سلسلة الدار الآخرة المنجيات عند الميزان


الحلقة مفرغة

أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثالثة عشرة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، نسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يثقل موازيننا يوم القيامة، اللهم لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا غانماً سالماً لأهله رددته.

اللهم ارزقنا يا مولانا! قبل الموتة توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً، أظلنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم ثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام، اللهم أظلنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظله، واسقنا من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً.

اللهم شفع فينا نبينا، اللهم شفع فينا نبينا، اللهم شفع فينا نبينا، اللهم فرح بنا قلب نبينا، اللهم فرح بنا قلب نبينا، اللهم فرح بنا قلب نبينا، اللهم احشرنا تحت لوائه، واجعلنا من الذين يردون حوضه، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم بدون سابقة عذاب يا أكرم الأكرمين! وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

عرفنا أن العباد قد حشروا أمام رب العباد سبحانه، إذ لا وزير فيغشى، ولا حاجب فيؤتى، ولا إنسان يدافع عن إنسان، ثم علمنا كيف يفر المرء من ابنه ومن أبيه ومن أمه ومن عشيرته، وهنا لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

اللهم اجعل قلوبنا سليمة عندك يا رب العالمين.

فالله عز وجل جعل في الأمر رغم صعوبته في الدنيا قواعد يستطيع الإنسان أن يبنيها فينجو يوم القيامة، اللهم اجعلنا من الناجين.

في الحديث الذي رواه مسلم رضي الله عنه والترمذي في نوادر الأصول عن عبد الرحمن بن أبي سمرة رضي الله عنه عن الصادق الأمين المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال: كنا في المسجد في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلع علينا عليه الصلاة والسلام فقال: (إني رأيت الليلة عجباً) -ورؤيا النبي حق- يعني: ما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم كلام واقع ووحي يوحى، وما يراه النبي لا كما نراه نحن، قال: (إني رأيت الليلة عجباً) خيراً يا رسول الله! وهذه هي السنة إذا قصت عليك رؤيا أن تقول: خيراً إن شاء الله، وكان الحبيب يقول: (خيراً إن شاء الله، خيراً تلقاه، وشراً توقاه، خيراً لنا، وشراً لأعدائنا، والحمد لله رب العالمين)، فهذه هي السنة في ردك على من رأى رؤيا يريد أن يقصها عليك.

وفي ليلة أحد قال: (رأيت أن بقراً تذبح، ورأيت ثلمة في سيفي، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة) .

فهذه الرؤيا ثلاثة أجزاء، انظر: رأى بقراً تذبح، ورأى ثلمة في سيفه صلى الله عليه وسلم، رأى أنه أدخل يده في درع حصينة، قال أبو بكر بأدب: (أتأذن لي في تفسيرها يا رسول الله؟! قال: فسر يا أبا بكر ! قال: أما البقر التي تذبح: فإنما بعض من صحابتك سوف يستشهدون في هذه المعركة، وثلمة سيفك: فإنما رجل من آل بيتك عزيز لديك يقتل، وأما وضعك يدك في درع حصينة: فعودتك إلى المدينة سالماً غانماً، فتبسم الحبيب وقال: يا أبا بكر ! هكذا نزل علي جبريل بتأويلها) .

من الأعمال المنجية من عذاب الله بر الوالدين

طلع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في يوم من الأيام يقول: (إني رأيت الليلة عجباً) خيراً يا رسول الله! قال: (رأيت كأن القيامة قد قامت) .

فالقيامة قد قامت بالنسبة لسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، فهو يرى صوراً حقيقية ليس للشيطان أن يمثلها له؛ لأن كل واحد من بني آدم له شيطان يتسلط عليه قالوا: حتى أنت يا رسول الله! قال: (حتى أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم).

وليس أسلم معناها: نطق بالشهادة؛ لأن الشيطان لا يسلم ولكن معناها هنا: أسلمُ من شره (فلا يأمرني إلا بخير) وقد أراد الشيطان مرة أن يشوش على الحبيب صلى الله عليه وسلم صلاته، قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني الشيطان الليلة أراد أن يلبس علي صلاتي، فما كان مني إلا أن أخذت بخناقه) أي: سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أخذ بخناق الشيطان، فسال لعابه على يده، قال: (فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد لكي يلعب به صبيان المدينة عند الصباح) ليصنع خصيصة ومعجزة، يأتي بالشيطان ويربطه، قال: (لولا أن تذكرت دعوة أخي سليمان) رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي (فأبيت أن أتعدى على دعوة أخي سليمان).

وهذا من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: أحببت أن أربطه بالعمود من أجل الصبيان يلعبون به في الصباح، فتذكرت دعوة أخي سليمان: رب أعطني ملكاً لا يكون لأحد بعدي، ومن ضمن ملك سيدنا سليمان: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:37-38].

وكان سيدنا سليمان يؤدب أي شيطان يريد العصيان، فإذا قال الشيطان: لن أنفذ، يقول له: احترق، فيحترق، ويقول له: تقيد مكانك، فيقيد مكانه، سبحان الله!

وبعد ذلك: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، اللهم احشرنا في زمرة الشاكرين.

وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت القيامة قد قامت أو كأن القيامة قامت) شك الراوي، يعني: الراوي الذي يروي عن عبد الرحمن بن أبي سمرة شك في الرواية وكلاً قال: (فرأيت رجلاً وقد جاءه ملك الموت ليقبض روحه) أي: كأنه في الدنيا، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعرض عليه الدنيا والأخرى، فجاء ملك الموت ليقبض روح شخص، قال: (فجاءه بره بوالديه فخلصه من ملك الموت فطال عمره).

فقد يقول قائل: ألا تقولون: إن العمر هذا مكتوب؟

الجواب: نعم، مكتوب عند الله عز وجل، وملك الموت معه الدفتر الذي فيه نهاية كل حي، لكن لا يوجد شيء يطيل العمر إلا بر الوالدين، اللهم اجعلنا من البارين بوالدينا أحياءً وأمواتاً يا رب العالمين!

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع الصحابة فضحك حتى بدت نواجذه، خيراً ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: (رجل من أمتي يوم القيامة كان عاقاً لوالديه في الدنيا، فلما وزنوا له حسناته وسيئاته، رجحت سيئاته فأخذوه إلى النار، فرأى أباه أمامه فأخذته رقة، فقال: يا رب! مادمت ذاهباً إلى النار بما اكتسبت فخذ بقية حسناتي فضعها لأبي، وخذ من سيئاته فضع علي، وضاعف علي عذابي ونج أبي من النار، قال: عجباً لك عبدي! أعققته في الدنيا وبررته في الآخرة، أنت وأبوك في الجنة).

وهذه صورة من صور الرحمة الإلهية في هذا الموقف العظيم، فإذا أراد الله أن يرحم أحداً يفتح له باب الرحمة، اللهم افتح لنا أبواب رحمتك، ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم آمين يا رب العالمين!

الخوف من الله

قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً من أمتي وقد احتوشته زبانية جهنم فجاءه خوفه من الله فخلصه منهم).

فطالما خفت من الله فإنه كافيك، يعني: أنا إذا خفت من الله فإنني لا أكذب ولا أفتري ولا أرتشي ولا أنحرف ولا أنافق، ولكن أبحث وأسأل نفسي: ماذا قدمت للإسلام؟ ماذا قدمت للآخرة؟ أما أن أعيش في الدنيا كالبهيمة التي تأكل وتشرب وتنام وتبول وتعرق وتمرح ثم تموت فلا.

قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] .

البكاء من خشية الله

قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً من أمتي وقد أحاطت به جهنم فجاءته دمعة تقاطرت من عينه مرة من خشية الله فأطفأت عليه بحور جهنم فنقلته إلى نعيم الجنة).

فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا بكى الواحد منهم مسح بدموعه وجهه، وكانوا يقولون: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن تمس النار عين بكت من خشية الله).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله).

وكان هناك سبعة من الصحابة يسمون البكائين السبعة، والبكاء عند أصحاب اللغة العربية صيغة مبالغة، فبكاء أي: كثير البكاء، وكان في مقدمتهم: أبو بكر الصديق ، فلم يكن تمر عليه آية ولا يقرأ القرآن مرة إلا ويبكي رضي الله عنه، حتى إنه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغوا أبا بكر أن يصلي بالناس قالت عائشة : إن أبا بكر رجل أسيف -ضعيف القلب- إذا قام لم يسمع الناس من البكاء.

وفي صدر الإسلام عذب المشركون أبا بكر حتى استوى وجهه بأنفه من شدة التعذيب وكان غزير الشعر، فكان إذا مس خصلة من شعره تساقطت، فأجاره مطعم بن عدي وكان رجلاً مشركاً ولم يسلم، أجاره، فكان أبو بكر يقف ليصلي فيبكي، فكان النساء يصعدن من أجل أن ينظرن إلى الرجل الغريب الذي يبكي من غير أن يلمسه أحد، وبسبب بكاء أبي بكر هذا دخل عشرة من نساء الكفار وأبنائهم في الإسلام، فقال له مطعم : أدخلتك في جواري وتجعل الناس يدخلون في الإسلام ويكفرون بديني؟! قال له: يا مطعم ! فماذا تريد؟ قال له: إذا صليت لربك لا تبكِ، قال له: عجباً يا مطعم ! لقد رددت عليك جوارك وصرت في جوار الله عز وجل.

وكان سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما يمشي يحرسه ثلاثة من بني عبد المطلب، فهؤلاء الثلاثة يمشون كظله حتى لا يؤذيه أحد، إلى أن نزلت الآية الكريمة: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].

وهناك عمود في المسجد النبوي مكتوب عليه اسطوانة الحرس، فقد كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يدخل ليستريح، وكان حراسه الثلاثة ينامون عند هذا العمود، فإذا لمحوا النبي صلى الله عليه وسلم دخل جروا حوله، فلما نزلت الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] قال لهم: (دعوا حراستي فإنما صرت في حراسة الله وأمنه) وقد قال الله له: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] صلى الله عليه وسلم.

قيل لموسى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] وقيل لمحمد: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] وشتان ما بين الحراستين عليهما الصلاة والسلام.

اللهم احشرنا في زمرتهم يوم القيامة، ومتعنا بالجوار معهم يوم القيامة بدون سابقة عذاب يا رب العالمين!

فالبكاء أطفأ بحوراً من النار.

قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً من أمتي والشمس قد اقتربت من الرءوس قدر ميل) والعلماء على رأيين:

هل الميل مسافة؟ أو أن الميل هو الذي تضع به النساء الكحل في العين، فالمهم أنه اقتربت الشمس قدر ميل قل: شبراً، قل: قيراطاً أو أقل.

قال: (وزيد في حرها سبعين ضعفاً) لأنها تركت المدار، قال الله سبحانه وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:105-107].

فليس هناك حفرة تختبئ فيها ولا هضبة ولا تل، قال تعالى: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا [الفرقان:25]، وسكان السماوات بنص الحديث أكبر عدداً من سكان الأرض، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

قال صلى الله عليه وسلم: (ينزل سكان السماوات الأولى فيحيطون بأهل المحشر)، وهم أكثر من عدد البشر، (ثم ينزل سكان السماء الثانية عشرون ضعفاً من سكان السماء الأولى) يقعدون في الحلقة الثانية، إذاً: يحيطون بأهل المحشر فأول حلقة أصحاب السماء الأولى، والسماء الثانية الحلقة الثانية، والسماء الثالثة ثلاثون ضعفاً، والسماء الرابعة أربعون ضعفاً، إلى السابعة سبعون ضعفاً، فينزل هؤلاء كلهم، قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] جملة حالية، أي: (وَجَاءَ رَبُّكَ) بعد أن صار الملائكة صفاً صفاً.

قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17] والقدم الواحد في حملة العرش مسيرة عشرين ألف سنة!! وقلنا: إن السماوات والأرض وما فيهن بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة، فيكون العرش قدر ماذا؟

سبحانك يا خلاق، فكيف هؤلاء الثمانية الذين يحملون عرش الرحمن؟

حسن الظن بالله تعالى

(ورأيت رجلاً من أمتي وقد ارتعدت فرائصه) أي: حصلت له رعشة، قال صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث: (كالسعفة في مهب الريح) والسعفة: من جريد النخل (فجاءه حسن ظنه بالله فسكن ما به من رعدة).

يقول صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً غرتهم الأماني يقولون: نحسن بالله الظن) فيقولون: ربك رحيم غفور، فهل أنت مصدق كلام الشيخ عمر في الجامع! يا رجل ربك سبحانه وتعالى سيكرم وسيغفر، فغرته الأماني، فتراه لا يصلي، وترى المرأة غير محجبة ولا مخمرة، وتجدها محتكة بالرجال ليل ونهار، وتغتاب فلاناً وفلاناً وحاقدة وناقمة، والرجل مجرم ومرتش ومختلس وعنده أمل في رحمة الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل).

ودائماً نحن نكون في الأحوط والأحرص، وعندما تقرأ قول الله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6] يقول ابن مسعود : والله إن لهو الحديث الغناء.

فـابن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليه أخذ القرآن من فم الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يقول: ليس هناك سورة نزلت إلا وأنا أعرف أأنزلت ليلاً أو نهاراً، في مكة أو في المدينة، في سهل أو في جبل، في غزوة أو في سلم، في كذا أو في كذا.

فانظر إلى هذا العلم كله، فيقسم ابن مسعود بالله أن لهو الحديث هو الغناء.

إذاً: هل أصدقك أم أصدق ابن مسعود ؟ لا والله، بل إنني سأصدق ابن مسعود ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتدوا بهدي ابن أم عبد) ولما ضحك الصحابة من دقة ساقه قال صلى الله عليه وسلم: (والذي بعثني بالحق نبياً إن ساق ابن مسعود أثقل عند الله من جبل أحد).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يسمع القرآن غضاً كما أنزله جبريل فليسمع من عبد الله بن مسعود).

فهل بعد هذا الكلام كله أركل كلام ابن مسعود وآخذ بكلامك أنت؟! الجواب: لا، بل نأخذ كلام ابن مسعود وأستريح لما قاله ابن مسعود فهو الصحابي الوحيد المأذون له بالدخول على رسول الله في كل وقت، فإن أبا بكر ومكانته في الإسلام إذا طرق الباب يدخل الخادم فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم: هذا أبو بكر في الباب، فيقول له: يقابلني في المسجد، أو يأتي بعد العصر، أو يأتي بعد المغرب وهكذا، إلا ابن مسعود فإنه أول ما يدق الباب يدخل الخادم فيبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدخل ابن مسعود مباشرة، فهو الصحابي الوحيد المأذون له في الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحج والعمرة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً وقد أحاطت به الظلمة من كل مكان يتخبط فيها)، عن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن أمامه ظلمة ومن ورائه ظلمة، قال: (فجاءه حجه وعمرته فأضاء ما حوله فوجد نفسه بجواري).

فهذه وسائل للمغفرة ووسائل للنجاة، لكن لا يأخذ المرء من الدين ما يعجبه، فالإسلام نظام عام، قال تعالى: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] وهل الملك في وقته كان له دين؟ إنما الدين هنا هو النظام العام، فالدين الإسلامي نظام، فلا تأخذ من الدين الذي يعجبك وترفض ما لا يعجبك، وتقول: الدين قوي، الدين أخلاق، الدين سلوك، قال: نعم، ولكن ليس ضرورياً أن أصلي معك في المسجد، فإن قلت: لماذا هكذا؟ قال: هذه ليست واردة!! يعني: يأخذ الشيء الذي يعجبه ويرفض الشيء الذي لا يعجبه.

