شرح الورقات في أصول الفقه [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد قال المصنف: [النسخ]

عقد هذا الباب لبيان النسخ وذكر أقسامه، والنسخ معناه في اللغة: الإزالة، فيقال: نسخت الرياح الأثر، إذا أزالته وغيرته، ويقال: نسخت الشمس الظل؛ إذا أزالته. ويطلق أيضاً على النقل، فيقال: نسخ الكتاب إذا نقله، فهذا معناه في اللغة.

وأما معناه في الاصطلاح: فهو تغيير الحكم الشرعي بخطاب متراخ عنه.

والمقصود بالحكم الشرعي: ما كان خطاباً أيضاً، فلا تنسخ البراءة الأصلية ولا ينسخ بها؛ لأن الأحكام كلها إنما نزلت على براءة أصلية سابقة لها، فلو اعتبر ذلك نسخاً لكانت الأحكام كلها ناسخة لأمر قد سبق، وهو البراءة الأصلية وعدم التكليف، ولا ينسخ أيضاً إلا بالخطاب، فلا نسخ بالقياس، ولا بالاجتهاد، ولا بالإجماع، وإنما يحصل النسخ بالوحي المنزل.

قال المصنف: [وأما النسخ فمعناه لغة: الإزالة] يقال: نسخت الشمس الظل؛ إذا أزالته، [وقيل: معناه النقل، من قولهم نسخت ما في هذا الكتاب أي: نقلته] وحكايته للخلاف في هذا لا وجه لها، بل هو في اللغة يطلق على هذين المعنيين وعلى التغيير، قال: [وحده -أي: تعريفه- هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه، لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه]، وهذا تعريف للناسخ لا للنسخ، فالخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم هو الناسخ، فلو قال: هو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخي الرفع أو تراخي الخطاب عنه، لكان ذلك تعريفاً للنسخ، والمقصود برفع الحكم: إزالته وتغييره، والحكم هنا المقصود به: الحكم الشرعي فقط.

قوله: [الثابت بالخطاب]، أي: الذي أنزل به وحي.

[المتقدم] فالمتقدم لا ينسخ المتأخر.

[على وجه لولاه لكان ثابتاً]، أي: لولا ذلك الوجه لكان الحكم ثابتاً.

[مع تراخيه عنه] أي: تأخره عنه، فلو جاء متصلاً به لاعتبر ذلك تخصيصاً ولم يعتبر نسخاً، وهذا التراخي ليس له مدة محددة، بل قد يحصل بالقرب، كما حصل في قصة الصدقة بين يدي النجوى، فإن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[المجادلة:12-13]، فنسخ ذلك الحكم على القرب، وذلك بفضل الله ورحمته، وقد نسخ قبل التمكن من الفعل، فدل ذلك على جواز النسخ قبل التمكن من الفعل.

نسخ اللفظ وبقاء الحكم

قال المصنف: [ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم]. يقصد: أن أقسام النسخ منها: نسخ اللفظ وبقاء حكمه، كآية الرجم التي كانت في سورة الأحزاب، وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله)، وكانت هذه الآية ثابتة في سورة الأحزاب، فنسخ لفظها وبقي حكمها، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم خمسة أشخاص، وهم اليهوديان، وماعز، والغامدية، وصاحبة العسيف، وكذلك عمل به خلفاؤه الراشدون فقد رجم عمر رضي الله عنه امرأتين، ورجم عثمان كذلك امرأة، ورجم علي بن أبي طالب رضي الله عنه شراحة، فكل هؤلاء رجموا بهذه الآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها، لهذا قال: [ويجوز نسخ الرسم] والمقصود به: المكتوب والمقروء، أي: اللفظ، [وبقاء الحكم]، أي: بقاء حكم ذلك اللفظ الذي نسخ.

نسخ الحكم وبقاء الرسم

قال: [ونسخ الحكم وبقاء الرسم]

أي: يجوز أيضاً أن ينسخ الحكم ويبقى اللفظ متلواً فيما يتلى من القرآن، كقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ[البقرة:240] ، فهذه الآية بقي لفظها ونسخ حكمها، بالآية التي قبلها في رسم المصحف، وهي متأخرة عنها في النزول، وهي وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، وكذلك قول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ[البقرة:180] ، فقد نسخ هذا الحكم، وبقي اللفظ مما يتلى، ومثل ذلك: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ[الأنفال:65] ، فقد نسخت هذه الآية بالآية التي بعدها وهي قول الله تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ[الأنفال:65-66]، فهذه الآية ناسخة لسابقتها، وقد أثبتت سابقتها في الرسم، وبقيت مما يتعبد بتلاوته، لكن لا يعمل بحكمها، فالحكم قد نسخ.

