التعليق على مقدمة تفسير ابن جرير الطبري [3]


الحلقة مفرغة

علاقة الأحرف السبعة بمعاني القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [القول في البيان عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة )، وذكر الأخبار المروية بذلك.

قال أبو جعفر : اختلفت النقلة في ألفاظ الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فروي عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كان الكتاب الأول نزل من باب واحد، وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب، وعلى سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] ).

حدثني بذلك يونس بن عبد الأعلى ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: أخبرني حيوة بن شريح ، عن عقيل بن خالد ، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروي عن أبي قلابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً غير ذلك.

حدثنا محمد بن بشار بسنده عن أبي قلابة ، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، وقصص، ومثل ).

وروي عن أبي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ما حدثني به أبو كريب بسنده عن أبي بن كعب ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، قال: اقرأه على حرفين، فقلت: رب! خفف عن أمتي، فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة، كلها شاف كاف ).

وروي عن ابن مسعود من قيله خلاف ذلك كله، وهو ما حدثنا به أبو كريب بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله أنزل القرآن على خمسة أحرف: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحل الحلال، وحرم الحرام، واعمل بالمحكم، وآمن بالمتشابه، واعتبر بالأمثال.

وكل هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متقاربة المعاني؛ لأن قول القائل: فلان مقيم على باب من أبواب هذا الأمر؛ وفلان مقيم على وجه من وجوه هذا الأمر، وفلان مقيم على حرف من هذا الأمر سواء. ألا ترى أن الله تعالى ذكره وصف قوماً عبدوه على وجه من وجوه العبادات، فأخبر عنهم أنهم عبدوه على حرف، فقال: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11]، يعني: أنهم عبدوه على وجه الشك، لا على اليقين به، والتسليم لأمره، فكذلك رواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نزل القرآن من سبعة أبواب، ونزل على سبعة أحرف ) سواء، معناهما مؤتلف، وتأويلهما غير مختلف في هذا الوجه.

ومعنى ذلك كله: الخبر منه صلى الله عليه وسلم عما خصه الله به وأمته من الفضيلة والكرامة التي لم يؤتها أحداً في تنزيله، وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله على نبي من أنبياء الله صلى الله عليهم، فإنما نزل بلسان واحد، متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به، كان ذلك له ترجمةً وتفسيراً، لا تلاوةً له على ما أنزله الله، وأنزل كتابنا بألسن سبعة، بأي تلك الألسن السبعة تلاه التالي كان له تالياً على ما أنزله الله، لا مترجماً ولا مفسراً، حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ إذا أصاب معناه مترجماً له، كما كان التالي لبعض الكتب التي أنزلها الله بلسان واحد، إذا تلاه بغير اللسان الذي نزل به له مترجماً لا تالياً على ما أنزله الله به. فذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان الكتاب الأول نزل على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف ) ].

المؤلف رحمه الله تدرج في الموضوع فبدأ أولاً بكون القرآن نزل عربياً، وأنه لا يوجد فيه حرف أعجمي، ثم كونه نزل بلسان من ألسنة العرب، الذي هو على حرف واحد بمعنى على لغة واحدة عنده، وعرفنا علاقة المعرب بالتفسير، أو بفهم المعنى، وعلاقة كلامه في الأحرف السبعة بما يتعلق بتأويل القرآن أنه أنشأ هذه المقدمة على أنها مرتبطة بتأويل القرآن، فلو تأملنا الآن حديثه عن الأحرف السبعة، وارتباطها بتأويل القرآن لوجدنا أن الأحرف السبعة تعني سبع لغات، وأنه لم يبق منها إلا لغة من هذه اللغات، وهذه اللغة لها معنى، فمثلاً: إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً [يس:29]، أو (إن كانت إلا زقية)، فيتأثر المعنى إذاً بوجود هذه السبع أو بعدم وجودها على حرف واحد.

والذي نريد أن ننتبه له أنه بما أن الأحرف السبعة عنده بهذه المثابة فلها علاقة بقضية فهم القرآن، ولفظة (صيحة) مثلاً لها دلالة معنوية، ولفظة (زقية) لها دلالة معنوية، وإن كانا يتفقان اتفاقاً تاماً، فمن هذه الجهة يكون ذكره للأحرف السبعة على أنها ألسن العرب يعني سبع لغات من لغات العرب لا شك أن لها أثراً في تأويل القرآن وفهم معناه!

ومن هنا نفهم لماذا قدم الإمام في مقدمته بحديث الأحرف السبعة وذهب إلى هذا المذهب.

