سلسلة الدار الآخرة عذاب النار


الحلقة مفرغة

أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

هذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة العشرون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة الثالثة عن النار والعياذ بالله منها، أبعدنا الله وإياكم والمسلمين جميعاً عن النار، وعن حرها، وأدخلنا وإياكم والمسلمين الجنة بدون سابقة عذاب.

ندعو الله في بداية هذه الحلقة عسى أن يكون بيننا صالح أو صالحة يستجيب الله من أجله أو من أجلها دعاءنا، فاللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً. اللهم إنا نعوذ بك من سخطك والنار، ونسألك رضاك والجنة، اختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

الحديث عن النار -والعياذ بالله- حديث تنخلع له القلوب وتوجل منه وتخاف، والحديث عنها وما فيها حديث كان يفرق منه الحبيب ويخاف وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أن الأمر ليس سهلاً ولا هينا، ولا الأمر أنا نأتي إلى المسجد لنحضر حلقات أو دروس الدار الآخرة وننفض كما جئنا، بل المسألة أكبر من ذلك وأخطر وأهم، فما من نبي أو رسول إلا خوف وحذر أهله وقومه من النار، ولعل سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو أرحم الأمة بالأمة، وأرحم من على وجه الأرض بأمته، لم يترك مناسبة يستطيع أن يوضح فيها الخطر المحيط بالمسلمين من مسألة النار وما فيها إلا وبينه وحذر أتباعه وأحبابه منه.

وكان يقول: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش والجنادب -أي: الحشرات- تتنادى من حولها) أي: بدأت تجتمع حول النار التي للرجل الذي أوقدها، (وهو يأخذ بحجزها) أي: هو يبعد الحشرات والفراش عن أن يقعن في النار، مثلما قال الشاعر العربي:

فرح بالنور وبالنار معاً

وهو لا يعرف حقيقة النار! وكذلك الحشرات لا تعرف أين مصلحتها من مفسدتها، فهذا الرجل الذي أشعل هذه النار جعل يحجز الناس عنها، وكأنه يقول: ابعد أنت، تنبه أنت، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولكنكم تتفلتون مني فتتقحمون فيها) يعني: الرسول آخذ بحجزنا، وكأنه يقول: لا تغتب، لا تنم، لا تظلم، لا ترتكب الفواحش، لا تشرب الخمر، لا تتعامل بالربا، لا تنحرف، لا تكذب، لا تفسق، لا تفجر، لا تحكم بما لا يرضي الله عز وجل، ولكن مع هذه النواهي كلها فالناس تأبى إلا أن تخالف الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وصل الأمر بسيدنا الحسن البصري أن قال: الناس أعداء للأمر، أمرنا الله بالصبر فجزعنا، ولو أمرنا بالجزع لصبرنا.

أمر غريب! يعني: تجد أي شخص تنزل عليه مصيبة، يهتز عند أول خبطة، وفي الحديث: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) وهذا نلاحظه في مجالات الحياة؛ لأن الإنسان قاصر التفكير، محدود الفكر، وكما قلنا: إن العاقل يأخذ من الدنيا ما يفيده، ويعرف أن الدنيا خطر عليه؛ لأنها دنيا.

العاقل ضربنا به المثل بالطبيب، أو بعالم الحشرات أو البيولوجيا، الذي يأتي بالثعبان أو العقرب ويستخلص منهما السم؛ لكي يستخدمه في الدواء، وهكذا العالم بالدنيا الذي يعرف بلاياها، يأخذ من الدنيا ما يعود عليه بالنفع في الآخرة، ويستخدم الدنيا في زراعة الآخرة، يعني: كيف تصل للآخرة وللجنة؟ كيف تعيش في الدنيا لكي يكون لك الميراث يوم القيامة؟ اللهم اجعلنا من الوارثين في جنتك، وأنت تعرف أن كل شيء ضد هوى النفس هو الذي يوصلك إلى الجنة، وكل شيء مع هوى النفس هو الذي يوصلك إلى جهنم، يعني: اعلم أن النفس عدوة كإبليس تماماً، فإبليس والدنيا والنفس والهوى، كل هؤلاء الأربعة أعداء، كان يستعيذ منهم أبو بكر الصديق ويقول:

إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي

إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي

يخرج من مصيبة الدنيا فيقابله إبليس، ويترك إبليس فيلاقي النفس، ويتغلب على النفس فيلاقي الهوى، ويترك الهوى فيلاقي الشيطان مرة أخرى، ويترك الشيطان فتأتي له الدنيا.. وهكذا! ونحن مغمورون ظهراً لبطن، سبحان الله!

فكل شيء في الدنيا ضد هوى نفسك ودل عليه الشرع فاعلم أنه هو الذي يقربك من الله:

النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها

وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها

هكذا قال علي كرم الله وجهه: (النفس تأبى أن تكون فقيرة)، فمن منا يحب الفقر؟ لا أحد، لكن لحكمة يعلمها الله عز وجل، يعلم أن في فقرك نجاحك ونجاتك يوم القيامة؛ لأن في فقرك قربك من الله عز وجل، ولو أنك من رجال الأعمال الذين يحسب عليهم بالثانية لم نرك في المسجد، ولكنت مشغولاً دائماً! وستقول: لي ذنوب لا يكفرها إلا السعي للرزق، بعد المليون الأول الثاني، والثالث والرابع وهكذا، ويقول: لم أضمن غداً، سبحانك يا مقلب القلوب، يا من تعز الفقير بطاعتك، عندما يعطي طاعة يعطيه الله قناعة، وما دام يؤتيه الطاعة والقناعة فقد اختار له رب العباد كل خير، اللهم اختر لنا الخير من عندك يا رب العالمين، فكل ما هو ضد النفس فإنه يقربك من الله، والذي مع هوى النفس هو الذي يوديك في داهية غالباً.

ويقال: كل ما يؤنسك في الدنيا فهو الذي يبعدك عن الجنة، وكل ما يزعجك فيها فهو الذي يقربك من الجنة، ما معنى هذا الكلام؟

معناه: أن الشيء الذي يؤنسك في الدنيا هو الذي يعطلك عن دخول الجنة، وما الذي يؤنسك بالدنيا؟ العيال، أمهم، والمصروف، والمال، والجاه، والدرجة العلمية، والنجاح، وكل هذا يؤنسك بالدنيا، ويبعدك عن الله، والذي يزعجك في الدنيا مثل المصائب، والابتلاءات، والاختبارات، والامتحانات، وكل امتحان ينزل عليك تخرج منه أنظف، والمؤمن مثل الذهب، فالذهب مشوب بعناصر رديئة، من قصدير ونحاس، ونحوهما، فلا تظن أن هذا الذهب الذي تلبسه النساء يخرج من الأرض هكذا مصفى، يخرج أربعة وعشرين جرام، أو واحداً وعشرين، أو عيار (18) أو مثل هذا الكلام، لا! فالذهب يخرج معه كثير من المعادن الخبيثة؛ لأن الذهب من المعادن النفيسة، وهناك معادن خبيثة، فالجواهرجي يدخله في النار، وهذا لازم لكي ينظف الذهب، والذهب كثافته ثقيلة فينزل تحت، والخبث من المعادن الأخرى يكون أعلى، ويسمونها خبثاً أو زبداً، قال الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17].