النسخ إلى بدل وإلى غير بدل

ثم قال: [والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل]، أي: يجوز النسخ إلى بدل، بأن تنزل آية أخرى بدل تلك، أو حكم آخر بدل الحكم الذي نسخ، ويجوز النسخ إلى غير بدل، أي: بالإحالة إلى ما كان من البراءة الأصلية، وهذا محل خلاف بين الأصوليين، فقد ذهب جمهورهم إلى أن النسخ لا يكون إلا إلى بدل؛ لأن الله تعالى يقول: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة:106] ، فلا بد من البدل الذي هو خير أو مثل للمنسوخ، والآخرون يقولون: البراءة بدل وهو خير أو مثل؛ لأن الله كان تعبدنا بذلك الحكم ثم لما نسخه تعبدنا بالإباحة فيه، فكان ذلك إلى غير بدل، وحمل عليه نسخ الصدقة بين يدي نجوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: هي من النسخ إلى غير بدل، وقيل: بل ذكر البدل وهو: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لأنه قال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[المجادلة:13] فذلك من النسخ إلى بدل.

النسخ إلى ما هو أغلظ وإلى ما هو أخف

قال المصنف: [وإلى ما هو أغلط، وإلى ما هو أخف] أي: يجوز النسخ إلى ما هو أغلط بالزيادة في الحكم، أو إلى ما هو أخف بالأسهل، وهذا أيضاً محل خلاف بين الأصوليين، فذهب بعضهم إلى: أن النسخ لا يكون إلا بالأسهل؛ لأن الله تعالى يقول: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة:106] فالأسهل هو الخير أو المماثل، وأما الأشد فلا يكون كذلك، والذين يرون صحة النسخ بالأغلظ والأشد، يقولون: الأشد خير من المنسوخ؛ لأنه أكثر منه أجراً، وقد عرف النسخ بالأخف مثل قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ[الأنفال:65] ، فنسخ بقوله:: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ[الأنفال:66] ، فكان ذلك تخفيفاً، وأما النسخ بالأغلظ، فمثله ما ورد من التحريم بعد الإباحة: كتحريم لحوم الحمر الأهلية بعد إباحتها، وذلك مما تكرر فيه النسخ، فقد تكرر النسخ في أربع مسائل وهي:

1- القبلة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يصلي إلى البيت الحرام، ثم لما هاجر صلى إلى الشام سبعة عشر شهراً، ثم نسخت القبلة فأعيدت إلى البيت الحرام.

2- وكذلك منها متعة النكاح، فقد حرمت بإعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عنها، ثم أذن فيها في بعض الغزوات، ثم حرمها وبقيت على التحريم.

3- ومثل ذلك: الحمر الأهلية، فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلها، ثم في إحدى الغزوات أذن بأكلها لجوع الناس، ثم بعد ذلك حرمها فاستمرت على التحريم.

4- ومثل ذلك: الوضوء مما مست النار، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ مما مست النار، ثم ترك الوضوء من ذلك، وكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار.

وهذه الأربع هي التي نظمها الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله:

النسخ ذو تكرر في أربع جاءت بها الكتب والأخبار

في قبلة ومتعة وحمر كذا الوضو مما تمس النار

قال المصنف: [ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم]. يقصد: أن أقسام النسخ منها: نسخ اللفظ وبقاء حكمه، كآية الرجم التي كانت في سورة الأحزاب، وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله)، وكانت هذه الآية ثابتة في سورة الأحزاب، فنسخ لفظها وبقي حكمها، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم خمسة أشخاص، وهم اليهوديان، وماعز، والغامدية، وصاحبة العسيف، وكذلك عمل به خلفاؤه الراشدون فقد رجم عمر رضي الله عنه امرأتين، ورجم عثمان كذلك امرأة، ورجم علي بن أبي طالب رضي الله عنه شراحة، فكل هؤلاء رجموا بهذه الآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها، لهذا قال: [ويجوز نسخ الرسم] والمقصود به: المكتوب والمقروء، أي: اللفظ، [وبقاء الحكم]، أي: بقاء حكم ذلك اللفظ الذي نسخ.

