في وجه الثورة على الأخلاق
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
للأستاذ أمين الخولي
الأستاذ بكلية الآداب
يا صاحب الرسالة
أبلغت قراءك ثورة محمود على الأخلاق فتحدث إليه الأستاذ عزام، وسكت محمود حين امتلأ بطنه؛ لكن كان المجلس حافلا بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب، فكانوا كلهم لمحمود وعلي عزام. وإما كان موضع الجدل أن الأخلاق الفاضلة لا تصلح أن تكون عدة النجاح أن لم تكن عدة الفشل.
وإن هؤلاء الطيبين الأخيار الذين وصفهم الأستاذ عزام بالقناعة، وخصهم بالرضا، لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً ما من رجال المال والأعمال كصيدناوي والبدراوي وعبود فل نسأل الثائرين عن هذا ثم ننتقل إلى غيره: لم لا تصلح الأخلاق الفاضلة أن تكون عدة النجاح؟ هل يتحدث الواقع الصحيح بهذا؟ لا اظن؛ بل اعتقد دائماً أن فشل الفاشلين لعجزهم أو ضعفهم أو نقصهم يعلل بالفضيلة والأخلاق وإلا فهل خرج إلى ميدان واحد من الحياة رجلان تساوى فهمهما لهذه الحياة، وتساوى تسلحهما لما يبغيان من غاية، وكان أحدهما نبيلا، والآخر فسيلا فنجح الثاني وسقط الأول، أو نجح الثاني اكثر من نجاح الأول بغير فارق إلا فضيلة الأول ورذيلة الثاني؟ لا أظن، فلو كانا في عمل حر ولهما هذا التساوي التام لأكد الواقع أن أي مجتمع مهما اشتد فساده سيجد في فضيلة الأول نوعاً من الدقة والثبات، وسبباً للطمأنينة إليه، ويدفعه كل أولئك إلى الإعجاب به وإيثار معاملته؛ بل لا شك في أن الثاني السافل لن ينجح إلا إذا اصطنع هذه الفضيلة وحقق آثارها بل ادعاها في غير مناسبة كما هو شان أعداء الفضيلة دائماً.
ولو تخلفت هذه النتيجة فنجح النذل أو زاد نجاحه لغير فارق آخر بين الرجلين فما أظن هذا يكون إلا عن نسبة من الندرة تؤكد القاعدة ولا تهدمها؛ وأنا كفيل بان تجد دائماً في مثل هذه الحالة فارقاً في الكفاية والاستعداد واليقظة وما إلى ذلك وإن ذهب وهم القارئ - كما ذهب وهم أصحاب هذه الثورة - إلى أن النذل سيصطنع بعد الكفاية والاستعداد أساليب منحطة لا يلوى عليها النبيل، فقد فاته أن يقظة النبيل تقضي عليه باحتياط نبيل لهذه الأساليب، وعمل على كشفها وفضحها، وإلا كان ناقص الاستعداد محدود الفهم لواقع الحياة ونذالة الأنذال، وعاد النقص على استعداده ولم يكن الذنب لفضيلته. هذا حين يتحد الميدانان؛ لكن الثائرين سيقولون إن الميادين متعددة وسبيلها إلى الوصول مختلفة، وسيتخير النذل أقصرها وأسرعها فيصل في غير مشقة، على حين يكد الفاضل فيصل متأخراً ولا يصل إلا لبعض الشيء.
فهب أحدهما اتجر في الغلال أو الأقطان لأنه فاضل، واتجر الثاني في المخدرات أو الرقيق الأبيض لأنه لا يبالي؛ حسن، سيربح الأول ربحاً يسيراً ثابتاً غير مهدد بالتضحية من اجل حمايته أو الوصول إليه لأنه اكشف الوجه واضح الطريق، ربحاً غير مهدد بالمطاردة، غير مهدد بالمخاطرة، غير مهدد بالمرض، وقصف العمر سريعاً؛ وسيربح الثاني ربحاً وافراً سريعاً يبذل غير القليل منه لحمايته أو الوصول إليه، ربحاً مهدداً بالخطر، مهدداً بقصر العمر اثر الجهد والاحتيال والمجازفة بل مهدداً بالموت السريع، والفضيحة العاجلة.