فبعد دخول الذهب إلى النار ما هي الحصيلة؟ انتفت عنه جميع الشوائب، وحصلنا على الذهب الإبريز الخالص، وهكذا المؤمن فالمصائب تجعله مؤمناً صادقاً، ويدخل في مصيبة أخرى فيخرج مؤمناً عابداً، ويخرج من ابتلاء آخر قريباً من الله، إلى أن يصل إلى درجة الصديقية، اللهم احشرنا في زمرة الصالحين يا رب!

إذاً: فهذه الاختبارات هي لتنقية الشوائب التي لديك، فلا تظن أبداً أن الله عز وجل يبتليك لأنه يكرهك، لا والله، وإنما يبتليك لأنه يريد أن يرفع درجتك عنده، أو أنه كتب لك درجة معينة قد قصر عملك عن الوصول إليها.

نأخذ مثلاً بسيطاً ولله المثل الأعلى: موظف كسول لكنه أمين، ورئيسه في العمل يحبه ويريد أن يرقيه، لكن هذا الموظف ليس في ملفه ما يثبت أنه ينفع للترقية، فماذا يفعل له؟ يحتال له بأي حيلة، فيقع على الموظف بالظلم، فيقوم الناس بالتعاطف معه، فإذا دخل في انتخابات اللجان النقابية فإن الناس كلهم سيرشحونه، وبعد أن كان عاملاً يصبح عضواً في مجلس الإدارة، فهذا الظلم الذي وقع عليه أو القرصة التي أخذها جعلته منتبهاً، وجعلت الناس كلها تحبه، ووصل إلى الدرجة التي يريدها له رئيسه.

ولله المثل الأعلى، كتب ربنا لك درجة معينة، وأنت لا تصلي بالليل ولا تصوم في النهار، ولا تكثر من مجالس العلم، فيزيد عليك البلاء، ويرزقك الصبر في نفس الوقت، فسبحان الحنان المنان، فهو الذي يبتلي وهو الذي يرزق الصبر، وكان سيدنا أبو بكر يقول: اللهم اشرح لي صدري ثم حملني من الهموم ما شئت.

وهذا سيدنا عروة بن الزبير رضي الله عنه التابعي الجليل لما أجمع الأطباء على قطع ساقه من ركبته وبترها، قال لهم: أليس هناك علاج آخر؟ قالوا: لا. فقال: انتظروا إلى أن أدخل في الصلاة وأندمج فاقطعوها.

فهؤلاء عندما يكونون في الصلاة كيف تكون حالهم؟ نحن عندما نكون في الصلاة نكون في ستمائة موضوع، بل لا نحل المشكلة الصعبة إلا بواسطتها!

ألا تذكر أبا حنيفة عندما جاءه سائل يشكوه توارد الأخطار والأفكار، فقال له: يا أبا حنيفة! بعت عقاراً لي ووضعت ثمنه في مكان في بيتي ونسيته، قال له أبو حنيفة : وماذا تريد مني، أنا عالم بالحلال والحرام فماذا تريد مني؟ والمشكلة أن الناس يستخدمون الدعاة مثلما استخدم هذا الرجل أبا حنيفة ، فكل مشكلة تصب على رءوسهم، مع أن كل الذي نعرفه هو أن نقول: هذا حلال وهذا حرام.

فقال له: قم لله هذه الليلة، صل في آخر الليل وابتغ بذلك وجه الله، فذهب الرجل واتبع نصيحة أبي حنيفة ، فقام فصلى؛ ففي أول ركعة تذكر مكان المال، فخرج من الصلاة! وللأسف كلنا هذا الرجل:

صلى وصام لأمر كان يطلبه فلما قضى الأمر لا صلى ولا صاما

فـأبو حنيفة يراه وكأنه يقرأ الكتاب من عنوانه، فعرف الأمر على وجهه، قال له: وجدت مالك، قال له: وكيف عرفت؟ قال له: وجهك يقول هكذا، ما صنعت الليلة؟ قال: تذكرت مكان المال في أول ركعة، قال: ونمت بقية الليل؟ قال: نعم، قال: كنت أثق أن إبليس لن يدعك تعبد الله الليلة، هذا عمل الشيطان.

فالناس الذين يصبرون على الطاعة أعطاهم الله قدرة إلهية ونوراً إلهياً، فجعلهم قريبين منه سبحانه، اللهم صبرنا على طاعتك، وصبرنا عن معصيتك يا رب العالمين.

سنأخذ اليوم حلقة ثالثة في النار، وهو موضوع مرعب بعض الشيء، نسأل الله أن يوفقنا للأعمال الصالحة، التي تبعدنا عن النار، وأن يقربنا وإياكم إلى الجنة، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

هذه الحلقة تخص أنواع العذاب في النار، ولمن يكون كل نوع من العذاب وارد في الكتاب والسنة، يعني: من الذي يدخل في هذا النوع، ومن الذي يدخل في النوع الآخر.

كان الحسن البصري يقول: إن نفسي تفضل الظل على الشمس - انظر إلى هذا الكلام الجميل - فكيف لا تفضل الجنة على النار! أي: عندما يلاقي الإنسان الشمس يقول: نار، حر، الحرارة هذا اليوم مرتفعة، هكذا تنبأ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر من علامات الساعة الصغرى أن يصير الولد غيظاً، وأن يصير الشتاء قيضاً، صدقت يا رسول الله! وقد تحقق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.

