خطب ومحاضرات
شرح الورقات في أصول الفقه [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
هذا شرح ورقات إمام الحرمين في أصول الفقه، وهو تأليف صغير مختصر للتعريفات المبدئية في أصول الفقه، وضعه إمام الشافعية: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني نسبة إلى جوينة من نيسابور، وقد ولد رحمه الله سنة (419هـ)، وتوفي سنة (478هـ)، وكان من مشاهير المتكلمين، والفقهاء الأصوليين، وقد ألف هذه الورقات لتكون مبدأً لطلاب العلم يعرفون به بعض مصطلحات أصول الفقه.
الكتاب والسنة يبحث فيهما من جهتين
أصول الفقه علم من أهم العلوم الشرعية؛ لأنه علم يتوصل به إلى فهم الكتاب والسنة وأخذ الأحكام منهما؛ وذلك أن الكتاب والسنة يبحث فيهما من جهتين:
جهة الورود، وجهة الدلالة:
أما جهة الورود فهي النقل، بمعنى: التحقق من ثبوت نسبة القرآن إلى الله، والتحقق من ثبوت الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بالرواية والإسناد.
وأما جهة الدلالة، فمعناها: ما يراد بهذا الكلام، أي: ما يريده الله من عباده بهذا اللفظ، وما يريده النبي صلى الله عليه وسلم من أمته بهذا اللفظ، وهاتان الجهتان لم يحتج الصحابة رضوان الله عليهم إلى بحثهما، أما جهة الورود فلسماعهم من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم مباشرة، وأما جهة الدلالة فلأنهم أهل اللسان العربي على وجه السليقة، وكذلك لم تشتد حاجة التابعين إلى البحث فيهما.
أما جهة الورود فلسماعهم من الصحابة المعدلين بتعديل الله تعالى لهم؛ لأن الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100] ، ويقول: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[التوبة:96] ، فنفى عنهم الفسق بحلول الرضوان عليهم، وإذا انتفى عنهم الفسق وجب لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، ولم يحتج التابعون كذلك إلى البحث كثيراً في جهة الدلالة؛ لأنهم ما زالوا أهل اللسان العربي على وجه السليقة، ولم تختلط الحضارة العربية بعد بالحضارات الأخرى اختلاطاً مؤثراً، لكن حين جاء أتباع التابعين احتاجوا إلى البحث في الجهتين: أما جهة الورود فلأنهم لم يلقوا النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولم يلقوا الصحابة المعدلين بتعديل الله، وإنما لقوا التابعين وفيهم العدول وغير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في جهة الورود، واحتاجوا كذلك إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن الحضارة العربية قد اختلطت بغيرها من حضارات أهل الأرض، وتغيرت الأوضاع عما كانت عليه، فانتقلت المدنية التي كانت في الحضارات الأخرى إلى جزيرة العرب، وانتقلت العرب أيضاً عن جزيرتهم، وتغيرت لغتهم، وداخلها كثير من المجاز ومن اللغات الأخرى، فاحتيج -إذاً- إلى البحث في الدلالة.
ومن هنالك جاءت نشأة المذاهب، فليس للصحابة مذاهب ولا للتابعين مذاهب، وإنما بدأت المذاهب مع أتباع التابعين؛ للحاجة إلى البحث في هاتين الجهتين.
وعلم أصول الفقه: هو علم اقتصاد الشريعة، فعلم الاقتصاد في علوم الدنيا: هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحصورة من الموارد المحصورة، وعلم أصول الفقه: هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية النوازل والوقائع غير المحصورة من النصوص المحصورة، فآيات القرآن الكريم بالعد الكوفي: (6214) آية، وبالعد المدني: (6234) آية.
وآيات الأحكام منها خمسمائة آية، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي وصلت إلينا بالنقل لا تتجاوز ثلاثمائة ألف حديث، وأحاديث الأحكام منها لا تتجاوز أحد عشر ألف حديث، ومواقع الإجماع محصورة قليلة، ومع هذا فالنوازل والوقائع لا حصر لها، فكل يوم يتجدد منها الكثير، ولله تعالى حكم في كل مسألة، وإنما يؤخذ ذلك بالاجتهاد على طرق الاستدلال المعروفة والفهم، وإنما يتم ذلك بأصول الفقه، فلما كان هذا العلم بهذه المثابة؛ احتيج إلى وضع مؤلفات فيه تبين مصطلحات أصحابه، وتبين مرادهم بكثير من الأمور التي تخفى على من سواهم، وأول من جمع كتاباً مستقلاً في هذا العلم هو محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي رحمه الله، وقد ولد سنة (150هـ) وتوفي سنة (204هـ)، وقد ألف فيه رسالته المشهورة، ثم بعده تتابع الناس على التأليف على هذا العلم.
مدرستا العلماء في أصول الفقه
وقد اشتهر فيه مدرستان: إحداهما تسمى بمدرسة الفقهاء، وهي التي أخذ بها فقهاء الحنفية، وتنطلق من الفتاوي والمسائل التي تروى عن الأئمة، فيجمعون منها حشداً كبيراً فيجعلون منه قاعدة.
والمدرسة الثانية: هي التي اشتهرت بمدرسة المتكلمين، وعليها سار فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة، وهي تنطلق من أصل القاعدة، فتمثل لها ببعض الفروع، ولا تذكر من الفروع إلا ما كان مثالاً للقاعدة فقط، وهذه الطريقة هي التي كثرت التآليف عليها، وقد حاول بعض المتأخرين الجمع بين الطريقتين فألفوا بعض الكتب التي تجمع بين طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية، وكثرت التآليف في أصول الفقه ما بين مطول ومختصر، ونظم ونثر، وهذه الورقات قد وضع الله لها القبول، فلاقت شهرة ورواجاً منذ عصر المؤلف إلى وقتنا هذا، ولم يزل الناس يشرحونها وينظمونها ويدرسونها ويحفظونها لأولادهم الصغار.