امرأة تصلي وتصوم ومطيعة لزوجها وتحضر دروس العلم، لكنها تقول: موضوع الحجاب هذا لم أقتنع به، لماذا لا تقتنعين به والله يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا[الأحزاب:36] أليست هذه الآية تخص جميع المسلمين.

أنواع الإيمان خمسة

إذاً: أقول: إن المسلم لا يتمنى على الله الأماني، فليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل؛ لأن الإيمان خمسة:

إيمان مطبوع، وإيمان مقبول، وإيمان مردود، وإيمان لا إيمان، وإيمان التمني.

فالإيمان المطبوع: إيمان الملائكة، فهم مطبوعون على الطاعة والعبادة والتوحيد، قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] لكن إذا نظرت إلى خوفهم يوم القيامة وفي أرض المحشر ويوم الحساب، لقلت: سبحان الله، إذ تقول الملائكة يوم القيامة: سبحانك سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، حتى إنه لينادى على جبريل فيأتي جبريل تصطك قدماه خشية من الله عز وجل، يخاف أن يكون قد قضى الله في أمره شيئاً، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] .

وإيمان مقبول: إيمان المؤمن.

وإيمان مردود -والعياذ بالله-: إيمان المنافق.

وإيمان لا إيمان: إيمان المبتدع: (ألا إن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) .

وإيمان لا يخرج العبد منه بشيء يوم القيامة: وهو المفلس الذي صلى وصام وزكى وآمن، ولكنه أخذ حقوق العباد، وجاء يوم القيامة بلا حسنات؛ فالناس يوم القيامة كما قلنا أقسام ثلاثة:

أغنياء بالحسنات: اللهم اجعلنا منهم يا رب!

وفقراء من الحسنات: لا تجعلنا منهم يا رب!

وأغنياء من الحسنات يصيرون فقراء.

أغنياء بالحسنات: الصحابة والتابعون ومن نحا نحوهم.

فقراء من الحسنات: ليس معهم حسنة واحدة، وعندما أركز على الأخوة الصالحة في الإسلام، رجل نجا بحسنة واحدة، ورجل دخل النار بسيئة واحدة، وتفصيل ذلك: أن رجلاً أتى بواحد وخمسين في المائة، وأخاه في الله أتى بتسعة وأربعين في المائة، فالأول نجا بحسنة فأخذوه إلى الجنة، والذي لديه تسعة وأربعون في المائة زاد بسيئة فأخذوه إلى النار والعياذ بالله فقال لمن أخذ إلى الجنة: يا أخي! قال: نعم، قال له: أما من منة لي عليك في الدنيا؟ قال: لا، لا أنكر أبداً شيئاً مما مننت به علي، لقد أخذتني إلى كذا وعلمتني كذا وفقهتني في كذا وكذا وكذا، ويعدد له، فيقول له: ما بالك لو أعطيتني الحسنة التي زادت وأنا وأنت نصير من أصحاب الأعراف؟ فرق قلب أخيه له فقال: ما دمنا الاثنان في رحمة الله فخذ، فيقول الله عز وجل: ماذا صنعت يا عبدي! يا جبريل، لم لم تأخذوه إلى النار؟ لماذا تتلكئون فيه؟ قال: يا رب! هذا الرجل له زيادة حسنة، وهذا تنقصه حسنة فتنازل له، فالاثنان حسناتهما لا تدخلهما الجنة، ولا سيئاتهما تدخلهما النار، فقال الله: يا عبدي! أأنت أكرم منا؟ أجئتنا لتعلم لطيفاً خبيراً؟ ادخلا إلى الجنة.

