خطب ومحاضرات
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [8]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك الغلو في بعض المشايخ، إما في الشيخ عدي ويونس القني أو الحلاج وغيرهم ].
يونس القني هو يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي الجزري القني الزاهد .
قال الذهبي في السير: أحد الأعلام، شيخ اليونسية أولي الزعارة والشطح.
والقني نسبه إلى قرية القنية، والقنية قرية من أعمال دارا من نواحي ماردين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونحوه بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه.
فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل علي رضي الله عنه أو عدي أو نحوه، أو فيمن يُعتقد فيه الصلاح كـالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القني ونحوهم وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله مثل أن يقول: يا سيدي فلان! اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهاً آخر ].
هذا الفصل الثاني بين فيه المؤلف رحمه الله حكم الغلو في الأحياء والأموات، فقال: وكذلك الغلو في بعض المشايخ فمن غلا في بعض المشايخ وجعل فيه نوعاً من الإلهية فإنه مشرك كافر مرتد، والعياذ بالله.
وسواء كان هذا الغلو في بعض العلماء كالشيخ عدي بن مسافر الذي وجه المؤلف له هذه الرسالة، أو يونس القني، أو الحلاج الذي قتل، أو الغلو في علي رضي الله عنه، أو الغلو في المسيح عيسى ابن مريم، أو غيرهم؛ فكل من غلا في حي، أو ميت، أو في رجل صالح كمثل علي، أو عدي، أو فيمن اعتقدوا فيه الصلاح كـالحلاج ، أو الذي كان بمصر هو الحاكم بن عبيد أو يونس القني وجعل فيه نوعاً من الإلهية فإنه يكون كافراً مرتداً، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً؛ لأن هذا مصادم لدين الله، ومصادم للتوحيد الذي بعث الله به رسله.
ومن الصور التي يجعل فيها للصالح نوع من الإلهية أن يدعوه من دون الله فيطلب منه الرزق، أو يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، فإنه بهذا اعتقد أنه هو الذي يرزق، قال الله تعالى عن إبراهيم: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:16-17].
فمن اعتقد في شخص أنه هو الذي يرزق ويقول: كل رزق لا يرزقنيه شيخ الصوفية فلان أو شيخ الطريقة فلان ما أريده فهذا يكون كافراً، وهذا من الغلو، فيكون مشركاً، فهو يعتقد أن فلاناً يرزق، وهذا نوع من الإلهية، وهو شرك يستتاب منه فإن تاب وإلا قتل، وهكذا إذا ذبح شاة وقال: باسم سيدي فلان، فهذا أشرك بالله لأنه ذكر عليها اسم السيد، قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121]، أو يعبده من دون الله ويسجد له، فإنه يكفر بسجوده؛ لأن السجود عبادة.
أو يدعوه من دون الله فيقول: يا سيدي فلان فرج كربتي، أو يا سيدي فلان اغفر لي، أو يا سيدي فلان ارحمني، أو يا سيدي فلان استرني أو يا سيدي فلان ارزقني، أو يا سيدي فلان أغثني، أو يا سيدي فلان أجرني، أو يقول: توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله.
فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل؛ لأن هذا مصادم للأمر الذي خلق الله الخلق من أجله، وبعث لأجله الرسل، وأنزل لأجله الكتب؛ ولهذا قال المؤلف: فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل معه إلهاً آخر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ويغوث ويعوق ونسر أو وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو أنها تنزل المطر أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء أو يعبدون قبورهم ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله.
فأرسل الله رسله تنهى أن يُدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57].
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلي كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ].
بين المؤلف رحمه الله أن الذين يدعون مع الله آلهة أخرى إنما شركهم بدعاء غير الله أو النذر لغير الله، وليس شركهم في اعتقادهم أنهم يخلقون أو يرزقون، فالذين يعبدون مع الله آلهة أخرى لا يعتقدون أنهم يخلقون أو يرزقون أو يحيون أو يميتون، بل يقولون: هذا من خصائص الله، لكن شركهم هو في صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله، فيخصونهم بالدعاء أو الذبح أو النذر أو الطواف.
فبعض الناس إذا قلت له: إذا دعوت غير الله فهو شرك، قال: أنا ما أعتقد أنه يخلق ويرزق، أنا أقول: إن الله هو الذي يخلق ويرزق وهذا لا يخلق ولا يرزق وليس بيده شيء من الأمر، لكن أدعوه حتى ينقل حوائجي إلى الله ويقربني إلى الله؛ لأنه وجيه، وهو واسطة بيني وبين الله.
