شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [1]


الحلقة مفرغة

نصيحة لطلاب العلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

[ من أحمد بن تيمية عفا الله عنه إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوهم وفقهم الله لسلوك سبيله وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم معتصمين بحبله المتين مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

فإنا نحمد الله إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عندهم درجة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله، وجعلهم أمة وسطاً أي: عدلاً وخياراً، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، وهداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم ].

أحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا لدراسة هذه الرسالة القيمة للإمام العلامة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلس علم وخير تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).

وإني أبشركم أيها الإخوان! وأهنئكم بهذا الخير العظيم، حيث وفقكم الله سبحانه وتعالى بسلوك سبيل العلم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، وقال ربنا سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وقال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

فهنيئاً لكم حيث سلكتم سبيل العلم وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصواباً على هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن طلب العلم وسلوك سبيل العلم من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولهذا فإنه يجب على العبد أن يخلص في طلبه للعلم، وأن يكون قصده بذلك وجه الله والدار الآخرة لا رياء ولا سمعة ولا مالاً ولا جاهاً ولا منصباً.

بأن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، ولهذا قيل للإمام أحمد رحمه الله: كيف يخلص طلبه للعلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، فطالب العلم إذا أخلص عمله لله فهو على خير عظيم، ولهذا قال العلماء: إن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة، أي: أنه لو تعارض طلب العلم مع أداء النوافل كنوافل الصلاة مثل: صلاة الليل أو صلاة الضحى أو الصيام مثل صيام الإثنين والخميس وأيام البيض فإنه يقدم طلب العلم؛ لأنه أفضل منها.

وما ذاك إلا لأن المسلم حينما يطلب العلم فإنه يتبصر ويتفقه في دينه فيعلم الحلال والحرام، وإذا تعلم صار ذلك طريقاً إلى العمل فينقذ نفسه وغيره من الجهل، وهذا من علامة إرادة الله بعبده خيراً، كونه يوجهه إلى طلب العلم ويفقهه في الدين كما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وأنا قاسم والله المعطي).

فهذا الحديث الشريف الذي رواه الشيخان له منطوق ومفهوم، منطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد الله به خيراً، ومفهومه: أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيراً.

وقد تكاثرت النصوص في فضل العلم وطلبه، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).

وثبت في الأحاديث الصحيحة: (أن الملائكة يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوها قالوا: هذه طلبتكم فيحفونهم)، وثبت أيضاً: أن الله تعالى يغفر لأهل الذكر وأهل العلم في مقدمة أهل الذكر، وأنه يأتي إليهم من ليس منهم فتشمله الرحمة فيقول الرب سبحانه: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

وثبت أيضاً: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، فهنيئاً لكم حيث وجهكم الله هذه الوجهة الشريفة فأقبلتم على طلب العلم.

وإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وإخلاص العمل لله والصدق مع الله في إخلاصكم لله في طلبكم للعلم، وعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص في طلب العلم، فيتعلم ويسلك المسالك المتنوعة لطلب العلم من حضور الحلقات في المساجد والدروس العلمية، والالتحاق بالجامعات والكليات والمدارس والمعاهد العلمية، وحضور المحاضرات والندوات، وسماع البرامج المفيدة في إذاعة القرآن وغيرها، وسماع الأشرطة المفيدة النافعة، والقراءة في كتب أهل العلم القديمة والحديثة.

وعلى طالب العلم أن يتحرى قراءة كتب أهل العلم الذين هم على عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة، وليحذر من القراءة في كتب أهل البدع والضلال.

ومن سبل العلم أيضاً سؤال العلماء والاتصال بهم والأخذ عنهم، وعلى طالب العلم أن يعمل بعلمه، فإن عمله بالعلم يجعله من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم، فمن الله عليهم بالعلم والعمل، وكذلك يكون سبباً لحفظه وبقائه كما قيل:

العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل

فعلى طالب العلم أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة أخلاق أهل العلم، ويحذر من الانحراف والزيغ في معتقده أو في عمله أو مشابهة أهل البدع والضلال، وأن يكون قدوة حسنة في اعتقاده، وفي عمله، وفي أخلاقه، وفي معاملته مع الناس، وأن يقتدي بالعلماء الربانيين كالصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة الأعلام كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية صاحب هذه الرسالة العظيمة، وغيره من أهل العلم كالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب .

التعريف بالإمام ابن تيمية

وهذه الرسالة ألفها شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني المولود سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة، والمتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة رحمه الله رحمة واسعة، هذا الإمام المجاهد الصابر الذي أظهر معتقد أهل السنة والجماعة بعد اندثاره، وأظهر الله به الحق، وقمع به أهل الشرك والبدع والضلال، وتتلمذ على يديه أئمة فحول من أبرزهم تلميذه العلامة ابن القيم الجوزية رحمة الله عليه.

