مختصر التحرير [54]


الحلقة مفرغة

أولاً: معنى النفوذ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال رحمه الله تعالى: [فوائد].

(فوائد): جمع فائدة، والفائدة ما استفاده الإنسان من مال، أو علم، أو جاه، أو غير ذلك.

من هذه الفوائد أولاً قال: [النفوذ تصرف لا يقدر فاعله على رفعه].

هذه فائدة، يقال: نفذ العقد، أو يقال: هذا نافذ وما أشبه ذلك، فما معنى نافذ ونفذ العقد؟ يقول المؤلف: إنه (تصرف لا يقدر فاعله على رفعه)، مثل ما إذا بعت وتم البيع ونفذ، فلا يمكن أن ترفعه.

فإن ورد عليه فسخ فقد اختلف الفقهاء: هل الفسخ رفع للعقد من أصله أو من حينه؟

والصحيح أنه من حينه، يعني لو فسخ البيع لعيب أو لخيار شرط أو مجلس فإن هذا الفسخ وارد على العقد الذي نفذ، مأخوذ من نفذ السهم في الرمية، فإنه إذا نفذ فيها وشقها لا يمكن أن يعاد.

إذاً: النفوذ تصرف لا يقدر فاعله على رفعه، أما قبل أن يتصرف فهو قادر، وقبل أن يبيع قادر، قبل أن يوقف قادر، قبل أن يرهن قادر، لكن بعد نفوذ هذا الشيء فإنه لا يمكن رفعه.

فإذا قال قائل: هل يشمل ذلك الوكالة -مثلاً- التي هي عقد جائز؟

قلنا: نعم؛ فإن الوكالة لا يمكن رفعها، فلو قلت لفلان: وكلتك أن تبيع لي كذا فباع فإنه لا يمكن رفع هذا البيع، فلو طرأ عليه فسخ لقلنا: هذا فسخ طارئ على نفوذ، وليس رفعاً لها من أصلها. هذه واحدة.

ثانياً: معنى العزيمة

الفائدة الثانية قال: [والعزيمة لغةً: القصد المؤكد].

العزيمة في اللغة: القصد المؤكد، يقال: عزم على كذا أي: قصده قصداً مؤكداً، وضد ذلك: القصد غير المؤكد، يعني: واحد هم بالشيء لكنه لم يعزم عليه، لا يسمى عزيمة حتى يقصده قصداً مؤكداً، ولهذا نقول فيما بيننا: هل أنت عازم على هذا؟ فيقول: نعم عازم، يعني: أن يقصده قصداً مؤكداً.

أما شرعاً فقال: [حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح].

حكم ثابت بدليل شرعي ويشمل الواجب، والحرام، والمكروه، والمسنون، والمباح.

وقوله: (ثابت بدليل شرعي) يشمل الأدلة الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

وقوله: (خال عن معارض راجح) يعني: ليس فيه معارض راجح يعارضه، بل ثبت هكذا من الأصل بدون معارض، فعلى هذا يقول المؤلف: (فشمل الخمسة) أي: الأحكام الخمسة التي هي: الواجب، والمحرم، والمسنون، والمكروه، والمباح؛ لأنها ثبتت بدليل شرعي خال عن معارض راجح، فمثلاً صلاة الظهر عزيمة لأنها ثبتت بدليل شرعي خال عن معارض راجح.

وراتبة الظهر عزيمة؛ لأنها ثبتت بدليل شرعي خال عن معارض راجح.

وصوم رمضان عزيمة؛ لأنه ثبت بدليل شرعي خال عن معارض راجح.

وتحريم الزنا عزيمة؛ لأنه ثبت بدليل شرعي خال عن معارض راجح.

إذاً: ما ثبت بدليل شرعي ليس له معارض راجح فإنه عزيمة، حتى وإن كان مباحاً أو مكروهاً أو مسنوناً، مع أن المسنون والمكروه والمباح ليس فعلهما على سبيل العزم، بل المسنون إن شئت افعل وإن شئت فلا تفعل، والمكروه إن فعلت فلا إثم عليك، والمباح إن شئت فعلت وإن شئت لم تفعل، لكن مع ذلك يسميها المؤلف رحمه الله عزيمة، وعلى هذا فأكثر الأحكام الشرعية تعتبر عزيمة.

وقيل: إن العزيمة ما أمر به على سبيل الإلزام أو نهي عنه على سبيل الإلزام فقط؛ لأنه هو الذي عزم عليه كما جاء في الحديث الصحيح أو الحسن فيمن منع الزكاة قال: (فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)، أي: أمر مؤكد واجب.

وهذا القول أقرب مما قاله المؤلف: أن العزيمة ما ثبت على سبيل الإلزام فعلاً أو تركاً، أما الآخر فليس بعزيمة؛ لأن الله تعالى لم يلزمنا به، إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل.

ثالثاً: معنى الرخصة

قال: [والرخصة لغةً: السهولة].

فكل شيء سهل فهو رخيص؛ ولهذا إذا قل ثمن السلعة يقال فيها: رخيصة، والشيء اللين يقال: إنه رخيص.

إذاً: كل ما كان سهلاً فهو رخيص، فالرخصة السهولة.

قال: [وشرعًا: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح].

