شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [4]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن ذلك أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبقر، ولا شحم الثرب والكليتين، ولا الجدي في لبن أمه، إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت.

وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] ، ولهذا قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] .

وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:156-157]، وهذا باب يطول وصفه ].

المؤمنون في أمر الحلال والحرام وسط بين اليهود وبين النصارى، وكما أن المؤمنين وسط بين اليهود والنصارى في صفات الله، فهم كذلك وسط بين اليهود والنصارى في أمر الحلال والحرام.

وذلك أن اليهود قد حرم الله تعالى عليهم أنواعاً من الطيبات، كما قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] ، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبقر، ولا شحم الثرب، وهو شحم محيط بالكرش والأمعاء، ولا الكليتين، ولا الجدي في لبن أمه، وغير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً، والسبب في ذلك ظلمهم، فلما ظلموا عاقبهم الله، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161]، وكذلك شدد عليهم في أمر النجاسات، حتى إنهم كانوا لا يؤاكلون الحائض، ولا يجامعونها في البيوت، أي: لا يساكنونها ولا يجتمعون بها، فإذا حاضت المرأة جعلوها في مكان خاص، فلا يأكلون معها، ولا يشربون معها، ولا يجالسونها، ولا تتكلم مع أحد.

وقد شدد عليهم في النجاسات حتى إن الماء لا يطهر النجاسة عندهم، بل لابد من قرضها بالمقراض.

وأما النصارى فقد تساهلوا واستحلوا الخبائث واستحلوا جميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] ولهذا قال الله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

وأما المؤمنون فإنهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء، كما نعتهم الله بقوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:156-157].

فوصفهم الله بأنهم يتقون، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بآيات الله، ويتبعون الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].

قوله: [ وهذا باب يطول وصفه ].

أي: هذه أمثلة، ولو أراد الإنسان أن يستطرد في الأمثلة لوجد أمثلة كثيرة، ولكن أكتفي بهذه الأمثلة ويقاس عليها بقية الأمثلة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل ].

أهل السنة والجماعة وسط في باب أسماء الله تعالى وآياته وصفاته: بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، والمعنى أن هذه الأمة كما أنها وسط بين أهل الملل فإن أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق، حيث يقول الله سبحانه في وسطية الأمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ [البقرة:143].

وذلك أن النصارى غلوا في المسيح عيسى ابن مريم وجعلوه إلهاً وجعلوه ابن الله، واليهود جفوا في عيسى وقالوا: إنه ولد بغي وولد زنا والعياذ بالله، وأهل الحق -وهم هذه الأمة- وسط بين ذلك، فاعتقدوا أنه عبد الله ورسوله ليس إلهاً ولا ابناً كما تقول النصارى، وليس ولد بغي كما تقول اليهود، وإنما هو عبد الله ورسوله، خلقه الله من أنثى بلا أب لتتم القسمة الرباعية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الناس بني آدم أربعة أقسام: قسم خلق بلا ذكر ولا أنثى، وهو آدم الذي خلقه الله من طين، وقسم خلق من ذكر بلا أنثى، وهي حواء التي خلقت من ضلع آدم، وقسم خلق من أنثى بلا ذكر، وهو عيسى، وقسم خلق من أنثى وذكر، وهم سائر الناس، فتمت القسمة الرباعية بخلق عيسى من أنثى بلا أب، ولله الحكمة البالغة.

فكما أن هذه الأمة في الملل وسط فأهل السنة والجماعة من هذه الأمة وسط؛ لأن هذه الأمة فرق متعددة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

فهذه الفرق كلها مبتدعة متوعدة بالنار إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة، وهم أهل الحق، وهم الفرقة الناجية.

فأهل السنة والجماعة وسط بين فرق المبتدعة، فهم في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، وأهل التعطيل هم الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فالجهمية نفوا الأسماء والصفات عن الله عز وجل، فقالوا: ليس بسميع، ولا بصير، ولا عليم، ولا قدير، ولا يوصف بالعلم، ولا بالقدرة، ولا بالسمع، ولا بالبصر، وسلبوا عن الله تعالى جميع الأسماء والصفات، وعلى هذا يكون عدماً، فالشيء الذي ليس له صفات ليس له وجود في الواقع، ولهذا كفرهم الأئمة وكثير من أهل الحديث وأهل السنة والجماعة، وقالوا: إن الجهمية كفار خارجون عن الثنتين والسبعين فرقة، وكفرهم خمسمائة عالم كما ذكر العلامة ابن القيم :

ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان

والمعتزلة أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، فقالوا: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، قدير بلا قدرة، فمن العلماء من كفرهم ومن العلماء من بدعهم.