فهذا الإمام الذي أحيا الله به السنة، والذي قارع أهل البدع وأبطل شبههم، فقد قال في كتابه بيان موافقة الصريح المعقول للصحيح المنقول: أنا كفيل بأن أجعل كل دليل يستدل به أهل الباطل حجة عليهم، أي: أبين لهم أن هذا الدليل الذي يستدلون به دليل عليهم، رحمة الله عليه.

اقتداء ابن تيمية بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الرسائل

هذه الرسالة سميت بالوصية الكبرى، وذلك لتوسعه في بيان ما تشمله العقائد والأعمال والأحوال، وله رسالة أخرى تسمى الوصية الصغرى، فوجه الإمام رحمه الله هذه الرسالة إلى عموم المسلمين، فقال رحمة الله عليه:

قوله رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم).

الشيخ الإمام رحمه الله افتتح كتابه بالبسملة تأسياً بالكتاب العزيز، فإن الله سبحانه وتعالى افتتح كتابه بالبسملة ثم ابتدأه بالحمد والثناء على الله ثم قال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين) اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابته ورسائله إلى الملوك ورؤساء القبائل والعشائر وغيرهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لما كتب الكتاب إلى هرقل عظيم الروم قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد:

أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64])، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر اسمه فقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، وشيخ الإسلام اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من أرسل إليه هذا الكتاب).

فكان هذا الإمام يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء.

إذاً: هذه الوصية لعموم المسلمين وسميت بالوصية الكبرى لتوسعه رحمه الله فيها، وتفصيله في بيان ما تشتمل عليه، كأصول الإيمان وأصول الدين ثم توسع فيها فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة)، ثم خصص فقال: (المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوهم).

فكأنه وجه هذه الرسالة إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي ، لأنهم طلبوا منه أن يكتب لهم هذه الرسالة، أو لأنه رأى أن يوجه الخطاب إليهم لعنايته بهم، وكونه يريد أن يخصهم بهذه الوصية؛ لأنه رحمه الله رأى أنهم على معتقد أهل السنة والجماعة فأراد أن يزودهم، ولم يقدر لي أن أطلع على ترجمة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي حتى يتبين معتقده هل عليه مؤاخذات في العقيدة أو لا؟ والمؤلف رحمه الله وجه الخطاب إلى عموم المسلمين، ثم خص بعد التعميم، فوجه الخطاب إلى جماعة أبي البركات عدي بن مسافر رحمه الله ودعا لهم، وهذا من نصحه رحمه الله، أنه يعلم ويدعو، وكذلك الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإنه يعلم ويدعو، يقول في رسائله: (اعلم -أرشدك الله لطاعته- أن الحنفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصاً له الدين).

ويقول: (أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة وأن يجعلك مباركاً حيثما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر) فهؤلاء العلماء الربانيون يعلمون الناس ويدعون لهم وهذا من نصحهم، فالشيخ الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله وجه هذه الوصية العظيمة لعموم المسلمين ودعا لهم بالتوفيق فقال: (وفقهم الله لسلوك سبيله)، لأن الله إذا وفق العبد، فإنه يسلك سبيل الحق، وإذا لم يوفقه بأن يخذله فإنه يكله إلى نفسه، ولا يكله إليه، فالتوفيق من الله.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

[ من أحمد بن تيمية عفا الله عنه إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوهم وفقهم الله لسلوك سبيله وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم معتصمين بحبله المتين مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

فإنا نحمد الله إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عندهم درجة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله، وجعلهم أمة وسطاً أي: عدلاً وخياراً، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، وهداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم ].

أحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا لدراسة هذه الرسالة القيمة للإمام العلامة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلس علم وخير تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).

وإني أبشركم أيها الإخوان! وأهنئكم بهذا الخير العظيم، حيث وفقكم الله سبحانه وتعالى بسلوك سبيل العلم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، وقال ربنا سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وقال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

فهنيئاً لكم حيث سلكتم سبيل العلم وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصواباً على هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن طلب العلم وسلوك سبيل العلم من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولهذا فإنه يجب على العبد أن يخلص في طلبه للعلم، وأن يكون قصده بذلك وجه الله والدار الآخرة لا رياء ولا سمعة ولا مالاً ولا جاهاً ولا منصباً.