قال: [ونسخ الحكم وبقاء الرسم]

أي: يجوز أيضاً أن ينسخ الحكم ويبقى اللفظ متلواً فيما يتلى من القرآن، كقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ[البقرة:240] ، فهذه الآية بقي لفظها ونسخ حكمها، بالآية التي قبلها في رسم المصحف، وهي متأخرة عنها في النزول، وهي وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، وكذلك قول الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ[البقرة:180] ، فقد نسخ هذا الحكم، وبقي اللفظ مما يتلى، ومثل ذلك: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ[الأنفال:65] ، فقد نسخت هذه الآية بالآية التي بعدها وهي قول الله تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ[الأنفال:65-66]، فهذه الآية ناسخة لسابقتها، وقد أثبتت سابقتها في الرسم، وبقيت مما يتعبد بتلاوته، لكن لا يعمل بحكمها، فالحكم قد نسخ.

ثم قال: [والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل]، أي: يجوز النسخ إلى بدل، بأن تنزل آية أخرى بدل تلك، أو حكم آخر بدل الحكم الذي نسخ، ويجوز النسخ إلى غير بدل، أي: بالإحالة إلى ما كان من البراءة الأصلية، وهذا محل خلاف بين الأصوليين، فقد ذهب جمهورهم إلى أن النسخ لا يكون إلا إلى بدل؛ لأن الله تعالى يقول: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة:106] ، فلا بد من البدل الذي هو خير أو مثل للمنسوخ، والآخرون يقولون: البراءة بدل وهو خير أو مثل؛ لأن الله كان تعبدنا بذلك الحكم ثم لما نسخه تعبدنا بالإباحة فيه، فكان ذلك إلى غير بدل، وحمل عليه نسخ الصدقة بين يدي نجوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: هي من النسخ إلى غير بدل، وقيل: بل ذكر البدل وهو: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لأنه قال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[المجادلة:13] فذلك من النسخ إلى بدل.

قال المصنف: [وإلى ما هو أغلط، وإلى ما هو أخف] أي: يجوز النسخ إلى ما هو أغلط بالزيادة في الحكم، أو إلى ما هو أخف بالأسهل، وهذا أيضاً محل خلاف بين الأصوليين، فذهب بعضهم إلى: أن النسخ لا يكون إلا بالأسهل؛ لأن الله تعالى يقول: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة:106] فالأسهل هو الخير أو المماثل، وأما الأشد فلا يكون كذلك، والذين يرون صحة النسخ بالأغلظ والأشد، يقولون: الأشد خير من المنسوخ؛ لأنه أكثر منه أجراً، وقد عرف النسخ بالأخف مثل قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ[الأنفال:65] ، فنسخ بقوله:: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ[الأنفال:66] ، فكان ذلك تخفيفاً، وأما النسخ بالأغلظ، فمثله ما ورد من التحريم بعد الإباحة: كتحريم لحوم الحمر الأهلية بعد إباحتها، وذلك مما تكرر فيه النسخ، فقد تكرر النسخ في أربع مسائل وهي:

1- القبلة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يصلي إلى البيت الحرام، ثم لما هاجر صلى إلى الشام سبعة عشر شهراً، ثم نسخت القبلة فأعيدت إلى البيت الحرام.

2- وكذلك منها متعة النكاح، فقد حرمت بإعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عنها، ثم أذن فيها في بعض الغزوات، ثم حرمها وبقيت على التحريم.

3- ومثل ذلك: الحمر الأهلية، فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلها، ثم في إحدى الغزوات أذن بأكلها لجوع الناس، ثم بعد ذلك حرمها فاستمرت على التحريم.

4- ومثل ذلك: الوضوء مما مست النار، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ مما مست النار، ثم ترك الوضوء من ذلك، وكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار.

وهذه الأربع هي التي نظمها الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله:

النسخ ذو تكرر في أربع جاءت بها الكتب والأخبار

في قبلة ومتعة وحمر كذا الوضو مما تمس النار

قال المصنف: [ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالكتاب وبالسنة].

ذكر المصنف أنواع النسخ باعتبار الناسخ، فالناسخ: إما كتاب وإما سنة، والمنسوخ في كل واحد منهما: إما كتاب وإما سنة، ومذهب الشافعي أن الكتاب لا ينسخ بالسنة، وأن السنة لا تنسخ بالكتاب، ومذهب الجمهور حصول النسخ بينهما.

نسخ الكتاب بالكتاب

فيجوز نسخ الكتاب بالكتاب بالاتفاق، مثلما ذكر في آيتي العدة وآيتي العدد في الغزو، فآية العدة جاء فيها قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا[البقرة:240] ، ونسخ ذلك بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، وآيتا العدد جاء فيهما قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:65-66].

