تفسير سورة التوبة [101-106]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]. قوله تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون) يعني: حول المدينة. قال ابن عباس : مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كان فيهم -بعد إسلامهم- منافقون. وقال مقاتل : وكانت منازلهم حول المدينة؛ ولذلك قال تعالى: (وممن حولكم) أي: حول بلدتكم وهي المدينة، (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) يعني: ومن أهل المدينة أيضاً يوجد فيها المنافقون، الذين مرنوا على النفاق، ومهروا فيه. وقوله تعالى: (ممن حولكم من الأعراب منافقون) هذه جملة اسمية، والمبتدأ قوله تعالى: (منافقون)، فقوله تعالى: (مردوا على النفاق) أي: مرنوا ومهروا فيه. ويقول القرطبي في معنى (مردوا): أي: أقاموا ولم يتوبوا، بل ثبتوا على النفاق. وقال غيره: لجوا فيه وأبوا غيره، والمعنى متقارب، وأصل كلمة (مرد) من اللين والملامسة والتجرد، فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء يعني: لا نبت فيها، وغصن أمرد يعني: لا ورق عليه، وفرس أمرد أي: لا شعر على ثنته وهي مؤخر الرسغ، وغلام أمرد بين المرد، يعني: لا لحية في وجهه، ولا يقال: جارية مرداء، وتمريد البناء تمليسه كي يكون مجرداً من أي نتوأت بل أملس، ومنه قوله تعالى: قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [النمل:44] أي: أملس من قوارير، وتقول: مردت الغصن يعني: جردته من الورق، يقال: مرد يمرد مروداً ومرادة، فهذا أصل كلمة: (مردوا) مأخوذة من اللين والملامسة والتجرد، فكأن هؤلاء المنافقين تجردوا للنفاق. وقوله تعالى: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) يعني: لا تعلمهم أنت حتى نعلمك بهم، وفي قوله تعالى: (لا تعلمهم) دليل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه. والمعنى أن هؤلاء المنافقين يخفون عليك، مع علو كعبك في الفطنة وصدق الفراسة؛ لفرض تألقهم وتطلعهم في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم، وكأن قوله تعالى: (مردوا على النفاق) توطئة وتمهيد لقوله تعالى: (لا تعلمهم)؛ لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به، وفي إظهار التقية، حتى إنك مع كياستك وفطنتك وصدق فراستك لا تستطيع أن تعلمهم حتى نوحي إليك بأخبارهم. وقوله: (نحن نعلمهم) تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق، أي: لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص. وهناك تفسير آخر لقوله: (لا تعلمهم) أي: لا تعلم عواقبهم، والأظهر ما قدمنا ذكره.

عذاب المنافقين مرتين

قوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]: اختلفت أقوال المفسرين في تفسير هاتين المرتين: القول الأول: عذبهم عز وجل مرتين: مرة بالآيات التي فضحتهم في هذه السورة، وكشفت نفاقهم، وهذا هو العذاب الأول، والمرة الثانية: إحراق مسجد الضرار، وهذا هو العذاب الثاني. القول الثاني: المرة الأولى: فضح نفاقهم في الدنيا، والمرة الثانية: عذاب القبر؛ لقوله تعالى: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) فالعذاب العظيم في الآخرة، فدل على وقوع العذاب مرتين قبل الآخرة. القول الثالث: العذاب الأول: بأخذ الزكاة التي لا ينظرون إليها على أنها تطهرهم وتزكيهم، بل ينظرون إلى الزكاة على أنها مغرم، والعذاب الثاني: تعذيب أبدانهم بالطاعات وبالعبادات الفارغة عن الثواب، فهم يتعبون أجسادهم دون أن يثابوا كما يثاب المؤمنون. وقال محمد بن إسحاق -وهو القول الرابع: هو فيما بلغني عنهم- ما هم فيه من أمر الإسلام، -أي: من عزة الإسلام-، وما يدخل عليهم من غير ذلك على غير حسبة، هذا هو العذاب الأول، والعذاب الثاني: عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الآخرة ويخلدون فيه. قال أبو السعود : ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق؛ لأنهم في بواطنهم كفار، وضموا إلى الكفر بالباطن إظهار الإسلام في الظاهر، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه؛ لأنهم المنافقون، ثم إنهم مردوا على النفاق وخبروه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، وليست على الحقيقة، كما في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:4]، فليس المقصود بالكرتين هنا العدد، ولكن المقصود تكرار البصر، يعني: كرة بعد أخرى، فكذلك (سنعذبهم مرتين) أي: نعذبهم مرة بعد أخرى، إشارة إلى التكرار، وكما في قوله تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:126]. ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: لا ينافي قوله تعالى: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ، قوله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]؛ لأن الله سبحانه وتعالى في سورة القتال بين أنه لو شاء لأرى ولأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء المنافقين، وكيف يعرفهم؟ قال: (فلعرفتهم بسيماهم) أي: تعرفهم بسيما وعلامات وأعراض تظهر عليهم، ومن ذلك أنك تعرفهم في لحن القول، القول الذي فيه لحن، وفيه تعريض، وتطاول على شرع الله سبحانه وتعالى. والمنفي في قوله تعالى: (لا تعلمهم) أي: لا تعلمهم على سبيل التعيين، حتى نعلمك نحن بهم، فأنت لا تعلمهم من تلقاء نفسك؛ لأنهم مرنوا ومردوا على النفاق، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً، ويراه صباحاً ومساءً، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر ببكة، فقال: لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب، وأصغى إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه، فقال: إن في أصحابي منافقين) أي: يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له، وهذا لا ينطبق على أصحاب الرسول عليه السلام، ولكن يقصد به أولئك المندسين في الصحابة الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان. وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: (أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق هاهنا، وأشار بيده إلى قلبه، ولم يذكر الله إلا قليلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل له لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير، فقال: يا رسول الله! إنه كان لي أصحاب من المنافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: من أتانا استغفرنا له، ومن أصر على دينه فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد ستراً) ورواه الحاكم أيضاً. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس: فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري، لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك! ويقصد رحمه الله: أن على الإنسان ألا يشتغل بمحاكمة الناس بقوله: فلان في الجنة وفلان في النار، وهذا الشخص الذي يحاكم الناس ويحكم لهم بمصائرهم في الآخرة، إذا سألته عن نفسه، قال: لا أدري، مع أنه أعلم بحاله من أحوال الناس، ولقد تكلف هذا الشخص شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبله، قال نبي الله نوح عليه السلام: وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الشعراء:112]، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [هود:86]، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )). وقوله تبارك وتعالى: (( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ )) عطف على قوله تعالى: (( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ )) فهو عطف مفرد على مفرد.

قوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101]: اختلفت أقوال المفسرين في تفسير هاتين المرتين: القول الأول: عذبهم عز وجل مرتين: مرة بالآيات التي فضحتهم في هذه السورة، وكشفت نفاقهم، وهذا هو العذاب الأول، والمرة الثانية: إحراق مسجد الضرار، وهذا هو العذاب الثاني. القول الثاني: المرة الأولى: فضح نفاقهم في الدنيا، والمرة الثانية: عذاب القبر؛ لقوله تعالى: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) فالعذاب العظيم في الآخرة، فدل على وقوع العذاب مرتين قبل الآخرة. القول الثالث: العذاب الأول: بأخذ الزكاة التي لا ينظرون إليها على أنها تطهرهم وتزكيهم، بل ينظرون إلى الزكاة على أنها مغرم، والعذاب الثاني: تعذيب أبدانهم بالطاعات وبالعبادات الفارغة عن الثواب، فهم يتعبون أجسادهم دون أن يثابوا كما يثاب المؤمنون. وقال محمد بن إسحاق -وهو القول الرابع: هو فيما بلغني عنهم- ما هم فيه من أمر الإسلام، -أي: من عزة الإسلام-، وما يدخل عليهم من غير ذلك على غير حسبة، هذا هو العذاب الأول، والعذاب الثاني: عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الآخرة ويخلدون فيه. قال أبو السعود : ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق؛ لأنهم في بواطنهم كفار، وضموا إلى الكفر بالباطن إظهار الإسلام في الظاهر، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه؛ لأنهم المنافقون، ثم إنهم مردوا على النفاق وخبروه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، وليست على الحقيقة، كما في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:4]، فليس المقصود بالكرتين هنا العدد، ولكن المقصود تكرار البصر، يعني: كرة بعد أخرى، فكذلك (سنعذبهم مرتين) أي: نعذبهم مرة بعد أخرى، إشارة إلى التكرار، وكما في قوله تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:126]. ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: لا ينافي قوله تعالى: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ، قوله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]؛ لأن الله سبحانه وتعالى في سورة القتال بين أنه لو شاء لأرى ولأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء المنافقين، وكيف يعرفهم؟ قال: (فلعرفتهم بسيماهم) أي: تعرفهم بسيما وعلامات وأعراض تظهر عليهم، ومن ذلك أنك تعرفهم في لحن القول، القول الذي فيه لحن، وفيه تعريض، وتطاول على شرع الله سبحانه وتعالى. والمنفي في قوله تعالى: (لا تعلمهم) أي: لا تعلمهم على سبيل التعيين، حتى نعلمك نحن بهم، فأنت لا تعلمهم من تلقاء نفسك؛ لأنهم مرنوا ومردوا على النفاق، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً، ويراه صباحاً ومساءً، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر ببكة، فقال: لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب، وأصغى إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه، فقال: إن في أصحابي منافقين) أي: يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له، وهذا لا ينطبق على أصحاب الرسول عليه السلام، ولكن يقصد به أولئك المندسين في الصحابة الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان. وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: (أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق هاهنا، وأشار بيده إلى قلبه، ولم يذكر الله إلا قليلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل له لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير، فقال: يا رسول الله! إنه كان لي أصحاب من المنافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: من أتانا استغفرنا له، ومن أصر على دينه فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد ستراً) ورواه الحاكم أيضاً. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس: فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري، لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك! ويقصد رحمه الله: أن على الإنسان ألا يشتغل بمحاكمة الناس بقوله: فلان في الجنة وفلان في النار، وهذا الشخص الذي يحاكم الناس ويحكم لهم بمصائرهم في الآخرة، إذا سألته عن نفسه، قال: لا أدري، مع أنه أعلم بحاله من أحوال الناس، ولقد تكلف هذا الشخص شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبله، قال نبي الله نوح عليه السلام: وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الشعراء:112]، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [هود:86]، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )). وقوله تبارك وتعالى: (( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ )) عطف على قوله تعالى: (( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ )) فهو عطف مفرد على مفرد.