بأن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، ولهذا قيل للإمام أحمد رحمه الله: كيف يخلص طلبه للعلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، فطالب العلم إذا أخلص عمله لله فهو على خير عظيم، ولهذا قال العلماء: إن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة، أي: أنه لو تعارض طلب العلم مع أداء النوافل كنوافل الصلاة مثل: صلاة الليل أو صلاة الضحى أو الصيام مثل صيام الإثنين والخميس وأيام البيض فإنه يقدم طلب العلم؛ لأنه أفضل منها.

وما ذاك إلا لأن المسلم حينما يطلب العلم فإنه يتبصر ويتفقه في دينه فيعلم الحلال والحرام، وإذا تعلم صار ذلك طريقاً إلى العمل فينقذ نفسه وغيره من الجهل، وهذا من علامة إرادة الله بعبده خيراً، كونه يوجهه إلى طلب العلم ويفقهه في الدين كما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وأنا قاسم والله المعطي).

فهذا الحديث الشريف الذي رواه الشيخان له منطوق ومفهوم، منطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد الله به خيراً، ومفهومه: أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيراً.

وقد تكاثرت النصوص في فضل العلم وطلبه، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).

وثبت في الأحاديث الصحيحة: (أن الملائكة يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوها قالوا: هذه طلبتكم فيحفونهم)، وثبت أيضاً: أن الله تعالى يغفر لأهل الذكر وأهل العلم في مقدمة أهل الذكر، وأنه يأتي إليهم من ليس منهم فتشمله الرحمة فيقول الرب سبحانه: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

وثبت أيضاً: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، فهنيئاً لكم حيث وجهكم الله هذه الوجهة الشريفة فأقبلتم على طلب العلم.

وإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وإخلاص العمل لله والصدق مع الله في إخلاصكم لله في طلبكم للعلم، وعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص في طلب العلم، فيتعلم ويسلك المسالك المتنوعة لطلب العلم من حضور الحلقات في المساجد والدروس العلمية، والالتحاق بالجامعات والكليات والمدارس والمعاهد العلمية، وحضور المحاضرات والندوات، وسماع البرامج المفيدة في إذاعة القرآن وغيرها، وسماع الأشرطة المفيدة النافعة، والقراءة في كتب أهل العلم القديمة والحديثة.

وعلى طالب العلم أن يتحرى قراءة كتب أهل العلم الذين هم على عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة، وليحذر من القراءة في كتب أهل البدع والضلال.

ومن سبل العلم أيضاً سؤال العلماء والاتصال بهم والأخذ عنهم، وعلى طالب العلم أن يعمل بعلمه، فإن عمله بالعلم يجعله من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم، فمن الله عليهم بالعلم والعمل، وكذلك يكون سبباً لحفظه وبقائه كما قيل:

العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل

فعلى طالب العلم أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة أخلاق أهل العلم، ويحذر من الانحراف والزيغ في معتقده أو في عمله أو مشابهة أهل البدع والضلال، وأن يكون قدوة حسنة في اعتقاده، وفي عمله، وفي أخلاقه، وفي معاملته مع الناس، وأن يقتدي بالعلماء الربانيين كالصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة الأعلام كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية صاحب هذه الرسالة العظيمة، وغيره من أهل العلم كالشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب .

وهذه الرسالة ألفها شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني المولود سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة، والمتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة رحمه الله رحمة واسعة، هذا الإمام المجاهد الصابر الذي أظهر معتقد أهل السنة والجماعة بعد اندثاره، وأظهر الله به الحق، وقمع به أهل الشرك والبدع والضلال، وتتلمذ على يديه أئمة فحول من أبرزهم تلميذه العلامة ابن القيم الجوزية رحمة الله عليه.

فهذا الإمام الذي أحيا الله به السنة، والذي قارع أهل البدع وأبطل شبههم، فقد قال في كتابه بيان موافقة الصريح المعقول للصحيح المنقول: أنا كفيل بأن أجعل كل دليل يستدل به أهل الباطل حجة عليهم، أي: أبين لهم أن هذا الدليل الذي يستدلون به دليل عليهم، رحمة الله عليه.

هذه الرسالة سميت بالوصية الكبرى، وذلك لتوسعه في بيان ما تشمله العقائد والأعمال والأحوال، وله رسالة أخرى تسمى الوصية الصغرى، فوجه الإمام رحمه الله هذه الرسالة إلى عموم المسلمين، فقال رحمة الله عليه:

قوله رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم).

الشيخ الإمام رحمه الله افتتح كتابه بالبسملة تأسياً بالكتاب العزيز، فإن الله سبحانه وتعالى افتتح كتابه بالبسملة ثم ابتدأه بالحمد والثناء على الله ثم قال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين) اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتابته ورسائله إلى الملوك ورؤساء القبائل والعشائر وغيرهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لما كتب الكتاب إلى هرقل عظيم الروم قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد:

أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64])، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر اسمه فقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)، وشيخ الإسلام اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من أرسل إليه هذا الكتاب).