نسخ الكتاب بالسنة

ويجوز كذلك نسخ الكتاب بالسنة على الراجح، مثل قول الله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ[البقرة:180] ، فقد نسخ ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).

نسخ السنة بالكتاب

وكذلك نسخ السنة بالكتاب، ومثاله: نسخ استقبال الشام في الصلاة بقول الله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ[البقرة:144].

فهذا الكتاب ناسخ للسنة.

نسخ السنة بالسنة

ونسخ السنة بالسنة كثير، كقوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة)، وكقوله في لحوم الأضاحي في النهي عن ادخارها ثلاثاً: (إنما كنت نهيتكم من أجل الدافة) ونحو ذلك.

جواز نسخ المتواتر بالمتواتر

قال: [ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالكتاب وبالسنة، ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر]، أي: يجوز نسخ الكتاب بالمتواتر من السنة، والواقع أن التواتر وصف طارئ، لأنه يتعلق بالنقل لا بالنزول، فالمقصود أن ما لم ينقل متواتراً بالسنة لا يمكن أن ينسخ به الكتاب عند طائفة من المتكلمين، ولكن العبرة هنا بالصحة، فإذا صح النقل -ولو لم يصل إلى حد التواتر- فذلك كاف في النسخ، لأن التواتر وصف طارئ بعد نزول الوحي، فهو متعلق بروايته لا بنزوله.

جواز نسخ الآحاد بالآحاد وبالمتواتر

قال: [ونسخ الآحاد بالآحاد وبالمتواتر] أي: أن الآحاد كذلك يمكن اعتبار النسخ فيها بالمتواتر قطعاً، كأحاديث الآحاد تنسخ بمتواتر القرآن ومتواتر السنة، وتنسخ الآحاد بالآحاد؛ لأنها في منزلتها.

عدم جواز نسخ المتواتر بالآحاد

ولا ينسخ المتواتر بالآحاد؛ لأنهما ليسا في منزلة واحدة، والناسخ لا يكون أضعف من المنسوخ، لكن هذا كما ذكرنا مستغنى عنه؛ لأن التواتر والآحاد راجعان إلى النقل، والنقل متأخر عن النزول، فلا يجوز نسخ الكتاب بالسنة، وهذا هو مذهب الشافعي ، ومذهب جمهور الأصوليين جواز ذلك، وقد بينا مثاله في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ[البقرة:180] .

قال المصنف: [ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد ]، كذلك لا يجوز نسخ المتواتر من السنة بالآحاد، وهذا قول لبعض أهل العلم، وقد بينا أنه إذا ثبت النقل فذلك كاف؛ لأن الشيء ينسخ بمثله وبما هو أقوى منه، أي: لا ينسخ بما هو أضعف منه.

حكمة النسخ

وللنسخ حكم منها: التدرج في التشريع، فإن الشارع الحكيم يراعي مصالح عباده، فلو أنزل الأحكام بَاتَّةً على الوجه الذي تستقر عليه، دون تدرج ومرور بتلك المراحل، لكان ذلك أدعى لعدم الاستجابة، فكان من لطفه وحكمته أن ينزل الأحكام متدرجة، وأن يحصل فيها النسخ.

وهذا النوع من النسخ من خصائص هذه الشريعة المحمدية، فالشرائع قبلها كانت تُنَزَّل دفعة واحدة، وتُفسخ دفعة واحدة، فقد آتى الله موسى التوراةَ مكتوبة في الألواح، وأنزل الصحف على إبراهيم، وأنزل الإنجيل على عيسى مكتوباً في الصحف، وأنزل الزبور على داود مكتوباً في الصحف، ولهذا استنكر المشركون تدرج نزول القرآن، فرد الله عليهم بقوله: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106] ، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[الفرقان:32-33].

فيجوز نسخ الكتاب بالكتاب بالاتفاق، مثلما ذكر في آيتي العدة وآيتي العدد في الغزو، فآية العدة جاء فيها قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا[البقرة:240] ، ونسخ ذلك بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[البقرة:234] ، وآيتا العدد جاء فيهما قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:65-66].

ويجوز كذلك نسخ الكتاب بالسنة على الراجح، مثل قول الله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ[البقرة:180] ، فقد نسخ ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الورقات في أصول الفقه [3] 3304 استماع
شرح الورقات في أصول الفقه [2] 3079 استماع
شرح الورقات في أصول الفقه [5] 2826 استماع
شرح الورقات في أصول الفقه [1] 2220 استماع