ومعنى: (أن يصير الولد غيظاً)، أي: أن الولد يغيظ والديه، فبعدما كان الولد رحمة صار بخلاف ذلك، والشخص يفرح إذا ولد له ثلاثة أو أربعة أو خمسة أولاد، فيقول: هؤلاء أستند عليهم عندما أشيخ، والآن الذي عنده ولد أو اثنان تجده يقول: كفاية! ويقول: يقولون لنا هكذا في التلفزيون، وهذا من الضحك على الناس، فكثرة الذرية من أسباب الرزق، فاحذر أن يلبس عليك من يقول: المصروف على اثنين غير المصروف على خمسة، من الذي قال لك هذا؟ أأنت الذي ترزق أم الرزاق هو الله؟

وأنت عند أن تخاطب الله تقول: يا حنان يا منان! فهل تعرف ما معنى (منان)؟ معناه: يعطي النوال قبل السؤال، يعني قبل أن ينزل ابنك من بطن أمه يكتب له رزقه ولست أنت الذي ترزقه، والله لا تستطيع أن ترزق نملة! وقد مرت معنا قصة النبي سليمان مع النملة، وقولها له: ستنسى، وإذا اعتمدت عليك سأضيع، لكني أعتمد على رزاق لا ينسى.

والواحد منا أحياناً من كثرة المشاكل يمكن أن ينسى أهل بيته وعياله، لكن الله لا ينسى مؤمناً ولا كافراً، قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] أي: لا يمكن أن يقول: رزق اليوم ليس ضرورياً للناس، لهم الهواء، لا يحصل هذا، أو يقول مثلاً: أهل رومانيا أو أصحاب الدول الملحدة لا تطلع عليهم الشمس، ولا يذهب لهم الهواء، معاذ الله، فالله حنان منان كريم، سبحانه وتعالى، يزرق العباد وهم يعصونه، اللهم اجعلنا من التوابين ومن المتطهرين يا رب العالمين.

فالإنسان العاقل العادي يفضل الظل على الشمس، إذاً: فهل من العقل أن يفضل الجنة على النار، كان سيدنا عيسى يقول: كم من شخص مليح ووجه صبيح في النار يطيح، ولذلك تجد من أهل النار - والعياذ بالله - الجعظري الجواظ، قالوا: من الجعظري يا رسول الله؟! قال: الجعظري الممتلئ جسداً الخاوي داخلاً، أي: عندما تلقاه تهاب منظره، وتقول: هذا الشخص محترم، فعند أن يتكلم يفتضح، تكلموا تعرفوا، فالمرء مخبوء تحت لسانه.

ولذلك لما دخل الأحنف بن قيس حليم العرب على معاوية ، ومعاوية كان يسمع عن الأحنف، فيقول: أريد أن أرى هذا الرجل، وضرب به المثل في الحلم، فقالوا له: الأحنف في الباب يا أمير المؤمنين! قال: أدخلوه، فدخل الرجل وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! قال: وعليكم السلام، قال: أنا الأحنف بن قيس، فنظر معاوية إليه فوجده قصيراً أعور دميم الخلقة، وكأن لسان حال سيدنا معاوية يقول: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، أي: أحياناً تسمع بأناس ولا تحب أن تراهم، فـالأحنف أحد كبار العرب وزعماء المسلمين رضي الله عنه، فنظر إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين!

ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور

ضعاف الطير أطولها عناقاً وما طال البزاة ولا الصقور

ضعاف الطير أكثرها فراقاً وأم الصقر مقلاة نزور

لقد طال البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير

يصرفه الفتى في كل وقت ويحبسه على الخسف الجرير

ضعاف الأسد أكثرها زئيراً وأصرمها اللواتي لا تزير

الأسد تجده يهاب وهو صامت، بينما الكلب تجده ينبح وهو بعيد عن بيته، فلا يهاب ولا يخاف.

يقول الله عز وجل: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] والمتكبر السمين الذي هو ضخم الجثة، صاحب كرش كبير، قد امتلأ من الحرام والعياذ بالله، هؤلاء إذا مروا على الصراط يدوسهم الناس كالذر يوم القيامة، فهذا حال الضخم السمين العظيم الجثة الذي تخاف منه؛ لأنه ما كان يقيم لله وزناً في الدنيا، سبحان الله!

سأل الحسن البصري شخص: أريد أن أعرف مكانتي عند الله، أو ما لي عند الله؟ قال: انظر ما لله وما مكانته عندك، تعرف ما لك عند الله ومكانتك عنده.

إذاً: إن أردت أن تعرف مكانتك عند الله، فانظر مكانة الله عندك، وانظر مكانة الدين عندك، فلو كان الدين عندك كل شيء فأنت عند الله كل شيء، ولو أن الدين عندك آخر شيء، فتحضر الدرس مرة واحدة! وأيامك ضائعة، فأنت عند الله بحسبك، وهناك من الناس من قضى ثمانية عشر أو عشرين عاماً في طلب العلم ونحوه من الخير، فلا يظن هؤلاء أنهم أضاعوا أعمارهم، فاللهم اجعله في ميزان حسناتهم وحسناتنا يا رب العالمين، ومن الناس من يضيع وقته فيما لا يرضي الله عز وجل، فاللهم اهدنا جميعاً، واحشرنا في زمرة الصالحين.

أحد الفنانين - وقد تاب ربنا عليه- بقي أربعين سنة في الفن ثم هداه الله، وجاء تائباً قد اعتزل الفن، فجاء يزورني، فبينما هو جالس لمح شيئاً غريباً، فقال لي: ما هذه الأشرطة التي في هذا الدولاب؟ فقلت: إخواننا الله يبارك فيهم يأتون لنا بنسخ من الكلام الذي نقوله، ممكن تنفع بعد ذلك أو نجلس نسمعها ونستفيد منها ويستفيد منها الغير، فقال: كم عددها؟ قلت: ثلاثة آلاف شريط، فقال: كم المدة؟ قلت: ساعة ونصف، قال: يعني: خمسة آلاف ساعة كلام في ذكر الله، وأنا عشت أربعين سنة بكلام في غير مرضاة الله، قلت له: لا، بالعكس، أنت أعظم عند الله مني، لماذا؟ لأن العبد عندما يتوب يبدل الله سيئاته حسنات، فمن كانت سيئاته كثيرة تصير حسناته يوم القيامة أكثر، لكن بشرط التوبة.

وأعظم إنسان من يتوب ربنا عليه، قال عليه الصلاة والسلام: (عاشروا التوابين فإنهم أرق أفئدة) اجلس مع التواب، تجده يبكي ويخشع، ويتردد على دروس العلم ومجالس الذكر، ذا قلب رقيق، وهذا واجب على كل مدرس للعلم، أي: أن يعلم رقة القلب، اللهم رقق قلوبنا بالعلم وبالخشية منك يا رب العالمين.

عندنا عدة نماذج من الكتاب والسنة، وصور من العذاب في جهنم والعياذ بالله، نسأل الله أن يبعدنا وإياكم عن النار.