فكان هذا الإمام يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء.

إذاً: هذه الوصية لعموم المسلمين وسميت بالوصية الكبرى لتوسعه رحمه الله فيها، وتفصيله في بيان ما تشتمل عليه، كأصول الإيمان وأصول الدين ثم توسع فيها فقال: (من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة)، ثم خصص فقال: (المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوهم).

فكأنه وجه هذه الرسالة إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي ، لأنهم طلبوا منه أن يكتب لهم هذه الرسالة، أو لأنه رأى أن يوجه الخطاب إليهم لعنايته بهم، وكونه يريد أن يخصهم بهذه الوصية؛ لأنه رحمه الله رأى أنهم على معتقد أهل السنة والجماعة فأراد أن يزودهم، ولم يقدر لي أن أطلع على ترجمة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي حتى يتبين معتقده هل عليه مؤاخذات في العقيدة أو لا؟ والمؤلف رحمه الله وجه الخطاب إلى عموم المسلمين، ثم خص بعد التعميم، فوجه الخطاب إلى جماعة أبي البركات عدي بن مسافر رحمه الله ودعا لهم، وهذا من نصحه رحمه الله، أنه يعلم ويدعو، وكذلك الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإنه يعلم ويدعو، يقول في رسائله: (اعلم -أرشدك الله لطاعته- أن الحنفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصاً له الدين).

ويقول: (أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة وأن يجعلك مباركاً حيثما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر) فهؤلاء العلماء الربانيون يعلمون الناس ويدعون لهم وهذا من نصحهم، فالشيخ الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله وجه هذه الوصية العظيمة لعموم المسلمين ودعا لهم بالتوفيق فقال: (وفقهم الله لسلوك سبيله)، لأن الله إذا وفق العبد، فإنه يسلك سبيل الحق، وإذا لم يوفقه بأن يخذله فإنه يكله إلى نفسه، ولا يكله إليه، فالتوفيق من الله.

لله تعالى نعمة دينية خص بها المؤمن دون الكافر قال الله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8]، خلافاً للمعتزلة والقدرية الذين يقولون: إن الله تعالى بين طريق الخير وطريق الشر لأهل الإيمان ولأهل الكفر على حد سواء، وليس للمؤمن خصوصية، وهذا من أبطل الباطل، وأهل الإيمان قد وفقهم الله لسلوك سبيله، وهو الصراط المستقيم، أي: العمل بالكتاب والسنة، وهو ما جاء من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو اتباع شرع الله ودينه، والعمل بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله رحمه الله: (وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم)، هذا دعاء آخر فيه بيان أن الإعانة من الله، وأن من لم يعنه الله فإنه لا يتمكن من طاعة الله وطاعة رسوله.

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يعين المؤمن، بخلاف المعتزلة والقدرية فلا يقولون بذلك بل يقولون: ليس لله إعانة لأحد، فالمؤمن يختار الخير بنفسه من دون إعانة، والكافر يختار الشر بنفسه من دون خذلان، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى يعين المؤمن، ويخذل الكافر.

وقوله رحمه الله تعالى: (وجعلهم معتصمين بحبله المتين). هذا دعاء ثالث، وحبل الله المتين هو دين الله وشرعه، كما قال سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

ومن اعتصم بحبل الله فهو من الناجين.

وقوله رحمه الله: (مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) هذا وصف، يعني: جعلهم مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا هو طريق المنعم عليهم بالعلم والعمل، فصاروا معتصمين بحبل الله مهتدين لصراطه المستقيم.

قال الله تعالى في كتابه المبين: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

قوله رحمه الله تعالى: (وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج).

جنبهم أي: جعلهم في جانب، وأهل الضلال في جانب آخر، والمعنى: جعلهم بعيدين متجنبين لطريق أهل الضلال والاعوجاج، الخارجين عما بعث الله به رسوله من الشريعة والمنهاج، وأهل الضلال والاعوجاج طائفتان:

الطائفة الأولى: المغضوب عليهم الذين علموا ولكنهم لم يعملوا بعلمهم، ويدخل في ذلك اليهود دخولاً أولياً، وكل من فسد من علماء هذه الأمة.

الطائفة الثانية: الضالون وهم الذين لم يتعلموا، وإنما عملوا على جهل وضلال، وليس على بصيرة، كالصوفية والزهاد الذين يتخبطون في الظلمات من دون بصيرة ولا علم.

