سلسلة الدار الآخرة الشفاعة


الحلقة مفرغة

ركوب بحر التمني

أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الرابعة عشرة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، أو عن الموت وما بعده، أو عن مشاهد يوم القيامة، وهذه الحلقة -إن شاء الله- فيها شيء من التيسير والأمل في مشاهد يوم القيامة، ونحن جمعياً في حاجة لذلك، أي: إلى حديث يتسم بالرحمة عسى رب العباد أن يرحمنا وإياكم في الدنيا والآخرة.

إن القلوب قد كلت من عناء الدنيا وما فيها، وإن الصدور قد ضاقت بأهل الباطل، وإن المسلم يصبح ساعياً في هذه الحياة ما بين هؤلاء وهؤلاء لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:43] ، فاللهم ارحمنا فيمن رحمتهم يا أرحم الراحمين.

إن قلب الإنسان له أمور تصلحه وأمور تفسده، والأمر الوحيد الذي يصلح القلب هو ذكر الله عز وجل، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، فاللهم اجعل قلوبنا من المطمئنة بذكرك يا رب العالمين.

القلوب تفسد كما يفسد الجسد، والروافد أو المصادر التي تجعل الفساد يسرع إلى القلوب خمسة.

اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تقنع، إنك يا ربنا على كل شيء قدير.

العلم إن لم ينتفع الإنسان به فسوف يصير حجة عليه لا له، اللهم اجعل كل علمنا حجة لنا لا علينا يا رب العالمين.

فالحاصل: أن مفسدات القلوب خمسة: أولها: ركوب بحر التمني.

إن المنى رأس مال المفاليس كما قال الحكماء، رجل لا يصلي ويقول: ربنا غفور رحيم، أو آخر عريان في الشارع، ويقول كذلك: ربنا غفور رحيم، وآخر يسعى في خراب بيوت الله ويقول: الله غفور رحيم، فهؤلاء يركبون بحر التمني، وإن قوماً غرتهم الأماني ويقولون: نحسن بالله الظن، ووالله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

فالقضية ليست إحسان ظن نظري، بل إحسان ظن عملي، ومثاله: أن تقصدني في مائة مسألة وما رددت لك مسألة منها، وأنا لي مصلحة عندك، فيكون عندي حسن ظن فيك لسابقة أعمالي معك، ولو أسأت الظن بك لكنت غير عاقل، والعكس بالعكس.

وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] أمرك بأوامر ونهاك عن نواه، فوجدك عند الأمر مفقوداً وعند النهي موجوداً، ثم تدعي إحسان الظن بالله! على أي أساس تحسن بالله الظن؟

إن أردت أن تحسن الظن بالله فلابد لك من سابقة أعمال، لما دعا سيدنا زكريا ربه: ما كنت بدعائك رب شقياً أي: ما شقيت أبداً عندما كنت أدعوك، فله سابقة أعمال طيبة.

إذاً طالما أن العبد قد قدم خيراً فليحسن الظن بالله تعالى، أما لو أمرت ابنك بأمر لا يسمع كلامك، فنقول له: يا ولد اعمل كذا، يقول لك: لا، وتقول له: لا تذهب المكان الفلاني، فيذهب ويضيع وقته، هذا الولد لو أن له طلباً عندك فلا يمكن أن تحققه، ولو أنه عاقل لما أحسن الظن بك وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] وإن قوماً غرتهم الأماني يقولون: نحسن الظن بالله، والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

إذاً: فأول منبع من منابع فساد القلوب: ركوب بحر التمني.

كثرة الخلطة

وثانيها: الاختلاط.

مثل الاختلاط بين الرجال والنساء، والاختلاط مع الناس، وفي الأثر: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.

يعني: إن أردت أن تحب أحداً فلا تعطه مقاليد أمورك كلها؛ لاحتمال انقلابه عليك، فلربما انقلب الصديق فكان أعرف بالمضرة، وكثرة المحبة المفضية إلى كثرة التردد والزيارات تؤدي إلى تضايق الصديق من صديقه، وتذمره منه، بخلاف من يزور غباً، ولو كانت الشمس تطلع ليل نهار لتأذي الناس منها، لكنها تغيب ويجيء الليل، ونشتاق إلى شروقها لكي نسعى في مصالحنا، مصالح الدنيا والآخرة.