والأشاعرة أثبتوا الأسماء وأثبتوا سبع صفات، وهي: الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة.

فهؤلاء يسمون أهل التعطيل؛ لأنهم عطلوا الله من أسمائه وصفاته؛ وهذا هو الإلحاد في أسماء الله وآياته، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: وسموا بأهل التعطيل؛ لأنهم الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه من الأسماء والصفات ويقولون: ليس بسميع ولا بصير ولا عليم، ولا يوصف بالسمع ولا بالبصر، حتى شبهوه بالعدم، وقد سبق أن الجهمية ينكرون الأسماء والصفات، فيجعلونه عدماً لا وجود له كالموات الذي لا وجود له؛ لأن كل شيء موجود لابد من أن يوصف بصفات.

فهؤلاء يقولون: ليس له طول ولا عرض ولا عمق، ولا لون ولا ثقل ولا خفة، وليس في السماء ولا في الأرض، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف. هكذا قالت الجهمية والعياذ بالله، ولهذا فإن أهل التعطيل يعبدون عدماً.

فأهل السنة وسط بين أهل التعطيل وبين أهل التمثيل الذي يضربون لله الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، فأهل التمثيل -وهم أهل التشبيه- وغلاتهم من الشيعة يثبتون الأسماء والصفات لله لكن يشبهونها بصفات المخلوقين، فيقول أحدهم: لله سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيدي، ورجل كرجلي، واستواء كاستوائي.

فشبهوا الله بالمخلوقات، وقالوا: لا نعلم معنى هذه الصفات إلا كما هي عند المخلوق، فالله مثل المخلوقات عندهم، وهم في الحقيقة ما عبدوا الله، وإنما عبدوا صنماً ووثناً تخيلوه، ولهذا قال العلامة ابن القيم :

من شبه الله العظيم بخلقه فهو كذاك المشرك النصراني

ومراده أن من شبه الله بخلقه فهو مشابه للنصارى حينما عبدوا عيسى وجعلوه إلهاً، فالمشبه شابه النصارى في عبادتهم لعيسى من دون الله، وقال ابن القيم :

لسنا نشبه وصفه بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان

فالمشبه ما عبد الله وإنما عبد وثناً صوره له خياله ونحته له فكره، فهو من عباد الأوثان لا من عباد الرحمن.

ولهذا قال السلف: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً.

وغالب المشبهة من غلاة الشيعة، كالبيانية الذين ينسبون إلى بيان بن سمعان التميمي، والسالمية الذين ينسبون إلى أبي الحسن بن سالم.

ومن المشبهة هشام بن الحكم الرافضي، وقد قال بعضهم: إن الله على صفة الإنسان. فأهل التشبيه غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه، وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه، فأهل التعطيل معهم حق ومعهم باطل، وأهل التشبيه معهم حق ومعهم باطل، فأهل السنة أخذوا الحق الذي مع أهل التعطيل وأخذوا الحق الذي مع أهل التمثيل، ونفوا الباطل الذي عند هؤلاء وهؤلاء، فالحق الذي مع أهل التعطيل هو التنزيه، أي: تنزيه الله عن مشابهة المخلوق، لكن عندهم باطل وهو الزيادة في نفي هذا التشبيه حتى وصلوا إلى التعطيل.

والحق الذي عند أهل التمثيل هو إثبات الصفات، لكن عندهم باطل وهو الغلو في هذا الإثبات حتى شبهوا الله بالمخلوقات.

فأخذ أهل السنة والجماعة الحق الذي مع المشبهة وهو الإثبات، وأخذوا الحق الذي مع المعطلة وهو التنزيه، فخرج الحق لبناً خالصاً سائغاً للشاربين من بين فرث التعطيل ودم التشبيه.

فأهل السنة وسط بين المشبهة الممثلة وبين المعطلة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله مبيناً مذهب أهل السنة: [فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يقولون: إن صفات الله معناها كذا أو إنه يشبه كذا، ولا يعطلون الصفات.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين لقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148].

فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد، ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات ].

كما أن أهل السنة وسط في باب أسماء الله وصفاته بين المعطلة وبين الممثلة فهم أيضاً وسط في باب خلق الله وأمره بين المكذبين بقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وهؤلاء هم القدرية، فالقدرية يكذبون بقدرة الله الكاملة، ومشيئته الشاملة، وخلقه لكل شيء، فيقولون: إن الله لا يقدر على كل شيء؛ فهناك شيء لا يقدر عليه الله، وهو أفعال العباد.

ولا يقولون بمشيئة الله الشاملة، فيقولون: إن الله شاء كل شيء إلا أفعال العباد فلم يشأها، وكذلك لا يقولون بعموم الخلق لله، فيقولون: إن الله خالق كل شيء إلا أفعال العباد فلم يخلقها، فهم يكذبون بقدرة الله، ولا يؤمنون بقدرته الكاملة وخلقه لكل شيء، فلا يقولون: إن الله على كل شيء قدير، وإنما يقولون: إنه على ما يشاء قدير، ولا يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بل يقولون: هناك شيء ما شاءه الله.

فهم يخالفون المسلمين، إذ المسلمون يقولون: الله على كل شيء قدير، والقدرية يقولون: لا، الله على ما يشاء قدير، والمسلمون يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والقدرية لا يقولون: ما شاء الله كان، بل يقولون: هناك شيء يكون ولا يشاؤه الله؛ ويقولون: إن أفعال العباد من خير وشر وطاعة ومعصية لا تعلق لها بمشيئة الله وقدرته، ويقولون: لو قلنا: إن الله خلق المعصية وخلق الكفر وعذب عليها لصار ظالماً، والله عادل لا يجور. ويقولون: إن المعاصي ما شاءها الله، وإنما العباد هم الذين شاءوها وخلقوها وأوجدوها مستقلين.

وكذلك الطاعات والإيمان ما خلقها الله عندهم، بل الإنسان هو الذي خلقها، وبنوا على هذا أنه يجب على الله أن يثيب المطيع، ويجب على الله أن يعاقب العاصي، وليس له أن يعفو عنه، ويوجبون ذلك على الله؛ لأن العبد هو الذي كسب الطاعة فيجب على الله أن يثيبه، وهو يستحق على الله الثواب والأجر كما يستحق الأجير أجرته.

وأما العاصي فيجب على الله أن يعذبه وليس له أن يعفو عنه، ولا أن يغفر له؛ لأن الله توعده، والله لا يخلف الميعاد.

فرد عليهم أهل السنة وقالوا: أنتم فررتم من القول بأنه خلق المعاصي وعذب عليها، لكن وقعتم في شر منه، وهو أنه يقع -عندكم- في ملك الله ما لا يريد، فالله لا يريد المعاصي وتقع، فهل يقع في ملك الله ما لا يريد؟

وكذلك يلزم على مذهبكم أن مشيئة العبد تغلب مشيئة الله؛ لأن الله يشاء الطاعة من العبد والعبد يشاء المعصية فتقع مشيئة العبد ولا تقع مشيئة الله، فتغلب مشيئة العبد مشيئة الله، وهذا من أعظم الفساد.

ويلزم كذلك على مذهبكم أن يكون في هذا الوجود شيء لم يخلقه الله، وهو أفعال العباد. فهذه كلها محاذير لا تستطيعون أن تنفكوا عنها.

فأما القول بأن الله خلق المعاصي فهذا ليس فيه إشكال؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما خلق المعاصي والكفر لحكمة بالغة، والذي ينسب إلى الله إنما هو الخلق والإيجاد، وهو مبني على الحكمة، فلا تكون شراً بالنسبة إلى الله؛ وإنما تكون شراً بالنسبة إلى العبد الذي باشر المعصية والكفر، حيث يضره ذلك ويسوؤه ويعاقب عليها.

ومن الحكم في أن الله تعالى خلق المعاصي والكفر ظهور قدرة الله على خلق المتضادات، ومن الحكم أنه يترتب على خلق المعاصي والكفر عبوديات متنوعة، فلولا خلق المعاصي ما وجدت عبودية الجهاد في سبيل الله، فلو لم يخلق الله تعالى الكفر والمعاصي فأين ستظهر عبودية الجهاد في سبيل الله؟! ومن سيجاهد؟!

