رسالة العلم
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
فروض
للدكتور محمد محمود غالي
تخترقنا جميعاً الأشعة الكونية أو الأشعة النافذة كما يسمونه، أحياء كنا أم أمواتاً، شباباً كنا أم شيوخاً، تنفذ فينا جميعاً بقدر واحد. تُرى هل يًعد هذا التفتت الدائم في أجسامنا الذي يلازمنا من المولد حتى الممات ملائماً لوجودنا ومساعداً على بقائنا؟ أو هو على النقيض من ذلك.
أميل إلى الاعتقاد بأنها مُبيدة لنا مهلكة لحياتنا.
ومتى كان الهدم من عوامل البقاء، والتفتت مدعاة للحياة لا للفناء؟ إلى المتحف المصري والى الطابق الثالث منه نقلوا حديثاً من المنزل الذي أقام فيه مسيو لاكو المدير السابق لمصلحة الآثار، عشرين مومياء لفراعنة مصر الأقدمين، يمثلون ثلاثين قرناً أو يزيد من أزهى العصور في تاريخ البشر.
ويكفي لتعريف هذه الفترة السعيدة التي خلت أن نذكر، أنها الفترة التي كوّن الإنسان فيها معارفه الأولى وعلومه البدائية التي كانت سبباً وأساساً لمعظم ما نملكه اليوم من معارف وعلوم.
فالحلقة متصلة إذ كان لهؤلاء الملوك الأولين والمؤتمرين بأوامرهم والآخذين بنظمهم الفضل الأول في كثير مما نعرفه اليوم. هذه المومياء الهامدة ظلت مستريحة قروناً عديدة، لا يحميها ما حولها من لفافاتٍ عديدة، أو ما يُحيط بها من صناديق محلاة بالذهب والنقوش، من التهدُّم الذرى والتَّفتُّت الداخلي الحادثين حتماً من اختراق جسيمات الأشعة الكونية لها، بقدر ما تحميها طبقات الرمال والصخور التي تعلو الأماكن التي وجدت فيها، فإن هذه الطبقات المفصولة عن سطح الأرض بعشرات الأمتار تمتص هذه الأشعة أو الجزء الأكبر منها. قليل من التأمل وعود إلى الحساب البسيط يجعلنا ندرك العدد الكبير من هذه الجسيمات التي تخترق هذه المومياء التي لا يحميها الآن من هذا التهدم سوى سقوف المتحف المصري، فهذه القذائف الكونية الدائمة تخترق المومياء الخالدة بمعدل قذيفة على كل سنتيمتر مربع في كل دقيقة، أي أن خمسة آلاف من هذه القذائف الفاتكة تخترق في كل دقيقة كل واحدة من المومياء الممدودة؛ بينما كان لا يخترقها في مثل هذه الفترة وهي في وضعها الأول، مصونة بالرمال والصخور، سوى قذيفتين أو ثلاث؛ وقد لا يخترقها واحد من هذه القذائف.
وفي ظني أن الذين قاموا بنقلها من مكانها الأولي وأزعجوها من راحتها الابدية، لم يعيروا هذه القذائف الدائمة أية التفاتة، فهم لا يعرفونها.
ومن يدري؟ فقد تكون هذه القذائف مدمرة لها على طول الزمن ومتلفة لعناصر وجودها.
أو يصح لنا إذن أن نعتقد أنه كان لخوفو منشئ الهرم الأكبر نوع من الغريزة جعلته يشعر بضرورة بناء ضريح في ضخامة الهرم لحماية رفاته من كل عوامل التبديد؟ لا شك أن خوفو وأمثاله كانوا يجهلون الأشعة الكونية؛ وكأنهم عمدوا إلى الاحتياط من تلك الأشعة الكونية التي نلخص في هذا المقال موضوعها، والتي تعد من أعجب ما نعرفه في مراحل العلم الحديث بقوة طاقتها التي تفوق آلاف المرات طاقة أشعة الراديوم وقوة اختراقها للأشياء، فتخترق ما يبلغ سمكه بضعة أمتار من الرصاص.