ومعنى: أبغض عدوك هوناً ما، أي: إن تكره أحداً فلا تقطع كل حبال الوصل به؛ لاحتمال أن يرجع إليك، فبأي وجه تقابله؟

وقد جاء في قصة سيدنا سهل بن عبد الله التستري وهو خارج في رحلة العلم، أنه خرج عليه بعض اللصوص فأخذوا ما معه وما مع أصحابه، فكان من ضمن ذلك الطعام، فنظر سهل إلى اللصوص فوجدهم كلهم يأكلون الأكل الذي اغتصبوه، ما عدا شيخ اللصوص، أي: كبيرهم، فقال له سهل : ما لك لم تأكل؟ قال له: هذا هو يوم الخميس وأنا صائم!! فقال له سهل : عجباً لص ويصوم! فقال اللص: يا سهل : لا أغلق كل الأبواب فيما بيني وبينه؛ أترك بيني وبينه باباً عسى أن أدخل عليه يوماً.

قال سهل : بعد ثلاث سنوات رأيت الرجل يطوف حول الكعبة ويبكي، فقال له: أنت ذلك اللص؟ قال له: نعم أنا، أما علمت يا سهل أن من ترك بينه وبينه باباً دخل عليه يوماً!!

فأنت حين تخالط الناس لا تخالطهم على حساب دينك، ولكن خالطهم بالحسنى، وأول ما يضر ذلك بالدين فتوقف، إذاً: فالمنبع الثاني لفساد القلوب: الاختلاط مع الناس، والاختلاط مع الناس فيه خير وشر، فمن الشر الغيبة والنميمة والخوض في الأعراض، ونحو ذلك، والخير ما فيه مدارسة للعلم ونحوه، وهناك مجالس يباح الجلوس فيها ولا تسلم من اللغو فعندما تقوم فيها تأتي بكفارة المجلس، والمهم أن من واجب الناس أن يتوبوا، لكن ترك الذنوب أوجب.

كثرة الأكل

وثالثها: كثرة الأكل.

يأكل حتى لا يقدر أن يقوم، والمسلم يقوم عن الطعام وما زالت له رغبة فيه، والشاعر الحكيم العربي قال:

إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه

وتجتنب الأسود ورود ماء إذا رأت الكلاب ولغن فيه

يعني: عندما يجيء الكلب فيشرب من بئر، فإن الأسد لا يشرب من البئر التي شرب منها الكلب؛ لأن الأسد ملك الغابة، فلا يشرب من مكان شرب الكلب بل سيدنا علي قال لـكميل : يا كميل ! أتحب الدنيا؟! قال: لا والله يا أمير المؤمنين! أنا أحب الحق والله هو الحق المبين، فمن أحب الحق كره الدنيا؛ لأن الدنيا هي الباطل، فأعجب سيدنا علي بإجابة تلميذه قال له: يا كميل ! إن أحببت الدنيا فإنما هي جيفة، وطلابها كلاب، فإن أحببت أن تكون كلباً فكن.

إذاً: فكثرة الطعام يجعل صاحبه فقيراً يوم القيامة.

كثرة النوم

وكثرة الأكل تؤدي إلى كثرة النوم.

فهذه أربع منابع للفساد أولها: ركوب بحر التمني.

وثانيها: الاختلاط بالناس.

وثالثها: كثرة الطعام.

ورابعها: كثرة النوم. وهذه تبع لما قبلها، فإن تأكل كثيراً فستنام كثيراً، وستندم كثيراً، وإن تأكل قليلاً، فستنام قليلاً، وسنفرح كثيراً، والفرحة الحقيقية هي التي عند الله سبحانه وتعالى، اللهم اجعلنا من الفرحين في الآخرة يا رب العالمين، لكن إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] أي: الذين هم في الدنيا.

قلة حضور مجالس العلم

وخامسها: قلة حضور مجالس العلم؛ لأن هذا هو البنزين الذي يحرك السيارة، والشحنة التي تشحن بها البطارية، فإن تبعد عن درس العلم تضعف البطارية.

أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الرابعة عشرة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، أو عن الموت وما بعده، أو عن مشاهد يوم القيامة، وهذه الحلقة -إن شاء الله- فيها شيء من التيسير والأمل في مشاهد يوم القيامة، ونحن جمعياً في حاجة لذلك، أي: إلى حديث يتسم بالرحمة عسى رب العباد أن يرحمنا وإياكم في الدنيا والآخرة.