فنقول: هذا هو الشرك بعينه، فهذا هو شرك المشركين، كما قال عز وجل: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]،وقال عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فلا يشترط أن تعتقد أنه يخلق ويرزق، بل نقول: لو اعتقدت أنه يخلق ويرزق لكان شركاً في الربوبية أعظم من الشرك في الألوهية، فكونك تدعوه أو تذبح له أو تنذر له هذا شرك في العبادة.
ولهذا قال المؤلف: والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل: الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ويغوث ويعوق ونسراً وغير ذلك من المعبودات التي كان يعبدها المشركون لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات.
وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء أو يعبدون قبورهم ويقولون: إنما نعبدهم لقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
إذاً: فهم يعبدونهم لا لأنهم يعتقدون أنهم يخلقون أو يرزقون أو يحيون أو يميتون، بل يعبدونهم لأجل القربة والشفاعة فقط.
فيقولون: هم أقرب منا إلى الله ينقلون حوائجنا إلى الله، ويشفعون لنا عند الله، فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، ودعاء العبادة: كأن يركع له أو يسجد له، ودعاء الاستغاثة: كأن يستغيث به ويستنجد به ويسأله، فهذا وهذا كلاهما نوع من الشرك.
قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57].
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح -يعني: عيسى- وعزيراً والملائكة، فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلي كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، ثم بين الله تعالى أنهم لا يملكون كشف الضر، يعني: إزالة الضر، ولا تحويله: أي نقله من حال إلى حال، فكيف يعبدون من دون الله؟! قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57] يعني: كما قال بعض السلف: هؤلاء الذين تدعونهم هم محتاجون إلي يتقربون إلي كما تتقربون إلي، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
إذاً: إذا كانوا محتاجين فلا يصلحون آلهة، فالإله الكامل لا يحتاج إلى أحد، وهؤلاء الذين تعبدونهم يحتاجونني ويدعونني كما تدعونني، ويخافونني كما تخافونني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23].
فأخبر سبحانه أن ما يدعى من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك، ولا شرك في الملك، وأنه ليس له من الخلق عون يستعين به، وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه ].
هذه الآية يقول العلماء: قطعت عروق الشرك؛ فإن الله سبحانه وتعالى بين فيها أن العابد إنما يعبد معبوداً لما يرجوه من النفع، فلا يعبده إلا ليرجو حصول النفع، والنفع لا يحصل من أحد إلا بأمور أربعة:
الأمر الأول: أن يكون المرجو مالكاً للشيء الذي يريده عابده حتى يعطيه.
الأمر الثاني: إن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك.
الأمر الثالث: إن لم يكن شريكاً للمالك كان معيناً ومساعداً وظهيراً.
الأمر الرابع: إن لم يكن معيناً ولا مساعداً صار شفيعاً.
وقد نفى الله هذه الأمور الأربعة واحداً بعد واحد مرتباً لها منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى.
وتبين بذلك أن المعبودين من دون الله لا يستطيعون نفع معبوديهم بأي نوع من أنواع النفع، فقال سبحانه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ:22] قل لهم يا محمد: ادعوا الذين زعمتم أنكم تدعونهم: لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22] نفى عنهم الملك، فلا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض على سعتهما وكبرهما وعظم أجسامهما، فكيف تعبدونهم وما عندهم شيء؟! ثم قال سبحانه: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سبأ:22] فنفى عنهم الشركة، وقال: لا يملكون شيئاً، وليس لهم شركة في أي شيء، ثم قال سبحانه: وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] يعني: ليس لله مساعد ومعين منهم، فهذا الأمر الثالث.
ثم جاء الأمر الرابع: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23]، فقطعت هذه الآية عروق الشرك التي يتعلق بها المشركون، فإن الله بين أنهم لا يملكون، وليس لهم شركة في الملك، وليسوا معينين ولا مساعدين لله وليس لهم الشفاعة إلا بإذن الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26] ].
أي: من يفعل الشفاعة لابد له من شرطين: إذن الله للشافع، وأن يرضى الله عن المشفوع له، فالشرط الأول دليله قوله: أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ [النجم:26]، والثاني قوله: وَيَرْضَى [النجم:26].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر:43-44] ].
بين سبحانه وتعالى أنهم لا يملكون شيئاً فكيف تعبدونهم من دون الله؟ وبين أن الشفاعة له سبحانه فقال: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [يونس:18] الآية ].
يبين سبحانه وتعالى حال المشركين وأنهم إنما يعبدون المعبودات وهي لا تضر ولا تنفع، لكن يقولون: إنها تشفع لنا عند الله، فقال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [يونس:18]، فإذا قيل لهم: لم تعبدونها؟ قالوا: هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فرد الله عليهم بقوله: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [يونس:18] أي: هل تنبئون الله بشيء لا يعلمه وهو سبحانه لا يعلم أن له شريكاً في ملكه؛ ولهذا قال: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [يونس:18].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] ].
بين المؤلف رحمه الله أن عبادة الله وحده هي أصل الدين، فأصل الدين وأساس الملة هو التوحيد، وهو عبادة الله وحده دونما سواه، فمن عبد الله وعبد غيره معه فقد أشرك، ولا يكون موحداً حتى يعبد الله وحده ويخصه بالعبادة ويتبرأ من عبادة كل معبود سواه.
وهذا هو الكفر بالطاغوت، وهو اعتقاد بطلان عبادة كل معبود سوى الله ونفيها وإنكارها والبراءة منها ومن أهلها وبغضها ومعاداتها، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، فالرسل كلهم أرسلهم الله بالتوحيد، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
فقوله: (أن اعبدوا الله) هذا هو الإيمان بالله، (واجتنبوا الطاغوت) هذا هو الكفر بالطاغوت، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، فكل الرسل بعثوا بالتوحيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، وقال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد)، ونهى عن الحلف بغير الله فقال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) ].
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويخلصه، وتحقيق التوحيد: تبسيطه وتصفيته وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والمخالفات، فهذا تحقق التوحيد، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، كما بوب الإمام العلامة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد فقال: باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
فمن حقق التوحيد وخلصه وصفاه دخل الجنة بغير حساب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويصفيه ويخلصه مما علق به من شوائب الشرك، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: (أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئت) فهذا من تحقيق التوحيد، فلما قال الرجل: ما شاء وشئت أنكر عليه وقال: (أجعلتني لله نداً؟!) يعني: مثيلاً، والند هو النظير، وقال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد).
فإن قيل: ما الفرق بينهما؟
فالجواب: أن الأولى تشريك بالواو، بمعنى جعل مشيئة الرسول معطوفة على مشيئة الله، والواو تقتضي التشريك والجمع، فهي ممنوعة، لكن (ثم) جائزة، فلك أن تقول: ما شاء الله ثم شاء محمد؛ لأن (ثم) للترتيب والتراخي، فلا تأتي مشيئة العبد إلا بعد مشيئة الله، فجازت (ثم) وامتنعت الواو.
والواو لا تفيد الترتيب ولا التراخي وإنما تفيد التشريك، وأكمل من ذلك أن يقول المرء: ما شاء الله وحده، فالأحوال ثلاثة: ما شاء الله وشئت، وهذا شرك، وما شاء الله ثم شئت، وهذا جائز، وما شاء الله وحده، وهذا الكمال والأفضل.
النهي عن الحلف بغير الله
والإطراء هو: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطروه وأن يجاوزوا الحد في مدحه كما فعلت النصارى؛ فإنهم أطروا عيسى ومدحوه حتى رفعوه من مقام العبودية إلى مقام الربوبية والألوهية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك وقال: (لا يصلح السجود إلا لله)، وقال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، وقال لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ قال: لا، قال: فلا تسجد لي) ].
قول المؤلف: ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها، فلا يقول: والكعبة؛ لأنه شرك، ولا يقول: والأمانة، أو وأبيك، أو ولحيتك وشرفك؛ لأن هذا شرك، ولكن يقول: ورب الكعبة، أما أن يحلف بالكعبة فهذا شرك؛ لأن الكعبة مخلوقة.
النهي عن السجود لأحد غير الله
وقال: (لو كنت آمراً أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، يعني: من عظم حقه عليها.
وقال لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ قال: لا، قال: فلا تسجد لي)، وكل هذا من تحقيقه التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك، وحديث معاذ هذا أخرجه ابن ماجة وعبد الرزاق وابن حبان .
عن أيوب عن القاسم الشيباني عن عبد الله بن أوفى قال: (لما قدم
النهي عن اتخاذ القبور مساجد
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني).
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول: الصلاة عندها باطلة ].
من تحقيق النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد أنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وكل شيء صلى فيه الإنسان فقد اتخذه مسجداً، فلا يجوز الصلاة في المقابر؛ لأن الصلاة في المقابر من اتخاذها مساجد، فقال في مرض موته عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر مما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً، فالنبي نهى عن اتخاذ القبور مساجد، والصلاة عندها من اتخاذها مساجد، فمن صلى عند القبور فقد اتخذها مساجد شاء أم أبى، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود لأنهم اتخذوا القبور مساجد، فدل على أن اتخاذها مساجد من الكبائر، ومن وسائل الشرك العظيمة.
حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته اهتم بذلك، وكان قبل أن يموت بخمس ليالٍ وهو في شدة المرض يطرح على وجهه خميصة فإذا اغتم كشفها، ثم يعيدها، فقال في هذه الحالة قبل أن يموت بخمس ليال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
قال الراوي: يحذر مما صنعوا، يعني: لا تفعلوا كفعلهم، فإن الله لعنهم على هذا الفعل، ومن فعل فعلهم أصابه ما أصابهم، قالت عائشة : (ولولا ذلك لأبرز قبر النبي صلى الله عليه وسلم)، وإنما دفن في بيته خشية أن يتخذ مسجداً.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً).
يعني: لا تجعلوا بيتي كالعيد، وفي لفظ: (قبري عيداً)، والنبي صلى الله عليه وسلم مدفون في بيته، وقوله: (لا تتخذوه عيداً) يعني: لا تكرروا المجيء إليه كما يتكرر العيد، فالذي يكرر المجيء والزيارة في أوقات محددة يكون قد جعله كالعيد.
وقوله: (ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً) يعني: لا تعطلوها من الصلاة والقراءة فتصبح كالقبور، فصلوا في بيوتكم.
وقوله: (وصلوا علي حيثما كنتم) يعني: في أي مكان من أرض الله، فإن صلاتكم تبلغني، أي: تبلغه الملائكة؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، فإن بناء المساجد على القبور من وسائل الشرك، وهو حرام، ولا تشرع الصلاة عند القبور، فالكثير من العلماء يقول: الصلاة عندها باطلة، فإذا صلى الإنسان عند القبر تكون صلاته باطلة، ولا تصح الصلاة بمسجد فيه قبر.
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله فقال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وهذا من كمال التوحيد.
والإطراء هو: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطروه وأن يجاوزوا الحد في مدحه كما فعلت النصارى؛ فإنهم أطروا عيسى ومدحوه حتى رفعوه من مقام العبودية إلى مقام الربوبية والألوهية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك وقال: (لا يصلح السجود إلا لله)، وقال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، وقال لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ قال: لا، قال: فلا تسجد لي) ].
قول المؤلف: ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها، فلا يقول: والكعبة؛ لأنه شرك، ولا يقول: والأمانة، أو وأبيك، أو ولحيتك وشرفك؛ لأن هذا شرك، ولكن يقول: ورب الكعبة، أما أن يحلف بالكعبة فهذا شرك؛ لأن الكعبة مخلوقة.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك فقال: (لا يصلح السجود إلا لله)؛ لأن السجود عبادة، وأما سجود إخوة يوسف وأبويه له فهذا سجود تحية وإكرام، وهو جائز في شريعتهم، وأما في شريعتنا فلا يجوز.
وقال: (لو كنت آمراً أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، يعني: من عظم حقه عليها.
وقال لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ قال: لا، قال: فلا تسجد لي)، وكل هذا من تحقيقه التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك، وحديث معاذ هذا أخرجه ابن ماجة وعبد الرزاق وابن حبان .
عن أيوب عن القاسم الشيباني عن عبد الله بن أوفى قال: (لما قدم
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [13] | 2049 استماع |
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [11] | 1984 استماع |
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [10] | 1716 استماع |
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [5] | 1656 استماع |
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [3] | 1581 استماع |
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [4] | 1577 استماع |
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [2] | 1565 استماع |
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [1] | 1522 استماع |
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [12] | 1434 استماع |
شرح الوصية الكبرى لابن تيمية [6] | 1171 استماع |