ولولا خلق المعاصي ما وجدت عبودية الدعوة إلى الله، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الولاء والبراء، وعبودية الحب في الله والبغض في الله، وعبودية التوبة وغيرها.

فالله تعالى أراد خلقها لما يترتب عليها من الحكم فصارت بالنسبة إلى الله خيراً، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)، فالشر المحض الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره لا يوجد، وليس في الوجود شر محض أبداً، وجميع الشرور الموجودة نسبية، فهي شرور بالنسبة إلى العبد، وأما بالنسبة إلى الله فهي خير ورحمة؛ لأنها مبنية على الحكمة.

فالقدرية من أجهل الناس، ولهذا قالوا: إن الله تعالى ما خلق أفعال العباد ولا أرادها ولا شاءها.

فأهل السنة وسط بين القدرية النفاة للقدر والجبرية الغلاة فيه، وهؤلاء الجبرية مفسدون لدين الله، لأنهم يقولون: إن العبد مجبور على أفعاله وليس له مشيئة ولا قدرة ولا اختيار، فأفعاله كلها اضطرارية بمنزلة حركة المرتعش، وحركة النائم، وحركة الأشجار عند هبوب الريح، فيقولون: إن الأفعال هي أفعال الله، فالله هو المصلي، والصائم، والعباد وعاء للأفعال تمر عليهم مروراً، فالعباد كالكوز والله كصاب الماء فيه، فتُصَب فيهم الأفعال صباً وهي أفعال الله، والعباد مجبورون على أفعالهم.

فهم على طرفي نقيض مع القدرية، فالقدرية يقولون: العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من طاعات ومعاصٍ، والله لا يقدر على خلقها، وهؤلاء قالوا: الأفعال أفعال الله كلها وليس للعبد اختيار ولا إرادة. وهذا من أبطل الباطل، إذ الإنسان يستطيع القيام والقعود والحركة بغير حركة المرتعش وحركة النائم.

وكانت نتيجة هذا المذهب الفاسد أنهم أفسدوا دين الله، فعطلوا الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فعلى مذهب الجبرية يكون قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] لا فائدة فيه، وكذلك قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] لا فائدة فيه، فيعذرون العبد ويقولون: من ترك الصلاة فهو معذور؛ لأنه مجبور، والزاني معذور.

وعلى هذا تبطل الشرائع، وتبطل الأوامر والنواهي، وتكون الشرائع عبثاً، وتكون الأوامر والنواهي عبثاً، ويكون إرسال الرسل وإنزال الكتب عبثاً تعالى الله عما يقولون.

ومذهب الجبرية أفسد من مذهب القدرية وأقبح، فالقدرية وإن كانوا يقولون: إن الإنسان يخلق فعله إلا أنهم يعظمون الشرائع والأوامر والنواهي، وأما هؤلاء الجبرية فهم يبطلون الشرائع، ويقول المرء منهم: أنا إن عصيت أمره الديني الشرعي فقد وافقت أمره الكوني القدري.

ويقول أحدهم معترضاً على الله ساباً له بأنه يكلف العبد وهو مجبور على أفعاله:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

يقولون: مثل الله حينما يأمر العبد بالأوامر والنواهي -وهو الذي يقدر عليه غير ذلك- كمثل شخص يأتي بإنسان موثق ويلقيه في البحر ويقول له: لا يصبك الماء!!

فالرب حينما يكلف العباد وهم مجبورون على أفعالهم يصيرون بذلك بمنزلة المكتوف الملقى في البحر حين تطلب منه النجاة، تعالى الله عما يقولون.

ويقولون: إن الثواب والعقاب ليس على الأعمال، والرب سبحانه وتعالى إنما ينعم أهل الجنة بمجرد المشيئة والقدرة من دون سبب ولا عمل، فالأعمال الصالحة ليست سبباً في دخول الجنة، والشرك -وكذلك المعاصي- ليس سبباً في دخول النار.

ويقولون: إن المشيئة الإلهية تجمع بين المتفرقات وتفرق بين المتماثلات. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

وهؤلاء رئيسهم الجهم بن صفوان ، وقد اشتهر جهم بن صفون بأربع عقائد:

العقيدة الأولى: عقيدة نفي الصفات، فقد أنكر الأسماء والصفات. والعقيدة الثانية: تزعمه للجبرية، فهو يقول: إن العبد مجبور على أفعاله.

والعقيدة الثالثة: عقيدة المرجئة، فيقول: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، وإن الإنسان إذا عرف ربه بقلبه فهو مؤمن؛ ولو فعل جميع الكبائر والمنكرات ونواقض الإسلام، فلا تضره حتى يجهل ربه بقلبه.

والعقيدة الرابعة: قوله: إن الجنة والنار تفنيان يوم القيامة.

فهذه عقائد أربع خبيثة اشتهر بها الجهم .

فالجبرية يعطلون الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قال الله عنهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148].

وأما أهل السنة والجماعة فهداهم الله للحق فكانوا وسطاً بين القدرية وبين الجبرية، فلم يقولوا بقول الجبرية: إن العبد مجبور على أفعاله، وإنه ليس له قدرة ولا اختيار، بل قالوا: إن العبد له قدرة وله اختيار، ولكن الله سبحانه وتعالى خلق العبد وخلق قدرته وإرادته، وجعله مريداً مختاراً يفعل بقدرته واختياره ما يشاء، ولا يقولون: إن العباد خالقون لأفعالهم، بل يقولون: إن الله خلق العبد وخلق قدرته وإرادته واختياره، والعبد هو الذي يباشر الأعمال بكسبه واختياره وإرادته والله خلق العباد وخلق قدرتهم وإرادتهم، فهم مختارون، ويستطيع الإنسان أن يفعل ما يشاء ويتركه، فالأفعال هي من الله تقديراً وخلقاً وإيجاداً، ومن العباد فعلاً وتسبباً وكسباً ومباشرة.

هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير خلافاً للقدرية الذين لا يقولون: إن الله على كل شيء قدير، بل يقولون: على ما يشاء قدير، وأما الذي لا يشاؤه فلا يقدر عليه.

ويؤمن أهل السنة بأن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110].

وقال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهذا قول أهل السنة والجماعة، وهو القول الحق.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبوراً؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختاراً لما يفعله، فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ].

يؤمن أهل السنة بأن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، له قدرة خلقها الله، فالله خلق العبد وخلق قدرته، وأعطاه الله القدرة والإرادة، فهو يفعل باختياره، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [ ويؤمنون بأن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار ].

والإنسان يحس بهذا من نفسه، فأنت في بيتك تستطيع أن تذهب إلى الباب، وتستطيع أن تجلس ولا أحد يمنعك، لأنك مختار، فكيف يقال: إن العبد مجبور. وأهل السنة لا يسمونه مجبوراً؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه وتعالى جعل العبد مختاراً لما يفعله، فهو -أي: العبد- مختار مريد والله خالقه وخالق فعله، والعبد له مشيئة، ومشيئته تابعة لمشيئة الله، كما قال الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30].

قوله: [ وهذا ليس له نظير ] الأقرب في معناه أن الله ليس له نظير في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإن الله ليس كمثله شيء، وهذا القول مجمل فصله وبينه بقوله بعده: [ فإن الله ليس كمثله شيء…] والقصد من هذا الرد على القدرية الذين يجعلون العبد نظيراً لله تعالى.

فمذهب أهل السنة هو الوسط بين القدرية وبين الجبرية.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من الإيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته ].

أهل السنة في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية والمرجئة، فكما أنهم وسط في باب الصفات بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، وفي باب خلق الله وأمره وسط بين القدرية وبين الجبرية، فهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية والمرجئة.

والأسماء المراد بها هنا تسمية الإنسان كافراً أو مؤمناً أو فاسقاً. وأما الأحكام فالمراد بها الحكم على مرتكب المعاصي كالزنا، فهل يحكم عليه بأنه في النار أو في الجنة؟

والوعيدية هم الخوارج والمعتزلة، وسموا وعيدية لأنهم يقولون بوجوب إنفاذ الوعيد على الله، والخوارج والمعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يبقى معه شيء من الإيمان، فإذا زنى المسلم كفر عند الخوارج، فيخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والعاق لوالديه يكفر عند الخوارج، ومن أكل الرشوة كفر، فكل من ارتكب كبيرة فهو كافر في الدنيا، وفي الآخرة مخلد في النار، فهذا مذهب الخوارج، وهو تكفير المسلمين بالمعاصي.

وأما المعتزلة فقالوا: مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر. فالزاني عند المعتزلة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر. وإذا كان كذلك فأين يكون؟

قالوا: يكون في منزلة بين المنزلتين: بين الإيمان وبين الكفر، فهو لا مؤمن ولا كافر.

فاتفقت الطائفتان على أنه في الآخرة مخلد في النار، وأما في الدنيا فهم مختلفون، فالخوارج يقولون: خرج من الإيمان ودخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، بل يكون في منزلة بين المنزلتين. والخوارج يقولون: نسميه كافراً، والمعتزلة يقولون: نسميه فاسقاً فهو لا مؤمن ولا كافر، فهذا هو مذهب الوعيدية.

وقد أبطلوا النصوص التي فيها الشفاعة للعصاة وأنهم يخرجون من النار مع أنها متواترة، فأبطلوها كلها وأنكروها، وقد رد عليهم أهل السنة وبدعوهم وضللوهم؛ وبينوا أنه قد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يشفع لأهل الكبائر، وأنهم يخرجون من النار، وهؤلاء قالوا: لا توجد شفاعة، بل العاصي كالكافر مخلد في النار. وأبطلوا النصوص التي فيها أن العصاة يخرجون من النار.

وقابلهم المرجئة فقالوا: إذا فعل الكبائر لا يتأثر إيمانه، بل هو مؤمن كامل الإيمان، وإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وإيمان الفاسق السكير كإيمان أبي بكر وعمر عندهم سواء بسواء.

والمرجئة طائفتان:

الأولى: الغلاة، وهم الذين يقولون: إن الإيمان لا يتأثر بالمعاصي، فالمؤمن كامل الإيمان، ولا تضره معصية حتى لو ارتكب جميع نواقض الإسلام، وما دام أنه قد عرف ربه بقلبه فهو مؤمن ولو فعل جميع نواقض الإسلام، ولو سب الله أو سب الرسول وقتل الأنبياء وهدم المساجد وفعل جميع المنكرات فلا يكفر، ولا يؤثر هذا في إيمانه حتى يجهل ربه بقلبه، وهو مؤمن كامل الإيمان في الدنيا، وفي الآخرة لا يعذب. هذا هو مذهب المرجئة الغلاة ورئيسهم الجهم بن صفوان .

الطائفة الثانية: مرجئة الفقهاء، وهم طائفة من أهل السنة، وهم أبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة، يقولون: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، والناس يتساوون في الإيمان، والتفاضل بينهم إنما هو في الأعمال.

فعندهم أن الناس يتساوون في الإيمان، لكن الأعمال مطلوبة، ولا يقولون كالمرجئة، بل يقولون: الأعمال مطلوبة، والعاصي يستحق الوعيد ويقام عليه الحد، وهو متوعد في الآخرة بالنار.

فعندهم أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، وتفاضل الناس في الأعمال لا في الإيمان.

فهؤلاء يسمون مرجئة الفقهاء.

وأهل السنة وسط بين المرجئة وبين الوعيدية، فلا يقولون بقول الخوارج: إن العاصي يكفر ويخلد في النار، ولا يقولون بقول المرجئة: إن المؤمن لا تضره المعصية. بل يقولون: إن العاصي ضعيف الإيمان، ولكنه لا يخرج من الإيمان، ولا يكفر بمعصيته إلا إذا مات على الكفر.

فالزاني ضعيف الإيمان، والمرابي ضعيف الإيمان، لكن إذا دخلا النار فإنهما لا يخلدان ما دام أن معهما شيئاً من الإيمان، ولا يخلد في النار إلا الكفرة، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.

فهم يقولون: إن الزاني والسارق وشارب الخمر والعاق لوالديه وقاطع الرحم ضعيفو الإيمان، فلا يحكمون لهم بالإيمان مطلقاً ولا ينفونه عنهم مطلقاً، بل لابد عندهم من القيد في النفي والإثبات.

ففي الإثبات يقول أهل السنة في العاصي: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو ضعيف الإيمان، أو فاسق بكبيرته إن كان ارتكب كبيرة، وفي النفي يقولون: ليس بصادق الإيمان، وليس بمؤمن حقاً، ولا تقل: ليس مؤمناً مطلقاً فتوافق الخوارج.

وهذا في الدنيا، وأما في الآخرة فقد يعفى عنه، وقد يعذب، وقد يشفع له فلا يدخل النار.