إن القلوب قد كلت من عناء الدنيا وما فيها، وإن الصدور قد ضاقت بأهل الباطل، وإن المسلم يصبح ساعياً في هذه الحياة ما بين هؤلاء وهؤلاء لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:43] ، فاللهم ارحمنا فيمن رحمتهم يا أرحم الراحمين.

إن قلب الإنسان له أمور تصلحه وأمور تفسده، والأمر الوحيد الذي يصلح القلب هو ذكر الله عز وجل، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ، فاللهم اجعل قلوبنا من المطمئنة بذكرك يا رب العالمين.

القلوب تفسد كما يفسد الجسد، والروافد أو المصادر التي تجعل الفساد يسرع إلى القلوب خمسة.

اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تقنع، إنك يا ربنا على كل شيء قدير.

العلم إن لم ينتفع الإنسان به فسوف يصير حجة عليه لا له، اللهم اجعل كل علمنا حجة لنا لا علينا يا رب العالمين.

فالحاصل: أن مفسدات القلوب خمسة: أولها: ركوب بحر التمني.

إن المنى رأس مال المفاليس كما قال الحكماء، رجل لا يصلي ويقول: ربنا غفور رحيم، أو آخر عريان في الشارع، ويقول كذلك: ربنا غفور رحيم، وآخر يسعى في خراب بيوت الله ويقول: الله غفور رحيم، فهؤلاء يركبون بحر التمني، وإن قوماً غرتهم الأماني ويقولون: نحسن بالله الظن، ووالله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

فالقضية ليست إحسان ظن نظري، بل إحسان ظن عملي، ومثاله: أن تقصدني في مائة مسألة وما رددت لك مسألة منها، وأنا لي مصلحة عندك، فيكون عندي حسن ظن فيك لسابقة أعمالي معك، ولو أسأت الظن بك لكنت غير عاقل، والعكس بالعكس.

وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] أمرك بأوامر ونهاك عن نواه، فوجدك عند الأمر مفقوداً وعند النهي موجوداً، ثم تدعي إحسان الظن بالله! على أي أساس تحسن بالله الظن؟

إن أردت أن تحسن الظن بالله فلابد لك من سابقة أعمال، لما دعا سيدنا زكريا ربه: ما كنت بدعائك رب شقياً أي: ما شقيت أبداً عندما كنت أدعوك، فله سابقة أعمال طيبة.

إذاً طالما أن العبد قد قدم خيراً فليحسن الظن بالله تعالى، أما لو أمرت ابنك بأمر لا يسمع كلامك، فنقول له: يا ولد اعمل كذا، يقول لك: لا، وتقول له: لا تذهب المكان الفلاني، فيذهب ويضيع وقته، هذا الولد لو أن له طلباً عندك فلا يمكن أن تحققه، ولو أنه عاقل لما أحسن الظن بك وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] وإن قوماً غرتهم الأماني يقولون: نحسن الظن بالله، والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

إذاً: فأول منبع من منابع فساد القلوب: ركوب بحر التمني.

وثانيها: الاختلاط.

مثل الاختلاط بين الرجال والنساء، والاختلاط مع الناس، وفي الأثر: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.

يعني: إن أردت أن تحب أحداً فلا تعطه مقاليد أمورك كلها؛ لاحتمال انقلابه عليك، فلربما انقلب الصديق فكان أعرف بالمضرة، وكثرة المحبة المفضية إلى كثرة التردد والزيارات تؤدي إلى تضايق الصديق من صديقه، وتذمره منه، بخلاف من يزور غباً، ولو كانت الشمس تطلع ليل نهار لتأذي الناس منها، لكنها تغيب ويجيء الليل، ونشتاق إلى شروقها لكي نسعى في مصالحنا، مصالح الدنيا والآخرة.

ومعنى: أبغض عدوك هوناً ما، أي: إن تكره أحداً فلا تقطع كل حبال الوصل به؛ لاحتمال أن يرجع إليك، فبأي وجه تقابله؟

وقد جاء في قصة سيدنا سهل بن عبد الله التستري وهو خارج في رحلة العلم، أنه خرج عليه بعض اللصوص فأخذوا ما معه وما مع أصحابه، فكان من ضمن ذلك الطعام، فنظر سهل إلى اللصوص فوجدهم كلهم يأكلون الأكل الذي اغتصبوه، ما عدا شيخ اللصوص، أي: كبيرهم، فقال له سهل : ما لك لم تأكل؟ قال له: هذا هو يوم الخميس وأنا صائم!! فقال له سهل : عجباً لص ويصوم! فقال اللص: يا سهل : لا أغلق كل الأبواب فيما بيني وبينه؛ أترك بيني وبينه باباً عسى أن أدخل عليه يوماً.

قال سهل : بعد ثلاث سنوات رأيت الرجل يطوف حول الكعبة ويبكي، فقال له: أنت ذلك اللص؟ قال له: نعم أنا، أما علمت يا سهل أن من ترك بينه وبينه باباً دخل عليه يوماً!!

فأنت حين تخالط الناس لا تخالطهم على حساب دينك، ولكن خالطهم بالحسنى، وأول ما يضر ذلك بالدين فتوقف، إذاً: فالمنبع الثاني لفساد القلوب: الاختلاط مع الناس، والاختلاط مع الناس فيه خير وشر، فمن الشر الغيبة والنميمة والخوض في الأعراض، ونحو ذلك، والخير ما فيه مدارسة للعلم ونحوه، وهناك مجالس يباح الجلوس فيها ولا تسلم من اللغو فعندما تقوم فيها تأتي بكفارة المجلس، والمهم أن من واجب الناس أن يتوبوا، لكن ترك الذنوب أوجب.

وثالثها: كثرة الأكل.

يأكل حتى لا يقدر أن يقوم، والمسلم يقوم عن الطعام وما زالت له رغبة فيه، والشاعر الحكيم العربي قال:

إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه

وتجتنب الأسود ورود ماء إذا رأت الكلاب ولغن فيه

يعني: عندما يجيء الكلب فيشرب من بئر، فإن الأسد لا يشرب من البئر التي شرب منها الكلب؛ لأن الأسد ملك الغابة، فلا يشرب من مكان شرب الكلب بل سيدنا علي قال لـكميل : يا كميل ! أتحب الدنيا؟! قال: لا والله يا أمير المؤمنين! أنا أحب الحق والله هو الحق المبين، فمن أحب الحق كره الدنيا؛ لأن الدنيا هي الباطل، فأعجب سيدنا علي بإجابة تلميذه قال له: يا كميل ! إن أحببت الدنيا فإنما هي جيفة، وطلابها كلاب، فإن أحببت أن تكون كلباً فكن.

إذاً: فكثرة الطعام يجعل صاحبه فقيراً يوم القيامة.

وكثرة الأكل تؤدي إلى كثرة النوم.

فهذه أربع منابع للفساد أولها: ركوب بحر التمني.

وثانيها: الاختلاط بالناس.

وثالثها: كثرة الطعام.

ورابعها: كثرة النوم. وهذه تبع لما قبلها، فإن تأكل كثيراً فستنام كثيراً، وستندم كثيراً، وإن تأكل قليلاً، فستنام قليلاً، وسنفرح كثيراً، والفرحة الحقيقية هي التي عند الله سبحانه وتعالى، اللهم اجعلنا من الفرحين في الآخرة يا رب العالمين، لكن إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] أي: الذين هم في الدنيا.

وخامسها: قلة حضور مجالس العلم؛ لأن هذا هو البنزين الذي يحرك السيارة، والشحنة التي تشحن بها البطارية، فإن تبعد عن درس العلم تضعف البطارية.

موضوع الشفاعة -على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات من رب الأرض والسموات- موضوع يسعدنا جميعاً.

والشفاعة ننظر إليها من خمس زوايا، على ما يلي:

الشفاعة العامة

الشفاعة الأولى: الشفاعة العامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببدء الحساب.

أي: من أجل أن يبدأ الحساب، وهذه الشفاعة العامة التي تحدثنا عنها قبل ذلك، وفيها يذهب الخلق إلى آدم فيقول: لست لها، وكذا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى كلهم يقولون: لست لها، ثم يذهبون إلى محمد صلى عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها.

فهذه شفاعة عامة، ونتيجتها قبولها في بدء الحساب أمام رب الأرباب.

الشفاعة لمن خفت موازينهم

الشفاعة الثانية: هي شفاعته صلى الله عليه وسلم فيمن خفت موازينه.