شجرة الزقوم

أول نوع من أنواع العذاب هو شجرة الزقوم، وشجرة الزقوم وردت في الواقعة وفي الصافات، وسنرى النماذج ونفسرها؛ لأننا قلنا: إن كل حديث عن الدار الآخرة هو من نصوص الكتاب والسنة، فليست مسألة قياسية أبداً، لكي نبقى مرتبطين بما جاء في الكتاب وفي السنة المطهرة، فننظر إلى النص الأول، لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً.

قال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:51-56].

قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الواقعة:51] .

إذاً هذا أول نوع من العذاب.

والله عز وجل يتحدث عن صنفين: الضال والمكذب، فمن الضال ومن المكذب؟ الضال: هو كل من لم يأتمر بأمر الله عز وجل، يعني: الذي لا يصلي فهو ضال، والذي لا يزكي ولا يصوم فهو ضال، والتي لا تتحجب ولا تتخمر فهي ضالة أيضاً.

وكل ضال مكذب؛ لأنه مكذب لله عز وجل في أمره، وهو إنسان ضل؛ لأنه كذب الله ورسوله، فإن قيل: من أين لك هذا؟ قلنا: من كلام الله، ومن كلام رسوله، فالمسألة ليست مسألة اجتهاد شخصي، فمن يقرأ عليه الوحي فيكذبه ثم لا يهتدي، فهو مكذب ضال، أي أن كلاً منهما مترتب على الآخر، فهو مكذب بحقيقة يوم القيامة؛ لأنه لو آمن وأيقن بحقيقتها لما كذب ولما ضل، ولو أيقن بما في يوم القيامة من عذاب وأهوال لاهتدى وما كذب، وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الواقعة:51] يكلمهم ربنا: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ [الواقعة:52] تزقم الإنسان الشيء أي: ابتلعه بصعوبة بالغة، مثل: لو أكلت لقمة أكبر من حجم فمك. إذاً ابتلاع الإنسان الشيء بصعوبة بالغة، هذا اسمه التزقم.

قال أهل العلم: هل شجرة الزقوم موجودة في الدنيا أم لا؟ الرواية الأولى: أنها موجودة، وهو شجر كريه المنظر سيئ الطعم، موجود في شمال نجد في جزية العرب، ولكن البعض يقول: لا، هذا اسم جديد على اللغة العربية، وكلمة (شجرة الزقوم) وصفها القرآن بصفاتها الخاصة بها.

وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الواقعة:51-53] يعني: يأكل إلى أن تنتفخ بطنه والعياذ بالله رب العالمين، فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة:54] لأنها عندما تدخل تقطع الأمعاء، فيحتاج إلى ماء، فيحضرون له شراباً لكنه من حميم، وما هو الحميم؟ هو كل شيء يغلي، والحميم هنا: هو عصارة أهل جهنم.

وقوله تعالى: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [الواقعة:55] الهيم: هي الإبل العطشى، أو الهيم: هي الرمال، أي: كمثل سقاية الرمل ماء، أو الهيم: هي الإبل التي مرضت بمرض الهيم، وهو المرض الذي يوازي عند البشر مرض الاستسقاء، والجمل المصاب به يظل يشرب ولا يشبع، إلى أن يموت من شدة الشرب، وهذه صورة إنسان ضال مكذب، أي: يأكل من شجرة من زقوم، فيملأ منها بطنه.

قوله تعالى: هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:56] النزل في اللغة العربية هو الفندق، وبعض الدول العربية تسمي الفندق أو اللوكندة: نزل، فكأن النزل أو الفندق أو اللوكندة بدل ما تكون في الدنيا اسمها: خمسة أو ثلاثة نجوم، أو أربعة نجوم، ستكون هناك شجرة الزقوم.

وقوله تعالى: هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:56] أي: هذا مكانه يوم الدين، أي: يوم القيامة، فيأكل من شجرة من زقوم، ويشرب عليها من الحميم، فيشرب شرب الهيم والعياذ بالله رب العالمين، نسأل الله ألا يجعلنا من الضالين ولا من المكذبين.

وقوله تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62] كان يتكلم قبل هذه عن الجنة.

إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63] .

ولما نزلت آية الواقعة التي فيها ذكر شجرة الزقوم نادى أبو جهل على جاريته: يا جارية! هاتي تمر العجوة والزبد وهذه أحلى الأكلات العربية في القديم، وزقمينا، إنها عجوة يثرب وزبد يثرب سوف نتقزمها في النار يوم القيامة! هذا أبو جهل يقول ذلك، ثم يقول: ويضحك علينا محمد، وإنما هي عبارة عن عجوة وزبدة سنأكل منها.

فربنا يقول: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63] لأن كلمة التزقم في لغة العرب تعني: أن البلح من شدة حلاوته تكسر حدته بالزبدة، فهو لكي يضله ربنا ويغويه وهو ضال أصلاً.

صفات شجرة الزقوم

وقوله تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:64] أبو جهل ومن معه لما قاسوها بالعقل قالوا: شجرة وجذعها في النار! إذاً: هي تحترق، يعني: لو شجرة أصلها في النار لاحترقت، النار ستشتبك في أغصانها فتحترق، فالظالم أو الضال الذي يريد الله عز وجل أن يغويه، يأتيه بهذه الشجرة، عندئذ قال الله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:63-64] الجحيم دركة من الدركات السبع، إذاً شجرة الزقوم هذه لها مكان معين في النار.

وقوله تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا [الصافات:64-65] أي: ثمرها كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65] من منا رأى الشيطان؟ لا أحد، لكنا نتخيله، ولذلك عندما نحب أن نقول عن شخص: كريه أو معبس، نقول: كان شكله وقت الغضب كأنه شيطان، لكراهة المنظر، وعندما نرى وجهه صبيحاً نقول: هذا وجهه مثل الملك، فهذا عكس هذا.

إذاً: يصف ربنا الطلع أو الثمر الذي لشجرة الزقوم بقوله: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65] ولذلك نسوة العزيز قلن عن سيدنا يوسف: حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] لأن شكله جميل، اللهم اجعل وجوهنا وقلوبنا ملائكية يا رب! فهنا يقول الله سبحانه: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65].

وقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:66-67] الشوب: الثمر الذي طلعه أو شكله مثل رأس الشيطان، فهذا مشوب أي: مختلط بالحميم، وهو والعياذ بالله الصديد أو العصارة النازلة من أهل جهنم، فـأبو جهل يقول: هي عجوة مخلوطة بالزبدة، فربنا سبحانه ذكر صفتها.

انظر طلع شجرة الزقوم التي قال ربنا فيها: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء:60] يخوفهم ربنا ولكن لا ينفع معهم، فنسأله تعالى أن يجيرنا وإياكم من عذاب النار وما فيها.