نسأل الله أن يخفف عنا وعنكم، وأن يتوب علينا وعليكم، اللهم تب علينا توبة خالصة نصوحاً، واجعل هذه الدروس في ميزان حسناتنا جميعاً يوم القيامة، علمنا منها ما جهلنا، ذكرنا منها ما نسينا، وفقنا لما تحبه وترضاه يا أكرم الأكرمين! آمين يا رب العالمين!

سرعة الاغتسال من الجنابة

قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً من أمتي والنبيون جلوس حلق حلق) أي: كل رسول عنده حلقة، فنوح في حلقة، وصالح في حلقة، وهود في حلقة، ويونس في حلقة، وموسى في حلقة، وعيسى في حلقة، وإبراهيم في حلقة، وهكذا.

قال: (فكلما جاء إلى حلقة طرد ومنع منها، فجاءه إسراعه بالاغتسال من الجنابة فأجلسه في حلقتي وبجواري) فأسرع في الغسل من الجنابة من أجل أن يكرمك الله وتكون دائماً بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الكلام تقوله لزوجتك، طالما طهرت من الحيض فلتغتسل ولتصلِّ قبل خروج الوقت، وكثير من النساء عليهن أوقات كثيرة ويقعن في هذه المشكلة، فيجب على الأخوات أن يراعين هذه القضية.

صلة الرحم والصبر على موت الأطفال

قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً من أمتي يكلم الناس ولا يكلمونه فجاءه صلته لرحمه فأمر الملائكة الناس أن يكلموه فكلموه، ورأيت رجلاً من أمتي وقد خف ميزانه فجاءه أفراطه) أفراطه: أولاده الذين ماتوا وهم صغار فصبر واحتسب، قال: (فوضعوا في ميزان حسناته فرجحت كفة حسناته فدخل الجنة).

ولذلك ماتت لرجل ابنة كان يحبها كثيراً، فمكث يبكي عليها ليل نهار، ودائماً الناس يبكون على ذويهم، لكن يا أخي الكريم! الرسول صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه إبراهيم ، لكنه لم يبك عليه عشرين سنة، فأنت كلما ذكرت ابنتك أخذت تبكي دائماً وحولت البيت إلى نكد، وهذا غير صحيح.

فالمسلم يجب أن يكون صبوراً، ويفرح المؤمن الذي مات له أولاد وهم صغار؛ لأنهم سيصنعون ضوضاء على باب الجنة (ما هذه الضجة التي أسمع يا جبريل؟! فيقول جبريل: يا رب هؤلاء أبناء المسلمين الذين ماتوا صغاراً، أبوا دخول الجنة إلا بصحبة آبائهم وأمهاتهم) وهكذا صنعوا مظاهرة على باب الجنة، لن ندخل إلا ومعنا آباؤنا، (قال: يا جبريل! من صبر من والديهم ألحقوا بهم ذريتهم).

وهذا رجل ماتت ابنته، فمكث يبكي عليها بكاءً مراً فنام، ورأى في الرؤيا أن القيامة قد قامت، والشمس قد اقتربت من الرءوس والعطش قد اشتد، ورأى صغاراً يسقون أناساً بجواره، فبحث عن ابنته، فقال: يا بنيتي! الصغار يسقون آباءهم وأمهاتهم، وأنت لم لا تسقينني؟ قالت: يا أبت! لأنك لم تصبر على ما ابتليت به فترك البكاء عليها، وامتنع عن ذلك.

كلمة لا إله إلا الله

(ورأيت رجلاً من أمتي وقد أوصدت أمامه أبواب الجنة) أي: أبواب الجنة الثمانية، كلما يأتي إلى باب منع من الدخول وأقفل الباب، قال: (فجاءه قوله: لا إله إلا الله ففتحت له أبواب الجنة)؛ لأن باب الجنة لا يمر منه إلا أهل التوحيد، فسيدنا جبريل يوم القيامة يقول لسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! لن يعبر الصراط إلا من معه الجواز)، إذاً: جواز السفر كلمة عربية صرفة قال: (وما الجواز يا جبريل؟! قال: قول العبد: لا إله إلا الله، قال: الحمد لله الذي جعل أمتي من أهل لا إله إلا الله) ولذلك سوف يقف العبد يوم القيامة وقد نصبت الموازين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثقل موازيننا.

طلع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في يوم من الأيام يقول: (إني رأيت الليلة عجباً) خيراً يا رسول الله! قال: (رأيت كأن القيامة قد قامت) .

فالقيامة قد قامت بالنسبة لسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، فهو يرى صوراً حقيقية ليس للشيطان أن يمثلها له؛ لأن كل واحد من بني آدم له شيطان يتسلط عليه قالوا: حتى أنت يا رسول الله! قال: (حتى أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم).

وليس أسلم معناها: نطق بالشهادة؛ لأن الشيطان لا يسلم ولكن معناها هنا: أسلمُ من شره (فلا يأمرني إلا بخير) وقد أراد الشيطان مرة أن يشوش على الحبيب صلى الله عليه وسلم صلاته، قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني الشيطان الليلة أراد أن يلبس علي صلاتي، فما كان مني إلا أن أخذت بخناقه) أي: سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أخذ بخناق الشيطان، فسال لعابه على يده، قال: (فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد لكي يلعب به صبيان المدينة عند الصباح) ليصنع خصيصة ومعجزة، يأتي بالشيطان ويربطه، قال: (لولا أن تذكرت دعوة أخي سليمان) رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي (فأبيت أن أتعدى على دعوة أخي سليمان).

وهذا من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: أحببت أن أربطه بالعمود من أجل الصبيان يلعبون به في الصباح، فتذكرت دعوة أخي سليمان: رب أعطني ملكاً لا يكون لأحد بعدي، ومن ضمن ملك سيدنا سليمان: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:37-38].

وكان سيدنا سليمان يؤدب أي شيطان يريد العصيان، فإذا قال الشيطان: لن أنفذ، يقول له: احترق، فيحترق، ويقول له: تقيد مكانك، فيقيد مكانه، سبحان الله!

وبعد ذلك: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، اللهم احشرنا في زمرة الشاكرين.

وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت القيامة قد قامت أو كأن القيامة قامت) شك الراوي، يعني: الراوي الذي يروي عن عبد الرحمن بن أبي سمرة شك في الرواية وكلاً قال: (فرأيت رجلاً وقد جاءه ملك الموت ليقبض روحه) أي: كأنه في الدنيا، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعرض عليه الدنيا والأخرى، فجاء ملك الموت ليقبض روح شخص، قال: (فجاءه بره بوالديه فخلصه من ملك الموت فطال عمره).

فقد يقول قائل: ألا تقولون: إن العمر هذا مكتوب؟

الجواب: نعم، مكتوب عند الله عز وجل، وملك الموت معه الدفتر الذي فيه نهاية كل حي، لكن لا يوجد شيء يطيل العمر إلا بر الوالدين، اللهم اجعلنا من البارين بوالدينا أحياءً وأمواتاً يا رب العالمين!

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع الصحابة فضحك حتى بدت نواجذه، خيراً ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: (رجل من أمتي يوم القيامة كان عاقاً لوالديه في الدنيا، فلما وزنوا له حسناته وسيئاته، رجحت سيئاته فأخذوه إلى النار، فرأى أباه أمامه فأخذته رقة، فقال: يا رب! مادمت ذاهباً إلى النار بما اكتسبت فخذ بقية حسناتي فضعها لأبي، وخذ من سيئاته فضع علي، وضاعف علي عذابي ونج أبي من النار، قال: عجباً لك عبدي! أعققته في الدنيا وبررته في الآخرة، أنت وأبوك في الجنة).

وهذه صورة من صور الرحمة الإلهية في هذا الموقف العظيم، فإذا أراد الله أن يرحم أحداً يفتح له باب الرحمة، اللهم افتح لنا أبواب رحمتك، ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم آمين يا رب العالمين!