الشفاعة لمن ركب بهم على الصراط

الشفاعة الثالثة: هي لقوم من أمته صلى الله عليه وسلم لم يأذن الله له أن يشفع لهم عند الميزان، فأخذتهم الملائكة، فبينما هم يعبرون الصراط وكادوا أن يكبوا في النار يشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة.

الشفاعة لمن سيمنع من الشرب من الحوض

الشفاعة الرابعة: لمن يمنع من الشرب من الحوض يوم القيامة، اللهم اسقنا من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً.

الحوض عرضه كما بين صنعاء اليمن وبصرى، وأما طوله فلا يعلمه إلا الله، ومن شرب منه لابد أن يدخل الجنة، لأن الذي يشرب شربة من حوض الكوثر لا يطلب الماء بعد ذلك، وعدد الأكواب لهذا الحوض كعدد نجوم السماء، وكم نجم في السماء؟ لا يعلمه إلا الله، والرسول هو السقاء على الحوض، وتخيل أنك دخلت على رئيس مجلس الإدارة للشركة التي تعمل فيها، فأول ما دخلت استقبلك بكوب فيه شراب قائلاً لك: تفضل، ثم أخذ بيدك وتعامل معك بأحسن الأخلاق، فما شعورك حينئذٍ؟

فكيف شعورك إذاً عندما يسقيك النبي صلى الله عليه وسلم من حوض الكوثر؟

قال تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24]، فأول ما يشرب من هذا الحوض ينور وجهه، وهذا من أهل الجنة، وأول شربة تدخل معدتك من حوض الكوثر تنزع الغل والحقد والحسد منك، فتدخل إلى الجنة ملائكياً لا نوازع شر عندك، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] ، اللهم اجعلنا منهم يا رب.

الشفاعة لأصحاب الكبائر أن يخرجوا من النار

الشفاعة الخامسة: شفاعته لمن ارتكب كبائر ولم يتب منها وأدخل إلى النار أن يخرج منها.

فهذه خمسة أنواع للشفاعة التي لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهناك شفاعات أخرى للعلماء والشهداء والصالحين، فاللهم شفع فينا نبينا والصالحين والعلماء يوم القيامة يا رب العالمين.

أدلة أنواع الشفاعة

أما الشفاعة الأولى فقد تحدثنا عنها طويلاً في حلقات سابقة.

وأما الشفاعة الثانية فيحكي أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (وضع أمام الرسول صلى الله عليه وسلم لحم، فنهش منه نهشة، ثم نظر وقال: أنا سيد ولد آدم في الآخرة ولا فخر. وأنا أول من يفتح له القبر يوم القيامة، وأنا أول شافع، وأنا أول من تفتح له أبواب الجنة يوم القيامة، يقول خازن الجنة: يا محمد! لم يؤذن أن أفتح أبواب الجنة لأحد قبلك) أي: أن النبي أول الداخلين، اللهم احشرنا في زمرته يا رب.

ثم قال: (ويؤتى بأقوام من أمتي يوم القيامة كانت لهم كبائر في الدنيا ما تابوا منها؛ فيؤخذ بهم إلى النار، فلا يؤذن لي في الشفاعة) يعني: الرسول هنا لم يؤذن له أن يشفع في هؤلاء الذين لهم كبائر ما تابوا منها، وكأن الله عز وجل يعرف نبيه من الذي تقبل شفاعته فيه ومن الذي لا تقبل.

والطالب في الجامعة أو المدرسة تكون درجة النجاح من خمسين، وقد أتي بسبعة أو ثمانية وأربعين، فهناك شيء اسمه درجة الرأفة، فيعطى درجتين، وطالب آخر أتى (1%)، فلا يستحق أن يعطى تسعاً وأربعين درجة لينجح.

وأمر الآخرة مقارب لهذا، وهذا أمر غيبي لا نستطيع الاجتهاد فيه، لكن عندنا نصوص نعيش في إطارها، وإنما نقرب بالأمثلة، ولذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (يا بني هاشم! لا يأتيني الناس يوم القيامة بحسناتهم وتأتوني أنتم بمظالم الناس على ظهوركم، تقولون: أدركنا يا محمد! فأقول ما قاله العبد الصالح: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118])، يعني: يوم القيامة ما مع فاطمة والحسن والحسين إلا أعمالهم، وهم قد علموا ذلك، وكان بإمكان أحدهم أن يقول للرسول: ادع لي، فيدعو له وانتهت المسألة، لكن قال لذلك الصحابي: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، وكذا سائر الأعمال، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].