وثمر شجر الزقوم وشكله مثل رأس الشيطان مختلط بعصارة أهل جهنم.

وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات:68] يعني: ينتقلون بهم من مكان إلى مكان لكي يأكلوهم، مثل المساجين، فالمساجين عندما يصعدون بهم إلى الجبل لكي يكسروا الأحجار، يربطونهم في الكلبشات، ثم يعيدونهم بعدما يكسرون، ويريحونهم في الزنزانة والعياذ بالله، فالمثل هنا أقسى؛ لأن الله قال: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات:68] فبعد أن يذهب ليأكل من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رءوس الشياطين، ومخلوطة بالحميم، يعود مرة أخرى إلى الجحيم.

وقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46] والعياذ بالله رب العالمين.

يقول سيدنا سعيد بن جبير رضي الله عنه: إذا جاع أهل النار استغاثوا من الجوع، فأغيثوا بشجر الزقوم، وقد علمنا أن السحاب يأتي فوقهم، ما تودون؟ قالوا: ما دام هناك سحابة فنحن نريد منها أن تمطر ماء لتطفئ النار، فهذه السحابة إذا بها تمطر أغلالاً وسعيراً، فأغيثوا بشجرة الزقوم والعياذ بالله، فأكلوا منها فانسلخت وجوههم، حتى لو أن ماراً مر عليهم ما عرفهم، كما لو أتوا لك بجمجمة لميت، فهل تعرف لمن هذه الجمجمة، فهكذا حال وجه الكافر والفاجر والضال والمكذب والمتجبر على عباد الله، حتى لو أن ماراً مر عليهم لما عرف وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عليهم العطش، فيغاثون بماء كالمهل الذي تناهى حره، فإذا أدنوه من وجوههم أنضج حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم والجلود، ويضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله، فيدعون بالويل والثبور، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:14] يقول: يامصيبتاه! واثبوراه واثبوراه! يعني: يا هذا الهلاك .. يا هذه الكارثة! يعني: لن تدعو ثبوراً واحداً ولا هلاكاً واحداً، بل ستدعون ثبوراً كثيراً.

إذاً: فشجرة الزقوم هي النوع الأول من العذاب للكافر والضال والمكذب.

طعام ذو غصة

النوع الثاني: طعام ذو غصة:

في ناس كلمة الحق تقف في حلقه مثلما يشرغ أي: لا تخرج كلمة الحق من فمه سهلة، بل بالعكس، لو كان محامياً نصاباً فالكلمات الغلط تسيل على لسانه سيلاناً.

مثلاً: يترافع على امرأة في مسألة طلاق، فتقول: لم يضربني، يقول لها: إذاً القضية على هذا خسرانة خسرانة.. فيشجعها على أن تأتي بشهود زور. نعم. هي تريد الطلاق من زوجها، لكن أنت لا تشجعها على أن تأتي باثنين يشهدان زوراً؛ لأنك والعياذ بالله عندما تأتي بهما فهما في قعر جهنم، والذي تسبب بإتيانهم وهو من شهدوا له، وأكل صاحبه بشهادة الزور، في العذاب كذلك.

ولهذا عندما تدخل المحكمة ادخل برجلك الشمال، كمثل دورة المياه، وكبيت الحاكم، فهذه ثلاثة أماكن تدخلها برجلك الشمال، وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن هذه أماكن فيها شياطين، فهل يعقل أن كل من في المحكمة مظلومون؟ نعم كل من في المحكمة مظلومون، أي: إما ظالم أو مظلوم، والقاضي قد لا يدري، وإنما أمامه أوراق ومحام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار) يعني يقول الرسول: اعلم أنك لو أخذت شيئاً ولو قليلاً من حق أخيك بغير حق، فأنت تأخذ مثل ذلك من جهنم.

إذاً: الطعام الذي هو ذو غصة هو للناس الذين تقف كلمة الحق في زورهم، مثلاً لو أن ابن فلان من الناس لم يتفق مع صاحب العمل، فتجد والده يقول: صاحب العمل هذا لص مرتش نصاب، لكن ابنه ليس غلطاناً، ولا يمكن أن يكون عنده غلطانا..!

ولو أن أخاه غير متفق مع جاره، فإذا به يقف مباشرة بجانب أخيه، وفي الحقيقة يمكن أن يكون الأخ هو الظالم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقال رجل: أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: أن ترده عن ظلمه فذلك نصر له) أي: أن تقول له: أنا معك وأنت مظلوم، أما وأنت ظالم فلا.

هناك ناس -والعياذ بالله- لا يستسيغون الحلال وإنما يستسيغون الحرام، ومنهم الموظفون الذين يتعاملون مع الجمهور، كحاجب المحكمة وغيره، وهناك ناس صالحون، لكن لكي يخرج لك حكماً من المحكمة يأخذ منك أموالاً وأنا أتكلم عن المحكمة وليس لي قضية فيها والحمد لله، أنا متنازل عن جميع القضايا المدنية وغير المدنية التي يرفعها الناس علينا، من سب وقذف، وكل هذه - الحمد لله - ربنا يدافع عن الذين آمنوا، ووالله ما ذهبت محكمة، ولي قرابة عشرين واحد يدافعون عني لا أعرف من أين هم.

فالمسلم يا ليته يقف عند هذا المكان ولا يدخل؛ لأن المحاكم كلها ظلم، والمنتصر والمهزوم في المحكمة كلاهما مهزوم؛ لأن المنتصر مهزوم يوم القيامة؛ لأنه غالباً أخذ حقه بدون وجه حق، وإلا فكيف أخذه؟ فالمحامي يظل يلعب على القاضي ونسأل الله السلامة، رغم أن هناك محامين صالحين، ربنا يستأنف لنا رحمته ويعيدنا إلى رحابه مؤمنين طاهرين مخلصين صادقين.

فالطعام الذي هو ذو غصة هو لكل إنسان لا سلاسة عنده في الحق، بل يأكل حراماً ويبتعد عن الحلال، الكلمات البذيئة تخرج منه سهلة، وكلمة الحق لا تخرج من فمه أبداً، فهؤلاء هم الذين يأكلون الطعام الذي هو ذو غصة.