ولما بين الله تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الجهاد، رغبة عنه وتكذيباً وشكاً، بين حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة، فقال عز وجل: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102]. قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) أي: أقروا بها وهي تخلفهم عن الغزو، وإيثار الدعة عليه، والرضا بجوار المنافقين، ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، فهذه ميزة هذا الفريق، أما المنافقون فقد استجنوا بالأيمان الكاذبة، وأتوا بالأعذار الواهية. ثم قال: (( خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا )) خلطوا عملاً صالحاً: كالندم، وقيل: ما سبق قبل معصية التخلف من الأعمال الصالحة التي عملوها، (وآخر سيئاً) وهو التخلف عن الجهاد. (( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ )) أي: يقبل توبتهم (إن الله غفور رحيم) أي: يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه. وفي قوله تعالى: (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) قال ابن جرير : وضع الواو مكان الباء، يعني: أصلها (خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئاً)، كما تقول: خلطت الماء واللبن أي: خلطت الماء باللبن. ففي هذه الآية الكريمة تنبيه على نفي القول بالمحابطة، فتعبير (خلطوا) معناه: أن العمل الصالح باقٍ كما هو، وأنه لم يحبَط بالعمل السيئ، وهذه بشارة للمؤمنين، وهي أن المؤمن إذا ارتكب معصية فإنها لا تحبط العمل الصالح الذي كان قبل، وهناك موضع آخر في القرآن له نفس هذه الدلالة وهو قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22]، ومعلوم أن مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك كان من المهاجرين، فدلت الآية على أن ما تلبس به من الإفك -نتيجة خوضه في حادثة الإفك- لم يمح عنه صفة الهجرة، ولم يحبط ثواب هجرته، وهذا يدل على أن الكبائر لا تحبط الأعمال الصالحة المتقدمة. أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا على أنهم تخلفوا وأيقنوا بالهلاك، فقالوا: نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد، والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها، فربطوا أنفسهم في سواري المسجد -وكان هذا منهم تعبيراً عن التوبة والاعتذار- وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، فرآهم في المسجد موثقين بالسواري، فقال: (من هؤلاء الموثقون بالسواري؟!) فقال رجل: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم، فقال: (لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم)، فأنزل الله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فلما نزلت أطلقهم وعذرهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم، لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم من بعد: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة:106]، فجعل أناس يقولون: هلكوا لما نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وفريق آخر كانوا يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم، انتظروا وتريثوا عسى الله أن يتوب عليهم، حتى نزل قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة:118] إلى آخره. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه وزاد: فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا، فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً)، فأنزل الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين، وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه، يعني: أن هذه الآية نزلت في أبي لبابة في موقف آخر، وهو حينما أشار إلى بني قريظة بالذبح لما شاوروه: هل ينزل على حكم سعد ؟ فقال لهم: هكذا، وأشار إلى عنقه، يعني: لو نزلتم على حكم سعد فسيكون الذبح، فهذا أيضاً مما قيل في هذه الآية. وروى البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: أتاني الليلة آتيان، فابتعثاني، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال، شطر من خلفهم كأحسن ما أن ترى، وشطر كأقبح ما أن ترى، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وذاك منزلك، ثم قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم). وفي هذه الآية الكريمة نوع من البديع يسمى الاحتباك، وهو مشهور؛ لأن المعنى: خلطوا عملاً صالحاً بسيئ، وآخر سيئاً بصالح. قال الرازي : هاهنا سؤال: وهو أن كلمة (عسى) شك، وهو في حق الله تعالى محال، وجوابه من وجوه، قال المفسرون: كلمة (عسى) من الله واجبة؛ لأن (عسى) من أفعال الترجي، فالله سبحانه وتعالى لا يصح هذا المعنى في حقه عز وجل، وهو الذي يحتمل الشك في الوقوع؛ ولذلك (عسى) من الله واجبة، فأي كلمة (عسى) في القرآن الكريم فهي من الله واجبة، والدليل عليه قوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة:52]، وقد فعل ذلك، وتحقيق القول فيه: أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، وصاحب السلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً، فإن صاحب السلطان لا يجيبه إلا على سبيل الترجي، بكلمة (عسى) أو (لعل)، لماذا؟ تنبيهاً لعظمة سلطانه، فليس لأحد من خدمه أو حشمه أن يلزمه شيئاً، فإذا فعل ما طلب منه فإنما يفعله على سبيل التفضل والإحسان، وهذا هو فائدة ذكر (عسى)، وهذا هو الوجه الأول. الوجه الثاني: أن المقصود ما يجب أن يكون المكلف عليه من الطمع والإشفاق؛ بعيداً عن الاتكال والإهمال، وقال القاشاني : الاعتراف بالذنب هو إبقاء نور الاستعداد، ولين الشكيمة، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه؛ لأنه ملك الرجوع والتوبة، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة من كلمة: (اعترفوا بذنوبهم)، أي: أن كلمة (اعترفوا) تدل على أن أحدهم نظر إلى ذنبه باعتباره فعلاً قبيحاً، واستقباح ما يفعله الإنسان لا يكون إلا بنور البصيرة، وانفتاح عين القلب، إذ لو ارتكمت الظلمة على قلبه ورسخت الرذيلة ما استقبحه، فكون الإنسان يستقبح المعصية فهذا يدل على بقاء نور البصيرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن)، بخلاف من يزين له سوء العمل فيراه حسناً، فهل هذا يتوب؟! وهذا شأن المبتدع، المبتدع يزين له سوء عمله ويرى القبيح حسناً، وفي الحديث: (إن الله احتجز التوبة على كل صاحب بدعة). فمتى ما اعترف الإنسان أن هذا الفعل الذي فعله ذنب، واستقبحه وندم عليه، فهذا يدل على أن في هذا الإنسان خيراً.

ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من أموالهم التي تقدموا بها إليه أن يتصدق بها عنهم؛ كفارة لذنوبهم، أخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: جاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:103]. (خذ من أموالهم) من هنا تبعيضية، يعني: خذ بعض أموالهم، وليس كل الأموال، قال المهايمي : لتصدق توبته، أي: هذا دليل على صدق التوبة، حينما تصدقوا بهذا المال، فهذه الصدقة تطهرهم، أي: عما تلطخوا به من أوضار التخلف، ومن أوضار حب المال الذي كان التخلف بسببه، فالذين تخلفوا كان سبب تخلفهم حب الدنيا وحب المال، فيكون التكفير عن هذا الذنب بإخراج شيء من هذا المال كفارة. (وتزكيهم بها) أي: تصلحهم عن سائر الأخلاق الذميمة التي حصلت بسبب المال. قال الزمخشري : التزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه. فإما أن تكون التزكية بمعنى: أنها مبالغة في التطهير، وإما أن تكون بمعنى: أن الله يبارك لهم في أموالهم. (وصل عليهم) أي: اعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، (إن صلاتك سكن لهم) أي: تسكن نفوسهم إليها، وتطمئن قلوبهم بها، ويثقون بأن الله سبحانه وتعالى قبل توبتهم. وقال قتادة : السكن: هو الوقار، (إن صلاتك سكن لهم) يعني: وقار لهم. القول الثاني: قال ابن عباس : رحمة لهم. القول الثالث: (إن صلاتك سكن لهم) أي: طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم، فيطمئنون أنك ما صليت عليهم ودعوت لهم الله سبحانه وتعالى إلا وقد قبل منهم توبتهم وما أنفقوه. وقيل: قربة لهم. وقيل: تزكية لهم. وقد روى الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا للرجل -أي: دعوة صالحة- أصابته، وأصابت ولده، وولد ولده. وفي رواية: (إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل، وولده، وولد ولده) يعني: تمتد بركتها إلى الأجيال الثلاثة، والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم، يعني جملة: (إن صلاتك سكن لهم) هي علة للأمر بالصلاة، يعني: صل عليهم؛ لأن صلاتك سكن لهم، (والله سميع) أي: يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، (عليم) أي: بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم. وإعراب (تطهرهم) على قراءة الرفع في قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) يمكن أن تكون جملة (تطهرهم) صفة لصدقة، ويمكن أن تكون حالاً من الضمير الموجود في قوله: (خذ). وهناك قراءة أخرى بالجزم (خذ من أموالهم صدقة تطهرْهم) على اعتبار أنها واقعة في جواب الأمر، الذي هو (خذ)، والمعنى فيه شرط، أي: إن تأخذْ من أموالهم صدقة تطهرْهم كما في قول امرئ القيس : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل نبك: بدون الياء. وتاء الخطاب في قوله: (تطهرهم) إما أن تعود على النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى: أنت تطهرهم، وإما أن تعود على الصدقة، فيكون المعنى: صدقة تطهرهم. قوله: (وتزكيهم بها) لم تقرأ إلا بإثبات الياء، وهي مرفوعة لأنها معطوفة على تطهرهم، أما على القراءة الأخرى (خذ من أموالهم صدقة تطهرْهم) قراءة الجزم، فتكون (وتزكيهم بها) خبر لمحذوف تقديره: وأنت تزكيهم بها، ولا يجوز أن تقرأ إلا بالرفع؛ اتباعاً للمصحف الشريف، وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف على تطهرهم: حالاً أو صفة. (إن صلاتك سكن لهم) قرئ بالتوحيد: صلاتك، وقرئ أيضاً بالجمع: (إن صلواتك سكن لهم) وهي قراءة أخرى، مراعاة لتعدد المدعو لهم؛ لأنه كان يدعو لأناس كثيرين عليه الصلاة والسلام. وقال الشهاب : صلواتك جمع صلاة؛ لأنها اسم جنس، والتوحيد لذلك، يعني: إذا قلناها بالتوحيد: (إن صلاتك) فلأنها اسم جنس، أما إذا قلنا: (إن صلواتك) فجمع صلاة. قيل: المأمور به في آية: (خذ من أموالهم صدقة) الزكاة، و(من) تبعيضية، وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم، فأمره الله أن يأخذ بعض مالهم لتوبتهم؛ بخلاف المنافقين، فإن زكاتهم وصدقتهم لم تقبل منهم. وقيل: هذه الصدقة المذكورة ليست هي الزكاة المفروضة، بل هم لما تابوا بذلوا جميع مالهم تطوعاً؛ كفارة للذنب الصادر منهم، فأمره الله تعالى بأخذ بعض أموالهم وهو الثلث، ولذلك تمسك الإمام مالك رحمه الله تعالى بحديث أبي لبابة وقال: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث. ونقل الرازي : أن أكثر الفقهاء على أن هذه الآية كلام مبتدأ، قصد به إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء، يعني: هذه الآية لم تنزل -في رأي الرازي نقلاً عن أكثر الفقهاء- في قصة أبي لبابة وصاحبيه، وإنما نزلت لتستأنف الحكم بإيجاب الزكاة على الأغنياء، إذ هي حجة أكثر الفقهاء على فرضية الزكاة. والجواب عن ذلك: أن خصوص سبب الآية لا يمنع عموم لفظها، يعني لو قلنا: إنها نزلت في أبي لبابة وصاحبيه حينما أرادوا التكفير بالتصدق، فهذا لا يمنع عموم الحكم في غيرهم، وتشمل بالعموم إيجاب الزكاة.

الرد على مانعي الزكاة فيما استدلوا به من هذه الآية

رد الصديق رضي الله عنه على من تأول من بعض العرب هذه الآية: أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه وسلامه؛ لأنه المأمور بالأخذ، وبالصلاة على المتصدقين، فغيره لا يقوم مقامه، وأمر بقتالهم، فاهماً من هذه الآية العموم، وهو أن الزكاة ينبغي أن تؤدى لرسول الله أو من يخلفه بعد موته، فوافقه الصحابة وقاتلوهم، حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يُؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء المتأولون المرتدون، غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سداً لحاجة المعدم، وتفريجاً لكربة الغارم، وتحريراً لرقاب المستعبدين، وتيسيراً لأبناء السبيل، فاستل بذلك ضغائن أهل الفاقة على من فضلوا عليهم في الرزق، حتى لا يحصل حقد طبقي في المجتمع، ويحتد الفقراء على الأغنياء، فأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء، وأفاض الرحمة في نفوس هؤلاء على أولئك البائسين، فالإمام وولي الأمر لا خصوصية لذاته فيها؛ لأن وظيفته أن يجمع هذا المال من الأغنياء ثم يرده إلى الفقراء، فسواء فعل ذلك الرسول عليه السلام في حياته أو نائبه بعد مماته صلى الله عليه وآله وسلم، فالمقصود قد حصل. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وعلى القول الأول -يعني: أنها زكاة الفريضة- فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه، وزوالها بموته، وبهذا تعلق مانعوا الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقالوا: إنه كان يعطينا عوضاً منها: التطهير، والتزكية، والصلاة علينا، وقد عدمناه من غيره، وهل دعاء غير الرسول عليه السلام يكون كدعائه هو؟! فمن ثم نحن لا نعطي هذه الصدقات، ونظم في ذلك شاعرهم فقال: أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجباً ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم كالتمر أو أحلى لديهم من التمر فنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وقال ابن العربي : أما قولهم: إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستحق به غيره، فهو كلام جاهل بالقرآن، غافل عن مآخذ الشريعة، متلاعب بالدين، فإن الخطاب في القرآن لم يرد باباً واحداً، ولكن اختلفت موارده على وجوه -يعني: خطاب القرآن على عدة أنواع، وليس على نوع واحد- فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة، كما في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]. ومنها خطاب خص به، أي: خص به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أبداً أن يباح -في حال- لأي إنسان من المسلمين، كأن تهب امرأة نفسها لرجل فتصير زوجة له، وهذا لا يجوز إلا للنبي عليه السلام بنص القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، يعني: هذا حكم خاص بك، لا يشركك فيه أحد من المؤمنين. ومنها خطاب خص به لفظاً وشركه جميع الأمة معنىً وفعلاً، يعني: إن اللفظ نفسه يخاطب الرسول عليه السلام، لكن من حيث المعنى يشاركه فيه جميع الأمة، كقوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78]، فهنا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنه خطاب له وللأمة معه. كذلك قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، هل هذا خاص بالرسول عليه السلام؟ هذا الخطاب من حيث اللفظ هو للرسول، لكن من حيث المعنى تشاركه الأمة في حكمه. ومنها قوله: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102] إلى آخره، في صلاة الخوف، خطاب له عليه الصلاة والسلام، ولكنه يعم كل من أراد أن يقيم صلاة الخوف، فيقيمها على تلك الصفة المذكورة. ومن هذا القبيل قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فلفظ الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الحكم والمعنى يسري على أمته. وعلى هذا المعنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، وقوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]. إذاً: هذا هو الرد على استدلال مانعي الزكاة الذين قالوا: نحن لا نبذل الزكاة لغير رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأخذوا بظاهر هذه الآية الكريمة! قوله تبارك وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة): مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا فيه تبيين مقدار المأخوذ منه، وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع، وهذه من مواضع الإجمال في القرآن الكريم، ثم فسرتها السنة، كما هو حال كثير من الأحكام الشرعية: كالطهارة والصلاة والحج وغير ذلك، فهنا أتى الأمر مجملاً ثم فصلته السنة وبينت أنواع الزكاة، ومن الذي تؤخذ منه الزكاة؟ وما مصارف الزكاة؟ وغير ذلك مما هو معلوم.

حكم الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً

قوله تعالى: (( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ )) استدل بها على ندب الدعاء للمتصدق، وأن الإمام يستحب له أن يدعو للشخص المتصدق، قال الشافعي رحمه الله تعالى: السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت، وقال آخرون: يقول: (اللهم صلِّ على فلان)، ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه -وكان من أصحاب الشجرة- أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم صلِّ عليهم، فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) متفق عليه. قال ابن كثير : وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت: (يا رسول الله! صل علي وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك)، وبهذين الحديثين رد على من زعم أن المراد بصل عليهم: أي: إذا ماتوا، بل هذا الحديث يدل على أن موضع هذه الصلاة عند بذل الصدقات، ولذلك قال الفقهاء: يسن للإمام إذا أُعطي الصدقات أن يدعو لمن بذلها. ودلت الآية -كالحديثين- على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً، وهذه من المسائل المختلف فيها، فهل يجوز أن يقال في حق غير الأنبياء: فلان صلى الله عليه؟ يؤخذ من الآية: أنه يجوز ذلك، أما إذا جاءت على سبيل التبعية، فلا شيء فيها ولا خلاف، كما تقول: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فهنا صليت على الآل وعلى الصحب وعلى التابعين بإحسان، لكن ليس استقلالاً، بل على سبيل التبعية، تبعاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. لكن السؤال: هل يجوز استقلالاً أن تقول: اللهم صلِّ على فلان وهو من غير الأنبياء؟ قال الرازي : روى الكعبي في تفسيره أن علياً رضي الله تعالى عنه قال لـعمر رضي الله عنه وهو مسجى: عليك الصلاة والسلام، ومن الناس من أنكر ذلك. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد، إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال الرازي : إن أصحابنا يمنعون من ذكر: صلوات الله عليه، وعليه الصلاة والسلام، إلا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم. والشيعة يذكرونه في علي وأولاده، واحتجوا بأن نص القرآن دل على جوازه فيمن يؤدي الزكاة، فكيف يمنع في حق علي والحسن والحسين عليهم رضوان الله؟! قال: ورأيت بعضهم قال: أليس الرجل إذا قال: سلام عليكم يقال له: وعليكم السلام؟ فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين، فالأولى بذلك آل البيت. انتهى ما نقله الرازي . ثم يعلق القاسمي -رحمه الله تعالى- قائلاً: إن المنع من ذلك -يعني: من الصلاة استقلالاً على غير الأنبياء- أدبي لا شرعي، وباب الآداب أوسع من باب المسائل الشرعية التي تنسب إلى الشرع، فباب الأدب يرجع إلى الكمالات النفسية، وأحياناً يرجع إلى الأعراف، ولا يطالب الإنسان في كل أدب أن يقيم الدليل الشرعي عليه، فباب الآداب يرجع فيه كثيراً إلى الأعراف. ومثاله: إذا أتيت شخصاً وأنكرت عليه مضغ اللبان في الشارع وهو يمشي في الطريق، وكان ذلك مستهجناً في العرف، فلا يصح أن يطالبك بالدليل الشرعي؛ لأن هذه الآداب ترجع إلى أعراف الناس، ونحن ينبغي علينا أن نحترم العرف إلا إذا صادم دليلاً شرعياً. فيقول القاسمي رحمه الله تعالى: إن المنع من ذلك، أدبي لا شرعي؛ لأنه صار في العرف دعاءً خاصاً به صلى الله عليه وسلم، وشعاراً له كالعلم للغلبة، فغيره لا يطلق عليه إلا تبعية له، ويقصد بالعرف هنا عرف العلماء، حيث صار هذا اللفظ لا يطلق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم استقلالاً، وعلى غيره بالتبعية، فهذا من الأعراف ومن الآداب اللفظية. قال الرازي في سر كون صلاته صلى الله عليه وسلم سكناً لهم: إن روح محمد عليه الصلاة والسلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم؛ فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم.