وقد يدخل النار أهل الكبائر ولكن يعذبون على حسب ذنوبهم ويخرجون بشفاعة الشافعين، فنبينا صلى الله عليه وسلم يشفع، وسائر الأنبياء يشفعون، والملائكة تشفع، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، فإذا خرجوا تكامل خروج عصاة الموحدين فتطبق النار على الكفرة بجميع أصنافهم، فلا يخرجون منها أبد الآباد.

هذا هو معنى قول المصنف رحمه الله: [ وهم -أي: أهل السنة والجماعة- في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية -أي: الخوارج والمعتزلة- الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبين المرجئة ].

فهم وسط بين الوعيدية وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، وإيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، ولا يوجد تفاضل بينهم.

وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الفساق معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الكامل الذي يستحقون به الجنة، بل يستحق الفاسق دخول النار إذا مات على البدع، أو على السرقة، أو على الخمر من غير توبة، لكن قد يعفو الله عنه، وقد يعذبه ثم يخرج إلى الجنة، بخلاف المؤمن المطيع فإنه بإيمانه يستحق دخول الجنة ابتداء.

وعندهم أن العصاة والفساق لا يخلدون في النار إذا دخلوا فيها خلافاً للخوارج والمعتزلة، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وهي الحبة الصغيرة.

والمعاصي لا تقضي على الإيمان ولو كثرت، فلابد من أن يبقى شيء من الإيمان حتى ولو مات عاصياً، فلا يزول إيمانه إلا إذا وجد الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر.

وأما إذا سلم الإنسان من الكفر الأكبر والشرك الأكبر والنفاق الأكبر فلا بد من أن يبقى معه شيء من الإيمان ولو كثرت المعاصي، حتى إنه يخرج من النار بمثقال حبة من إيمان، وبمثقال خردلة من إيمان.

وقد ادخر النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته لأهل الكبائر من أمته، فأهل الكبائر يشفع لهم النبي أربع مرات، ويشفع لهم بقية الأنبياء، ويشفع لهم الملائكة، ويشفع لهم المؤمنون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهم أيضاً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسط بين الذين يغالون في علي رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا وكفروا، والأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان رضي الله عنهما ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحلون سب علي وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته ].

أهل السنة وسط في الصحابة بين الغلاة وبين الجفاة، والغلاة هم الشيعة والرافضة، والجفاة هم النواصب، وهم الخوارج، فأهل السنة وسط بينهما: وسط بين الغلاة الذين يغالون في علي كالرافضة، فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقولون: علي أفضل من أبي بكر وعمر ، ويقولون: إنه الإمام المعصوم.

ويقولون: إن الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كفروا وظلموا وفسقوا وارتدوا وأخفوا النصوص التي تدل على أن الخليفة بعده هو علي ، فولوا أبا بكر الخلافة زوراً وظلماً وبهتاناً، ثم ولوا عمر الخلافة زوراً وبهتاناً وظلماً، ثم ولوا عثمان الخلافة زوراً وبهتاناً وظلماً، ثم وصلت النوبة إلى الخليفة الأول وهو الإمام المعصوم علي .

ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على اثني عشر إماماً بعده؛ ولهذا يسمون الإثني عشرية؛ فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخليفة بعده هو علي رضي الله عنه، ثم الخليفة الثاني الحسن بن علي ابنه، ثم الخليفة الثالث الحسين بن علي ، ثم الخليفة الرابع علي بن الحسين زيد العابدين ، ثم محمد بن علي الباقر ، ثم جعفر بن محمد الصادق ، ثم موسى بن جعفر الكاظم ، ثم علي بن موسى الرضا ، ثم محمد بن علي الجواد ، ثم علي بن محمد الهادي ، ثم الحسن بن علي العسكري ، ثم محمد بن الحسن المهدي المنتظر الذي دخل سرداب سامراء في العراق سنة ستين ومائتين ولم يخرج منه إلى الآن.

وقد مضى عليه إلى الآن قرابة ألف ومائتي سنة، وهو شخص موهوم لا حقيقة له؛ لأن أباه الحسن بن علي العسكري مات عقيماً ولم يولد له، فاختلقوا له ولداً وأدخلوه السرداب وهو ابن سنتين أو ثلاث أو خمس سنين.