ولذا يريد منا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن نبيض وجهه يوم القيامة، يؤتى بأناس يوم القيامة يذهبون للرسول ليشفع لهم، فيقول: أنا لا أعرفكم، فيقولون: يا رسول الله! نحن من أمتك، وهو يقول: لا أعرفكم؛ لأنهم كانوا لا يصلون عليه في الدنيا، ولا يطبقون سنته بل رموها، ومن واظب على ترك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم عوتب من الرسول يوم القيامة عتاباً يسقط له لحم وجهه ثم تريد أن يشفع الرسول فيك فكيف ذلك؟ لكن لو كنت تقدم خيراً حتى تدخل الجنة ولو بالرأفة.

أشد أهل النار عذاباً وأخفهم

ويقول صلى الله عليه وسلم: (ذهب أناس من أهل الكبائر ما تابوا منها من أمتي إلى النار، فيقول -أي: الله تعالى-: يا مالك أدخلهم إلى جهنم) فيدخلهم في الدرك الأول من النار والعياذ بالله، والنار سبع دركات، كل دركة أشد من التي فوقها سبعين ضعفاً، يعني: كلما نزلت دركات اشتد العذاب، واضرب سبعين في سبعين لتعرف مضاعفة العذاب لأصحاب الدرك الأسفل من النار، وهي تصل إلى أربعمائة وتسعين مرة.

وأخف أهل جهنم عذاباً هو أبو طالب ، وهذا ويقال: إن الشفاعة السادسة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي لعمه أبي طالب ، وقد أتاه سيدنا الحبيب في مرض موته وجلس عند رأسه، وفي الناحية الثانية أبو لهب وهو أخ لـأبي طالب وعم رسول الله، وأبو لهب بجوار أبي جهل ، والرسول خائف على عمه فوقف بجنبه فقال له: (يا عم! قلها أشفع لك بها عند ربي) أي: قل فقط: لا إله إلا الله، حتى أقف أمام الله أقول: يا رب قال: لا إله إلا الله ونصر دين الإسلام، فيأتي أبو لهب ويقول: يا شيخ قريش! ويا كبيرها! تقول قريش والعرب: صبأ أبو طالب وهو يموت، فالشيطان أيضاً جالس في هذا المكان، اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المحيا والممات يا رب العالمين!

فنظر أبو طالب إلى كلام أبي لهب على أنه صحيح، فماذا سيقول الناس عني في آخر أيامي: صبأ عن دينه، ويكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم قلها) أي: قل فقط: لا إله إلا الله، وأبو لهب وأبو جهل يحذرانه، انتبه يا أبا طالب أن تقولها، حتى لا يقول عليك كذا وكذا، فمات من غير أن يقول: لا إله إلا الله، وبكى الرسول عليه بكاءً مراً، وخفف القرآن من وجده بقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

وبقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، أي: لا تهلك نفسك يا محمد أسفاً وألماً عليهم، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23].

وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:21-26].

فذهب العباس ودفن أبا طالب ، ورجع فبكى على أخيه، وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا ابن أخي! ألا تشفع عند ربك لعمك أبي طالب ؟ وقف جنبك.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد دعوت الله له يا عماه. فقال له: وماذا أعطاك؟ قال: شفعني فيه فخفف عنه حتى يكون في ضحضاح من نار يلبس نعلين من نار يغلي منهما دماغه، وهو أخف أهل النار عذاباً يوم القيامة).

عجبت للجنة كيف نام طالبها، وعجبت للنار كيف نام راهبها، ونشاهد أن من أراد الجنة نائم، ومن خاف من النار نائم كذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا من مشمر للجنة؟ ألا من مشمر للجنة؟) وقال: (ألا إن من خاف أدلج) ومعنى: أدلج أي: سار ليلاً، ثم قال: (ومن أدلج فقد بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) هذا كلام رسول الله، وسلعة ربنا حقاً غالية جداً، لأنه اشترى منا أنفسنا وأموالنا وأعطانا الثمن في قوله: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، اللهم اجعلنا من الفائزين في هذا اليوم يا رب العالمين.