إلى آخر مالا أزعج القارئ به من آفات تكفي ايسر نظرة متأنية لتبينها وتشهد بان لذة زوجة شريفة من زوجية غير سعيدة اكثر في مجموعها وأقوى في جملتها من لذة مومس هائلة، لا تزيد حياتها في ذلك على بضع سنوات حين تطول حياة الزوجة عقوداً بعد تلك السنين والعملية الحسابية المادية تحدث نتيجتها دائماً لو احسن حساب اللذائذ والآلام، والخسائر والمكاسب بان الفضيلة قد اختيرت لعائدتها فوق ما فيها من النبل، وان ليس الفشل لسبب خلقي بل لغيره دائماً وهنالك الوظائف والدواوين لجريان الأمر فيها على الهوى واضطراب السياسة قد تظهر ميداناً غير خاضع لهذه القاعدة، ميداناً قد ترتفع فيه نسبة الشذوذ والتخلف لكن حتى هذا الميدان تنتهي فيه النظرة المتأنية إلى تلك النتيجة نفسها، فلو دخله موظفان قد تساويا في كل شيء، واختلفا في الخلقية لم يهن أن ينجح النذل لنذالته لا غير إلا حين يسلك طرائق يأباها الشريف فيتقدم هذا كلما اضطرب الميزان وضعف الرئيس، لكنه تقدم غير مطرد؛ انه تقدم مهدد بمثل ما يهدد تاجر المخدرات أو قريباً منه طفرة سريعة ونكسة غير بطيئة؛ ولا اقل مم ألم الخوف والفزع بعدم ثبات الحالة، وتغير السيد والرأس والناكسة والعجز عن دعوى الفضيلة والكرامة التي يحرص مثل هؤلاء على ادعائها.
آلام تنتهي بها العملية الحسابية إلى قريب من نتيجتها المطردة؛ وفي الجانب الثاني لذائذ لا يرضى الشريف أن يدع مكانه مستبدلا بها آلام خصمه، ولو ساومته على ذلك لرفض.
هذا إذا كان كل الفرق بينهما الأخلاق؛ أما إن وجدت شيئاً وراء ذلك كما هو الكثير الغالب، بل الذي يقع دائماً، من لباقة وحسن بيان، ومعرفة بالرغبات، ومرونة في العمل، وطلاقة وجه، وما إلى ذلك، فقد عادت اللائمة على وخامة الثاني ونقصه لا على أخلاقه، ولم تكن الأخلاق سبيلا إلى الفشل ولا عائقاً عن النجاح أما دعوى الثورة أن الطيبين القانعين المخصوصين بالرضا لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً ما من رجال المال والأعمال كفلان وفلان فدعوى يقول الأستاذ الزيات على لسان أصحابها: ما معنى أن يظل التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل على إطلاقها فضائل؛ كما يقول: أليس صلف الإنجليزي ابلغ في العزة، وطمع الفرنسي أليق بالحياة، وطموح الإيطالي اخلق بالرجولة، وصراحة الألماني ادعى إلى الهيبة واستقلال الأمريكي اضمن للفوز؟ تلك هي الدعوى؛ لكن هذا المعنى للفضائل التي عدت معنى لا تعرفه خلقية دينية، ولا تقره خلقية فلسفية؛ فإنما التواضع أن تكون رفيع القدر فلا تتغطرس، وليس التواضع إتضاعاً.
وإنما القناعة أن تملك فلا تشره، وليست القناعة ترك مادة الحياة وإفساح الطريق لعاد أو غاصب.
إنما الزهد أن تستطيع فلا تنهم، وليس الزهد العجز عما في الدنيا والحسرة على ما في أيدي الناس.
وإنما التوكل أن تقدم واثقاً لا أن تحجم عاجزاً.
وأما المداراة فما عرفناها بين الفضائل.
والخلق والدين يقرران أن صلف الإنجليزي قبيح افضل منه عزة المؤمن الذي يرى العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فحسب.
وطمع الفرنسي قبيح أليق منه قيام المتدين وذي الخلق بحق الحياة وواجبها.
وطموح الإيطالي مفتعل اصل منه تلك العزة الروحية وهذا الإباء الساعي لإعلاء كلمة الحق، المتقدم إلى الدنيا بمهمة اجتماعية، وعمل إنساني يرغم من اجله ويجهد في سبيله.
واستقلال الأمريكي بعض مغامرة الذي يقدم واثقاً بإحدى الحسنيين.
وصراحة الألماني بعض شجاعة الذي لا يخشى في الحق لومة لائم.
وما هذا الذي يعيب الثائرون من صور التواضع المتضع، والزهد العاجز، والقناعة المحرومة، والتوكل الخامل، إلا صور لا تعرفها الأخلاق ولا يفشل أصحابها لأخلاقهم بل يفشلون لفشل أخلاقهم. وأما هذا الربا الذي جاء في عداد تلك الأخلاق فمسالة اقتصادية عملية، لا خلقية أدبية؛ وهي فكرة اقتصادية، يقرن فيها النظام الإسلامي الكامل الذي قررها بالنظم الاقتصادية الأخرى ليحكم لهذا أو ذاك، وليست تلك المسالة من أسباب الثورة على الأخلاق في شيء ويعرض الأستاذ الزيات على لسان تلك الثورة أن يكون مقياس الفضائل والرذائل هو النفع والضرر، فما كان مؤديا إلى منفعة سمي فضيلة، وما كان مؤدياً إلى مضرة سمي رذيلة.
وهذا مقياس لا يأباه الدين ولا الخلق، فالمذهب المنفعي قديماً وحديثاً معروف بين مذاهب الخير؛ ولكن ليس بهذا اليسر والسهولة التي تفهمها الثورة على الأخلاق وتأخذ فيه باللمحة الطائرة.
فما المنفعة المحكمة؟ وما المضرة المتقاة؟ أمنفعة الفرد أم منفعة الأسرة أو الأمة أو العالم؟ المنفعة المادية الحاسية أم المنفعة المعنوية العقلية أم هما أم فرع منهما وما هو؟ المنفعة العاجلة أم المنفعة الآجلة أم هذه وتلك؟ ومتى تكون هذه ومتى تكون تلك؟ وإذا تعارضت منفعة ومضرة فكيف يوازن بينهما وبأي شيء؟ وإذا وجدت منفعتان في عملين فكيف يفاضل بينهما وبأي شيء؟ وإذا وإذا.
من مضايق شائكة يسلكها الباحث ليخرج منها بمقياس للأخلاق منفعي.
وقد انتهى كل أولئك الباحثين على اختلاف ما بينهم إلى أن هناك فضيلة ورذيلة، واحبوا هذه، وثاروا على تلك؛ فلن يكون تحكيم المنفعة منهياً للثورة على الأخلاق.
وهأنذا قد حكمت المنفعة فيما مضى من موازنة بين نجاح تاجر الغلال وتاجر المخدرات فلم تخرج النتيجة شاهدة بفشل الأخلاق وأخيراً يا صاحب الرسالة: اسمح لي أن أحملك رسالة إلى الثائرين.
قل لهم: استعدوا للحياة بعد فهمها فهماً صحيحاً قبل أن تلقوا تبعة فشلكم على الأخلاق.
ولا تحكموا على الفضائل بعمل الناس فتحكموا بفشل الأخلاق، لأن للفضائل حقائق ثبتت على الاختبار، وأيدتها التجربة بعد بحث لا تزال الإنسانية تمنحه قوتها وجهدها.
وانظروا إلى النتائج البعيدة والقريبة للأعمال، ودققوا في الموازنة بين فاشل وناجح فبل أن تحكموا بان هذا فشل لأخلاقه دون غيرها، وهذا نجح برذائله دون غيرها.
ولا تظنوا طيبة القلب وسلامة الضمير والبعد عن إيذاء الناس وسائل وأسلحة تكفي وحدها للنجاح كما ظن ظانون أن الإيمان وحده كاف لهزيمة الأعداء؛ لأن الله قد سير هذا الكون على نواميس لا تتخلف، وجعل الميزات المعنوية والنفسية مرجحات بين من تساويا مادياً وفهما النواميس فهماً واحداً؛ وبدل أن تهيب بدهاقنة الدين وفلاسفة الأخلاق أن يتدخلوا في سوق الفضائل معدلين، أهب بزعماء الثورة أن يتدخلوا في تقدير الحياة مدققين؛ فان ثاروا بعد ما كملت لهم هذا الدقة فعلى الدهاقنة أن يعيدوا النظر فيعدلوا ويحوروا أمين الخولي