وهم في كل سنة يأتون إلى باب السرداب ويأتون بدابة، ويشترون السلاح وينادون بأعلى صوتهم: يا مولانا اخرج، يا مولانا اخرج، يا مولانا اخرج!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في زمانه في القرن السابع الهجري: إنه يوجد منهم - أي: الرافضة - أقوام في مناطق بعيدة على المشهد في العراق، وفي أماكن في المدينة وغيرها يقفون أوقات الصلوات في أوقات عينوها لا يصلون، وإذا قيل لهم: لماذا لا تصلون؟ قالوا: نخشى أن يخرج المهدي ونحن في الصلاة فننشغل عنه.

وعلي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد الرابع، والحسن بن علي تولى الخلافة ستة أشهر ثم تنازل لـمعاوية ، وأما الحسين فقد غدر به أهل العراق فقتلوه.

وهؤلاء الشيعة يقولون: من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. وإمام هذا الزمان عندهم هو المهدي المنتظر الذي دخل السرداب، وهم اليوم لا يعرفون إمامهم، فيكونون قد حكموا على أنفسهم بالكفر.

فهؤلاء غلاة يغالون في علي فيفضلونه على أبي بكر وعمر، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا وكفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وربما جعلوه نبياً، فبعضهم يجعل علياً هو النبي، وهؤلاء مخطئون؛ وهم طائفة من غلاة الشيعة قالوا: إن الله أرسل جبريل بالرسالة إلى علي ، ولكنه خان فأوصلها إلى محمد، فخالف أمر الله وأعطى الرسالة لمحمد، وهذا كفر بإجماع المسلمين، ومن اعتقد هذا الاعتقاد فهو كافر، وكذلك من اعتقد أن الصحابة كفروا وظلموا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد؛ لأن الله زكاهم وعدلهم ووعدهم بالجنة، وهذا تكذيب لله، وتكذيب الله كفر، ومن قال: إن القرآن غير محفوظ فهو مكذب لله تعالى في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وكذلك من يعبد أهل البيت ويتوسل بهم فهو كافر مشرك.

وبعضهم يقول: علي هو الإله، وإن الله حل في علي . وهم النصيرية.

فالشيعة طوائف، فالنصيرية يقولون: إن الله حل في علي وإن علياً سيرجع، والمخطئة يقولون بخيانة جبريل، والغلاة منهم يعبدون آل البيت، ويكفرون الصحابة، ويقولون بتحريف القرآن وعدم حفظه.

وأهل السنة وسط بين الرافضة الشيعة وبين الجافية وهم النواصب الخوارج الذين نصبوا العداوة لآل البيت، وكفروا علياً ، وقالوا: علي كافر، وعثمان كافر، وقالوا: دم علي حلال، ودم عثمان حلال؛ لأنهما كفرا، فـعثمان كفر؛ لأنه خان، وعلي كفر؛ لأنه حكم الرجال في كتاب الله.

وكذلك من تولاهما يستحلون دمه، ويستحلون سب علي وعثمان رضي الله تعالى عنهما، أي: يرون أن سب علي وعثمان حلال، ويقدحون في خلافة علي وإمامته.

فأهل السنة لا يقولون بقول الرافضة الذين يسبون الصحابة ويكفرونهم ويؤلهون علياً أو يجعلونه نبياً، ولا يقولون بقول النواصب الذين يكفرون علياً وعثمان ومن شايعهما ويستحلون سبهما، بل يترضون عن الصحابة كلهم ويترحمون عليهم ويعتقدون فضلهم وسابقتهم، وأنهم خير الناس بعد الأنبياء، وأنه لا أحد مثلهم، ويعتقدون أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها هو أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي ، وأن ترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة، ثم بقية العشرة المبشرون بالجنة، ثم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، فلا يسبون الصحابة ولا يكفرونهم، بل ينزلونهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها بالعدل والإنصاف لا بالهوى والتعصب، ويعتقدون عدم العصمة لأحد منهم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكذلك في سائر الأبواب فأهل السنة هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ].

أي: أن أهل السنة وسط في سائر الأبواب؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فمذهبهم هو الحق، وهم أهل الحق، والحق وسط بين ضلالين.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [13] 2049 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [11] 1984 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [10] 1716 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [5] 1656 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [3] 1580 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [2] 1564 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [8] 1553 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [1] 1522 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [12] 1434 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [6] 1171 استماع