] ذهب المصنف رحمه الله لقول -وهو المشهور من مذهب الحنابلة- أن جلد الميتة نجس ولا يطهر بالدباغ، واحتج الإمام أحمد رحمه الله تعالى لهذه المسألة التي رواها عنه الأكثرون بحديث عبد الله بن عكيم الجهني رضي الله عنه ورحمه الله تعالى قال: (أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر، -وفي رواية: بشهرين- أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ). قالوا: الإهاب هو الجلد، والعصب هو الذي يربط بين أعضاء الميتة وأطرافها بعضها ببعض، وقد يستخرج فيتخذ منه الخرز أو غيره، وإنما ذهب الإمام أحمد إلى هذا الحديث؛ لأنه جاء فيه أنه كان قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر، وذهب إلى دلالة هذا الحديث أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ ولا يجوز استعماله، ثم جاء عن الإمام أحمد كما روى ذلك عنه الترمذي في جامعه أنه رجع عن هذا الحديث، وتوقف في الأخذ به لما بلغه أن الرواة اضطربوا في سنده واضطربوا في متنه، فقد جاء في بعض الروايات عن عبد الله بن عكيم - وقد جاء في المطبوع ابن حكيم وهو خطأ، تصحيف أو تحريف ينبغي أن يعدل- أنه قال: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهين .. )، وفي بعضها قال: ( أتانا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.. )، وفي بعضها عن شيوخ من جهينة قالوا: ( أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ).

وجاء فيما يتعلق بالمتن في بعض الروايات قال: (بشهر..) وفي بعضها قال: (بشهرين..) وفي بعضها لم يذكر تحديداً للمدة، فلما اضطرب الرواة في متنه واضطربوا في سنده تركه الإمام أحمد ورجع عن القول به كما قال الترمذي.

ولذلك فإن الصواب في هذه المسألة أن جلد الميتة يطهر بالدباغ إذا كانت مأكولة اللحم، وهو أحد أقوال سبعة في المسألة.

الصواب: أن جلد مأكول اللحم يطهر بالدباغ كجلد البقر والغنم والإبل والغزال ونحوها مما هو مأكول اللحم يطهر إذا دبغ، وذلك لأدلة تزيد على عشرة جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منها: أنه عليه الصلاة والسلام ( رأى شاة ميتة، فقال: ألا أخذتم إهابها، فدبغتموه فانتفعتم به. قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة. قال: إنما حرم من الميتة أكلها )، وفي بعض الأحاديث كحديث ابن عباس وهو في الصحيح أيضاً: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )، وفي حديث ثالث: ( دباغ جلود الميتة طهورها )، وفي بعض الألفاظ: ( دباغها ذكاتها )، فهذه الأحاديث تدل على أمرين:

الأول: أن مأكول اللحم إذا دبغ جلده طهر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما حرم أكلها )، ( ألا أخذتم إهابها فانتفعتم به )، ( دباغه طهوره )، ( دباغه ذكاته ).

الثاني: أنه لا يطهر غير مأكول اللحم، يعني: جلد غير مأكول اللحم لا يطهر بالدباغ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما حرم أكلها ) وما هو الذي حرم أكله بالموت؟ هو مأكول اللحم. أما غير مأكول اللحم فهل تحريم أكل لحمه هو بالموت؟ كلا. هو حرام حتى لو أنه ذكي مثلاً، فذكاته غير شرعية، ولا تنفع فيه شيئاً، لا في حل لحمه ولا في طهارة جلده بالدباغ.

كذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: ( دباغه ذكاته ) فالحيوان الذي لا يحل أكله هل تفيد فيه الذكاة؟ كلا. فكذلك لا يفيد في جلده الدباغ؛ لأنه قال: ( دباغه ذكاته )، فكما أن هذا الحيوان لا يفيد فيه الذكاة فكذلك لا يفيد الدبغ في جلده.

إذاً: القول المختار أن الحيوان مأكول اللحم إذا دبغ جلده طهر: الشاة.. الغنم.. والبقر والإبل ونحوها من مأكول اللحم، ولذلك أيضاً جاء في أحاديث صحاح عن معاوية والمقدام بن معدي كرب وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع ومياثر النمور )، وقال: ( لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر ) وما ذلك إلا لأن هذه الأشياء نجسة لا يحل استعمالها ولا تطهر بالدباغ، فلذلك نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا هو القول المختار.

وفي المسألة أقوال أخرى في المذهب كما ذكرت، هذا هو أحد الأقوال في المذهب.

وفي المذهب القول الآخر الذي ذكره المصنف وهو أن الجلد نجس لا يطهر بالدباغ، ولكن يحل استخدامه بعد الدبغ في اليابسات.

والدبغ يكون بأشياء كثيرة، كأن يكون الدبغ بالقرض أو بالشب، أو بغير ذلك من ألوان المعالجات التي تقتضي زوال الرطوبات والنجاسات عن الجلد.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3986 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3927 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3857 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3845 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3673 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3627 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3613 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3551 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3518 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3448 استماع