التعليق على مقدمة تفسير ابن جرير الطبري [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ... وبعد:

قبل أن ندخل في مقدمة تفسير الطبري أذكر طرفاً قليلاً جداً مما يتعلق بهذا الكتاب، وهو كتاب جامع البيان عن تأويل آي القرآن لإمام المفسرين محمد بن جرير الطبري ، المولود سنة مائتين وأربع وعشرين، والمتوفى سنة ثلاثمائة وعشر.

يقول الإمام أبو جعفر رحمه الله تعالى: [ استخرت الله في عملي كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني ].

وأيضاً روى أبو عمر عبيد الله بن أحمد السمسار و أبو القاسم ابن عقيل الوراق : أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا تفنى الأعمار قبل تمامه. فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم ذكر نحواً من ذلك فيما يتعلق بتاريخ العالم، فاختصره أيضاً بنحو ما اختصر التفسير.

وهذا الكتاب اشتهر وذاع صيته قبل وفاة الإمام، اشتهر وارتفع ذكره و أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، و أبو العباس محمد بن يزيد المبرد يحييان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضاً في الوقت غيرهما مثل: أبي جعفر الرستمي ، و أبي الحسن بن كيسان ، و المفضل بن سلمة ، و أبي إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويين من فرسان هذا اللسان، وحمل هذا الكتاب مشرقاً ومغرباً، وقرأه كل من كان في وقته من العلماء، وكل فضله وقدمه.

يقول أبو حامد الإسفراييني عن هذا الكتاب: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيراً، أو كلاماً هذا معناه.

وقال أبو بكر أحمد بن مجاهد: سمعت أبا جعفر يقول: إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته.

فهذه بعض النقول ذكرتها لكم من كتاب معجم الأدباء وهو أنفس كتاب موجود فيه ترجمة للإمام ابن جرير الطبري ، وهناك ترجمات موجودة لكن أوسع ترجمة هي في كتاب معجم الأدباء لـياقوت الحموي ، وترجمة محمد بن جرير الطبري أوسع ترجمة في هذا الكتاب، فهذا الكتاب ومؤلفه معروفان ولا نحتاج إلى أن نطيل في ذكره أو ذكر ما يتعلق بحال الإمام، ومن أراد أن يتوسع فليرجع إلى ترجمته في معجم الآباء.. لكن من باب الفائدة أحب أن أنوه إلى أن بعض المعاصرين الذين خصصوا كتباً في ترجمة ابن جرير الطبري قصروا فيما يتعلق بمنهجه في التفسير، بل قد أخطأ بعضهم خطأً بيناً يظهر منه أنه لم يطلع على صفحة من كتاب أبي جعفر ، إذ لو اطلع عليه لما قال بعض ما قال.

وقراءة هذه المقدمة ستبين لنا منهج هذا الإمام، وماذا أراد بكتابه؟ ولماذا ألفه؟ فلا نحتاج إلى أن نستقرئ كتابه لكي نستبصر منهجه العام، وإن كنا قد نحتاج إلى منهجه التفصيلي في أن نستقرئ الكتاب، ولذا سترون أن من أعجب ما قيل: إن الإمام ابن جرير الطبري قد ذكر الأسانيد وهو يعلم ضعفها بناءً على أن من أسند فقد أحال، وهذا ليس بصحيح مطلقاً، فالإمام رحمه الله تعالى لم يعتمد هذه القاعدة في التفسير، وإن كان أشار إليها في مقدمة كتابه التاريخ، أما في التفسير فلم يعتمد عليها إطلاقاً، وإنما كان له منهج سيتبين لنا إن شاء الله من خلال المقدمة، وسنقرأ بعض الأمثلة التي نطبقها أو نطبق مقدمة بناءً عليها بإذن الله، ففي ذهني مثال أو مثالان إن استطعنا أن نقرأهما جميعاً ونحاول أن نتدارس منهجية ابن جرير الطبري من خلال هذا المثال وذاك، وهذا سيزيد إن شاء الله بياناً لبعض الأفكار التي طرحها الإمام في المقدمة.

بداية تأليف الإمام الطبري تفسيره

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

[ قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة قال ].

قوله: [ قرئ على أبي جعفر ]، هذا ظاهر أن الذي يكتب هذا هو أحد تلاميذ أبي جعفر الطبري ، وقوله: [ قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة ] والإمام توفي سنة ثلاثمائة وعشر، فهذا يبين أنه قرئ عليه كتابه قبل وفاته بقرابة أربع سنين، ويقول: أبو بكر بن كامل وهو من تلاميذ الإمام ابن جرير: أملى علينا من كتاب التفسير مائةً وخمسين آية، ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن، فقرأه علينا وذلك في سنة سبعين ومائتين. فهذا يبين أنه في سنة مائتين وسبعين بدأ الإمام الإملاء ثم قرأه على طلابه.

رواية أخرى عن أبي بكر بن بالويه قال: قال لي أبو بكر بن محمد بن إسحاق -يعني: ابن خزيمة- وهو من معاصري الإمام: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير قلت: نعم، كتبنا التفسير عنه إملاءً. فقال: كله؟ قلت: نعم. قال: في أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين. ففيه أن بقي يمليه عليهم سبع سنوات.

المراحل التي مر بها الطبري عند تأليفه كتاب التفسير

فهذا يبين لنا المراحل التي مر به هذا التفسير مع الإمام: المرحلة الأولى مرحلة الإملاء الأولى التي كانت سنة سبعين ومائتين.

والمرحلة الثانية مرحلة الإملاء التي كانت سنة ثلاث وثمانين ومائتين.

ثم بعد ذلك بعد أن انتهى منه سنة ست وثلاثمائة، يعني سنة ثلاثمائة وست قرئ عليه التفسير، لكن لا نعلم هل قرئ كاملاً أم لا؟ ويظهر لنا جودة التحرير والتصنيف في كتاب تكرر علينا الإملاء مرة بعد مرة، ثم قرئ على الإمام، وهذه فائدة نفيسة وعزيزة لا تستنبط إلا من خلال قراءة ترجمة هذا الإمام.

الخلاصة أن المراحل التي مر بهذا التفسير ثلاث:

الأولى: التي ذكرها أبو بكر بن كامل مرحلة الإملاء: سنة سبعين ومائتين.

والمرحلة الثانية مرحلة الإملاء الثانية: التي ذكرها ابن بالويه وكانت من سنة مائتين وثلاث وثمانين إلى سنة مائتين وتسعين، والمرحلة الثالثة: مرحلة قراءة الكتاب على الإمام أبي جعفر سنة ثلاثمائة وست.

تقديم ابن جرير لتفسيره

[ قال: الحمد لله الذي حجت الألباب بدائع حكمه، وخصمت العقول لطائف حججه، وقطعت عذر الملحدين عجائب صنعه، وهتف في أسماع العالمين ألسن أدلته، شاهدةً أنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا عدل له معادل، ولا مثل له مماثل، ولا شريك له مظاهر، ولا ولد له ولا والد، ولم يكن له صاحبة، ولا كفواً أحد، وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة، والعزيز الذي ذلت لعزته الملوك الأعزة، وخشعت لمهابة سطوته ذوو المهابة، وأذعن له جميع الخلق بالطاعة طوعاً وكرهاً، كما قال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15].

فكل موجود إلى وحدانيته داع، وكل محسوس إلى ربوبيته هاد، بما وسمهم به من آثار الصنعة من نقص وزيادة، وعجز وحاجة، وتصرف في عاهات عارضة، ومقارنة أحداث لازمة؛ لتكون له الحجة البالغة.

فضل الأنبياء وبيان أعلاهم منزلة

ثم أردف ما شهدت به من ذلك أدلته، وأكد ما استنارت في القلوب منه بهجته، برسل ابتعثهم إلى عباده، دعاةً إلى ما اتضحت لديهم صحته، وثبتت في العقول حجته؛ لئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]؛ وليذكر أولو النهى والحلم، فأمدهم بعونه، وأبانهم من سائر خلقه، بما دل به على صدقهم من الأدلة، وأيدهم به من الحجج البالغة، والآي المعجزة؛ لئلا يقول القائل منهم: مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:33-34].

فجعلهم سفراءه بينه وبين خلقه، وأمناءه على وحيه، واختصهم بفضله، واصطفاهم برسالته، ثم جعلهم فيما خصهم به من مواهبه، ومن به عليهم من كراماته مراتب مختلفة، ومنازل مفترقة، ورفع بعضهم فوق بعض درجات متفاضلات متباينات، فكرم بعضهم بالتكليم والنجوى، وأيد بعضهم بروح القدس، وخصه بإحياء الموتى، وإبراء أولي العاهة والعمى، وفضل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من الدرجات بالعليا، ومن المراتب بالعظمى، فحباه من أقسام كرامته بالقسم الأفضل، وخصه من درجات النبوة بالحظ الأجزل، ومن الأتباع والأصحاب بالنصيب الأوفر، وابتعثه بالدعوة التامة، والرسالة العامة، وحاطه وحيداً، وعصمه فريداً من كل جبار عاند، وكل شيطان مارد، حتى أظهر به الدين، وأوضح به السبيل، وأنهج به معالم الحق، ومحق به منار الشرك، وزهق به الباطل، واضمحل به الضلال، وخدع الشيطان، وعبادة الأصنام والأوثان، مؤيداً بدلالة على الأيام باقية، وعلى الدهور والأزمان ثابتة، وعلى مر الشهور والسنين دائمة، يزداد ضياؤها على كر الدهور إشراقاً، وعلى مر الليالي والأيام ائتلاقاً، خصيصة من الله له بها دون سائر رسله الذين قهرتهم الجبابرة، واستذلتهم الأمم الفاجرة، فتعفت بعدهم منهم الآثار، وأخملت ذكرهم الليالي والأيام، ودون من كان منهم مرسلاً إلى أمة دون أمة، وخاصة دون عامة، وجماعة دون كافة.

فالحمد لله الذي كرمنا بتصديقه، وشرفنا باتباعه، وجعلنا من أهل الإقرار والإيمان به، وبما دعا إليه وجاء به، صلى الله عليه وعلى آله وسلم أزكى صلواته، وأفضل سلامه، وأتم تحياته. ثم أما بعد:

ما خص الله به هذه الأمة من سائر الأمم

فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية، حفظه ما حفظ جل ذكره وتقدست أسماؤه من وحيه وتنزيله، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم دلالة، وعلى ما خصه به من الكرامة علامةً واضحة، وحجةً بالغة، أبانه به من كل كاذب ومفتر، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد، وفرق به بينهم وبين كل كافر ومشرك، الذي لو اجتمع جميع من بين أقطارها، من جنها وانسها، وصغيرها وكبيرها، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. فجعله لهم في دجى الظلم نوراً ساطعاً، وفي سدف الشبه شهاباً لامعاً، وفي مضلة المسالك دليلاً هادياً، وإلى سبل النجاة والحق حادياً، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:16].

حرسه بعين منه لا تنام، وحاطه بركن منه لا يضام، لا تهي على الأيام دعائمه، ولا تبيد على طول الأزمان معالمه، ولا يجور عن قصد المحجة تابعه، ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه. من اتبعه فاز وهدى، ومن حاد عنه ضل وغوى. فهو موئلهم الذي إليه عند الاختلاف يئلون، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعتقلون، وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون، وفصل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون، وعن الرضا به يصدرون، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون.

اللهم فوفقنا لإصابة صواب القول في محكمه ومتشابهه، وحلاله وحرامه، وعامه وخاصه، ومجمله ومفسره، وناسخه ومنسوخه، وظاهره وباطنه، وتأويل آيه، وتفسير مشكله، وألهمنا التمسك به، والاعتصام بمحكمه، والثبات على التسليم لمتشابهه، وأوزعنا الشكر على ما أنعمت به علينا من حفظه، والعلم بحدوده، إنك سميع الدعاء، قريب الإجابة. وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً ].

المصطلحات التي ذكرها الطبري في مقدمة تفسيره

(اللهم وفقنا لإصابة صواب القول) ثم ذكر مجموعة من العلوم، مثل المحكم ويقابله المتشابه، والحلال ويقابله الحرام، والعام ويقابله الخاص، والمجمل ويقابله المفسر، والناسخ ويقابله المنسوخ، والظاهر ويقابله الباطن، ثم قال: (تأويل آيه، وتفسير مشكله).

ولو أردنا أن نسلط الضوء على مثل هذه المفردات أو المصطلحات التي ذكرها لصارت جزءاً من علوم الكتاب، ومن علوم القرآن، فالحلال والحرام هو آيات الأحكام، والمحكم والمتشابه هو نوع من أنواع علوم القرآن وكذا العام والخاص، والمجمل والمفسر، والناسخ والمنسوخ، والظاهر والباطن، ثم ذكر تأويل آيه وتفسير مشكله، ومثل هذه العبارة توحي أن الطبري رحمه الله تعالى يفرق بين التأويل والتفسير؛ لأنه قال: (تأويل آيه وتفسير مشكله) ويمكن أن تكون من باب التنويع في العبارة، فإذا كانت من باب التنويع في العبارة فمعنى ذلك أنها أشبه ما تكون من باب عطف الصفات، فيكون تفسير المشكل هو تأويله، وتأويل الآية هو تفسيرها.

والظاهر من عمل الإمام أنه لم يفرق بين التأويل والتفسير، فكأنه لما أراد أن يبين أن في الآيات ما هو ظاهر، وفيها ما هو مشكل، قال: تأويل آيه مقابل تفسير مشكله، يعني: أن منه قسماً ظاهراً معروفاً، ومنه قسماً مشكلاً يحتاج إلى بيان، فهذه ممكن نقول عنها، إما: علوم القرآن، أو علوم التفسير التي سيشير إليها الإمام في تفسيره.

أحق العلوم بصرف الهمة في طلبه

ثم قال رحمه الله: [ اعلموا عباد الله، رحمكم اللهَ! أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان لله في العلم به رضاً، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدىً، وأن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مرية فيه، الفائز بجزيل الذخر وسني الأجر تاليه، الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. ونحن في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه منشئون إن شاء الله ذلك كتاباً مستوعباً لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعاً، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافياً، ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه، واختلافها فيما اختلفت فيه منه، ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه، والله نسأل عونه وتوفيقه لما يقرب من محابه، ويبعد من مساخطه. وصلى الله على صفوته من خلقه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً ].

قوله: (ونحن في شرح تأويله، وبيان ما فيه من المعاني)، يعني: سيذكر التأويل ويشرحه، ويبين ما فيه من المعاني، ثم قال: (منشئون إن شاء الله ذلك كتاباً)، يعني: منشئون كتاباً مستوعباً لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه، وهنا مسألة تتكرر عند العلماء وهي أنه لما يؤلف العالم يقول: لما رأيت حاجة الناس إلى كتاب في كذا ألفت هذا، فكأنه أنشأه من أجل أن يستوعب حاجة الناس، ويبين لهم ما في هذا الكتاب من المعاني والتأويل.

ثم قال: (كتاباً مستوعباً جامعاً، ومن سائر الكتب غيره بذلك كافياً) وهذه أيضاً يذكرها بعض العلماء، وكأنه يقول: وهذا الكتاب غنية لمن أراد أن يقرأه عن غيره، فكل واحد من العلماء يظن هذا في كتابه فيقولون، وليس هذا كما يفهمه بعضهم من باب تزكية النفس المذمومة، وإنما يشير إلى ما يراه في كتابه، فهذه إشارة إلى أنه يرى أنه قد بالغ في النصح في وضع هذا الكتاب بحيث إنه قال: من خلال علمي أن ما وضعته لا يحتاج الناس بعد قراءته إلى كتاب آخر يقرءونه.

منهج الطبري في تفسيره

ثم قال: (ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا) وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الإمام ابن جرير الطبري استوعب جميع الروايات التي كانت بين يديه؛ لقوله: (ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه، واختلافها فيما اختلفت فيه منه)، فهو سيذكر جميع الروايات التي بلغته عن هؤلاء الحجة من الصحابة والتابعين وأتباعهم، سواء كانت متفقة عندهم إجماع على معنى، أو كانت مختلفة، فلهذا لو قال قائل: إن من منهج الطبري استيعاب جميع الروايات التي عنده لقلنا: إن هذا صحيح، لما تدل عليه هذه العبارة التي ذكرها.

قال بعد ذلك: (ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم)، وهذا ممكن أن نسميه توجيه الأقوال، يعني أن يشير إلى علل الأقوال.

ثم قال بعد ذلك: (وموضحو الصحيح لدينا من ذلك)، فبعد أن يذكر الأقوال وعللها يرجح بين هذه الأقوال المختلفة إذا كانت مختلفة، وكما قال: (موضحو الصحيح لدينا من ذلك بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما كان من الاختصار فيه)، فهذا هو منهج الطبري ، حكاية جميع ما ورد من روايات الحجة من علماء التفسير، ثم إن كانت أقوالهم متفقة أبان عن ذلك، وإن كانت أقوالهم مختلفة فإنه يذكر علة كل قول، ثم يختار منها ما صح عنده.

منهجية الطبري في تصحيح أو تضعيف الأقوال

وأما منهجيته في التصحيح والتضعيف فالأصل عند الإمام ابن جرير الطبري الاعتماد على المعاني دون النظر إلى الأسانيد إلا إذا احتاج الأمر إلى النظر إلى الإسناد. وهذه قاعدة عند كل علماء التفسير، وهي قاعدة المحدثين في هذا، والدليل على ذلك أن عندنا من أئمة المحدثين مثل ابن أبي حاتم في كتابه التفسير، أو عبد بن حميد ، أو غيرهم من علماء الحديث الذين كتبوا في التفسير لم يتعرضوا لقضية التصحيح والتضعيف في التفسير من جهة الإسناد، وهذه الفائدة ينبغي التركيز عليها؛ لأن الآن العمل العلمي عندنا عكس هذا، العمل العلمي عندنا الآن هو تحرير أسانيد التفسير ما يروى عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس محل نزاع، فمحل النزاع هو ما يروى عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، والمنهج الذي سار عليه العلماء جيلاً بعد جيل منذ أن بدأت الرواية إلى قريب من عصرنا، هي اعتماد هذه المرويات على ما هو معروف فيها من الضعف، والنظر إلى المعاني، ولا يناقش الإسناد إلا إذا كان فيه إشكال من جهة المعنى فيتحرى في الإسناد، هذه القاعدة الأغلبية، وهذه منهجية الطبري التي سار عليها، ومن قرأ سورة الفاتحة تبين له هذا المنهج، وهذا المنهج هو منهج عامة من كتب في التفسير ممن شارك من علماء الحديث، أو ممن لم يكن له عناية أيضاً بالحديث.

قد يقول قائل: إن تفسير القرآن يبنى على اللغة، فلا يحتاج فيه النظر إلى الأسانيد، فيقال: هذه الفكرة أو قريبة منها أشار إليها البيهقي في مقدمة دلائل النبوة سبب قبول روايات التفسير عند المحدثين فلتراجع هناك، ولكن نقول: ليس كل القرآن يعتمد على اللغة فقط، بل هناك ما يعتمد على الآثار مثل: أسباب النزول، وبعض الأحكام الفقهية التي لا بد فيها من الإسناد، فهذه لا شك أنه يرجع فيها إلى الإسناد، لكن كلامنا الآن عن جمهور أو جملة التفسير، وإلا لو جئنا للتفصيل لوجد أن هناك في التفسير أشياء لا بد فيها من تحرير الإسناد، وهناك ما يتساهل في تحريره، وهناك ما لا علاقة له أصلاً بالإسناد، ولا يدخله الإسناد بل لو دخله الإسناد لهدمه مثل الإسرائيليات، فالإسرائيليات ما نحتاج فيها إلى الإسناد، وهذه المعلومة مهمة، خصوصاً لمن لم يفهم منهج ابن جرير الطبري ، وكذلك غيره من المفسرين في قضية التعامل مع الروايات.

أهمية تعلم اللغة العربية في فهم التفسير

ثم قال رحمه الله: [ وأول ما نبدأ به من القيل في ذلك: الإبانة عن الأسباب التي البداية بها أولى، وتقديمها قبل ما عداها أحرى، وذلك البيان عما في آي القرآن من المعاني التي من قبلها يدخل اللبس على من لم يعان رياضة العلوم العربية، ولم تستحكم معرفته بتصاريف وجوه منطق الألسن السليقية الطبيعية ].

يشير إلى أهمية اللغة العربية في التفسير، وسيبتدئ ببعض العلوم المرتبطة بالعربية، في الفصول القادمة.

ثم قال: [ القول في البيان عن اتفاق معاني آي القرآن، ومعاني منطق من نزل بلسانه من وجه البيان والدلالة على أن ذلك من الله عز وجل هو الحكمة البالغة، مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام، قال أبو جعفر : إن من عظيم نعم الله على عباده، وجسيم منته على خلقه، ما منحهم من فضل البيان، الذي به عن ضمائر صدورهم يبينون، وبه على عزائم نفوسهم يدلون، فذلل به منهم الألسن، وسهل به عليهم المستصعب، فبه إياه يوحدون، وإياه به يسبحون ويقدسون، وإلى حاجاتهم به يتوصلون، وبه بينهم يتحاورون، فيتعارفون ويتعاملون ].

كل هذا إشارة إلى نعمة اللسان، ولهذا ذكر الله في قوله سبحانه وتعالى في سورة الرحمن: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4] فتعليم البيان نعمة من الله، ولو كان الناس لا يستطيعون أن يبينوا عن حاجاتهم عن أنفسهم لما قامت حياتهم، فمن نعمة الله هذا اللسان كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9]، فهذا اللسان التي يبين بها الإنسان عن مكنون صدره من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده.

قال: [ ثم جعلهم جل ذكره فيما منحهم من ذلك طبقات، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، فبين خطيب مسهب، وذلق اللسان مهذب، ومفحم عن نفسه لا يبين، وعيي عن ضمير قلبه لا يعبر، وجعل أعلاهم فيه رتبة، وأرفعهم فيه درجة، أبلغهم فيما أراد به بلاغاً، وأبينهم عن نفسه به بياناً، ثم عرفهم في تنزيله، ومحكم آي كتابه، فضل ما حباهم به من البيان، على من فضلهم به عليه من ذي البكم والمستعجم اللسان، فقال تعالى ذكره: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، فقد وضح إذاً لذوي الأفهام، وتبين لأولي الألباب، أن فضل أهل البيان، على أهل البكم والمستعجم اللسان، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته بلسانه، فإن كان ذلك كذلك، وكان المعنى الذي به باين الفاضل المفضول في ذلك، فصار به فاضلاً والآخر مفضولاً، هو ما وصفنا من فضل إبانة ذي البيان عما قصر عنه المستعجم اللسان، وكان ذلك مختلف الأقدار، متفاوت الغايات والنهايات، فلا شك أن أعلى منازل البيان درجة، وأسنى مراتبه مرتبة، أبلغه في حاجة المبين عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، وأقربه من فهم سامعه، فإن تجاوز ذلك المقدار وارتفع عن وسع الأنام، وعجز عن أن يأتي بمثله جميع العباد، كان حجةً وعلماً لرسل الواحد القهار، كما كان حجةً وعلماً لها إحياء الموتى، وإبراء الأبرص وذوي العمى، بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طب المتطببين، وأرفع مراتب علاج المعالجين، إلى ما يعجز عنه جميع العالمين. وكالذي كان لها حجةً وعلماً قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة، بارتفاع ذلك عن وسع الأنام، وتعذر مثله على جميع العباد، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين، ولليسير منه فاعلين ].

ولو قال قائل: الآن تقطع مسافة الشهرين بأقل من ذلك، فيقال: ليس فيه حجة؛ لأن سليمان لم يكن يعالج هذا الأمر مادياً، وإنما كان تسخيراً من الله أن سخر له الريح، ولا يوجد مثله من تسخر له الريح فيحصل له مثل هذا، فالفرق بين هذا وذاك هو قضية المعالجة، ولا شك أن الإمام حين قال هذا الكلام ما كان يتصور أنه يمكن أن تقطع هذه المسافات بهذه السرعات اللي نراها اليوم.

ثم قال: [ فإن كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا، فبين أن لا بيان أبين، ولا حكمة أبلغ، ولا منطق أعلى، ولا كلام أشرف من بيان ومنطق تحدى به امرؤ قوماً في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة، وقيل: الشعر والفصاحة، والسجع والكهانة، على كل خطيب منهم وبليغ وشاعر منهم وفصيح، وكل ذي سجع وكهانة -فسفه أحلامهم، وقصر بعقولهم، وتبرأ من دينهم، ودعا جميعهم إلى اتباعه، والقبول منه، والتصديق به، والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم، وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته، وحجته على حقيقة نبوته ما أتاهم به من البيان، والحكمة والفرقان، بلسان مثل ألسنتهم، ومنطق موافقة معانيه معاني منطقهم. ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة، ومن القدرة عليه نقصة. فأقر جميعهم بالعجز، وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص ].

وهذا الكلام كله عن قضية إعجاز القرآن أو وجه التحدي الذي نزل به القرآن، ومثل هذا المنطق الذي يتكلم به أبو جعفر رحمه الله تعالى مهم جداً التنبه له؛ لأن كثيراً ممن قرأ هذه المقدمة لم ينتبه إلى مراد الإمام من أن وجه التحدي الأول الذي تحدي به العرب هو ما في هذا القرآن من منطق يوافق منطقهم، وأنه تحداهم أن يأتوا بمثل هذا الكلام الذي هو من منطقهم، فهذا هو وجه الإعجاز، وعلمنا أنهم قد أذعنوا جميعاً، وأنهم عجزوا عن ذلك بعدم وجود معارض ينبني لهذا، فموت أهل الكفر الذين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم أو إسلامهم هو الدليل القاطع على أنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة أيضاً من مثله، فهذا دليل عقلي مرتبط بالنظر التاريخي، أما ما سيذكره بعد قليل فهو قليل صفيق، وكلام سفيه لم يؤبه له، مثل الروايات التي تروى عن مسيلمة الكذاب وغيره، لكن الذي يعنينا هو أن هذا القرآن نزل في قوم كانوا يمجدون أشياء، فجاء يسفه أحلامهم، ويأمرهم بأن يتبعوه، ويتحداهم أن يأتوا بمثله ومع ذلك لم يستطيعوا، فهذا مقام عجز من العرب، إذ كيف يأتيكم هذا الكلام من هذا الرجل وفيه تسفيه لأحلامكم وبيان بطلان عقائدكم التي تعتقدون، وبيان أخطاء كثيرة تقعون فيها، ثم يقول لكم: اتبعوني، ويقول لكم أيضاً: إن الذي جئت به لا تستطيعون أن تأتوا بسورة من مثله، ولم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك، وجالدوه بالسيوف مع أن مجالدة اللسان أسهل فلما تركوا اللسان إلى السنان دل على أنهم قد عجزوا عن الإتيان بمثله، وإلا كيف يقاتلوه وقد طلب منهم شيئاً أقل من أن يقدموا دماءهم لهذا المعتقد الكافر الذي يدينون به، طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله، فهذه دلالة واضحة على عجز هؤلاء العرب عن الإتيان بمثله.

[ إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستتراً، ومن عي لسانه ما كان مصوناً، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، فاللاقمات لقماً!، ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة.

فإذ كان تفاضل مراتب البيان، وتباين منازل درجات الكلام بما وصفنا قبل، وكان الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه أحكم الحكماء، وأحلم الحلماء، كان معلوماً أن أبين البيان بيانه، وأفضل الكلام كلامه، وأن قدر فضل بيانه جل ذكره على بيان جميع خلقه.

كفضله على جميع عباده].

بيان أن الله لا يخاطب قوماً إلا بما يفهمون

[ فإن كان كذلك، وكان غير مبين منا عن نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب، كان معلوماً أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحداً من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب ].

هو من بداية كلامه تكلم عن كلام الله سبحانه وتعالى، وأن من نعمة الله على الإنسان أن أعطاه البيان، وأنزل هذا الكتاب المعجز بلسان العرب، ثم هو سيبني عليه هذه المعلومة وهي أن المخاطب يبين عما في نفسه للمخاطب، فإذا كان المخاطب يعرف هذا الكلام فإنه يستطيع أن يفهمه ويعرف ما فيه من المعاني، لكن لو خوطب بكلام لا يعرفه فلا يمكن أن يفهم المراد وهذا واضح جداً، فهو يريد أن يبين كيف أن من نعمة الله علينا أن أنزل هذا القرآن بلسان نستطيع أن نفهمه، نستطيع أن نعلم ماذا يريد الله سبحانه وتعالى منا.

[ ولا يرسل إلى أحد منهم رسولاً برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه؛ لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئاً كان به قبل ذلك جاهلاً.

والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطاباً أو يرسل رسالةً لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه؛ لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث، والله تعالى عن ذلك متعال؛ ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64]، فغير جائز أن يكون به مهتدياً من كان بما يهدى إليه جاهلاً.

فقد تبين إذاً بما عليه دللنا من الدلالة أن كل رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه، وكل كتاب أنزله على نبي، ورسالة أرسلها إلى أمة، فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه، فاتضح بما قلنا ووصفنا أن كتاب الله الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلسان محمد صلى الله عليه وسلم.

وإذ كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربياً، فبين أن القرآن عربي. وبذلك أيضاً نطق محكم تنزيل ربنا، فقال جل ذكره: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2]، وقال: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195]. وإذ كانت واضحةً صحة ما قلنا بما عليه استشهدنا من الشواهد، ودللنا عليه من الدلائل، فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمعاني كلام العرب موافقة، وظاهره لظاهر كلامها ملائماً، وإن باينه كتاب الله بالفضيلة التي فضل بها سائر الكلام والبيان، بما قد تقدم وصفناه ].

كل ما سبق كان استدلالاً عقلياً، ثم ذكر الدليل النقلي في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً [يوسف:2]، ومعلوم أنه لا أحد يخالف في كونه قرآناً عربياً، لكن هذه المقدمة كلها لأنه سيبني عليها فائدة، ولهذا لما قال: (ودللنا عليه من الدلائل فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمعنى كلام الله موافقة)، فهذه ممكن أن نستنبط منها قاعدة وهي: أن كل ما في القرآن فهو عربي، وليس كل ما في لغة العرب في القرآن، والمؤلف يريد أن يقرر هذه الفكرة، ليبين لنا أن ما في كلام الله سبحانه وتعالى وما في تنزيله فإنه عربي، وبناءً على ذلك فلا يجوز صرف هذا الكلام الذي نزل بلغة العرب إلى غير لغة العرب، فكل بيان للقرآن بغير لغة العرب فهو دليل على بطلان هذا القول.

بعض الأساليب العربية في القرآن

ثم سرد بعض أساليب لغة العرب، فقال:

[ فإذ كان ذلك كذلك، فبين إذ كان موجوداً في كلام العرب الإيجاز والاختصار، والاجتزاء بالإخفاء من الإظهار، وبالقلة من الإكثار في بعض الأحوال، واستعمال الإطالة والإكثار، والترداد والتكرار، وإظهار المعاني بالأسماء دون الكناية عنها، والإسرار في بعض الأوقات، والخبر عن الخاص في المراد بالعام الظاهر، وعن العام في المراد بالخاص الظاهر، وعن الكناية والمراد منه المصرح، وعن الصفة والمراد الموصوف، وعن الموصوف والمراد الصفة، وتقديم ما هو في المعنى مؤخر، وتأخير ما هو في المعنى مقدم، والاكتفاء ببعض من بعض، وبما يظهر عما يحذف، وإظهار ما حظه الحذف، أن يكون ما في كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك، في كل ذلك له نظيراً، وله مثلاً وشبيهاً، ونحن مبينو جميع ذلك في أماكنه إن شاء الله ذلك، وأمد منه بعون وقوة ].

هذه بعض الأساليب العربية التي استعملت في القرآن، وإذا تأملنا هذه الأساليب فيجب علينا أن يكون عندنا نوع من العدل في التعامل مع المفسرين، إذا استخدم بعض المفسرين هذه الأساليب في بيان معاني القرآن، ووقع عنده خطأ ليس في الأسلوب؛ لأننا نتفق على الأسلوب أنه موجود، لكن وقع عنده خطأ بسبب مقدمات عقلية، فإننا لا ننفي وجود الأسلوب في القرآن إذا كان موجوداً واضحاً، بل نقول: إن هذا الموطن الذي ناقشه هذا المفسر ليس صحيحاً، وليس هو المثال على هذا، أو لا يصدق عليه هذا الأسلوب، ولهذا مثلاً قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، هل المراد بالسيئة الثانية هي نفس السيئة الأولى؟ فهذه يسمونها مشاكلة لفظية، أنا أجيز المشاكلة اللفظية هنا، لكن تطرد في قوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، فهنا يجب علينا أن يكون عندنا نوع من العدل، فإننا نقول: إن من قال بالمشاكلة اللفظية هنا من جهة استخدام العرب لها نقول: المشاكلة موجودة، ولكن لا نقول بها في هذا الموطن لأسباب خارج إطار النص، أسباب مرتبطة بالمقدمات العقلية، وبالقضايا الاعتقادية عند المفسر، فلا ننكر وجود هذا الأسلوب، وإنما نقول: إن هذا الموطن ليس من مواطن هذا الأسلوب، ولهذا ممكن أن نقول: كل أسلوب عربي مستخدم في القرآن لا يلزم أن يكون مطرداً في جميع الأمثلة التي يحكى بها، فلا يقال في مثل قوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، أن هذا على سبيل المشاكلة؛ لأن صفة المكر هنا ثابتة لله لكنها صفة مقابلية، بمعنى: أنها لا تذكر إلا بمقابل مكر الكفار، ولكن الله سبحانه وتعالى قد تنزه عن أن يكون ماكراً ابتداءً كما هو معلوم ومقرر في قضية الاعتقاد.

مقترح من الطيار لدراسة أساليب العرب الواردة في تفسير الطبري

والمؤلف رحمه الله ذكر أنه سيبين هذه الأساليب في مواطنها، وهو رحمه الله من أكثر المفسرين إشارة إلى أساليب العرب في الكلام، ومع ذلك لم يبحث تفصيلاً أساليب العرب من خلال تفسير الطبري ، وهي كثيرة جداً، فبعض أساليب العرب مرتبطة بتحسين الكلام، وبعضها مرتبطة بفهم الكلام، وبعضها ببلاغة اللفظ، فلو درست هذه الأساليب من خلال هذه الاتجاهات الثلاث فإننا سنظفر بأمثلة كثيرة جداً في كتاب الطبري ويمكن أن يقسم تفسير الطبري إلى عدة أقسام في مشروع يتعلق بقضية أساليب العرب التي تكلم بها القرآن من خلال تفسير الطبري.

وأما المجاز بذاته فلم يتكلم عنه مباشرةً، لذا فلا يمكن أن نقول: إن الطبري يرى المجاز اعتماداً على أنه يقول: يجوز استخدام أساليب العرب، والقاعدة: أن كل ما في القرآن فهو عربي، وليس كل عربي في القرآن، ولذا من أنكر بعض الأساليب مثل التورية أو غيرها أن تكون موجودة في القرآن بني على هذه القاعدة لكن من قال بهذا فهو يقول بشيء يصعب تطبيقه، خصوصاً إذا وجد من يخالفه في بعض الأساليب، مثل القول بالمجاز.

الجمع بين نزول القرآن بلسان عربي وبين وجود ألفاظ قرآنية غير عربية

قال: [ القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم.

قال أبو جعفر : إن سألنا سائل فقال: إنك ذكرت أنه غير جائز أن يخاطب الله أحداً من خلقه إلا بما يفهمه، وأن يرسل إليه رسالةً إلا باللسان الذي يفقهه..

فما أنت قائل فيما حدثكم به محمد بن حميد الرازي ، قال: حدثنا حكام بن سلم ، قال: حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن أبي موسى : يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28]، قال: الكفلان: ضعفان من الأجر بلسان الحبشة.

وفيما حدثكم به ابن حميد ، قال: حدثنا حكام ، قال: حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ [المزمل:6] قال بلسان الحبشة: إذا قام الرجل من الليل قالوا: نشأ.

وفيما حدثكم به ابن حميد قال: حدثنا حكام ، قال: حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة : يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ:10] قال: سبحي، بلسان الحبشة.

قال أبو جعفر : وكل ما قلنا في هذا الكتاب: (حدثكم) فقد حدثونا به ] بمعنى أنه أخذ مباشرة.

قال: [ وفيما حدثكم به محمد بن خالد بن خداش الأزدي ] بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سأل عن قوله: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:51]، قال: هو بالعربية الأسد، وبالفارسية شار، وبالنبطية أريا، وبالحبشية قسورة.

وفيما حدثكم به بسنده.. إلى سعيد بن جبير قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجمياً وعربياً؟ فأنزل الله تعالى ذكره: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، فأنزل الله بعد هذه الآية في القرآن بكل لسان، فمنه حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر:74]، قال: فارسية أعربت. سنك وكل وفيما حدثكم به عن أبي ميسرة ، قال: في القرآن من كل لسان.

وفيما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكرها الكتاب، مما يدل على أن فيه من غير لسان العرب ].

لما قرر المؤلف أن القرآن نزل بلسان العرب أشار إلى مسألة ورود الأعجمي في القرآن، وهو ما يسمى بالمعرب،

ثم بدأ يناقش هذه المسألة بناءً على الآثار التي أوردها عن السلف. فقال:

[ قيل له: إن الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا، من أجل أنهم لم يقولوا: هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاماً، ولا كان ذاك لها منطقاً قبل نزول القرآن، ولا كانت بها العرب عارفةً قبل مجيء الفرقان، فيكون ذلك قولاً لقولنا خلافاً. وإنما قال بعضهم: حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا، ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنىً واحد، فكيف بجنسين منها؟ كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس وغير ذلك مما يتعب إحصاؤه، ويمل تعداده، كرهنا إطالة الكتاب بذكره، مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى، ولعل ذلك كذلك في سائر الألسن التي يجهل منطقها، ولا نعرف كلامها.

فلو أن قائلاً قال فيما ذكرنا من الأشياء التي عددنا وأخبرنا

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

[ قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة قال ].

قوله: [ قرئ على أبي جعفر ]، هذا ظاهر أن الذي يكتب هذا هو أحد تلاميذ أبي جعفر الطبري ، وقوله: [ قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة ] والإمام توفي سنة ثلاثمائة وعشر، فهذا يبين أنه قرئ عليه كتابه قبل وفاته بقرابة أربع سنين، ويقول: أبو بكر بن كامل وهو من تلاميذ الإمام ابن جرير: أملى علينا من كتاب التفسير مائةً وخمسين آية، ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن، فقرأه علينا وذلك في سنة سبعين ومائتين. فهذا يبين أنه في سنة مائتين وسبعين بدأ الإمام الإملاء ثم قرأه على طلابه.

رواية أخرى عن أبي بكر بن بالويه قال: قال لي أبو بكر بن محمد بن إسحاق -يعني: ابن خزيمة- وهو من معاصري الإمام: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير قلت: نعم، كتبنا التفسير عنه إملاءً. فقال: كله؟ قلت: نعم. قال: في أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين. ففيه أن بقي يمليه عليهم سبع سنوات.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
التعليق على مقدمة تفسير ابن جرير الطبري [4] 3315 استماع
التعليق على مقدمة تفسير ابن جرير الطبري [3] 3237 استماع
التعليق على مقدمة تفسير ابن جرير الطبري [2] 1842 استماع