رد الصديق رضي الله عنه على من تأول من بعض العرب هذه الآية: أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه وسلامه؛ لأنه المأمور بالأخذ، وبالصلاة على المتصدقين، فغيره لا يقوم مقامه، وأمر بقتالهم، فاهماً من هذه الآية العموم، وهو أن الزكاة ينبغي أن تؤدى لرسول الله أو من يخلفه بعد موته، فوافقه الصحابة وقاتلوهم، حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يُؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء المتأولون المرتدون، غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سداً لحاجة المعدم، وتفريجاً لكربة الغارم، وتحريراً لرقاب المستعبدين، وتيسيراً لأبناء السبيل، فاستل بذلك ضغائن أهل الفاقة على من فضلوا عليهم في الرزق، حتى لا يحصل حقد طبقي في المجتمع، ويحتد الفقراء على الأغنياء، فأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء، وأفاض الرحمة في نفوس هؤلاء على أولئك البائسين، فالإمام وولي الأمر لا خصوصية لذاته فيها؛ لأن وظيفته أن يجمع هذا المال من الأغنياء ثم يرده إلى الفقراء، فسواء فعل ذلك الرسول عليه السلام في حياته أو نائبه بعد مماته صلى الله عليه وآله وسلم، فالمقصود قد حصل. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وعلى القول الأول -يعني: أنها زكاة الفريضة- فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه، وزوالها بموته، وبهذا تعلق مانعوا الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقالوا: إنه كان يعطينا عوضاً منها: التطهير، والتزكية، والصلاة علينا، وقد عدمناه من غيره، وهل دعاء غير الرسول عليه السلام يكون كدعائه هو؟! فمن ثم نحن لا نعطي هذه الصدقات، ونظم في ذلك شاعرهم فقال: أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجباً ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم كالتمر أو أحلى لديهم من التمر فنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وقال ابن العربي : أما قولهم: إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستحق به غيره، فهو كلام جاهل بالقرآن، غافل عن مآخذ الشريعة، متلاعب بالدين، فإن الخطاب في القرآن لم يرد باباً واحداً، ولكن اختلفت موارده على وجوه -يعني: خطاب القرآن على عدة أنواع، وليس على نوع واحد- فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة، كما في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]. ومنها خطاب خص به، أي: خص به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أبداً أن يباح -في حال- لأي إنسان من المسلمين، كأن تهب امرأة نفسها لرجل فتصير زوجة له، وهذا لا يجوز إلا للنبي عليه السلام بنص القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، يعني: هذا حكم خاص بك، لا يشركك فيه أحد من المؤمنين. ومنها خطاب خص به لفظاً وشركه جميع الأمة معنىً وفعلاً، يعني: إن اللفظ نفسه يخاطب الرسول عليه السلام، لكن من حيث المعنى يشاركه فيه جميع الأمة، كقوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78]، فهنا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنه خطاب له وللأمة معه. كذلك قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، هل هذا خاص بالرسول عليه السلام؟ هذا الخطاب من حيث اللفظ هو للرسول، لكن من حيث المعنى تشاركه الأمة في حكمه. ومنها قوله: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102] إلى آخره، في صلاة الخوف، خطاب له عليه الصلاة والسلام، ولكنه يعم كل من أراد أن يقيم صلاة الخوف، فيقيمها على تلك الصفة المذكورة. ومن هذا القبيل قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فلفظ الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الحكم والمعنى يسري على أمته. وعلى هذا المعنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]، وقوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]. إذاً: هذا هو الرد على استدلال مانعي الزكاة الذين قالوا: نحن لا نبذل الزكاة لغير رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأخذوا بظاهر هذه الآية الكريمة! قوله تبارك وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة): مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا فيه تبيين مقدار المأخوذ منه، وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع، وهذه من مواضع الإجمال في القرآن الكريم، ثم فسرتها السنة، كما هو حال كثير من الأحكام الشرعية: كالطهارة والصلاة والحج وغير ذلك، فهنا أتى الأمر مجملاً ثم فصلته السنة وبينت أنواع الزكاة، ومن الذي تؤخذ منه الزكاة؟ وما مصارف الزكاة؟ وغير ذلك مما هو معلوم.

قوله تعالى: (( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ )) استدل بها على ندب الدعاء للمتصدق، وأن الإمام يستحب له أن يدعو للشخص المتصدق، قال الشافعي رحمه الله تعالى: السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت، وقال آخرون: يقول: (اللهم صلِّ على فلان)، ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه -وكان من أصحاب الشجرة- أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم صلِّ عليهم، فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) متفق عليه. قال ابن كثير : وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت: (يا رسول الله! صل علي وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك)، وبهذين الحديثين رد على من زعم أن المراد بصل عليهم: أي: إذا ماتوا، بل هذا الحديث يدل على أن موضع هذه الصلاة عند بذل الصدقات، ولذلك قال الفقهاء: يسن للإمام إذا أُعطي الصدقات أن يدعو لمن بذلها. ودلت الآية -كالحديثين- على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً، وهذه من المسائل المختلف فيها، فهل يجوز أن يقال في حق غير الأنبياء: فلان صلى الله عليه؟ يؤخذ من الآية: أنه يجوز ذلك، أما إذا جاءت على سبيل التبعية، فلا شيء فيها ولا خلاف، كما تقول: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فهنا صليت على الآل وعلى الصحب وعلى التابعين بإحسان، لكن ليس استقلالاً، بل على سبيل التبعية، تبعاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. لكن السؤال: هل يجوز استقلالاً أن تقول: اللهم صلِّ على فلان وهو من غير الأنبياء؟ قال الرازي : روى الكعبي في تفسيره أن علياً رضي الله تعالى عنه قال لـعمر رضي الله عنه وهو مسجى: عليك الصلاة والسلام، ومن الناس من أنكر ذلك. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد، إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال الرازي : إن أصحابنا يمنعون من ذكر: صلوات الله عليه، وعليه الصلاة والسلام، إلا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم. والشيعة يذكرونه في علي وأولاده، واحتجوا بأن نص القرآن دل على جوازه فيمن يؤدي الزكاة، فكيف يمنع في حق علي والحسن والحسين عليهم رضوان الله؟! قال: ورأيت بعضهم قال: أليس الرجل إذا قال: سلام عليكم يقال له: وعليكم السلام؟ فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين، فالأولى بذلك آل البيت. انتهى ما نقله الرازي . ثم يعلق القاسمي -رحمه الله تعالى- قائلاً: إن المنع من ذلك -يعني: من الصلاة استقلالاً على غير الأنبياء- أدبي لا شرعي، وباب الآداب أوسع من باب المسائل الشرعية التي تنسب إلى الشرع، فباب الأدب يرجع إلى الكمالات النفسية، وأحياناً يرجع إلى الأعراف، ولا يطالب الإنسان في كل أدب أن يقيم الدليل الشرعي عليه، فباب الآداب يرجع فيه كثيراً إلى الأعراف. ومثاله: إذا أتيت شخصاً وأنكرت عليه مضغ اللبان في الشارع وهو يمشي في الطريق، وكان ذلك مستهجناً في العرف، فلا يصح أن يطالبك بالدليل الشرعي؛ لأن هذه الآداب ترجع إلى أعراف الناس، ونحن ينبغي علينا أن نحترم العرف إلا إذا صادم دليلاً شرعياً. فيقول القاسمي رحمه الله تعالى: إن المنع من ذلك، أدبي لا شرعي؛ لأنه صار في العرف دعاءً خاصاً به صلى الله عليه وسلم، وشعاراً له كالعلم للغلبة، فغيره لا يطلق عليه إلا تبعية له، ويقصد بالعرف هنا عرف العلماء، حيث صار هذا اللفظ لا يطلق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم استقلالاً، وعلى غيره بالتبعية، فهذا من الأعراف ومن الآداب اللفظية. قال الرازي في سر كون صلاته صلى الله عليه وسلم سكناً لهم: إن روح محمد عليه الصلاة والسلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم؛ فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع