تناول ابن تيمية لقضية التجسيم من الناحية اللغوية والكلامية
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
تناول ابن تيمية لقضية التجسيم من الناحية اللغوية والكلاميةلابن تيمية بحث في الجسم يتناول الناحيتين اللغوية والكلامية، فمن حيث اللغة فإن الجسم عند أهلها هو الجسد[1]، واللفظ يتضمن الغلظ والكثافة.
ولكنهم لا يسمون الأشياء اللطيفة كالهواء وروح الإنسان القائمة بنفسها جسمًا ولا جسدًا[2].
أما المتكلمون فقد استعملوا لفظ الجسد في أعم من المعنى اللغوي الآنف الذكر فاستعملوه فيما يقوم بنفسه.
ويقصد بعضهم بالجسم ما هو مركب من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة، والبعض يتنازع في خلق الأجسام منهما "بل أكثر العقلاء من بني آدم عندهم أن السموات ليست مركبة لا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، فكيف يكون رب العالمين مركبًا من هذا وهذا"[3].
ونلاحظ أنه لا يوافق على ما ذهب إليه الكرامية في هذه النقطة، سواء كان مرادهم بالجسم أنه سبحانه جسم، أم المراد من قولهم أنه قائم بنفسه يشار إليه "والتحقيق أن كلا الطائفتين مخطئة على اللغة أولئك الذين يسمون كل ما هو قائم بنفسه جسمًا، وهؤلاء الذين سموا كل ما يشار إليه وترفع الأيدي إليه جسمًا"[4].
وهذا دليل جديد نشوقه لقطع الصلة بين التشابه في الرأي بين الكرامية - باعتبارهم من المجسمة - وابن تيمية، فضلًا عن نقده لهم في موضوعات سابقة.
ويكاد يتفق موقف ابن تيمية من حيث اعتباره - افتراءً - مجسمًا مع موقف سلفه الإمام أحمد..
يحدثنا اشليخ السلفي عما بدر من مخالفيه أثناء مناقشته في "العقيدة الواسطية" فيقول: (وقال أحد كبار المخالفين: فحينئذ يجوز أن يقال: هو جسم لا كالأجسام..
فقلت له - وبعض الفضلاء الحاضرين - إنما قيل أنه لو وصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال"[5].
وبنظرة مقارنة لما حدث في امتحان الإمام أحمد، نعثر على ألفاظ مشابهة، إذ لما ناظروه وذكروا أمامه الجسم أجابهم بقوله تعالى: (الله أحد، الله الصمد) "وإنما لفظ الجسم فلفظ مبتدع محدث ليس على أحد أن يتكلم به ألبتة"[6].
وهذا لا يمنع من اتخاذ موقف التشدد إزاء المجسمة أمثال هشام وأتباعه الذين وصفوا الله بما تنزه عنه من المماثلة للمخلوقات والاتصاف بالنقائص[7].
وربما يتطلب منا إثبات الاتجاه السلفي لابن تيمية أن نأتي بنص عن الدارمي (282 هـ) أيضًا، فقد نفى عن نفسه قصد معنى الجوار (والتركيب، ونزه الله عن ذلك واعتبره من قبيل الادعاء الكاذب[8] وصرح في وجه معارضه بأنه يعلن تمسكه بما قاله ابن عباس "ليس لله مثل ولا شبه،.
ولا كمثله شيء.
ولا كصفاته صفة"[9].
ويبقى أخيرًا من موضوع التجسيم، شرح ابن تيمية لمعنى التركيب لإزالة الشبهة القائمة على أن كل ما تقوم به الصفات.
فهو مركب من أجزاء[10].، فقد يقصد به تركيب الجسم من أجزاء متفرقة فاجتمعت مثل الأطعمة والأشربة والملابس والمساكن وغيرها فصارت مركبة بعد أن كانت متفرقة والتركيب هنا يراد به التأليف بين الأجزاء.
والمعنى الأخص للتركيب هو ما يطلق على المركب الذي لا يمتزج فيه أحد الطرفين في الآخر كتركيب الباب في مواضعه مثلًا "ومعلوم أن عاقلًا لا يقول إن الله تعالى مركب بهذا المعنى الأول ولا بالثاني"[11].
إن تنزيه الله عن التجسيم قائم على نفي التركيب - أيا كان معناه - "لأن المركب مفتقر إلى ما تركب منه وما تركب منه غيره، وواجب الوجود لا يفتقر إلى غيره، فواجب الوجود لا تركيب فيه"[12].
وعلى هذا، فهو يقرر في جزم وقطع أن الرب موصوف بالصفات "وليس جسمًا مركبًا لا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة"[13].
من هذا يتبين لنا أن الإلزام بالتشبيه والتجسيم مرفوض عنده لأن كنه الباري غير معلوم للبشر وكذلك صفاته وأفعاله.
ويربط ابن تيمية هنا بين إثبات الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغى لله تعالى، وبين المخلوقات في الجنة.
وربما أدى هذا إلى الظن بأنه يذهب إلى أن الرؤية في الجنة هي رؤية حسية.
ولكننا إذا عدنا إلى مراجعة أدلته على إثبات التنزيه، مع الأخذ في الحسبان أن ما ورد بالقرآن من صفات الجنة لا يتصل إطلاقًا بما هو معروف في الدنيا، أمكننا أن نستبعد هذه الرؤية الحسية، لأنه ينفي الكيفية عن صفات الله وأفعاله فيثبتها بلا كيف لأنها من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وحده.
وفي الحديث عن الجنة، يستشهد بقول ابن عباس "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"[14].
[1] الجواب الصحيح ج 3 ص 145.
[2] نفس المصدر الصفحة وتفسير سورة الإخلاص وما بعدها.
[3] شرح حديث النزول ص 73.
[4] شرح حديث النزول ص 82.
[5] غاية الأماني في الرد على النبهاني ج 1 ص 282.
[6] تفسير سورة الإخلاص ص 68 وينظر أيضًا شرح حديث النزول ص 83.
[7] نفس المصدر ص 59/ 60.
[8] الدارمي.
الرد على الجهمية ص 545 (عقائد السلف).
[9] نفس المصدر ص 564.
[10] شرح حديث النزول ص 39.
[11] الرد على المنطقيين ص 223.
[12] شرح العقيدة الأصفهانية ص 21.
[13] شرح حديث النزول ص 39.
[14] الرسائل الكبرى ج 1 ص 474 وج 2 ص 11 وينظر أيضًا تفسير القرطبي (العدد 76 مطابع الشعب).