وهنا انتقل إلى الفصل الثاني الذي ذكره بعد الأحرف السبعة وهو في البيان عن معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة )، فاستطرد لكي يبين الفرق بين الأحرف السبعة والأبواب السبعة فأشار إليها على أنها قول، وأطال الاعتراض عليها، أو أنه يرى أن هذا يدخل أيضاً في بيان القرآن.

ولو تأملنا السبعة أبواب وهي: الزاجر، والآمر، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال، لوجدنا أنها مما يحتاج أن يفهم معناه، ولكن ليست هذه السبعة فقط هي التي يحتاج أن يفهم معناها في القرآن، فغيرها من علوم القرآن يحتاج إلى فهم.

والأقرب أن يكون أوردها استطراداً للتنبيه على افتراق حديث الأحرف السبعة عن حديث الأبواب السبعة؛ ليكون فاصلاً للمسألة التي ذكرها قبل، وإن كانت هذه المذكورات السبعة هي بحاجة إلى بيان، لكن ليست هي المختصة بالحاجة دون غيرها من المعاني المذكورة في القرآن.

ما يترتب على نزول القرآن على سبعة أحرف ونزول بقية الكتب السابقة على حرف

ولما ذكر هذه الآثار التي أوردها في كون القرآن أنزل على سبعة أبواب، والتي هي: الزاجر، والآمر، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال، وعلى سبعة ألسن أيضاً، ذكر الكتب السابقة وأنها نزلت على حرف واحد، ومن باب واحد، فمثلاً: التوراة يغلب عليها الأحكام، والزبور يغلب عليه الأمثال، والإنجيل يغلب عليه المواعظ التي هي الزواجر والنواهي.

وقوله: (متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به كان ذلك ترجمةً)، يعني: أن الكتب السابقة نزلت على حرف واحد، أي: لغة واحدة، فمتى حولت عن هذه اللغة فإنه يعتبر ترجمة، وهذا هو الواقع، فلا يوجد اليوم أي كتاب من كتب الله السابقة على نفس اللغة التي نزل عليها أبداً، وإنما الموجود القرآن فقط، أما الكتب السابقة والموجود عندنا منها كتب بني إسرائيل، فكل هذه الكتب لا يوجد شيء منها على اللغة التي نزل بها، أو على اللغة التي تكلم بها من كتب هذا الكلام، بل كل الموجود عندنا من الكتب السابقة إنما هو ترجمة.

ثم قال: (وأنزل كتابنا بألسن سبعة) التي هي اللغات السبع، (بأي تلك الألسن السبعة تلا التالي كان لها تالياً على ما أنزل الله، لا مترجماً ولا مفسراً)، يعني لو قلنا: إن قراءة (زقية) متواترة، فإن قرأ قارئ: (إن كانت إلا زقية) أو (إن كانت إلا صيحة)، فهو بمثابة التلاوة لا الترجمة، ولا يتحول إلى الترجمة (حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ إذا أصاب معناه مترجماً له)، بمعنى: إذا تصورنا كلمة لها سبعة مرادفات، وجاء قارئ وقرأ بمرادف ثامن، فنقول حينها: إن المرادف الثامن ليس قراءةً وإنما هو ترجمة، وهذا بناءً على رأي الإمام في الأحرف السبعة، فالخلاصة أن كلام الإمام متناسق في موضوع الأحرف السبعة وأنه ما زال يرى ذلك من باب الترادف.

قال: [ وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الكتاب الأول نزل من باب واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب )، فإنه صلى الله عليه وسلم عنى بقوله: نزل الكتاب الأول من باب واحد، والله أعلم ما نزل من كتب الله على من أنزله من أنبيائه، خالياً من الحدود، والأحكام، والحلال والحرام، كزبور داود، الذي إنما هو تذكير ومواعظ، وإنجيل عيسى، الذي هو تمجيد ومحامد، وحض على الصفح والإعراض، دون غيرها من الأحكام والشرائع، وما أشبه ذلك من الكتب التي نزلت ببعض المعاني السبعة التي يحوي جميعها كتابنا الذي خص الله به نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته ].

وهنا ملاحظة وهي: أن كلام الإمام هنا بالنظر إلى الأغلب فيما نزل على هؤلاء الأنبياء، وإلا فعيسى عليه الصلاة والسلام قال عنه الله سبحانه وتعالى: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، فعنده أحكام، وقل مثل هذا في بقية الكتب.

وعرف عن الإنجيل أن فيه الثناء والمحامد والمواعظ، وعرف عن الزبور أنه كان فيه المواعظ والأمثال من الاطلاع على هذه الكتب نفسها، مع أن كتب بني إسرائيل فيها تحريف لكن هذا مما اشتهر في هذه الكتب الثلاثة بالذات، ولذا لا نستطيع أن نقول: ماذا في صحف إبراهيم ؛ لأنه ليس عندنا فيها خبر إلا ما أشير إليه في الآيات التي قبلها.

قال: [ فلم يكن المتعبدون بإقامته يجدون لرضا الله تعالى ذكره مطلباً ينالون به الجنة، ويستوجبون به منه القربة، إلا من الوجه الواحد الذي أنزل به كتابهم، وذلك هو الباب الواحد من أبواب الجنة، الذي نزل منه ذلك الكتاب، وخص الله جل وعز نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمته، بأن أنزل عليهم كتابه على أوجه سبعة من الوجوه التي ينالون بها رضوان الله، ويدركون بها الفوز بالجنة، إذا أقاموها، فكل وجه من أوجهه السبعة باب من أبواب الجنة التي نزل منها القرآن؛ لأن العامل بكل وجه من أوجهه السبعة، عامل على باب من أبواب الجنة، وطالب من قبله الفوز بها، فالعمل بما أمر الله جل ذكره في كتابه باب من أبواب الجنة، وترك ما نهى الله عنه فيه باب آخر ثان من أبوابها، وتحليل ما حلل الله فيه باب ثالث من أبوابها، وتحريم ما حرم الله فيه باب رابع من أبوابها، والإيمان بمحكمه المبين باب خامس من أبوابها، والتسليم لمتشابهه الذي استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن خلقه، والإقرار بأن كل ذلك من عند ربه باب سادس من أبوابها، والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بعظاته باب سابع من أبوابها، فجميع ما في القرآن من حروفه السبعة وأبوابه السبعة، التي نزل منها جعله الله لعباده إلى رضوانه هادياً، ولهم إلى الجنة قائداً، فذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( نزل القرآن من سبعة أبواب الجنة ) ].

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل حرف منه حداً ...)

قال: [ وأما قوله صلى الله عليه وسلم في القرآن: ( إن لكل حرف منه حداً ) يعني: لكل وجه من أوجهه السبعة حد حده الله جل ثناؤه، لا يجوز لأحد أن يتجاوزه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وإن لكل حرف منها ظهراً وبطناً )، فظهره الظاهر في التلاوة، وبطنه ما بطن من تأويله.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وإن لكل حد من ذلك مطلعاً )، فإنه يعني أن لكل حد من حدود الله التي حدها فيه، من حلال وحرام وسائر شرائعه مقداراً من ثواب الله وعقابه، يعاينه في الآخرة، ويطلع عليه، ويلاقيه في القيامة. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع، يعني بذلك: ما يطلع عليه ويهجم عليه من أمر الله بعد وفاته ].

هذه إحدى تفسيرات هذا الخبر الوارد (إن لكل حرف حداً، وإن لكل حد مطلعاً، وإن لكل حرف منها ظاهراً وباطناً)، وهذا الأثر مع ما فيه من الضعف دخل في تفسيره الباطنية وغلاة الصوفية، فصاروا يعتمدون عليه في ذكر أمور لا يدل عليها القرآن بحال؛ ادعاءً على أنها من الباطن الذي لا يعلمه إلا الخاص.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [القول في البيان عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة )، وذكر الأخبار المروية بذلك.

قال أبو جعفر : اختلفت النقلة في ألفاظ الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فروي عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كان الكتاب الأول نزل من باب واحد، وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب، وعلى سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] ).

حدثني بذلك يونس بن عبد الأعلى ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: أخبرني حيوة بن شريح ، عن عقيل بن خالد ، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروي عن أبي قلابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً غير ذلك.

حدثنا محمد بن بشار بسنده عن أبي قلابة ، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، وقصص، ومثل ).

وروي عن أبي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ما حدثني به أبو كريب بسنده عن أبي بن كعب ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، قال: اقرأه على حرفين، فقلت: رب! خفف عن أمتي، فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة، كلها شاف كاف ).

وروي عن ابن مسعود من قيله خلاف ذلك كله، وهو ما حدثنا به أبو كريب بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله أنزل القرآن على خمسة أحرف: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحل الحلال، وحرم الحرام، واعمل بالمحكم، وآمن بالمتشابه، واعتبر بالأمثال.

وكل هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متقاربة المعاني؛ لأن قول القائل: فلان مقيم على باب من أبواب هذا الأمر؛ وفلان مقيم على وجه من وجوه هذا الأمر، وفلان مقيم على حرف من هذا الأمر سواء. ألا ترى أن الله تعالى ذكره وصف قوماً عبدوه على وجه من وجوه العبادات، فأخبر عنهم أنهم عبدوه على حرف، فقال: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11]، يعني: أنهم عبدوه على وجه الشك، لا على اليقين به، والتسليم لأمره، فكذلك رواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نزل القرآن من سبعة أبواب، ونزل على سبعة أحرف ) سواء، معناهما مؤتلف، وتأويلهما غير مختلف في هذا الوجه.

ومعنى ذلك كله: الخبر منه صلى الله عليه وسلم عما خصه الله به وأمته من الفضيلة والكرامة التي لم يؤتها أحداً في تنزيله، وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله على نبي من أنبياء الله صلى الله عليهم، فإنما نزل بلسان واحد، متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به، كان ذلك له ترجمةً وتفسيراً، لا تلاوةً له على ما أنزله الله، وأنزل كتابنا بألسن سبعة، بأي تلك الألسن السبعة تلاه التالي كان له تالياً على ما أنزله الله، لا مترجماً ولا مفسراً، حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ إذا أصاب معناه مترجماً له، كما كان التالي لبعض الكتب التي أنزلها الله بلسان واحد، إذا تلاه بغير اللسان الذي نزل به له مترجماً لا تالياً على ما أنزله الله به. فذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان الكتاب الأول نزل على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف ) ].

المؤلف رحمه الله تدرج في الموضوع فبدأ أولاً بكون القرآن نزل عربياً، وأنه لا يوجد فيه حرف أعجمي، ثم كونه نزل بلسان من ألسنة العرب، الذي هو على حرف واحد بمعنى على لغة واحدة عنده، وعرفنا علاقة المعرب بالتفسير، أو بفهم المعنى، وعلاقة كلامه في الأحرف السبعة بما يتعلق بتأويل القرآن أنه أنشأ هذه المقدمة على أنها مرتبطة بتأويل القرآن، فلو تأملنا الآن حديثه عن الأحرف السبعة، وارتباطها بتأويل القرآن لوجدنا أن الأحرف السبعة تعني سبع لغات، وأنه لم يبق منها إلا لغة من هذه اللغات، وهذه اللغة لها معنى، فمثلاً: إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً [يس:29]، أو (إن كانت إلا زقية)، فيتأثر المعنى إذاً بوجود هذه السبع أو بعدم وجودها على حرف واحد.

والذي نريد أن ننتبه له أنه بما أن الأحرف السبعة عنده بهذه المثابة فلها علاقة بقضية فهم القرآن، ولفظة (صيحة) مثلاً لها دلالة معنوية، ولفظة (زقية) لها دلالة معنوية، وإن كانا يتفقان اتفاقاً تاماً، فمن هذه الجهة يكون ذكره للأحرف السبعة على أنها ألسن العرب يعني سبع لغات من لغات العرب لا شك أن لها أثراً في تأويل القرآن وفهم معناه!

ومن هنا نفهم لماذا قدم الإمام في مقدمته بحديث الأحرف السبعة وذهب إلى هذا المذهب.

وهنا انتقل إلى الفصل الثاني الذي ذكره بعد الأحرف السبعة وهو في البيان عن معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة )، فاستطرد لكي يبين الفرق بين الأحرف السبعة والأبواب السبعة فأشار إليها على أنها قول، وأطال الاعتراض عليها، أو أنه يرى أن هذا يدخل أيضاً في بيان القرآن.

ولو تأملنا السبعة أبواب وهي: الزاجر، والآمر، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال، لوجدنا أنها مما يحتاج أن يفهم معناه، ولكن ليست هذه السبعة فقط هي التي يحتاج أن يفهم معناها في القرآن، فغيرها من علوم القرآن يحتاج إلى فهم.

والأقرب أن يكون أوردها استطراداً للتنبيه على افتراق حديث الأحرف السبعة عن حديث الأبواب السبعة؛ ليكون فاصلاً للمسألة التي ذكرها قبل، وإن كانت هذه المذكورات السبعة هي بحاجة إلى بيان، لكن ليست هي المختصة بالحاجة دون غيرها من المعاني المذكورة في القرآن.

ولما ذكر هذه الآثار التي أوردها في كون القرآن أنزل على سبعة أبواب، والتي هي: الزاجر، والآمر، والحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال، وعلى سبعة ألسن أيضاً، ذكر الكتب السابقة وأنها نزلت على حرف واحد، ومن باب واحد، فمثلاً: التوراة يغلب عليها الأحكام، والزبور يغلب عليه الأمثال، والإنجيل يغلب عليه المواعظ التي هي الزواجر والنواهي.

وقوله: (متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به كان ذلك ترجمةً)، يعني: أن الكتب السابقة نزلت على حرف واحد، أي: لغة واحدة، فمتى حولت عن هذه اللغة فإنه يعتبر ترجمة، وهذا هو الواقع، فلا يوجد اليوم أي كتاب من كتب الله السابقة على نفس اللغة التي نزل عليها أبداً، وإنما الموجود القرآن فقط، أما الكتب السابقة والموجود عندنا منها كتب بني إسرائيل، فكل هذه الكتب لا يوجد شيء منها على اللغة التي نزل بها، أو على اللغة التي تكلم بها من كتب هذا الكلام، بل كل الموجود عندنا من الكتب السابقة إنما هو ترجمة.

ثم قال: (وأنزل كتابنا بألسن سبعة) التي هي اللغات السبع، (بأي تلك الألسن السبعة تلا التالي كان لها تالياً على ما أنزل الله، لا مترجماً ولا مفسراً)، يعني لو قلنا: إن قراءة (زقية) متواترة، فإن قرأ قارئ: (إن كانت إلا زقية) أو (إن كانت إلا صيحة)، فهو بمثابة التلاوة لا الترجمة، ولا يتحول إلى الترجمة (حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ إذا أصاب معناه مترجماً له)، بمعنى: إذا تصورنا كلمة لها سبعة مرادفات، وجاء قارئ وقرأ بمرادف ثامن، فنقول حينها: إن المرادف الثامن ليس قراءةً وإنما هو ترجمة، وهذا بناءً على رأي الإمام في الأحرف السبعة، فالخلاصة أن كلام الإمام متناسق في موضوع الأحرف السبعة وأنه ما زال يرى ذلك من باب الترادف.

قال: [ وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الكتاب الأول نزل من باب واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب )، فإنه صلى الله عليه وسلم عنى بقوله: نزل الكتاب الأول من باب واحد، والله أعلم ما نزل من كتب الله على من أنزله من أنبيائه، خالياً من الحدود، والأحكام، والحلال والحرام، كزبور داود، الذي إنما هو تذكير ومواعظ، وإنجيل عيسى، الذي هو تمجيد ومحامد، وحض على الصفح والإعراض، دون غيرها من الأحكام والشرائع، وما أشبه ذلك من الكتب التي نزلت ببعض المعاني السبعة التي يحوي جميعها كتابنا الذي خص الله به نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته ].

وهنا ملاحظة وهي: أن كلام الإمام هنا بالنظر إلى الأغلب فيما نزل على هؤلاء الأنبياء، وإلا فعيسى عليه الصلاة والسلام قال عنه الله سبحانه وتعالى: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، فعنده أحكام، وقل مثل هذا في بقية الكتب.

وعرف عن الإنجيل أن فيه الثناء والمحامد والمواعظ، وعرف عن الزبور أنه كان فيه المواعظ والأمثال من الاطلاع على هذه الكتب نفسها، مع أن كتب بني إسرائيل فيها تحريف لكن هذا مما اشتهر في هذه الكتب الثلاثة بالذات، ولذا لا نستطيع أن نقول: ماذا في صحف إبراهيم ؛ لأنه ليس عندنا فيها خبر إلا ما أشير إليه في الآيات التي قبلها.

قال: [ فلم يكن المتعبدون بإقامته يجدون لرضا الله تعالى ذكره مطلباً ينالون به الجنة، ويستوجبون به منه القربة، إلا من الوجه الواحد الذي أنزل به كتابهم، وذلك هو الباب الواحد من أبواب الجنة، الذي نزل منه ذلك الكتاب، وخص الله جل وعز نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمته، بأن أنزل عليهم كتابه على أوجه سبعة من الوجوه التي ينالون بها رضوان الله، ويدركون بها الفوز بالجنة، إذا أقاموها، فكل وجه من أوجهه السبعة باب من أبواب الجنة التي نزل منها القرآن؛ لأن العامل بكل وجه من أوجهه السبعة، عامل على باب من أبواب الجنة، وطالب من قبله الفوز بها، فالعمل بما أمر الله جل ذكره في كتابه باب من أبواب الجنة، وترك ما نهى الله عنه فيه باب آخر ثان من أبوابها، وتحليل ما حلل الله فيه باب ثالث من أبوابها، وتحريم ما حرم الله فيه باب رابع من أبوابها، والإيمان بمحكمه المبين باب خامس من أبوابها، والتسليم لمتشابهه الذي استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن خلقه، والإقرار بأن كل ذلك من عند ربه باب سادس من أبوابها، والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بعظاته باب سابع من أبوابها، فجميع ما في القرآن من حروفه السبعة وأبوابه السبعة، التي نزل منها جعله الله لعباده إلى رضوانه هادياً، ولهم إلى الجنة قائداً، فذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( نزل القرآن من سبعة أبواب الجنة ) ].

قال: [ وأما قوله صلى الله عليه وسلم في القرآن: ( إن لكل حرف منه حداً ) يعني: لكل وجه من أوجهه السبعة حد حده الله جل ثناؤه، لا يجوز لأحد أن يتجاوزه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وإن لكل حرف منها ظهراً وبطناً )، فظهره الظاهر في التلاوة، وبطنه ما بطن من تأويله.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وإن لكل حد من ذلك مطلعاً )، فإنه يعني أن لكل حد من حدود الله التي حدها فيه، من حلال وحرام وسائر شرائعه مقداراً من ثواب الله وعقابه، يعاينه في الآخرة، ويطلع عليه، ويلاقيه في القيامة. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع، يعني بذلك: ما يطلع عليه ويهجم عليه من أمر الله بعد وفاته ].

هذه إحدى تفسيرات هذا الخبر الوارد (إن لكل حرف حداً، وإن لكل حد مطلعاً، وإن لكل حرف منها ظاهراً وباطناً)، وهذا الأثر مع ما فيه من الضعف دخل في تفسيره الباطنية وغلاة الصوفية، فصاروا يعتمدون عليه في ذكر أمور لا يدل عليها القرآن بحال؛ ادعاءً على أنها من الباطن الذي لا يعلمه إلا الخاص.

قال: [ القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن.

قال أبو جعفر : قد قلنا في الدلالة على أن القرآن كله عربي، وأنه نزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن قراءة المسلمين اليوم ومصاحفهم التي هي بين أظهرهم ببعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها، وقلنا في البيان عما يحويه القرآن من النور والبرهان والحكمة والتبيان، التي أودعها الله إياه من أمره، ونهيه، وحلاله، وحرامه، ووعده، ووعيده، ومحكمه، ومتشابهه، ولطائف حكمه، ما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه ].

هذه قاعدة عند المؤلف في تفسيره ومنهج يسير عليه وهو ربط الموضوعات بعضها ببعض، حتى في الآيات يستخدم نفس الأسلوب وهو التنبيه على كل ما مضى، فهو هنا أعطانا في هذه الأسطر القليلة كل الموضوعات التي ذكرها قبل ذلك واختصرها في هذا الموطن.

قال: [ ونحن قائلون في البيان عن وجوه مطالب تأويله, قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].

وقال أيضاً له جل ذكره: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64].

وقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].

فقد تبين ببيان الله جل ذكره أن مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره: واجبه، وندبه، وإرشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه، وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه، التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته.

وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويله بنص منه عليه، أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله ].

هذا البحث حول كيفية الوصول إلى فهم القرآن، بعد أن انتهى من هذه المقدمات دخل في ما يمكن أن يقال: إنه أصل هذه المقدمة.

فابتدأ في وجوه مطالب تأويله بذكر ما يعرف من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الآيات الدالة على ذلك، وبين ما لا يوصل إلى تأويله إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو ما ارتبط بأحكام القرآن- فقال: (أمره وواجبه وندبه، وإرشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه، وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه)، فهذه كلها لا تعرف إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الوجه كما قال: لا يجوز لأحد البيان فيه إلا إذا كان عنده نص واضح وصريح من النبي صلى الله عليه وسلم، أو دلالة قد نصبها لأمته للقول الصحيح.

النوع الأول من معاني القرآن

فالوجه الأول عند المؤلف: هو ما يكون معلوماً من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام.

وهذه الأحكام إما أن ينص النبي صلى الله عليه وسلم عليها صراحةً أن مراد الله بهذا الحكم كذا، وإما أن يدل أمته بنوع من الدلالة على أن المراد كذا.

النوع الثاني: هو الدلالة على المعنى كما في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يصرح بالمراد بالقروء لذا وقع خلاف بين العلماء، ونحن نعلم أن أحد القولين هو الصحيح، وأن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلى القول الصحيح، فهذه دلالة، لكن لو جاء حكم مباشر مثل تفسيره صلى الله عليه وسلم لقوله سبحانه وتعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222] حيث قال: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )؛ لأن قوله: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) يفهم منه العموم المطلق، فيكون اعتزالاً في المأكل والمشرب والمنام وغير ذلك، لكن جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فنبه على أن المراد بالاعتزال هنا هو الاعتزال عن الوطء فقال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، بمعنى أنه لا يجوز أن يجامعها، وأما ما عدا ذلك فلا حرج فيه، فهذا بيان نبوي مباشر، والخلاصة: أن البيان النبوي للقرآن إما أن يكون مباشراً مثل هذا المثال، وإما أن يكون غير مباشر، ويكون في كلامه صلى الله عليه وسلم دلالة على ما يريد، لكنها دلالة تحتاج إلى من ينظر فيها، وليست مباشرة، ولهذا يقع الخلاف في بعض الأحكام.

فالوجه الأول هو ما يعلم من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام المؤلف منصب على الأحكام، وهذه الأحكام التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون قد نص عليها مباشرةً، وإما أن يكون قد دل أمته على المراد من هذا الحكم الذي ورد في القرآن، وهذا هو النوع الثاني.

النوع الثاني من معاني القرآن

قال: [وأن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى بن مريم ، وما أشبه ذلك، فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا بالخبر عن أشراطها؛ لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه.

وبذلك أنزل ربنا محكم كتابه، فقال: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187].

وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئاً من ذلك لم يدل عليه إلا بأشراطه، دون تحديده بوقته، كالذي روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه إذ ذكر الدجال : ( إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإن يخرج بعدي فالله خليفتي عليكم )، وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب، الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده علم أوقات شيء منه بمقادير السنين والأيام، وأن الله جل ثناؤه إنما كان عرفه مجيئه بأشراطه، ووقته بأدلته].

هذا النوع الثاني: ما لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه وتعالى، ومن خلال الأمثلة التي ذكرها يمكن أن نقول: إن ما لا يعلم تأويله إلا الله مرتبط بأوقات المغيبات؛ لأنها كلها مرتبطة بالأوقات، ويمكن أن يضاف إليها أيضاً كيفيات المغيبات التي لم يخبرنا الله سبحانه وتعالى بها، فإن بعض المغيبات ذكر لها كيفيات، وبعض المغيبات لم يذكر لها كيفيات، فما لم يذكر له كيفية فهو يدخل أيضاً في هذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

ومن خلال ذكر المؤلف هذه المغيبات يرد إشكال وهو هل تدخل هذه المغيبات في التفسير؟

والجواب: أنها لا تدخل في التفسير؛ لأنها مفهومة المعنى، لكن وقت الخبر وكيفية وقوعه هذا من باب التأويل، وليس من باب التفسير، وهنا لا بد من البحث والتأمل في المقدمة حتى نعرف مراد المؤلف بالتأويل هل هو بمعنى ما تئول إليه حقيقة الشيء، سواءً كانت من باب التفسير، أو كانت من باب الواقع، فإذا كان هذا مراد الإمام، فيكون الوجه الأول الذي ذكره من باب التفسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر القرآن وبينه، أو هو من النوع الثاني وهو ما تئول إليه حقيقة هذا الأمر، وواضح من كلام المؤلف المعنى الثاني؛ لأنه كلام عن وقت مغيبات، وليس كلاماً عن معنى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجهل معنى قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ [الأعراف:187]؟ وإنما يجهل صلى الله عليه وسلم وقت وقوع الساعة.

فإذاً: معرفة (يسألونك عن الساعة) من باب التفسير، أما معرفة متى تقع الساعة فمن باب التأويل، وهذه فائدة مهمة وهي: أن التفسير مرتبط بالمعاني، والتأويل في معناها الثاني مرتبط بحقائق الأمور متى تقع؟ وكيف تكون؟

النوع الثالث من معاني القرآن

قال: [ وأن منه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك إقامة إعرابه، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم، وذلك كسامع منهم لو سمع تالياً يتلو: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12]، لم يجهل أن معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الإصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفساداً والمعاني التي جعلها الله إصلاحاً، فالذي يعلمه ذو اللسان الذي بلسانه نزل القرآن من تأويل القرآن، هو ما وصفت من معرفة أعيان المسميات بأسمائها اللازمة، غير المشترك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة، دون الواجب من أحكامها وصفاتها وهيئاتها، التي خص الله بعلمها نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا يدرك علمه إلا ببيانه، دون ما استأثر الله بعلمه دون خلقه ].

هذا النوع الثالث وهو ما يتعلق باللسان العربي، أولاً المصادر التي ذكرها الإمام ثلاثة: ما يكون بيانه راجعاً إلى الله سبحانه وتعالى.

وما يكون بيانه راجعاً إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

وما يكون بيانه راجعاً إلى لغة العرب.

ونجد أن أوسع هذه المصادر -وهو الذي جعل مجالاً للاجتهاد- الثالث الذي يعلم من جهة اللسان، فيعلمه كل ذي علم باللسان؛ فإذا رجعنا إلى بيان القرآن بالقرآن بمعناه الدقيق فسنجد أن ما لا يقع فيه الاختلاف قليل.

أيضاً: ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً مباشراً قليل.

ويبقى أغلب القرآن من قسم ما يعلمه كل ذي علم باللسان، لكن ما يعلم على وجه الحقيقة بحيث لا يقع فيه اختلاف، ولهذا قال: (وذلك إقامة إعرابه، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها)، فكأنه يريد أن ينبه على التفسير الذي لا يقع فيه اختلاف، فإذا ذكر يتجه كل واحد إلى هذا المعنى، أما إذا وقع اشتراك فيقع اختلاف، ومع هذا لو وقع اختلاف فإن المصدر في النهاية هو علم اللسان، وكذلك الموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فبعض الموصوفات قد تكون لها صفات خاصة، وبعضها قد تكون مشتركة مع غيرها، فكأنه يريد أن يشير إلى أنهم لا يجهلون هذه المعاني بل يكادون أن يكونوا متفقين عليها ويعرفونها، وضرب مثالاً لذلك بقوله تعالى: لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11]، فالجميع يعرف الإفساد وإن كانت أنواع الإفساد نفسها قد لا تعرف، لكن معنى: (لا تفسدوا) واضح عندهم.

ولهذا قال: (وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفساداً)، فقد يعمل الإنسان عملاً فيظن أنه من باب الإصلاح وهو في الحقيقة من باب الإفساد، فإذا أفسد ينطبق عليه قوله: (لا تفسدوا في الأرض)، فقوله تعالى: (لا تفسدوا في الأرض)، معناه العام لا يختلف فيه أحد ممن هو على علم باللسان، لكن تنزيل هذا المعنى هو الذي يقع فيه الإشكال، فهذه جهة وتلك جهة أخرى.

قال: [ وبمثل ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس .

قال: حدثنا محمد بن بشار بسنده إلى ابن عباس قال: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله.

قال أبو جعفر : وهذا الوجه الرابع الذي ذكره ابن عباس من أن أحداً لا يعذر بجهالته، معنىً غير الإبانة عن وجوه مطالب تأويله، وإنما هو خبر عن أن من تأويله ما لا يجوز لأحد الجهل به، وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أيضاً ].

لما ذكر المؤلف كلام ابن عباس ، وأنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام، والمؤلف قسمها إلى ثلاثة أقسام، أراد أن ينبه إلى أنه ليس هناك فرق بين ما ذكره هو وما ذكره ابن عباس ؛ لأن المعنى الزائد الذي ذكره ابن عباس وهو ما لا يعذر أحد بجهالته، هو معنىً غير الإبانة عن وجوه مطالب تأويله، فمصادر تأويله الرجوع إلى كلام الله فإن لم يوجد، فالرجوع إلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يوجد فالرجوع إلى لسان العرب، وأما ما لا يعذر أحد بجهالته فهذا خارج عن مطالب التأويل، فنبه على أنه ليس مما يتكلم عنه عند ذكر مطالب التأويل.

قال: [ وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر في إسناده نظر.

قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي بسنده عن أبي صالح مولى أم هانئ ، عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال، وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب ) ].

وهذا في إسناده نظر كما قال؛ لأنه من رواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وهذا أيضاً من نقد الإسناد، وقد نقد هذا الإسناد في غير هذا الموطن، ونبه على أن في إسناده نظراً، مع أنك لو تأملت الأثر لوجدته قريباً من الأثر الذي روي عن ابن عباس، أما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي يمكن أن يقال: فيه نظر، أما كون ابن عباس قاله فيمكن أن تسنده الرواية الأخرى، وإن كانت الرواية الأخرى فيها أيضاً كلام.

وتقسيم ابن عباس لا أدري هل هو من باب القسمة العقلية التامة أو لا؟ وأما قوله: (تفسير لا يعلمه إلا الله)، فهذا لا يوجد إذا كان المراد بالتفسير فهم المعاني، بل لا يوجد في القرآن كلمة لا يعلم معناها إلا الله، ومراد ابن عباس شيء آخر غير هذا.

تلخيص المعاني الواردة في القرآن

قال: [ قال أبو جعفر : قد قلنا فيما مضى من كتابنا هذا في وجوه تأويل القرآن، وأن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة:

أحدها: لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن جميع خلقه، وهو أوقات ما كان من آجال الأمور الحادثة التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة مثل وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى ابن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك.

والوجه الثاني: ما خص الله بعلم تأويله نبيه صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجة، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تأويله ].

وهذا لم يفصل فيه هنا لأنه سيفصل فيه في موضع آخر.

قال: [ والثالث منها: ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل غريبه وإعرابه، لا يوصل إلى علم ذلك إلا من قبلهم ].


استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
التعليق على مقدمة تفسير ابن جرير الطبري [4] 3321 استماع
التعليق على مقدمة تفسير ابن جرير الطبري [2] 1844 استماع
التعليق على مقدمة تفسير ابن جرير الطبري [1] 1541 استماع