وقد أمرنا ربنا سبحانه وتعالى أن ندعو في كل ركعة من ركعات الصلاة بأن يهدينا صراط المنعم عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، وذلك في سورة الفاتحة التي هي ركن في كل ركعة من ركعات الصلاة قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].

هذا الدعاء أنفع دعاء وأعظمه وأجمعه، وحاجة العبد إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأنه إذا فقد الطعام والشراب والنفس مات، والموت لابد منه، ولا يضر الإنسان كونه يموت إذا كان مستقيماً على صراط الله ودينه، لكن إذا فقد الهداية مات قلبه وروحه فصار إلى النار والعياذ بالله، فأيهما أشد موت القلب أو موت البدن؟

وقد قسم الله تعالى الناس إلى ثلاثة أقسام: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون.

وقوله رحمه الله: (حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة) هذا دعاء لهم أن يوفقهم الله لسلوك سبيله، وأن يعينهم على طاعته، وأن يجعلهم معتصمين بحبله، مهتدين لصراطه، وأن يجنبهم طريق أهل الضلال حتى يكونوا بذلك ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة، وهذا فيه دليل على أن من اتبع الكتاب والسنة فإن الله تعالى قد أعظم عليه المنة، كما قال سبحانه وتعالى في المؤمنين: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8]، فهي منة من الله ليس لك حول ولا قوة، فلست أنت الذي هديت نفسك كما تزعمه الجبرية والقدرية والمعتزلة فإنهم يقولون: الإنسان هو الذي هدى نفسه، وهو الذي أضل نفسه، وهذا من أبطل الباطل فمن اتبع الكتاب والسنة فإن الله قد أعظم عليه المنة، وأنعم عليه بنعمة دينية خصه بها دون غيره ممن خذله.

إذاً: متابعة الكتاب والسنة ليست بحولك ولا بقوتك، ولكنها منة من الله ونعمة.

قوله رحمه الله: (سلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

السلام موجه إلى جميع المسلمين، يقال: سلام بالتنكير، ويقال: السلام بالتعريف، كما قال الله تعالى عن إبراهيم لما سلمت عليه الملائكة: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ [الذاريات:25]، قال العلماء: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة، لأن سلام الملائكة جملة فعلية، والتقدير: نسلم عليك سلاماً، والجملة الفعلية تفيد الحدوث والتجدد، أما سلام إبراهيم فهو جملة اسمية والتقدير: عليكم سلام والجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار والثبوت، فالجملة الاسمية أبلغ من الجملة الفعلية؛ فكان سلام الملائكة بذلك أقل.

وقوله: (سلام عليكم) جملة مكونة من مبتدأ وخبر، ويجوز في السلام التنكير والتعريف، تقول: سلام عليكم، والسلام عليكم.

قوله رحمه الله تعالى: (وبعد).

الغالب على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يقول: أما بعد، وهذه الكلمة يؤتى بها للفصل للدخول في صلب الموضوع بعد الإتيان بخطبة الكتاب ويقال: وبعد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يأتي بها في خطبته في يوم الجمعة عليه الصلاة والسلام فيقول: (أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) فكان شيخ الإسلام يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله: وبعد فإنه اختصرها.

واختلف في أول من قال: أما بعد، قيل: أول من قالها داود عليه الصلاة والسلام، وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعملها في خطبه.

قوله رحمه الله: (فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير).

الحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه، فإن خلا عن الحب والإجلال صار مدحاً، فالمدح والحمد يشتركان في الثناء بالصفات والأفعال، فإذا كان مع الثناء حب وإرادة وإجلال فهو الحمد، وإن خلا عن الإرادة والحب والإجلال فهو المدح، فأنت تثني على الأسد بأنه قوي العضلات، وقوي الهجوم، وهو ملك الحيوانات، لكنك لا تحبه فيسمى هذا مدحاً، ولا يسمى حمداً، فإن كان معه إرادة ومحبة صار حمداً، ولهذا جاء الثناء على الرب بالحمد، قال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، والله لفظ الجلالة وهو الله أعرف المعارف: علم على ربنا سبحانه وتعالى، وهو مشتمل على الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.

كل أسماء الله مشتقة ومشتملة على صفات، فالرحمن مشتمل على صفة الرحمة، والعليم مشتمل على صفة العلم، والقدير مشتمل على صفة القدرة، وهكذا، فجميع الصفات مشتملة على الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [13] 2050 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [11] 1985 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [10] 1718 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [5] 1657 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [3] 1581 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [4] 1577 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [2] 1565 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [8] 1554 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [12] 1435 استماع
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [6] 1171 استماع