خطب ومحاضرات
مختصر التحرير [13]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم أن المجاز هو القول المستعمل بوضعٍ ثان لعلاقة، وعبر المؤلف بالقول في الحقيقة وفي المجاز عن اللفظ؛ لأن القول هو الكلمة الذي هو المعنى المفرد، واللفظ أعم من ذلك، والتعبير بالأخص أولى من التعبير بالأعم، لكن أنا عندي أننا إذا عبرنا هنا بالأخص وقلنا: قول؛ فإنه أخفى في الدلالة من كلمة لفظ، ولذلك يعبر كثير من البلاغيين باللفظ، فيقولون: هو لفظ مستعمل، فكوننا نرجع إلى (قول) لمجرد أنه أخص مع أن (لفظ) أوضح وأدل، هذا فيه شيء من النظر.
الآن إذا قلنا: قول مستعمل بوضع ثان؛ هل تفهمونه كما تفهمون ما لو قلنا: إنه لفظ مستعمل.. إلخ. الجواب: لا.
فاللفظ أوضح، لهذا نقول: إن ملاحظة استعمال الأخص دون الأعم لأنه أدل على المقصود، يعارضه أن الأعم هنا أوضح في الدلالة من الأخص.
على كل حال! المجاز: هو القول المستعمل بوضع ثان لعلاقة، وكلمة (العلاقة) ذكرنا أننا نستفيد منها فائدتين:
أولاً: أنه لا بد من علاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، وأنك لو قلت: أكلتُ خبزاً، بمعنى: اشتريت باباً، فلا علاقة.
والثاني: العلاقة من ما لو أننا استعملناه بوضع ثان من باب النقل لا باعتبار المعاني، مثل: الفضل والعباس والحزن والسهل، وما أشبه ذلك. يعني: جعلنا هذه أعلاماً؛ فهي مستعملة بوضع ثان لكن لا لعلاقة.
وسبق أيضاً أنه لا يلزم المجاز أن يكون هناك تلازم ذهني.
ثم أجاب المؤلف عن إيراد مقدر فقال: [وصير إليه لبلاغته].
كأن قائلاً قال: إذا كان المجاز هو القول المستعمل بوضع ثانٍ أو اللفظ -كما قلنا- فلماذا نرجع إليه؟ أي: لماذا نعدل عن الحقيقة مع أنها هي الأصل؟
أسباب العدول إلى المجاز
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
هذا أبلغ في التهويل من قولنا: إذا حضر الموت لم تنفع العزائم، أو لم تنفع الرقى. فالأول أبلغ؛ لأنه شبه المنية بأنها حيوان مفترس عظيم له أظفار ينشبها في الإنسان حتى يموت.
وهكذا أيضاً إذا قلنا: رأيت أسداً يضرب بسيفه فيكسر الهام ويكسر الرقاب، هذا أشد من ما لو قلت: رأيت رجلاً. فيقولون: صير إليه لبلاغته؛ أي: لأنه أبلغ.
كذلك أيضاً: [أو لثقلها] أي: ثقل الحقيقة، يعني: تكون الحقيقة ثقيلة، إما لكون لفظها متناثر الحروف أو ما أشبه ذلك، فيعدل عن الحقيقة إلى المجاز.
وقال بعض العلماء: إنه صير إلى المجاز؛ لأنه أسلوب ثان، فالناس يستعملون هذا مرة وهذا مرة، ولا نقول: إنها ثقيلة؛ لأن الحقيقة في الغالب أبين وأوضح في المعنى من المجاز.
قال: [ونحوهما] يعني: من الأسباب. والمهم أنه لا يصار إلى المجاز إلا لسبب، إما لأنه أبلغ، أو لأن الحقيقة ثقيلة على اللسان، أو في التركيب، أو ما أشبه ذلك، أو لغير هذا من الأسباب.
التجوز بالسبب عن المسبب وأنواعه
الجواب: لا، ولكن هو سبب البناء، فتجوزنا هنا بالسبب عن المسبَّب، وفي القرآن كثيراً ما يقول عز وجل: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:55] هل هم يذوقون عملهم أم يذوقون مسببَّ العمل؟
الجواب: مسبَّب العمل، وإلا فإن العمل سبق ومضى، لكن مسبَّبه والعقوبة هو الذي ذاقوه.
ثم قال المؤلف: [قابلي وصوري وفاعلي وغائي]، هذه أربعة، يعني: أن الأسباب أربعة، قد يكون سبباً قابلياً، وقد يكون فاعلياً، وقد يكون غائياً، وقد يكون صورياً.
السبب: القابلي كما في قوله: سال الوادي.
يرى المؤلف أن سال الوادي مجاز، والوادي هو طريق الماء، والسائل ليس الوادي، بل الماء هو الذي يسيل، أما الوادي فثابت جامد لا يسيل، يقول: هذا مجاز قابلي، لماذا؟ قال: لأن الوادي قابل للماء فجرى فيه، ولكن الحقيقة أن هذا لا ينطبق على ما قال المؤلف، بل هذا تجوُّز بالمحل عن الحال، فكونه بالمحل عن الحال ليس بسبب، فليس سبب الجريان هو الوادي، بل سبب الجريان المحل النازل هو الذي أجرى هذا الماء، لكن عُبِّر بالمكان عن الحال فيه أو بالمحل عن الحال، هذا هو الأقرب، وليست سبباً قابلياً عُبِّر به عن المسبَّب.
ووجه كلام المؤلف أنه لولا هذا الوادي وهذه الحفرة ما سال الماء، بل كان يرتد ويرجع، ولكن ظهور كونه من باب الحال والمحل أوضح وأجلى.
والسبب الصوري مثل قولهم: هذه صورة الأمر. أي صورة الواقع، صورة الحال؛ لأن الأمر والواقع ما له صورة، فعبَّرنا عن الشيء وهيكل الشيء بكلمة صورة، كأننا قلنا: هذه صورة الحال؛ أي: هذه حقيقة الحال، أو هذا واقع الحال. فالصوري إذاً على تمثيل المؤلف هو نفس كلمة (صورة) يُعبَّر بها عن حقيقة الشيء.
يقول الشارح: وقد مثل له الفخر الرازي والأسنوي والشوكاني بإطلاق اليد على القدرة.
وهذه أيضاً مبنية على شيء ثان بعد، إطلاق اليد -يعني يد الله عز وجل- على قدرته، يقول: لأن اليد صورة تحصل بها القدرة، فعبر بالصورة التي هي اليد عن المصوَّر وهو العمل والفعل أو القدرة؛ لكن هذا مثال لا يصلح، تمثيل المؤلف أهون مع ما فيه من البلاء.
والسبب الفاعلي مثل قولهم: نزل السحاب، أي: الذي ينزل هو المطر من السحاب، ولكن نقول: هذا السحاب سبب الماء النازل، وهو سبب فاعلي، يعني: أن الذي انعصر حتى نزل المطر هو السحاب، فهو الفاعل لنزول المطر، ولكن ما هو ظاهر، لأن حقيقة السبب الفاعلي هي الرياح، اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فاطر:9] ، ويقول في آية أخرى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور:43] ، إي نعم.
لكن لو قال قائل: إذا عبرنا بالفاعل عن المفعول والفاعل سببه لصح، مع أنهم يقولون: هذا من باب المجاز العقلي.
ومثال السبب الغالي: تسمية العصير خمراً والحديد خاتماً، فالعصير يسمونه خمراً، قال الله تعالى: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [يوسف:36]، الذي يُعصر ما هو الخمر، لكن مآله إلى الخمر.
على كل حال! يعني قد ينازع المؤلف في هذه الأمثلة، لكن الشيء المفيد أنه يعبَّر بالسبب عن المسبَّب، هذا من المجاز.
التجوز بالعلة واللازم والأثر والمحل والكل والمتعلق
قال: [وملزوم، ومؤثر، وحال، وبعض، ومتعلق]، هذا من باب اللف والنشر المرتب، يعني: أنه يُتجوَّز بالعلة عن المعلول، ويتجوَّز بالأثر عن المؤثر، باللازم عن الملزوم، وبالمحل عن الحال، وبالكل عن البعض، وبالمتعلِّق عن المتعلَّق.
مثال الأول: قولهم: رأيت الله في كل شيء؛ لأنه سبحانه وتعالى موجد كل شيء وعلته، فأُطلق لفظه عليه، ومعناه: رأيت كل شيء، فاستدللت به على الله.
وأقول: هذه (رأيت الله في كل شيء) إطلاقها فيه نظر ظاهر، لأنك إذا قلت: رأيت الله في كل شيء يوهم الحلول، ولا أدري كيف أن المؤلف ما لقي إلا هذه!! نعم. لو أننا مثلنا على العلة عن المعلول بقوله: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:55]، (ما كنتم تعملون) هذه علة، والمعلول: الجزاء، نقول: العمل علة والجزاء معلول العلة؛ لأنه مبني عليه، لكان أصح من ما قال المؤلف؛ لكن (رأيت الله في كل شيء)، المعنى: أنني تأملت المخلوقات فرأيت كل شيء منها يدل على الله، فاستدللت بها على الله، هذه نحملها على هذا المعنى إذا قالها إنسان نعرف أنه يرى أن الله واحد لا شريك له، وأنه بائن من خلقه، لكن لو أتانا حلولي يقول: رأيت الله في كل شيء؛ لا نقبل، نقول: كذبت، فليس الله في كل شيء، لكن آيات الله تعالى في كل شيء.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ومثال اللازم عن الملزوم تسمية الشخص بإزار، ومنه قول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار
(شدوا مآزرهم) المراد: امتنعوا عن النساء؛ لأن اللازم من الامتناع عن النساء أن يشد الإنسان مئزره، هذا أوضح من: إني رأيت الجدار، يعني السقف، لأن السقف ما هو بعلة للجدار.
ومثال الأثر عن المؤثر: تسمية ملك الموت: موت، كقول الشاعر يصف ظبية:
كأنما هي إقبال وإدبار
وهذا ليس بصحيح، الأثر عن المؤثر مثل أن ترى أثر زيد فتقول: رأيت زيداً، يعني: رأيت أثر زيد، هذا واضح جداً، ومثال: المحل عن الحال:
قوله صلى الله عليه وسلم للعباس : (لا يخذل الله فاك) أي: أسنانك، إذ الفم محل الأسنان، وكتسمية المال كيساً قولهم: هات الكيس، والمراد: المال الذي فيه.
وقولهم: لا فض فوك، هل المعنى: لا فضت أسنانك؟ أو لا خلا فوك من الأسنان؟ الذي يتبادر إلى الذهن أن المعنى: لا خلا من الأسنان، وعلى هذا فلا مجاز. أما إذا قلنا: (فُض) بمعنى: تلف أو هلك؛ فهذا صحيح، لكن (سال الوادي يمكن أن نمثل به؛ هذا على رأي المؤلف سبب قابل، لكن أنا أرى أنه يعبَّر بالحال عن المحل.
ومنه قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [البقرة:19] أي: أناملهم.
ومثال المتعلق عن المتعلق: قوله تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان:11] أي: مخلوقه؛ لأنه لا مخلوق إلا بخلق.
على كل حال! بعض هذه الأمثلة فيها شيء من التكلف كما رأيتم، والمهم أنه يُعبَّر عن الشيء بما يتصل به، وهذا هو الذي يسمى فيما سبق: العلاقة، لأنه لا يُعبَّر بشيء عن آخر إلا لعلاقة بينهما. والله أعلم.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مختصر التحرير [69] | 3202 استماع |
مختصر التحرير [54] | 3191 استماع |
مختصر التحرير [70] | 3080 استماع |
مختصر التحرير [33] | 2825 استماع |
مختصر التحرير [36] | 2823 استماع |
مختصر التحرير [47] | 2754 استماع |
مختصر التحرير [23] | 2743 استماع |
مختصر التحرير [45] | 2741 استماع |
مختصر التحرير [4] | 2691 استماع |
مختصر التحرير [34] | 2624 استماع |