أصول الفقه علم من أهم العلوم الشرعية؛ لأنه علم يتوصل به إلى فهم الكتاب والسنة وأخذ الأحكام منهما؛ وذلك أن الكتاب والسنة يبحث فيهما من جهتين:
جهة الورود، وجهة الدلالة:
أما جهة الورود فهي النقل، بمعنى: التحقق من ثبوت نسبة القرآن إلى الله، والتحقق من ثبوت الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بالرواية والإسناد.
وأما جهة الدلالة، فمعناها: ما يراد بهذا الكلام، أي: ما يريده الله من عباده بهذا اللفظ، وما يريده النبي صلى الله عليه وسلم من أمته بهذا اللفظ، وهاتان الجهتان لم يحتج الصحابة رضوان الله عليهم إلى بحثهما، أما جهة الورود فلسماعهم من النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم مباشرة، وأما جهة الدلالة فلأنهم أهل اللسان العربي على وجه السليقة، وكذلك لم تشتد حاجة التابعين إلى البحث فيهما.
أما جهة الورود فلسماعهم من الصحابة المعدلين بتعديل الله تعالى لهم؛ لأن الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100] ، ويقول: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[التوبة:96] ، فنفى عنهم الفسق بحلول الرضوان عليهم، وإذا انتفى عنهم الفسق وجب لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، ولم يحتج التابعون كذلك إلى البحث كثيراً في جهة الدلالة؛ لأنهم ما زالوا أهل اللسان العربي على وجه السليقة، ولم تختلط الحضارة العربية بعد بالحضارات الأخرى اختلاطاً مؤثراً، لكن حين جاء أتباع التابعين احتاجوا إلى البحث في الجهتين: أما جهة الورود فلأنهم لم يلقوا النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولم يلقوا الصحابة المعدلين بتعديل الله، وإنما لقوا التابعين وفيهم العدول وغير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في جهة الورود، واحتاجوا كذلك إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأن الحضارة العربية قد اختلطت بغيرها من حضارات أهل الأرض، وتغيرت الأوضاع عما كانت عليه، فانتقلت المدنية التي كانت في الحضارات الأخرى إلى جزيرة العرب، وانتقلت العرب أيضاً عن جزيرتهم، وتغيرت لغتهم، وداخلها كثير من المجاز ومن اللغات الأخرى، فاحتيج -إذاً- إلى البحث في الدلالة.
ومن هنالك جاءت نشأة المذاهب، فليس للصحابة مذاهب ولا للتابعين مذاهب، وإنما بدأت المذاهب مع أتباع التابعين؛ للحاجة إلى البحث في هاتين الجهتين.
وعلم أصول الفقه: هو علم اقتصاد الشريعة، فعلم الاقتصاد في علوم الدنيا: هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحصورة من الموارد المحصورة، وعلم أصول الفقه: هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية النوازل والوقائع غير المحصورة من النصوص المحصورة، فآيات القرآن الكريم بالعد الكوفي: (6214) آية، وبالعد المدني: (6234) آية.
وآيات الأحكام منها خمسمائة آية، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي وصلت إلينا بالنقل لا تتجاوز ثلاثمائة ألف حديث، وأحاديث الأحكام منها لا تتجاوز أحد عشر ألف حديث، ومواقع الإجماع محصورة قليلة، ومع هذا فالنوازل والوقائع لا حصر لها، فكل يوم يتجدد منها الكثير، ولله تعالى حكم في كل مسألة، وإنما يؤخذ ذلك بالاجتهاد على طرق الاستدلال المعروفة والفهم، وإنما يتم ذلك بأصول الفقه، فلما كان هذا العلم بهذه المثابة؛ احتيج إلى وضع مؤلفات فيه تبين مصطلحات أصحابه، وتبين مرادهم بكثير من الأمور التي تخفى على من سواهم، وأول من جمع كتاباً مستقلاً في هذا العلم هو محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي رحمه الله، وقد ولد سنة (150هـ) وتوفي سنة (204هـ)، وقد ألف فيه رسالته المشهورة، ثم بعده تتابع الناس على التأليف على هذا العلم.
وقد اشتهر فيه مدرستان: إحداهما تسمى بمدرسة الفقهاء، وهي التي أخذ بها فقهاء الحنفية، وتنطلق من الفتاوي والمسائل التي تروى عن الأئمة، فيجمعون منها حشداً كبيراً فيجعلون منه قاعدة.
والمدرسة الثانية: هي التي اشتهرت بمدرسة المتكلمين، وعليها سار فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة، وهي تنطلق من أصل القاعدة، فتمثل لها ببعض الفروع، ولا تذكر من الفروع إلا ما كان مثالاً للقاعدة فقط، وهذه الطريقة هي التي كثرت التآليف عليها، وقد حاول بعض المتأخرين الجمع بين الطريقتين فألفوا بعض الكتب التي تجمع بين طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية، وكثرت التآليف في أصول الفقه ما بين مطول ومختصر، ونظم ونثر، وهذه الورقات قد وضع الله لها القبول، فلاقت شهرة ورواجاً منذ عصر المؤلف إلى وقتنا هذا، ولم يزل الناس يشرحونها وينظمونها ويدرسونها ويحفظونها لأولادهم الصغار.
بدأ المؤلف رحمه الله بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم)
وذلك اقتداء بالقرآن الكريم، فإن الله افتتحه بالبسملة، وبعدها بحمد الله عز وجل، وشرح البسملة يطول الكلام فيه، وقد تعرضنا له في شرح بعض الكتب الماضية.
والمقصود هنا: أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم.
أو: أؤلف بسم الله الرحمن الرحيم، أي: مستعيناً باسم الله الرحمن الرحيم.
قال رحمه الله: [هذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه، وذلك مؤلف من جزئين مفردين، أحدهما: الأصول والثاني الفقه].
بهذه المقدمة افتتح كتابه للتعريف أولاً بالكتاب، فقال: (هذه ورقات)، والورقات: جمع ورقة، وذلك للقلة، أي: أنها أوراق قليلة ولا يقصد بها التطويل والتكثير، وهي مع ذلك تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه.
فصول: الفصل ما اختص من العلم بما يجمعه، وغالباً ما تسمى الفصول لما يجتمع من مسائل العلم تحت باب واحد، فيفرق بحسب ما يجمعه إلى فصول، ولا يقصد بتلك الفصول المعروفة في الاصطلاح بهذا، وإنما يقصد بها مسائل من أصول الفقه، يهتم فيها أساساً بتعريف المقدمات الكبرى والاصطلاحات.
وقوله: (على معرفة)، أي: على تعريف فصول من أصول الفقه، ثم بدأ ذلك بتعريف أصول الفقه، وقال (وذلك) أي: أصول الفقه (مؤلف من جزئين) أي: هذا الاسم مؤلف من جزئين، والمقصود بالجزئين هنا: الكلمتان اللتان ألف منهما المركب الإضافي، وهو أصول الفقه.
(من جزئين مفردين أحدهما الأصول) أي: أحد هذين الجزئين أصول، (والثاني الفقه)، فهاتان الكلمتان منهما تألف اسم هذا العلم، فلهما تعريفان: تعريف بالمعنى الإضافي، وتعريف بالمعنى التركيبي، أما تعريفهما بالمعنى الإضافي فالمقصود به: تعريف الأصول بغض النظر عن إضافتها إلى الفقه، وتعريف الفقه بغض النظر عن إضافة الأصول إليه، ثم بعد ذلك التعريف يأتي التعريف بالمعنى اللقبي: وهو ما يدل عليه هذا الاسم.
تعريف أصول الفقه لفظاً ولقباً
فبدأ بتعريف هذين الجزئين، ومعنى قوله (مفردين): أي: ليس واحد منهما مركباً، ولا يقصد الإفراد الذي يقابل التثنية والجمع، بل يقصد هنا أن كل واحد من هذين الجزئين غير مركب، فليس فيهما تركيب إضافي.
قال رحمه الله: [فالأصل ما يبنى عليه غيره]: بدأ بالجزء الأول وهو الأصول، فذكر أن الأصول: جمع أصل، وعرف الأصل فقال: هو ما يبنى عليه غيره، وهذا في الاصطلاح، والأصل في اللغة: هو ما يبنى عليه غيره من أساس الدار، وعلى ما ينبت عليه غيره كأصل الشجر.
قال رحمه الله: [والفرع ما يبنى على غيره] ذكر هنا مقابل الأصل وهو الفرع، وتعريفه في الاصطلاح: هو ما يبنى على غيره.
ثم عرف الفقه، فقال: [الفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد].
الفقه: مصدر فقه إذا فهم، وهو في اللغة الفهم، ومنه قوله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ[هود:91] أي: ما نفهم كثيراً مما تقول.
وفي الاصطلاح: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، وتعريفه هنا بالمعرفة: يقصد به الذي يقوم بنفس الفقيه، أي: الصفة التي تقوم بنفس الفقيه ليكون بها فقيهاً، وإذا أردنا تعريفه كعلم من العلوم قلنا: العلم المتعلق بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، فنجعله قسماً من أقسام العلوم يتعلق بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
والأحكام: جمع حكم، وهو في اللغة: الإتقان، فيقال: أحكم الشيء. أي: إحكاماً وحكماً إذا أتقنه، ومنه قوله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ[هود:1] .
ويطلق كذلك على الإمساك، فيقال: أحكم السفيه، إذا أمسكه عن سفهه ورده عنه، ومنه قول جرير :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
أبني حنيفة إنني إن أهجكم أدع اليمامة لا تواري أرنبا
وهو في الاصطلاح: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.
إثبات أمر لأمر: كـ(قام زيد ومات زيد)، و(هذا واجب وهذا حرام).
أو نفيه عنه: كـ(لم يقم زيد ولم يمت زيد)، و(ليس هذا بواجب وليس هذا بحرام)، فكل ذلك يسمى حكماً، وهو ينقسم باعتبار أصله إلى ثلاثة أقسام: إلى حكم شرعي، وحكم عقلي، وحكم عادي، فالذي يثبت أمراً لأمر أو ينفي أمراً عن أمر لا يخلو أن يكون شرعاً. أي: وحياً منزلاً من عند الله عز وجل، وما صدر عنه يسمى بالأحكام الشرعية.
والشرع: معناه: البيان والإظهار، ويطلق أيضاً على الشرب، فيقال: شرع الأمر إذا بينه، ومنه شراع السفينة؛ لوضوحه وإظهاره، ويقال: شرعت الدابة إذا دخلت في الماء لتشرب منه، وتطلق الشريعة على الماء كماء الغدير أو البركة التي يشرب منه.
وهو في الاصطلاح: ما أظهره الله من الأحكام لعباده وهيئه؛ لأن يكون معيناً تشرب منه المقاصد والتفصيلات.
قال رحمه الله: [والحكم الشرعي: هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف به]
(خطاب الله) أي: هذا الذي يؤخذ منه الحكم الشرعي وهو الوحي.
(خطاب الله)، أي: كلامه الموجه إلى عباده سواء أنزل بلفظه ومعناه كالقرآن والحديث القدسي، أو أنزل بمعناه فعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه، وهو السنة النبوية، أو جاء دليله مجملاً وكلف المكلف بالاجتهاد في استنباطه واستخراجه، فاستخرجه العلماء، سواءً أجمعوا عليه فكان إجماعاً قطعياً، أو لم يجمعوا عليه فكان اجتهاداً قابلاً للقبول والرد.
(خطاب الله المتعلق بفعل المكلف) فخرج بذلك خطاب الله المتعلق بذات الله، كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة:255] فهذا في ذات الله وصفاته، وخرج كذلك خطاب الله المتعلق بذات المخلوق، كقوله تعالى: خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96] خلقكم: هذا خطاب الله المتعلق بذات المخلوق.
(من حيث إنه مكلف به) خرج بها خطاب الله المتعلق بفعل المكلف لا من حيث إنه مكلف به، بل من حيث هو مخلوق لله، كقوله: خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96]. (وما تعملون) هنا: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف لا من حيث إنه مكلف به، بل من حيث هو مخلوق لله عز وجل.
والقسم الثاني: هو الحكم العقلي: وهو قضية، أي: أمر قابل للصدق والكذب لا يتوقف على شرع ولا على تجربة، إنما تؤخذ بالعقل المجرد، وعقول المكلفين متفاوتة، ودرجاتها متباينة، ولكن ما اتفق عليه من الإثبات والنفي هو حكم العقل، سواء كان ضرورياً أي: لا يحتاج في استنباطه إلى التأمل، أو كان نظرياً. أي: يحتاج في استنباطه إلى تأمل.
والقسم الثالث: الحكم التجريبي العادي، وهو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بواسطة التكرر مع صحة التخلف، كما يحصل في إثبات أن عقاراً من العقاقير دواء لمرض محدد، فلم ينزل بذلك وحي ولا يقتضيه عقل، وإنما عرف من خلال التجربة والتكرار، فتكرر تجريبه على المصابين بهذا المرض، فلوحظ تأثيره فيهم جميعاً، فجعل علاجاً لذلك المرض، فهذا النوع هو الحكم العادي، ويمكن تخلفه بأن يستعمل مريض هذا الدواء فلا يستفيد منه شيئاً، ويستعمله آخر -مريض بنفس المرض- فيستفيد منه؛ وذلك بقدر الله سبحانه وتعالى، ومثل هذا: الإحراق في النار، فإن الأصل أن النار تحرق الأشياء القابلة للاحتراق إذا لامستها، بحصول الشروط كالملامسة وانتفاء الموانع، كانتفاء الحائل، وأن يكون الشيء قابلاً للاحتراق، ولكن ذلك يمكن أن يستثنى منه، فإبراهيم عليه السلام رمي في النار فما احترق؛ وذلك بقدر الله سبحانه وتعالى وقدرته، فهذه هي الأحكام.
قوله: (التي طريقها الاجتهاد) فالأحكام الشرعية منها ما يأتي صريحاً في الوحي بنص القرآن أو بنص السنة، فلا يكون طريق معرفته الاجتهاد، وإنما طريق معرفته الوحي، فهذا لا يسمى فقهاً، بل هو من الأمور المتفق عليها التي جاءت في النص، فمثلاً: وجوب الصلاة والزكاة، ووجوب الطهارة، وإباحة البيع وتحريم الربا وتحريم الزنا، هذه أمور نصية لا يمكن أن تنسب إلى مذهب من المذاهب؛ لأنها ليست من اجتهاد أحد من الناس، وإنما هي وحي من عند الله سبحانه وتعالى.
(التي طريقها) أي: طريق معرفتها. (الاجتهاد)، والاجتهاد في اللغة: بذل الجهد في أيّ شيء، فيقال: اجتهد فلان في السير، أي: عدا فيه وجد، ويقال: اجتهد في الأمر. أي: بذل قصارى جهده فيه.
والاجتهاد في الاصطلاح: بذل الفقيه وسعه في تحصيل ظن بالأحكام مأخوذ من أدلتها، فهو مختص بمن كان فقيهاً أي: متصفاً بشروط الاجتهاد، وبمن بذل كل وسعه -أي: كل طاقته- للوصول إلى ظن، فلا يلزم القطع بالاجتهادات، بل لا يمكن القطع بها، وقد كان مالك رحمه الله يقول: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، فكل ما طريقه الاجتهاد يتعذر فيه القطع بتفاوت عقول الناس.
وقوله: (في تحصيل علم) أي: الوصول إليه بتحصيل ظن.
(بالأحكام الشرعية): أي: بحكم شرعي قد جاء أصله في الوحي، ثم بذل الجهد في استخراجه واستنباطه.
(بالأحكام الشرعية من أدلتها) أي: أن يكون ذلك مأخوذاً من الأدلة، وهذا التعريف الذي ذكره هنا للقفه تعريف مختصر، وللأصوليين تعريف مطول وهو: الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلة.
الفقه إذاً: هو العلم بالأحكام الشرعية، والعلم هنا لا يقصد به القطع، بل يقصد به الفهم والإدراك، فيشمل ذلك القطعيات والظنيات. (بالأحكام الشرعية) سبق تعريفها.
(العملية) فذلك مخرج للعقائد، فإن العلم بها علم بالأحكام الشرعية غير العملية، بل النظرية المكتسب بخلاف الموحى، فالوحي لا يكتسب إنما هو اختيار من عند الله.
فبدأ بتعريف هذين الجزئين، ومعنى قوله (مفردين): أي: ليس واحد منهما مركباً، ولا يقصد الإفراد الذي يقابل التثنية والجمع، بل يقصد هنا أن كل واحد من هذين الجزئين غير مركب، فليس فيهما تركيب إضافي.
قال رحمه الله: [فالأصل ما يبنى عليه غيره]: بدأ بالجزء الأول وهو الأصول، فذكر أن الأصول: جمع أصل، وعرف الأصل فقال: هو ما يبنى عليه غيره، وهذا في الاصطلاح، والأصل في اللغة: هو ما يبنى عليه غيره من أساس الدار، وعلى ما ينبت عليه غيره كأصل الشجر.
قال رحمه الله: [والفرع ما يبنى على غيره] ذكر هنا مقابل الأصل وهو الفرع، وتعريفه في الاصطلاح: هو ما يبنى على غيره.
ثم عرف الفقه، فقال: [الفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد].
الفقه: مصدر فقه إذا فهم، وهو في اللغة الفهم، ومنه قوله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ[هود:91] أي: ما نفهم كثيراً مما تقول.
وفي الاصطلاح: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، وتعريفه هنا بالمعرفة: يقصد به الذي يقوم بنفس الفقيه، أي: الصفة التي تقوم بنفس الفقيه ليكون بها فقيهاً، وإذا أردنا تعريفه كعلم من العلوم قلنا: العلم المتعلق بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، فنجعله قسماً من أقسام العلوم يتعلق بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
والأحكام: جمع حكم، وهو في اللغة: الإتقان، فيقال: أحكم الشيء. أي: إحكاماً وحكماً إذا أتقنه، ومنه قوله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ[هود:1] .
ويطلق كذلك على الإمساك، فيقال: أحكم السفيه، إذا أمسكه عن سفهه ورده عنه، ومنه قول جرير :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
أبني حنيفة إنني إن أهجكم أدع اليمامة لا تواري أرنبا
وهو في الاصطلاح: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.
إثبات أمر لأمر: كـ(قام زيد ومات زيد)، و(هذا واجب وهذا حرام).
أو نفيه عنه: كـ(لم يقم زيد ولم يمت زيد)، و(ليس هذا بواجب وليس هذا بحرام)، فكل ذلك يسمى حكماً، وهو ينقسم باعتبار أصله إلى ثلاثة أقسام: إلى حكم شرعي، وحكم عقلي، وحكم عادي، فالذي يثبت أمراً لأمر أو ينفي أمراً عن أمر لا يخلو أن يكون شرعاً. أي: وحياً منزلاً من عند الله عز وجل، وما صدر عنه يسمى بالأحكام الشرعية.
والشرع: معناه: البيان والإظهار، ويطلق أيضاً على الشرب، فيقال: شرع الأمر إذا بينه، ومنه شراع السفينة؛ لوضوحه وإظهاره، ويقال: شرعت الدابة إذا دخلت في الماء لتشرب منه، وتطلق الشريعة على الماء كماء الغدير أو البركة التي يشرب منه.
وهو في الاصطلاح: ما أظهره الله من الأحكام لعباده وهيئه؛ لأن يكون معيناً تشرب منه المقاصد والتفصيلات.
قال رحمه الله: [والحكم الشرعي: هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف به]
(خطاب الله) أي: هذا الذي يؤخذ منه الحكم الشرعي وهو الوحي.
(خطاب الله)، أي: كلامه الموجه إلى عباده سواء أنزل بلفظه ومعناه كالقرآن والحديث القدسي، أو أنزل بمعناه فعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه، وهو السنة النبوية، أو جاء دليله مجملاً وكلف المكلف بالاجتهاد في استنباطه واستخراجه، فاستخرجه العلماء، سواءً أجمعوا عليه فكان إجماعاً قطعياً، أو لم يجمعوا عليه فكان اجتهاداً قابلاً للقبول والرد.
(خطاب الله المتعلق بفعل المكلف) فخرج بذلك خطاب الله المتعلق بذات الله، كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة:255] فهذا في ذات الله وصفاته، وخرج كذلك خطاب الله المتعلق بذات المخلوق، كقوله تعالى: خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96] خلقكم: هذا خطاب الله المتعلق بذات المخلوق.
(من حيث إنه مكلف به) خرج بها خطاب الله المتعلق بفعل المكلف لا من حيث إنه مكلف به، بل من حيث هو مخلوق لله، كقوله: خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96]. (وما تعملون) هنا: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف لا من حيث إنه مكلف به، بل من حيث هو مخلوق لله عز وجل.
والقسم الثاني: هو الحكم العقلي: وهو قضية، أي: أمر قابل للصدق والكذب لا يتوقف على شرع ولا على تجربة، إنما تؤخذ بالعقل المجرد، وعقول المكلفين متفاوتة، ودرجاتها متباينة، ولكن ما اتفق عليه من الإثبات والنفي هو حكم العقل، سواء كان ضرورياً أي: لا يحتاج في استنباطه إلى التأمل، أو كان نظرياً. أي: يحتاج في استنباطه إلى تأمل.
والقسم الثالث: الحكم التجريبي العادي، وهو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بواسطة التكرر مع صحة التخلف، كما يحصل في إثبات أن عقاراً من العقاقير دواء لمرض محدد، فلم ينزل بذلك وحي ولا يقتضيه عقل، وإنما عرف من خلال التجربة والتكرار، فتكرر تجريبه على المصابين بهذا المرض، فلوحظ تأثيره فيهم جميعاً، فجعل علاجاً لذلك المرض، فهذا النوع هو الحكم العادي، ويمكن تخلفه بأن يستعمل مريض هذا الدواء فلا يستفيد منه شيئاً، ويستعمله آخر -مريض بنفس المرض- فيستفيد منه؛ وذلك بقدر الله سبحانه وتعالى، ومثل هذا: الإحراق في النار، فإن الأصل أن النار تحرق الأشياء القابلة للاحتراق إذا لامستها، بحصول الشروط كالملامسة وانتفاء الموانع، كانتفاء الحائل، وأن يكون الشيء قابلاً للاحتراق، ولكن ذلك يمكن أن يستثنى منه، فإبراهيم عليه السلام رمي في النار فما احترق؛ وذلك بقدر الله سبحانه وتعالى وقدرته، فهذه هي الأحكام.
قوله: (التي طريقها الاجتهاد) فالأحكام الشرعية منها ما يأتي صريحاً في الوحي بنص القرآن أو بنص السنة، فلا يكون طريق معرفته الاجتهاد، وإنما طريق معرفته الوحي، فهذا لا يسمى فقهاً، بل هو من الأمور المتفق عليها التي جاءت في النص، فمثلاً: وجوب الصلاة والزكاة، ووجوب الطهارة، وإباحة البيع وتحريم الربا وتحريم الزنا، هذه أمور نصية لا يمكن أن تنسب إلى مذهب من المذاهب؛ لأنها ليست من اجتهاد أحد من الناس، وإنما هي وحي من عند الله سبحانه وتعالى.
(التي طريقها) أي: طريق معرفتها. (الاجتهاد)، والاجتهاد في اللغة: بذل الجهد في أيّ شيء، فيقال: اجتهد فلان في السير، أي: عدا فيه وجد، ويقال: اجتهد في الأمر. أي: بذل قصارى جهده فيه.
والاجتهاد في الاصطلاح: بذل الفقيه وسعه في تحصيل ظن بالأحكام مأخوذ من أدلتها، فهو مختص بمن كان فقيهاً أي: متصفاً بشروط الاجتهاد، وبمن بذل كل وسعه -أي: كل طاقته- للوصول إلى ظن، فلا يلزم القطع بالاجتهادات، بل لا يمكن القطع بها، وقد كان مالك رحمه الله يقول: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، فكل ما طريقه الاجتهاد يتعذر فيه القطع بتفاوت عقول الناس.
وقوله: (في تحصيل علم) أي: الوصول إليه بتحصيل ظن.
(بالأحكام الشرعية): أي: بحكم شرعي قد جاء أصله في الوحي، ثم بذل الجهد في استخراجه واستنباطه.
(بالأحكام الشرعية من أدلتها) أي: أن يكون ذلك مأخوذاً من الأدلة، وهذا التعريف الذي ذكره هنا للقفه تعريف مختصر، وللأصوليين تعريف مطول وهو: الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلة.
الفقه إذاً: هو العلم بالأحكام الشرعية، والعلم هنا لا يقصد به القطع، بل يقصد به الفهم والإدراك، فيشمل ذلك القطعيات والظنيات. (بالأحكام الشرعية) سبق تعريفها.
(العملية) فذلك مخرج للعقائد، فإن العلم بها علم بالأحكام الشرعية غير العملية، بل النظرية المكتسب بخلاف الموحى، فالوحي لا يكتسب إنما هو اختيار من عند الله.
(من أدلتها)، فاكتساب الأحكام لا يمكن أن يكون بالأوهام والتخمين، بل لابد فيه من الرجوع للأدلة، والأدلة جمع دليل، والدليل في اللغة المرشد، سواء أكان ذلك في الحسيات أو في المعنويات، فمن إطلاقه على الحسيات قول الشاعر:
إذا حل دين على اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل
سيصبح فوقي أقتم الريش واقعاً بقالي قلا أو من وراء دليل
فالدليل هنا: هو الخريت الذي يعرف المسافات ويدل السائر فيها، ومن إطلاقه على المعنويات قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا[الفرقان:45] ، (جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) أي: علامة عليه مرشدة لوجوده.
والدليل في الاصطلاح: هو ما يوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري، ويمكن أن تقول: ما يتوصل بصحيح النظر فيه -أي: بالنظر الصحيح فيه- إلى العلم بمطلوب خبري، فالتوصل إنما يكون بصحيح النظر -أي: النظر الصحيح- والنظر حركة النفس في المعقولات، وحركتها بالمحسوسات تسمى (بالتخيل).
فالنظر إذاً: هو التفكير، وهو صحيح وفاسد، فالصحيح من النظر: ما كان من الجهة التي يدل منها الدليل على مدلوله. والفاسد من النظر: ما كان من الجهة التي لا يدل منها على مدلوله، فمثلاً: الذي يريد أن يعمل دولاباً من خشب، إذا بحث في الخشب من جهة قدمه أو حداثته، أو من جهة ملك فلان له، أو نحو ذلك، فهذا الوجه لا يوصل إلى المراد، لكن إذا بحث من جهة استقامة الخشب واعوجاجه، ولينه وقساوته، أدى هذا إلى المطلوب؛ لأنه الوجه الذي يعين على صناعة الدولاب منه.
(إلى العلم) أغلب إطلاق الأصوليين للدليل على ما يوصل إلى العلم أو الظن، وبعضهم يخص ما يوصل إلى العلم بهذا المصطلح: الدليل، ويطلق على ما يوصل إلى الظن الأمارة، ولكن ذلك في اصطلاح مندرس لم يسر عليه المؤلفون.
وقوله: (إلى مطلوب خبري) المطلوب: ما تتعلق به النفس، والمقصود به: الأمر الذي يكون -قبل إقامة الدليل- عليه دعوى، ووقت إقامة الدليل مطلوباً، وبعد إقامة الدليل نتيجة، فهو نتيجة ذلك الدليل.
وقوله: (خبري) منسوب إلى الخبر، فالكلام ينقسم إلى قسمين: إلى إنشاء وخبر، فالإنشاء: إيقاع معنىً بلفظ يقارنه في الوجود، كالطلب: قم.. اجلس.. وهكذا، فهذا إنشاء، والمعنى لم يوجد قبل قوله قم، ولا يتعلق به التصديق ولا التكذيب.
وأما الخبر: فهو التحدث عن أمر سبق التحدث عنه، كقول: قمت بالأمس، أو كنت قائماً في مكان كذا، أو ستقوم، فهذا تحدث عن أمر لا يقارن وجوده التحدث به، وهو قابل للتصديق والتكذيب، فالخبر كله يقبل الصدق والكذب بخلاف الإنشاء فلا يقبلها، والذي يحتاج إلى الدليل هو ما يقبل الصدق والكذب؛ لأن ما لا يقبل التصديق أو التكذيب لا يحتاج فيه أصلاً إلى الدليل، إنما يحتاج إلى الدليل فيما يقبل التصديق والتكذيب، فلهذا قلنا: (إلى مطلوب خبري).
والأدلة تنقسم إلى قسمين: إلى أدلة إجمالية وأدلة تفصيلية، فالأدلة الإجمالية هي أجناس الأدلة: كالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. والأدلة التفصيلية: هي جزئيات هذه الأجناس، فمثلاً: الأدلة التفصيلية من الكتاب مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6] ، فهذا دليل على وجوب غسل الوجه في الوضوء، والآية هي دليل وجوب الوضوء وهكذا، فهذا دليل تفصيلي لا دليل إجمالي.
والفقه إنما يؤخذ من الأدلة التفصيلية، فهي التي يبحث فيها في علم الفقه، وأما أصول الفقه فإنما يتعلق البحث فيه بالأصول الإجمالية، والبحث فيه عن الكتاب كجنس للأدلة التفصيلية، والسنة كذلك وهكذا...
إذاً: هذا تعريف الفقه، وبه يعرف أصول الفقه، فأصول الفقه -إذاً- بالمعنى اللقبي: هو العلم بالأدلة الشرعية الإجمالية وطرق الاستفادة منها وحال المستفيد. وإذا أردت الصفة التي يتصف بها الأصولي فتقول: هو العالم بالأدلة الشرعية الإجمالية وطرق الاستفادة منها وحال المستفيد.
إذاً: هذا معنى أصول الفقه في المعنى اللقبي أنه: العلم بالأدلة الشرعية الإجمالية، أي: أجناس الأدلة، وطرق الاستفادة منها، أي: طرق أخذ الأحكام منها، وهذا يدل على أن الأحكام أيضاً تبحث في أصول الفقه.
وحال المستفيد، أي: حال الذي يأخذ الأحكام من الأدلة وهو المجتهد.
إذاً: هذه ثلاثة أمور ينتظمها أصول الفقه في الاصطلاح:
أولاً: الكلام في الأدلة نفسها.
ثانياً: الكلام في طرق دلالتها على الأحكام.
ثالثاً: الكلام في شروط آخذها من الأحكام وهو (المجتهد).
وقد اختلف في موضوع أصول الفقه، فقيل: هو الأدلة الشرعية، وقيل: هو الأحكام الشرعية، والواضح أنه جامع للأمرين، فهو الأدلة الشرعية الإجمالية والأحكام الشرعية كذلك؛ لأن الأمرين يبحث فيهما في أصول الفقه، ولهذا بدأ هو بالأحكام فقال: (الأحكام الشرعية)، عقد هذا الباب لبيان أقسام الحكم الشرعي.
قال: [والأحكام سبعة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمحظور، والمكروه، والصحيح، والباطل].
والأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول يسمى: بالأحكام التكليفية، والقسم الثاني يسمى: بالأحكام الوضعية.
أما الأحكام التكليفية: فهي ما يكلف الله به الناس طلباً أو نهياً، طلباً لفعل أو تركاً أو تخييراً بينهما، فالطلب إما أن يكون جازماً أو غير جازم، فالجازم: هو الذي يسمى بالإيجاب، وغير الجازم: هو الذي يسمى بالندب، وطلب الترك إما أن يكون جازماً أيضاً، فهذا الذي يسمى بالتحريم، أو أن يكون غير جازم، وهذا الذي يسمى بالكراهة، والتخيير: هو الذي يسمى بالإباحة.
فهذه الخمسة هي الأحكام التكليفية وهي منسوبة إلى التكليف، والتكليف: هو طلب ما فيه كلفة. أي: أن يطلب الشارع من عبده ما فيه كلفة. أي: مشقة، وهي مشقة الامتثال، ولا يقصد بها أن كل ما يكلفنا الله سبحانه وتعالى به فيه مشقة، فالمشقة بمعنى ما لا يقدر عليه مرفوعة أصلاً؛ لقوله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78] ، وحصول المشقة يقتضى التيسير في الأحكام الشرعية، وإنما يقصد هنا: أن في ذلك طلباً لأمر لم يكن المكلف يفعله من تلقاء نفسه وإنما يفعله طاعة لله سبحانه وتعالى، ففيها التماس للطاعة.. التماس للقرب من الله تعالى، فهذا معنى كونها تكليفاً بما فيه مشقة.
وقد اختلف الناس في التكليف: هل هو إلزام ما فيه كلفة، أو طلب ما فيه كلفة؟
فمنهم من يعرفه بالإلزام؛ وذلك مقتضٍ لخروج المباح فليس فيه إلزام، ولخروج المندوب فليس فيه إلزام، ولخروج المكروه فليس فيه إلزام، فيدخل الواجب والمحرم فقط.
وبعضهم يقول: هو طلب ما فيه كلفة، وهذا يدخل الصبي؛ فإنه يطلب منه أداء الواجبات على وجه الندب، وترك المحرمات على وجه الندب أيضاً، فالمحرمات في حقه مكروهة، والواجبات في حقه مندوبة، وليس هو ملزماً بذلك؛ لأنه غير مكلف، فإذا قلنا: التكليف: هو إلزام ما فيه كلفة، فإنه يخرج منه المندوب والمكروه والمباح، وإذا قلنا: التكليف: هو طلب ما فيه كلفة، فإن ذلك يقتضي أن يكون الصبي مكلفاً، وكلا الأمرين غير صحيح، فلا يقصد بالإلزام هنا معناه المتبادر، وإنما يقصد به أن يكون ذلك مما يقصد به التعبد والطاعة.
قال: (والأحكام سبعة: الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه) وهذه في الواقع: هي متعلق الأحكام، فالحكم هو الخطاب، أي: الإيجاب والندب والإباحة والحظر الكراهة، فهذا هو الخطاب، أما متعلقه: فهو الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه.
أقسام الخطاب الوضعي
قال: (والصحيح والباطل). وهذان القسمان من أقسام الخطاب الوضعي، والخطاب الوضعي في الاصطلاح: هو ما جعله الشارع علامة لغيره.
وأقسام متعلق الخطاب الوضعي اثنان: القسم الأول: ما كان مستقلاً، والثاني: ما كان تابعاً.
أقسام الخطاب الوضعي المستقل
فالمستقل أربعة أقسام هي: السبب، والعلة، والشرط والمانع.
أما السبب: فهو ما جعله الشارع علامة على الحكم، على وجود الحكم التكليفي، ولم يدرك العقل وجه ترتيبه عليه: كزوال الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر، وكغروبها سبب لوجوب صلاة المغرب، والعقل لا يدرك العلاقة بين الزوال وصلاة أربع ركعات، وبين الغروب وصلاة ثلاث ركعات وهكذا، فهذا النوع هو السبب.
وقد عرفه القرافي : بأنه ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم؛ لأنه إذا وجد لزم أن يوجد ما علق عليه. ومن عدمه العدم، أي: أنه إذا لم يوجد لم يصح حصول ما علق عليه، كدخول الوقت فإنه سبب لوجوب الصلاة، لكن إذا لم يدخل لا يمكن أن تؤدى وليست بواجبة، ويمكن أن يعرف: بأنه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فلزوم الصلاة بدخول الوقت ليس بذات الوقت، إذ قد تدخل ولا تجب على الإنسان؛ لأنه غير مكلف -مثلاً- في ذلك الوقت بسبب عدم بلوغه أو بسبب إغماء أو جنون، أو بسبب تلبسه بمانع كالحيض والنفاس ونحو ذلك، فالسبب قد لا يلزم من وجوده الوجود دائماً لذاته، بل مع حصول الشروط وانتفاء الموانع، لكن يلزم من عدمه العدم، فإذا لم يوجد السبب لا يمكن أن يوجد الحكم كدخول الوقت مثلاً.
وأما العلة: فهي العلامة التي رتب الشارع الحكم التكليفي عليها، ويدرك العقل وجه ترتيبه عليها، كالإسكار علة لحرمة الخمر، والعقل يدرك وجه جعله كذلك، ووجه ذلك: أن الحفاظ على العقل من المقاصد الشرعية ومن ضرورات المكلفين، والخمر تذهب العقل؛ فلذلك يدرك العاقل وجه تحريم الشرع لشربها، ويعلم أن علة تحريمها أنها مسكرة. أي: مزيلة للعقل.
وفي تعريف العلة اصطلاحاً يقال: (الوصف الظاهر)؛ المنضبط الذي أناط الشارع به الحكم، فقوله: الوصف الظاهر: لأن العلة لا يمكن أن تكون أمراً خفياً لا يطلع عليه.
(المنضبط) أي: الذي يكون المكلفون فيه سواء، بخلاف الأمور التي لا تنضبط في المشقة، فلا يمكن أن تجعل علة لحكم لتفاوت درجاتها وتفاوت الناس فيها.
(الذي رتب الشارع عليه حكماً)، أي: علقه به وأدرك المكلف وجه ترتيبه عليه.
وأما الشرط: فهو ما ربط الشارع بوجوده وجود الحكم التكليفي وبانتفائه انتفاءه، ولهذا عرفه القرافي : بأنه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته كالطهارة للصلاة، فإنه يلزم من عدمها العدم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ)، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فإذا توضأ الإنسان لا تجب عليه الصلاة، فليس الوضوء موجباً للصلاة لكن عدمه مبطل لها.
وأما المانع: فهو ما رتب الشارع على وجوده انتفاء الحكم، وقد عرفه القرافي أيضاً بقول: ما يلزم من وجوده العدم ومن عدمه الوجود -أو- ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، كوجود الحيض والنفاس، فالحيض مانع من الصلاة ووجوده مانع من وجوب الصلاة، وانعدامه ليس موجباً للصلاة دائماً، بل موجب لها بحصول الشروط والأسباب وانتفاء الموانع الأخرى.
أقسام الخطاب الوضعي التابع
وأما القسم التابع: فهو الصحة، والفساد، والعزيمة، والرخصة، والأداء، والقضاء، والإعادة، فهذه سبعة أقسام هي أقسام متعلق الخطاب الوضعي التابع للخطاب التكليفي.
أي: الذي لا يستقل بذاته.
فالصحة من أقسام متعلق الخطاب الوضعي، فيوصف بها الحكم الشرعي التكليفي، فتعلق الحكم التكليفي يوصف بالصحة ويوصف بالفساد والبطلان، فيقال: هذه الصلاة صحيحة أو باطلة، وهذا العقد صحيح أو باطل، ومثل ذلك العزيمة والرخصة، فيقال: هذا الحكم عزيمة وهذا الحكم رخصة، وسيأتينا تعريف ذلك.
فالصحة بمعنى موافقته للشرع، والبطلان بمعنى: مخالفته للشرع. والعزيمة بمعنى: ثبات الحكم وعدم تغييره. والرخصة بمعنى: تغيير الحكم إلى سهولة؛ بسبب عذر اقتضى ذلك مع بقاء سبب الحكم الأصلي، كأكل الميتة في حق من يخاف على نفسه الهلاك من الجوع، فهذا رخصة، فالحكم الشرعي الأصلي هو حرمة أكل الميتة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ[المائدة:3] ، وسبب تحريمها قائم وهو خبثها والضرر المترتب على أكلها، لكن الحكم الشرعي هنا تغير إلى سهولة؛ لعذر وهو جوع هذا الإنسان الذي أبيح له أكل الميتة، مع قيام سبب الحكم الأصلي الذي هو الخبث في الميتة.
وأما الأداء: فهو فعل العبادة في وقتها المحدد لها شرعاً.
وأما القضاء: فهو فعلها خارج وقتها المحدد لها شرعاً، وسيأتي الكلام في فعل بعضها في الوقت وبعضها خارج الوقت: هل يسمى أداءً أو قضاءً؟ فقيل: يسمى أداء باعتبار بدايتها، وقيل: يسمى قضاء باعتبار نهايتها، وقيل: ما في الوقت أداء، وما كان خارجه قضاء.
وأما الإعادة: فهي فعل العبادة ثانياً لخلل أو طلباً للأجر. (فعل العبادة ثانياً). أي: بعد فعلها أولاً لخلل حصل فيها، كمن صلى إلى غير القبلة، فتلك الصلاة الأولى التي فعلها باطلة، فيصلها إلى القبلة في الوقت إعادة، وما كان منها لغير خلل كطلب الأجر، كمن صلى منفرداً ثم وجد جماعة في الوقت فأعاد تلك الصلاة مع الجماعة، ليس لأن صلاته الأولى باطلة، بل طلباً لزيادة الأجر، فهذه إذاً هي الإعادة، وهذه هي أقسام متعلق الخطاب الوضعي التابعة.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الورقات في أصول الفقه [3] | 3305 استماع |
شرح الورقات في أصول الفقه [2] | 3079 استماع |
شرح الورقات في أصول الفقه [5] | 2826 استماع |
شرح الورقات في أصول الفقه [4] | 1398 استماع |