حال أهل الكبائر في النار

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤخذ بأهل الكبائر الذين لم يتوبوا في الدنيا إلى النار، فيقال: يا مالك أدخلهم إلى جهنم)، فعندما يرى العصاة من أهل التوحيد ممن كانوا مقيمين على كبائر، كالسرقة أو الزنا، أو شرب الخمر، وما إلى ذلك من الكبائر يهللون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فعندما يرى أهل التوحيد النار -والعياذ بالله- يهللون) أي: يقولون: لا إله إلا الله. (فترتد عنهم جهنم) وهذا عندما تسمع كلمة التوحيد، فترجع إلى الوراء، (يقول القدير سبحانه: يا مالك! أدخلهم النار، فيأخذهم كل واحد منهم سائق وشهيد) هذا بيد وهذا بالأخرى، وأنواع العذاب أربعة وستون نوعاً في النار وهذا سيأتي معنا ضمن حلقات النار، وسنعرف لمن هذه الأنواع من العذاب التي وردت في كتاب الله سبحانه وفي سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكل هذا موضح في الكتاب العزيز.

فنسأله تعالى أن يبعدنا وإياكم عن نار جهنم.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتأتي النار لتحرق القلوب)، يعني: لتحرق الأفئدة، وهناك نوع من العذاب يتسلط على القلب فقط، فمن كان حسوداً وحقوداً في الدنيا، فهذا عذابه؛ لأن الحسد والحقد مكانهما القلب.

وهنا تقول خزنة جهنم: (يا جهنم! أتحرقين قلباً فيه لا إله إلا الله؟! أتحرقين لساناً قرأ القرآن مرة؟!)، اللهم اجعلنا من أهل القرآن، ومن العاملين به، ومن الذين يرتقون في الجنة بالقرآن يا رب العالمين.

إذاً: فتأتي النار ناحية الوجه، ويقول الخزنة: (يا نار! أتحرقين أذناً كانت تسمع كلام الله مرة؟)، وتجيء ناحية اليد فتقول الخزنة: (يا نار! أتحرقين يداً كانت تمتد بالصدقات وبالزكاة؟)، وتجيء ناجية الرجل، فتقول الخزنة: (أتحرقين أقداماً كانت تسير إلى بيت الله؟ فمنهم -أي: فمن عمل الكبائر- من يقضي في نار جهنم ساعة -الساعة هذه الله أعلم بوقتها- ومنهم من يقضي فيها جمعة -أي: أسبوعاً- وفيهم من يقضي جمعة، وفيهم من يقضي فيها شهراً، وفيها من يقضي سنة).

اليوم عند الله يوم القيامة بخمسين ألف سنة، وأكثر عذاب أهل النار عذاباً من أهل التوحيد من يمكث فيها كعمر الدنيا، وعمر الدنيا يعني: من ساعة ما خلق أبونا آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكثير من الناس يستهين بعذابها وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] وبعضهم يقول: هذه بسيطة وليست مشكلة، كيف ليست مشكلة؟ القضية خطيرة.

إذاً: الشفاعة الثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الشفاعة العامة: هي الشفاعة لمن خف ميزانه.

النوع الثالث من الشفاعة: الشفاعة في الذاهبين إلى جهنم، وسوف نأتي إلى حلقات النار والعياذ بالله وسنطرق قبلها حلقات الجنة.

تفاوت الناس في الإيمان

إذاً: فالنوع الثالث من الشفاعة: الشفاعة في أناس يؤخذ بهم إلى النار، فينهض الحبيب حتى يشفع، وفي مواقف معينة لا ينهض فيها الحبيب المصطفى للشفاعة، وكل واحد من الناس على قدر إيمانه سيضيء له المكان، فمنهم من يضيء له إيمانه كقدر إبهامه، مثل نور الشمعة، يضيء مرة ويخبو مرة. ومن كان في الدنيا يحضر درس علم مرة ويترك عشرين مرة، أو يصلي مرة ويترك ثلاثين مرة، يكون له نور بحسبه.

وفيهم من يضيء له إيمانه كضوء المحاق، وهو الهلال أول الشهر أو آخره.

ومنهم من يضيء له إيمانه كضوء البدر ليلة التمام، ومنهم من يضيء له إيمانه كضوء الشمس، ومنهم من تناديهم النار: يا مؤمن! أسرع بالمرور من فوقي، فإن نورك غطى على ناري. اللهم اجعلنا منهم يا رب.

وكلما زاد النور كلما زادت سرعتك لأنا قلنا: إن المسلم في الدنيا له حالة وهالة، أي: حالة إيمانية وهالة إيمانية لا تراها أنت، يعني: أنت لك حالة إيمانية مع الله تحسها بقلبك.

إذاً فالمسلم له حالة وله هالة، فالحالة ما أنت عليه من الذهاب والمجيء والأكل والشرب، والنوم والصحو، وهذه الحالة تقتضي منك هالة، والهالة تعلو أو تضيء أكثر بشدة الإيمان وتخبو بضعفه، والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، والمؤمن له علامات: نور في وجهه، واقتناع بما أعطاه ربه، وحينئذٍ يولي الاكتئاب سريعاً وهو ذو ثقة بالله، فلا يخاف من الحبس، ولا يخاف مما يكون في غد، فهذه علامات لأهل الإيمان، أما لو مات وليست فيه هذه العلامات، فإيمانه لا يزال مراهقاً، ولما يبلغ الحلم بعد.

إذاً: المسلم له حالة وله هالة، فالحالة تصرفاته في الدنيا، ونجيء للهالة التي تعيش معه في القصر، ويوم القيامة على الصراط، وهذه الهالة الإيمانية كلما زادت الطاعة تزيد.

مثلاً: عندما تمشي في الليل على الطريق هل هو مثلما تمشي في النهار؟ لا، عندما تمشي في الليل تجد الطريق ضيقاً، وعندما يخفت النور تصغر الغرفة التي تعيش فيها، وإن جاء النور توسعت الغرفة، وهكذا الحلال والحرام، كالنور والظملة، والحرام دائماً يكون ظلمة وفي الظلمة، انظر مثلاً إلى القطة، تخطف منك قطعة اللحم وتختفي؛ لأنه حرام، فلا تأكلها أمامك، أما لو وضعت لها قطعة لحم فستأكلها بأمن وأمان.

إذاً: فكلما زاد إيمان العبد كلما زادت هالة نوره على الصراط يوم القيامة، وكلما زادت سرعته، فقال عليه الصلاة والسلام: (فمنهم من يسير سير الدجاجة -يعني: مشيه على الصراط بسرعة الفرخة- ومنهم من يسير سير الكبش، ومنهم من يسير سير الفرس المضمر -أي: فرس السباق- ومنهم من يسير سير الريح، ومنهم من يمر كمر البرق) وربنا يوسع للمؤمن الصراط فيمشي من غير أن يتزحلق، (ثم ينادي الله عز وجل: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء الناس في بقية الأبواب)، يعني: الذي ما له حساب من أمة الحبيب لهم باب خاص، وذلك مثل أبي بكر ، ومع أبو بكر كما قلنا: الحمادون لله على كل حال، والمظلومون الذين لم يروا يوماً سعيداً في الدنيا، فالكبير يظلمهم والصغير يظلمهم، وامرأته وأولاده ينكدون عليه، وحاله مثل الذي قال:

إن حظي كدقيق بين شوك نثروه

ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه

قلت يا قومي دعوه اتركوه اتركوه

إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه

عندما يقوم الحبيب صلى الله عليه وسلم ليشفع يفوح من مجلسه ريح أزكى من ريح المسك، فيفرح المؤمنون ويتثبتون، أما المنحرفون الضالون فيقولون: من يشفع فينا؟ فيقولون: ليس لنا إلا إبليس، فهو الذي أضلنا، إذاً: اذهبوا إلى إبليس، وهذا ثابت في حديث البخاري ، فتأتي طائفة منهم إلى إبليس، يقولون: يا إبليس! تعال فاشفع فينا، قال: (فيقوم فتثور منه رائحة خبيثة، فيأتي أمام النار فينحني ليعظمها) وهذا قبل أن يشفع، أول ما جاء جهنم ذهب ساجداً واقفاً، فلا يكون لهم رد إلا مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22] ويقول أيضاً: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22].

يعني: ما سلطان إبليس على واحد سكير أو لا يصلي؟ لا سلطان له إلا على الذين يتبعونه، الذين هم به مؤمنون، الذين هم في خطه، بعيدين عن رحمة الله وعن أهل الخير، فالواحد من هؤلاء يأخذه حبيبه إبليس حتى قال أبو نواس :

وكنت امرأً من جند إبليس فانتهى بي الحال حتى صار إبليس من جندي