والطعام ذو الغصة هو أيضاً للذي ينكد على أهل بيته، الذي يغار على حرمته لكن غيرة توصله إلى الشك، والشك يوصله إلى القذف، فهي غيرة لا حدود لها، تصل إلى الاتهام، والغيرة شيء طيب، حتى الحيوان يغار على أليفته، لكن لا توصلك الغيرة إلى أن تحدث نفسك بأمور ينهى عنها الدين؛ لأن سيدنا عمر لما قال للصحابة: لو أن أمير المؤمنين رأى رجلاً مع امرأة يرتكب الفاحشة، يقيم عليهما الحد؟ قالوا: نعم يقيم عليهما الحد، فقال سيدنا علي : هل مع أمير المؤمنين ثلاثة يشهدون معه؟ قال: لا. قال: إذاً نقيم على أمير المؤمنين حد الفرية، الله أكبر على فهم صحابة رسول الله! ليس إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأما الآن فتجد ضعيفة في الحارة الفلانية تسرق حزمة خس فيأخذها الباحث، ويذكر اسمها واسم أبيها واسم جدها.. وأنهم وجدوها وأخذت كذا! ولكن الثاني يأكل الملايين ويقول لك: رجل أعمال شهير! فنان مشهور! ألا تقول اسمه يا أخي! وإلا فاسكت.

قال تعالى: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:12-13] اللهم أبعدنا عنه يا رب العالمين.

هذا الطعام يقف في الحلق فلا يدخل ولا يخرج؛ لأنه كان في الدنيا هكذا، فكل عمل في الدنيا له نظير في الآخرة، لا تظن أن هناك شيئاً يضيع عند الله، امرأة بنت خمسة وأربعين سنة تزوجت برجل يسيء معاملتها كل هذه المدة ويطردها؛ لأنها غير حاضنة، وتكون في الشارع ليس لها أحد، وهذه لن يضيع ثوابها عند الله أبداً، فلا تظني يا أماه أبداً وقد عبرت من العمر أكثر من السبعين أن ربنا سبحانه سيضيعك، ونحن كلنا مسئولون عن هذه الأمور، وهذا ما يؤلمني وينغص علي حياتي، حتى يصير ليلي نهاراً، فعندما أسمع هذه المشاكل الصعبة، وتصلني هذه الشكاوى السيئة، التي تري كيف اختفت الرحمة من قلوب المسلمين، وتجلس مع الزوج فيقول لك: يا أخي الأمر سهل! تقول له: يا أخي! امرأتك الآن عمرها خمس وسبعون سنة! ونسأل الله حسن الختام، يقول لك: لا تكلمني بالدين، أنا فاهم، أنا حافظ هذا الكلام من قبل أن تولد، نسأل الله الهداية.

يا أخي لو أن عندك موظفاً لمدة عشرين أو ثلاثين سنة فعندما تخرجه تخرجه بكرامته، لا تطرده إلى الشارع هكذا، فاتقوا الله عباد الله، وإذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك!

الضريع

النوع الثالث من العذاب والعياذ بالله: الضريع:

قال تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:6-7].

الضريع هو شوك جريد النخل، فمن يصبر على أن يأكل شوكاً، وهذه صورة مبسطة لعذاب الآخرة، لكن هو بالتأكيد شيء أصعب.

ولمن هذا الضريع؟ هو لمن لا يقول الحق أيضاً، فلا ينطق إلا بالباطل، لمن يملأ لسانه بكلمة الفسوق، كالمغنين الذين كلامهم كله قلة أدب، والشعراء الذين يأتون بشعر مخالف للدين، أين سيذهبون من الله؟ فعندما يقول الشاعر الأحمق:

قدر أحمق الخطى..!

هل القدر أحمق؟!

ويقول الآخر:

لن أسلم بالمكتوب ولا أرضى..!

ربنا يقول: سلم بالمكتوب، وأنت تقول: لن أسلم بالمكتوب؟! فستستسلم رضيت أم أبيت.

إذاً: فالضريع: هو هذا الطعام الذي يأكله والعياذ بالله من لا ينطق بالحق، ومن لا يقول إلا الباطل، نسأل الله أن يجعل ألسنتنا لهاجة بذكره آناء الليل وأطراف النهار.

الغسلين

النوع الرابع من العذاب: الغسلين، قال تعالى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة:35-36].

الغسلين: هو صديد أهل النار، الذي قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (لو أن دلواً من غسلين أريق في الدنيا لمات أهل الدنيا جميعاً من نتن رائحته) فكيف ستكون رائحته إذاً؟!

أول نوع من أنواع العذاب هو شجرة الزقوم، وشجرة الزقوم وردت في الواقعة وفي الصافات، وسنرى النماذج ونفسرها؛ لأننا قلنا: إن كل حديث عن الدار الآخرة هو من نصوص الكتاب والسنة، فليست مسألة قياسية أبداً، لكي نبقى مرتبطين بما جاء في الكتاب وفي السنة المطهرة، فننظر إلى النص الأول، لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً.

قال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:51-56].

قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الواقعة:51] .

إذاً هذا أول نوع من العذاب.

والله عز وجل يتحدث عن صنفين: الضال والمكذب، فمن الضال ومن المكذب؟ الضال: هو كل من لم يأتمر بأمر الله عز وجل، يعني: الذي لا يصلي فهو ضال، والذي لا يزكي ولا يصوم فهو ضال، والتي لا تتحجب ولا تتخمر فهي ضالة أيضاً.

وكل ضال مكذب؛ لأنه مكذب لله عز وجل في أمره، وهو إنسان ضل؛ لأنه كذب الله ورسوله، فإن قيل: من أين لك هذا؟ قلنا: من كلام الله، ومن كلام رسوله، فالمسألة ليست مسألة اجتهاد شخصي، فمن يقرأ عليه الوحي فيكذبه ثم لا يهتدي، فهو مكذب ضال، أي أن كلاً منهما مترتب على الآخر، فهو مكذب بحقيقة يوم القيامة؛ لأنه لو آمن وأيقن بحقيقتها لما كذب ولما ضل، ولو أيقن بما في يوم القيامة من عذاب وأهوال لاهتدى وما كذب، وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الواقعة:51] يكلمهم ربنا: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ [الواقعة:52] تزقم الإنسان الشيء أي: ابتلعه بصعوبة بالغة، مثل: لو أكلت لقمة أكبر من حجم فمك. إذاً ابتلاع الإنسان الشيء بصعوبة بالغة، هذا اسمه التزقم.

قال أهل العلم: هل شجرة الزقوم موجودة في الدنيا أم لا؟ الرواية الأولى: أنها موجودة، وهو شجر كريه المنظر سيئ الطعم، موجود في شمال نجد في جزية العرب، ولكن البعض يقول: لا، هذا اسم جديد على اللغة العربية، وكلمة (شجرة الزقوم) وصفها القرآن بصفاتها الخاصة بها.

وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الواقعة:51-53] يعني: يأكل إلى أن تنتفخ بطنه والعياذ بالله رب العالمين، فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة:54] لأنها عندما تدخل تقطع الأمعاء، فيحتاج إلى ماء، فيحضرون له شراباً لكنه من حميم، وما هو الحميم؟ هو كل شيء يغلي، والحميم هنا: هو عصارة أهل جهنم.

وقوله تعالى: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [الواقعة:55] الهيم: هي الإبل العطشى، أو الهيم: هي الرمال، أي: كمثل سقاية الرمل ماء، أو الهيم: هي الإبل التي مرضت بمرض الهيم، وهو المرض الذي يوازي عند البشر مرض الاستسقاء، والجمل المصاب به يظل يشرب ولا يشبع، إلى أن يموت من شدة الشرب، وهذه صورة إنسان ضال مكذب، أي: يأكل من شجرة من زقوم، فيملأ منها بطنه.

قوله تعالى: هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:56] النزل في اللغة العربية هو الفندق، وبعض الدول العربية تسمي الفندق أو اللوكندة: نزل، فكأن النزل أو الفندق أو اللوكندة بدل ما تكون في الدنيا اسمها: خمسة أو ثلاثة نجوم، أو أربعة نجوم، ستكون هناك شجرة الزقوم.

وقوله تعالى: هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:56] أي: هذا مكانه يوم الدين، أي: يوم القيامة، فيأكل من شجرة من زقوم، ويشرب عليها من الحميم، فيشرب شرب الهيم والعياذ بالله رب العالمين، نسأل الله ألا يجعلنا من الضالين ولا من المكذبين.

وقوله تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62] كان يتكلم قبل هذه عن الجنة.

إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63] .

ولما نزلت آية الواقعة التي فيها ذكر شجرة الزقوم نادى أبو جهل على جاريته: يا جارية! هاتي تمر العجوة والزبد وهذه أحلى الأكلات العربية في القديم، وزقمينا، إنها عجوة يثرب وزبد يثرب سوف نتقزمها في النار يوم القيامة! هذا أبو جهل يقول ذلك، ثم يقول: ويضحك علينا محمد، وإنما هي عبارة عن عجوة وزبدة سنأكل منها.

فربنا يقول: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63] لأن كلمة التزقم في لغة العرب تعني: أن البلح من شدة حلاوته تكسر حدته بالزبدة، فهو لكي يضله ربنا ويغويه وهو ضال أصلاً.

وقوله تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:64] أبو جهل ومن معه لما قاسوها بالعقل قالوا: شجرة وجذعها في النار! إذاً: هي تحترق، يعني: لو شجرة أصلها في النار لاحترقت، النار ستشتبك في أغصانها فتحترق، فالظالم أو الضال الذي يريد الله عز وجل أن يغويه، يأتيه بهذه الشجرة، عندئذ قال الله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:63-64] الجحيم دركة من الدركات السبع، إذاً شجرة الزقوم هذه لها مكان معين في النار.

وقوله تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا [الصافات:64-65] أي: ثمرها كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65] من منا رأى الشيطان؟ لا أحد، لكنا نتخيله، ولذلك عندما نحب أن نقول عن شخص: كريه أو معبس، نقول: كان شكله وقت الغضب كأنه شيطان، لكراهة المنظر، وعندما نرى وجهه صبيحاً نقول: هذا وجهه مثل الملك، فهذا عكس هذا.

إذاً: يصف ربنا الطلع أو الثمر الذي لشجرة الزقوم بقوله: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65] ولذلك نسوة العزيز قلن عن سيدنا يوسف: حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] لأن شكله جميل، اللهم اجعل وجوهنا وقلوبنا ملائكية يا رب! فهنا يقول الله سبحانه: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65].

وقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:66-67] الشوب: الثمر الذي طلعه أو شكله مثل رأس الشيطان، فهذا مشوب أي: مختلط بالحميم، وهو والعياذ بالله الصديد أو العصارة النازلة من أهل جهنم، فـأبو جهل يقول: هي عجوة مخلوطة بالزبدة، فربنا سبحانه ذكر صفتها.

انظر طلع شجرة الزقوم التي قال ربنا فيها: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء:60] يخوفهم ربنا ولكن لا ينفع معهم، فنسأله تعالى أن يجيرنا وإياكم من عذاب النار وما فيها.

وثمر شجر الزقوم وشكله مثل رأس الشيطان مختلط بعصارة أهل جهنم.

وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات:68] يعني: ينتقلون بهم من مكان إلى مكان لكي يأكلوهم، مثل المساجين، فالمساجين عندما يصعدون بهم إلى الجبل لكي يكسروا الأحجار، يربطونهم في الكلبشات، ثم يعيدونهم بعدما يكسرون، ويريحونهم في الزنزانة والعياذ بالله، فالمثل هنا أقسى؛ لأن الله قال: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات:68] فبعد أن يذهب ليأكل من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رءوس الشياطين، ومخلوطة بالحميم، يعود مرة أخرى إلى الجحيم.

وقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46] والعياذ بالله رب العالمين.

يقول سيدنا سعيد بن جبير رضي الله عنه: إذا جاع أهل النار استغاثوا من الجوع، فأغيثوا بشجر الزقوم، وقد علمنا أن السحاب يأتي فوقهم، ما تودون؟ قالوا: ما دام هناك سحابة فنحن نريد منها أن تمطر ماء لتطفئ النار، فهذه السحابة إذا بها تمطر أغلالاً وسعيراً، فأغيثوا بشجرة الزقوم والعياذ بالله، فأكلوا منها فانسلخت وجوههم، حتى لو أن ماراً مر عليهم ما عرفهم، كما لو أتوا لك بجمجمة لميت، فهل تعرف لمن هذه الجمجمة، فهكذا حال وجه الكافر والفاجر والضال والمكذب والمتجبر على عباد الله، حتى لو أن ماراً مر عليهم لما عرف وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عليهم العطش، فيغاثون بماء كالمهل الذي تناهى حره، فإذا أدنوه من وجوههم أنضج حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم والجلود، ويضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله، فيدعون بالويل والثبور، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:14] يقول: يامصيبتاه! واثبوراه واثبوراه! يعني: يا هذا الهلاك .. يا هذه الكارثة! يعني: لن تدعو ثبوراً واحداً ولا هلاكاً واحداً، بل ستدعون ثبوراً كثيراً.

إذاً: فشجرة الزقوم هي النوع الأول من العذاب للكافر والضال والمكذب.

النوع الثاني: طعام ذو غصة:

في ناس كلمة الحق تقف في حلقه مثلما يشرغ أي: لا تخرج كلمة الحق من فمه سهلة، بل بالعكس، لو كان محامياً نصاباً فالكلمات الغلط تسيل على لسانه سيلاناً.