وقد شرحنا كيف يستطيع العلماء تسجيل صور مسارات جسيماتها بعد اختراقها كتلة كبيرة من المادة، وشرحنا كيف يسمعون إنذاراً بمرور قذائفها التي لها أقوى الأثر على المادة التي تخترقها ونتكلم اليوم عن الفكرة في مصدر أو أصل هذه الأشعة الخارقة لما اعتدناه من إشعاع.
ويَجمُل قبل ذلك أن نذكر كلمة أخيرة عن بعض النتائج الهامة في دراسة هذه الأشعة.
وهذه النتائج هي مادة لموضوعات مختلفة نكتفي هنا بالإيماء إليها: الموضوع الأول هو تقسيم العلماء هذه الأشعة إلى نوعين: النوع الأول جسيمات رخوة نتجت عن الأشعة الكونية وليست هي الأشعة ذاتها.
والنوع الثاني جسيمات صلبة جزء من الأشعة الكونية نفسها قبل اختراقها طبقات الهواء أو الأرض. وهذا التقسيم إنما جرى تبعاً لمقدار المادة التي تستطيع الأشعة النفاذ فيها.
وللعالم روسي تجارب تدعو للإعجاب في وضع ستائر من الرصاص يعرف بواسطتها أولاً اتجاه الأشعة، وثانياً درجة نفاذها في المادة التي تصادفها وأثرها عليها.
وفي ذلك يستعمل روسي عدادات الإلكترونات وغرفة ولسون مجتمعة في تجربة واحدة الموضوع الثاني هو دراسة تغير هذه الأشعة تبعاً لخطوط العرض؛ ولهذا أثر هام في معرفة ما إذا كان منشأ الأشعة خارجاً عن نطاق المحيط الأرضي.
وقد أدت هذه الدراسة إلى أن هذه الأشعة تنقص بمقدار حوالي 14 % عندما تقترب من خط الاستواء.
وهذا ناتج من أثر المجال المغناطيسي الأرضي واختلاف شدته من منطقة إلى أخرى.
وقد بَيَّن ذلك كلاي في أبحاثه التي تبَعتها دراسة دولية تولاها العالم كونتون في سنة 1930 إذ قامت 69 محطة مختلفة في المعمورة بدراسة الأشعة.
وهذه المحطات منتشرة بين خطي عرض 78 شمالاً و 46 جنوباً.
وفي سبتمبر سنة 1933 قام زميلانا بيير رينجيه هامة بين الهافر وبونس إيرس ذهاباً وإياباً حيث سجلا 170 ألف مسار للأشعة الكونية.
وفي الـ 170 ألف شعاع التي سجلها هذان الباحثان نرى أن الأشعة الكونية تنقص بمقدار 16 % عند خط الاستواء الموضوع الثالث دراسة تَغَيُّر شدة الأشعة تبعاً لنظام تعاقب الليل والنهار أي مع الوقت الشمسي.
ولهذا أثره في معرفة ما إذا كانت الشمس مصدراً لهذه الأشعة.
وقد دلت الدراسة على أن الأشعة لا تتغير مع تغير الليل والنهار.
وفي هذا الشكل ترى كيف تتغير شدة الأشعة مع ساعات اليوم. فالإحداثي الرأسي ويُسمى محور الصادات يبين مقدار شدة الأشعة، والإحداثي الأفقي ويسمى محور السينات يبين الوقت.
وفي المنحنى (1) نرى كيف تَتغَيَّر شدة الأشعة مع مرور اليوم دون أن تخترق الأشعة مادة على الإطلاق وفي المنحنى (2) نرى تَغيُّر شدة الأشعة بعد أن تكون قد اخترقت 21 س م من الرصاص.
وفي الحالتين نرى حوالي الساعة 12 ازدياداً طفيفاً في الأشعة، وهذه الزيادة نرى أثرها مرة أخرى في المنحنيين (3) و (4) اللذين يمثلان تَغيُّر الأشعة بعد اختراقها 1.
5 س م من الرصاص و 3 س م منه.
أما المنحنيان (5) و (6) فيمثلان شدة الأشعة وتغيرها مع الزمن بعد اختراق 10 س م من الرصاص و 20 س م منه، ولا نرى فيهما أثراً لأي تَغيُّر في شدة الأشعة بل نرى ثباتها على مرور الساعات، وهذا يثبت أن الجزء الصلب من الأشعة الكونية أي الأشعة الكونية الأولى قبل اختراقها الجو غير مرتبط بالشمس بأي حال من الأحوال والموضوع الرابع هو دراسة الأشعة مع المجال المغناطيسي الأرضي، وهو دراسة رياضية وطبيعية عويصة قام بها علماء كثيرون نذكر منهم ستورمر ونرى ألا نتعرض له في هذه السطور لصعوبته وعدم فائدته للقارئ على أن استعراض هذه المسائل ولو على هذا النحو المختصر يفيدنا الآن في مناقشة أصل الأشعة الكونية وسرد كل الفروض التي يعتقدها العلماء في مصدرها. في نشرات العالم الكبير س.
ت.
ر.
ولسون بين سنتي 1925 و 1929 يفرض أن يكون منشأ الأشعة النافذة هو المجال الكهربائي الحادث من العواصف الجوية وقد بين أن الإلكترونات تقذف في هذا المجال بقدر مجموع الطاقة الحادثة من فرق الضغط الكهربائي بين الغيوم المشبعة بالكهرباء، وتبلغ هذه الطاقة آلاف الملايين من الفولتات.
على أن اختراق بعض جسيمات الأشعة الكونية أعماقاً من المياه تزيد في بعض الأحيان عن الـ 500 متر يتطلب طاقة أكبر بكثير من الطاقة المذكورة.
ومن السهل أن نرى أيضاً أنه لا يمكن بإتباع الرأي المتقدم أن نفسر التغيير الحادث في شدة الأشعة مع خطوط العرض وهو التغيير الذي سبق أن شرحناه.
وعلى وفق آراء ولسون تقذف الإلكترونات في العواصف لأعلى السحب المحملة بالكهرباء ثم تنحني مساراتها بوجود المجال المغناطيسي حتى تصل إلى سطح الأرض.
ومع ملاحظة أن نصف قطر الانحناء لإلكترون له هذه الطاقة المتقدمة لا يتجاوز 700 كيلو متر وملاحظة أن هذا جزء يسير بالنسبة إلى نصف قطر الارض، فأنه من السهل أن ندرك أنه لا يمكن لهذه الإلكترونات أن تكون موزعة بالتساوي حول سطح الكرة الأرضية، وحيث أن توزيع العواصف نفسها ليس توزيعاً متساوياً فوق سطح الأرض فانه من الصعب تعليل ثبات الجزء الرئيسي من الأشعة الكونية ثباتاً لا يزيد التغيير فيه عن 10001 وما يقال عن الإلكترونات الحادثة عن العواصف يقال عن الإلكترونات الحادثة عن السحب العادية.
فهذه وأن كانت أكثر انتظاماً في توزيعها حول الأرض إلا أن الطاقة الحادثة عنها لا يمكن أن تُسبب الطاقة العظيمة الموجودة في إلكترونات الأشعة الكونية.
كل هذا لا يمنع أن السحب المصحوبة بعواصف شديدة يمكن أن تكون قسماً من الجزء الرخو في الأشعة الكونية، وقد بين ذلك شونلاند على أن من الصعب جداً أن نتخيل علة أرضية أخرى تكون منشأ الأشعة الكونية.
فمثلاً يستحيل مهما كانت الحالة الكهربائية للطبقات العليا من الجو أن نتصور مجالاً كهربائياً عمودياً على الأرض يكون عظيماً بحيث يكون مستمراً وتكون له مثل هذه الطاقة. ولو أننا وافقنا على أن يكون منشأ الأشعة الكونية خارجاً عن نطاق الكرة الأرضية فإن ثبات شدتها المتناهي ثباتاً في الزمن يضطرنا إلى أن نفترض أن لها الخواص ذاتها في الحيز المكون للكون في مجموعه فالشمس لا يمكن إذن أن تكون مصدراً لهذه الأشعة.
كذلك النجوم المكونة للمجرة، لأن هذه النجوم غير موزعة توزيعاً منتظماً حول الأرض.
فلو كانت الشمس مصدرها لاختلفت شدتها مع الوقت الشمسي.
ولو كانت المجرة منشأها لاختلفت شدتها مع الوقت النجمي.
وهذا الاختلاف أو ذاك لا وجود له بالمرة، وبخاصة في الجسيمات الصلبة أو القوية من هذه الأشعة وما يُقال عن المجرة يُقال عن العوالم الأخرى التي ليست موزعة توزيعاً منتظماً حول الكون المغلق. على أنه لا يمكن أن يكون مصدر الأشعة المكونات الداخلية للنجوم، لأن طاقة الأشعة في هذه الحالة تصبح ضعيفة لاختراقها كل مادة النجم ومهما يكن من الأمر فإن مصدر الأشعة الكونية يجب أن يسمح كما قدمنا بتفسير خواص إشعاع طبيعته وقوته واحدة في جميع الجهات حول الأرض.
وقد وضع يجيز تولد هذه الأشعة في وقت ابتداء تطور العالم، بحيث أصبحت خواصها الطبيعية مع مرور الزمن واحدة في جميع وذلك بسبب رحلتها المستمرة داخل الكون المغلق وقد وضح النظرية الاركيولوجية بفكرته في أن الكون في مجموعه لا يكون سوى ذرة كبيرة جداً تشع هذا الإشعاع على طريقة هي فوق طريقة النشاط الراديومي - أما عند مليكان فأنه يغلب على ظنه أن بعض الحوادث الطبيعية الحادثة باستمرار في المواد الواقعة بين الأجرام السماوية ربما تعطي هذه الدرجة من إشعاع له نفس الخواص حول الأرض. أما فرض انعدام المادة فهو لا يكفي أيضاً لتفسير إشعاع له مثل هذه الطاقة.
ومن المعروف أن الطاقة الحادثة عن انعدام كتلة البروتون تساوي حوالي الألف مليون إلكترون فولت، وهي طاقة أقل من التي نعهدها في الأشعة الكونية. كذلك ليس من المحتمل أن يكون سبب الأشعة تحول نواة معقدة وثقيلة بانعدامها وانتقال طاقتها إلى الإلكترونات أو الفوتونات، كما أنه ليس من المحتمل أن يكون السبب في الطاقة الحادثة من تكوين نواة معقدة من ذرات أبسط منها، فإن مثل هذه الطاقة تقل أيضاً عما نعهده في الأشعة الكونية. ويتساءل أدنجتون لماذا لا تكون هذه الأشعة بقايا تهدم حدث قديماً في المادة وشاءت الأقدار أن تصلنا أخبار هذا التهدم الآن ويمكن القول أن كل الفروض التي تقدم بها الباحثون حتى الآن لتفسير منشأ وسبب الأشعة الكونية غير ممكنة في ناحية وإن جاز إمكانها في ناحية أخرى. على أن نظرية العواصف هي النظرية الوحيدة التي ترجع بالأشعة الكونية لسبب مصدره الكرة الأرضية، فإذا لم يكن الدفاع عن هذه النظرية، وهو الأمر الواقع، فإن مسألة أصل الإشعاع الكوني ترتبط رأساً بنشأة الكون وقد بين لميتر أن الطاقة الكلية للأشعة الكونية مع فرض توزيعها توزيعاً منتظماً في الحيز تبلغ 10001 من مجموع الطاقة لكل ما في الكون من نجوم وأجرام ومادة بينها وعلى كل حال فدراسة منشأ ومصدر هذه الأشعة يبدو حتى يومنا هذا خفياً على الأذهان، وإذا اتضح كما تظهر التجارب الحديثة أن نصف الجسيمات أو أغلبها المكونة لهذه الأشعة العجيبة هي (بوزبتونات)، فإن من المحتمل جداً أن البوزبتون النادر على الأرض هو مكون هام للكون خارجاً عنها. ومهما يكن من أصل الأشعة الكونية، فأنه عندما نعلم ذلك نكون قد خطونا خطوة كبرى في المعرفة وفي حل موضوع يتصل بمنشأ الكون وسر الخليقة وعظمة التطور. محمد محمود غالي دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون ليسانس العلوم التعليمية.
ليسانس العلوم الحرة.
دبلوم الهندسخانة