هذه العبارة -سبحان الله العظيم- تناقلها العلماء، وظاهرها مشكل؛ لأنه قال: (ما ثبت على خلاف دليل شرعي) كيف على خلاف دليل شرعي؟ المخالف للدليل الشرعي ساقط؛ لكن انتشلوا هذا الوهم بقولهم: لمعارض راجح.

ونحن نقول: حتى وإن قلت: لمعارض راجح فإن هذا لا ينفي الوصف الموهم، فالتي حصلت بقولكم (على خلاف دليل شرعي)؛ لأن هذا المعارض الراجح إن كان دليلاً شرعياً فقد ثبتت الرخصة بدليلٍ شرعي. فهذا التعريف قاس جداً وناقص وموهم.

ولهذا قال بعض العلماء: الرخصة هو ما ثبت الإذن فيه من الشارع في مقابل العزيمة.

فمثلاً: غسل الرجلين واجب، وإذا لبس خفين يمسح عليهما فهذه رخصة؛ لأنه ثبت التسهيل فيه في مقابل العزيمة التي هي غسل الرجل؛ لكن سهل الأمر وقيل للناس: من كان عليه خفان أو جوارب فليمسحهما.

وإذا سافر رجل في رمضان وأفطر فالفطر رخصة لأنه ثبت فيه الإذن في مقابل العزيمة تسهيلاً للمكلف، وهذا هو الذي يطابق الرخصة لغة، كما أنه مقتضاها شرعاً أو كما أنه معناها شرعاً: ما ثبت التسهيل فيه من أمر معزوم فيه وملزم به.

وبناء على ذلك يمكن أن نسمي جميع المستحبات رخصة، وأنا أقول: الإنسان مرخص له فيها، إن شاء صلاها -مثلاً إذا كانت صلاة- وإن شاء لم يصلها.

والقصر في السفر الصحيح أنه رخصة؛ لأنه من باب التخفيف، ولهذا لما أنزل الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فقصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير خوف وقال: ( هذه صدقة تصدق الله بها عليكم )، فدل هذا على أنها رخصة وهو كذلك.

والذين يرون أن القصر واجب وأنه الأصل يرون أنه عزيمة؛ لأنه ثبت هكذا ابتداء، وعلى رأيهم لا يجوز للإنسان أن يتم؛ لأن القصر عزيمة.

المسح على الجبيرة بدلاً عن غسل العضو بعضهم يقول عزيمة، والذي نرى أنه رخصة؛ لأنه قد خفف فيها على المكلف في مقابل العزيمة، فالأصل أن هذا العضو يجب أن يغسل، فإذا كان عليه جبيرة فقد سهل الشرع وجعل المسح بدلاً عن الغسل.

أنواع الرخص الشرعية

قال: [ ومنها ]، أي من الرخصة، [ واجب ومندوب ومباح ]، أي أما المحرم والمكروه فلا يدخلان في الرخصة؛ لأن الشرع لا يأذن بمحرم أو مكروه، لكن الواجب يأذن به الشرع وزيادة، وكذلك المندوب، وكذلك المباح.

فقول المؤلف: (منها واجب) فيه نزاع بين العلماء، بعضهم قال: الواجب ليس برخصة، لأن الواجب يجب على المكلف أن يقوم به، والرخصة تسهيل على المكلف، فكيف يكون واجباً؟

نعم إن أرادوا أنه واجب أن هذا المرخص فيه يكون بدلاً عن واجب فهذا صحيح، كالمسح على الخفين مثلاً بدلاً عن غسل الرجل وهو واجب، فيكون المسح واجباً لأنه بدل عن واجب، أما أن يقولوا إن المسح واجب في مقابلة الغسل، يعني: أن من عليه الجوارب لا يجوز أن يخلعها ويغسل رجله فهذا فيه نظر، لأننا على هذا التقدير نحوله إلى عزيمة، مع أن الإنسان مرخص له أن يخلع الجوارب أو الخفين ويغسل الرجل، وإن كان الأفضل تركه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أهوى المغيرة بن شعبة لينزع خفيه قال: ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ).

أما المباح فنعم تكون الرخصة من قسم المباح، مثل الصوم في السفر هل هو أفضل أو الفطر أفضل أم هو مخير؟

ثلاثة أقوال: قول أنه مخير، وقول أن الفطر أفضل، وقول أن الصوم أفضل، وعلى القول بالتخيير تكون الرخصة هذه من باب الإباحة.

قال المؤلف: [ والاثنتان وصفان للحكم الوضعي ]. يعني أن العزيمة والرخصة وصفان للحكم الوضعي، أي: وليسا من الأحكام التكليفية؛ لأن الأحكام التكليفية خمسة، وكل حكم سواها فإنه حكم وضعي، فالسبب والعلة والشرط والمانع والصحة والفساد والقبول والبطلان والنفوذ والعزيمة والرخصة كل هذه أحكام وضعية.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
مختصر التحرير [69] 3199 استماع
مختصر التحرير [70] 3077 استماع
مختصر التحرير [33] 2822 استماع
مختصر التحرير [36] 2819 استماع
مختصر التحرير [47] 2752 استماع
مختصر التحرير [23] 2740 استماع
مختصر التحرير [45] 2738 استماع
مختصر التحرير [4] 2687 استماع
مختصر التحرير [34] 2620 استماع
مختصر التحرير [24] 2611 استماع