مثلاً: يترافع على امرأة في مسألة طلاق، فتقول: لم يضربني، يقول لها: إذاً القضية على هذا خسرانة خسرانة.. فيشجعها على أن تأتي بشهود زور. نعم. هي تريد الطلاق من زوجها، لكن أنت لا تشجعها على أن تأتي باثنين يشهدان زوراً؛ لأنك والعياذ بالله عندما تأتي بهما فهما في قعر جهنم، والذي تسبب بإتيانهم وهو من شهدوا له، وأكل صاحبه بشهادة الزور، في العذاب كذلك.

ولهذا عندما تدخل المحكمة ادخل برجلك الشمال، كمثل دورة المياه، وكبيت الحاكم، فهذه ثلاثة أماكن تدخلها برجلك الشمال، وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن هذه أماكن فيها شياطين، فهل يعقل أن كل من في المحكمة مظلومون؟ نعم كل من في المحكمة مظلومون، أي: إما ظالم أو مظلوم، والقاضي قد لا يدري، وإنما أمامه أوراق ومحام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار) يعني يقول الرسول: اعلم أنك لو أخذت شيئاً ولو قليلاً من حق أخيك بغير حق، فأنت تأخذ مثل ذلك من جهنم.

إذاً: الطعام الذي هو ذو غصة هو للناس الذين تقف كلمة الحق في زورهم، مثلاً لو أن ابن فلان من الناس لم يتفق مع صاحب العمل، فتجد والده يقول: صاحب العمل هذا لص مرتش نصاب، لكن ابنه ليس غلطاناً، ولا يمكن أن يكون عنده غلطانا..!

ولو أن أخاه غير متفق مع جاره، فإذا به يقف مباشرة بجانب أخيه، وفي الحقيقة يمكن أن يكون الأخ هو الظالم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقال رجل: أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: أن ترده عن ظلمه فذلك نصر له) أي: أن تقول له: أنا معك وأنت مظلوم، أما وأنت ظالم فلا.

هناك ناس -والعياذ بالله- لا يستسيغون الحلال وإنما يستسيغون الحرام، ومنهم الموظفون الذين يتعاملون مع الجمهور، كحاجب المحكمة وغيره، وهناك ناس صالحون، لكن لكي يخرج لك حكماً من المحكمة يأخذ منك أموالاً وأنا أتكلم عن المحكمة وليس لي قضية فيها والحمد لله، أنا متنازل عن جميع القضايا المدنية وغير المدنية التي يرفعها الناس علينا، من سب وقذف، وكل هذه - الحمد لله - ربنا يدافع عن الذين آمنوا، ووالله ما ذهبت محكمة، ولي قرابة عشرين واحد يدافعون عني لا أعرف من أين هم.

فالمسلم يا ليته يقف عند هذا المكان ولا يدخل؛ لأن المحاكم كلها ظلم، والمنتصر والمهزوم في المحكمة كلاهما مهزوم؛ لأن المنتصر مهزوم يوم القيامة؛ لأنه غالباً أخذ حقه بدون وجه حق، وإلا فكيف أخذه؟ فالمحامي يظل يلعب على القاضي ونسأل الله السلامة، رغم أن هناك محامين صالحين، ربنا يستأنف لنا رحمته ويعيدنا إلى رحابه مؤمنين طاهرين مخلصين صادقين.

فالطعام الذي هو ذو غصة هو لكل إنسان لا سلاسة عنده في الحق، بل يأكل حراماً ويبتعد عن الحلال، الكلمات البذيئة تخرج منه سهلة، وكلمة الحق لا تخرج من فمه أبداً، فهؤلاء هم الذين يأكلون الطعام الذي هو ذو غصة.

والطعام ذو الغصة هو أيضاً للذي ينكد على أهل بيته، الذي يغار على حرمته لكن غيرة توصله إلى الشك، والشك يوصله إلى القذف، فهي غيرة لا حدود لها، تصل إلى الاتهام، والغيرة شيء طيب، حتى الحيوان يغار على أليفته، لكن لا توصلك الغيرة إلى أن تحدث نفسك بأمور ينهى عنها الدين؛ لأن سيدنا عمر لما قال للصحابة: لو أن أمير المؤمنين رأى رجلاً مع امرأة يرتكب الفاحشة، يقيم عليهما الحد؟ قالوا: نعم يقيم عليهما الحد، فقال سيدنا علي : هل مع أمير المؤمنين ثلاثة يشهدون معه؟ قال: لا. قال: إذاً نقيم على أمير المؤمنين حد الفرية، الله أكبر على فهم صحابة رسول الله! ليس إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأما الآن فتجد ضعيفة في الحارة الفلانية تسرق حزمة خس فيأخذها الباحث، ويذكر اسمها واسم أبيها واسم جدها.. وأنهم وجدوها وأخذت كذا! ولكن الثاني يأكل الملايين ويقول لك: رجل أعمال شهير! فنان مشهور! ألا تقول اسمه يا أخي! وإلا فاسكت.

قال تعالى: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:12-13] اللهم أبعدنا عنه يا رب العالمين.

هذا الطعام يقف في الحلق فلا يدخل ولا يخرج؛ لأنه كان في الدنيا هكذا، فكل عمل في الدنيا له نظير في الآخرة، لا تظن أن هناك شيئاً يضيع عند الله، امرأة بنت خمسة وأربعين سنة تزوجت برجل يسيء معاملتها كل هذه المدة ويطردها؛ لأنها غير حاضنة، وتكون في الشارع ليس لها أحد، وهذه لن يضيع ثوابها عند الله أبداً، فلا تظني يا أماه أبداً وقد عبرت من العمر أكثر من السبعين أن ربنا سبحانه سيضيعك، ونحن كلنا مسئولون عن هذه الأمور، وهذا ما يؤلمني وينغص علي حياتي، حتى يصير ليلي نهاراً، فعندما أسمع هذه المشاكل الصعبة، وتصلني هذه الشكاوى السيئة، التي تري كيف اختفت الرحمة من قلوب المسلمين، وتجلس مع الزوج فيقول لك: يا أخي الأمر سهل! تقول له: يا أخي! امرأتك الآن عمرها خمس وسبعون سنة! ونسأل الله حسن الختام، يقول لك: لا تكلمني بالدين، أنا فاهم، أنا حافظ هذا الكلام من قبل أن تولد، نسأل الله الهداية.

يا أخي لو أن عندك موظفاً لمدة عشرين أو ثلاثين سنة فعندما تخرجه تخرجه بكرامته، لا تطرده إلى الشارع هكذا، فاتقوا الله عباد الله، وإذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك!