دفع الشبهات عن الدعوة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن عز وجل أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل واقتراب من الساعة وجهالة من الناس، بعد أن خاضت البشرية تجارب مختلفة ومرت بأطوار متعددة؛ ففتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وأخرج به من الضلالة إلى الهداية، ونور به طريق الهدى؛ فتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

وقد شرط الله علينا في كتابه الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، وقال سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36]، فشرط على جميع المؤمنين والمؤمنات الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم والانقياد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم ذلك على ما تزينه العقول وما تأتي به الأهواء، وما يألفه الناس من التقاليد والأعراف والعادات؛ فما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حاكم على كل ما سواه، فلا يمكن أن يخالف ولا أن ينبذ عرض الحائط، بل هو الحاكم الذي لا بد من الرضا بما جاء به تفصيلاً وإجمالاً.

وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بكل خير، وبين أنه ما من خير إلا وقد أرشدنا إليه وما من شر إلا وقد حذرنا منه، وكان من جملة ما وظفه الله تعالى فيه وافترضه عليه أن يبين للناس هذا السبيل الذي جاء به، وبين الله تعالى وظيفته في ذلك وأمره أن يخبر الناس بها؛ فقال سبحانه وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]، هذا بيان لوظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي الدعوة إلى الله تعالى إلى هذه المحجة البيضاء التي جاء بها، وهذا النور الذي أنزل عليه؛ لينقذ الناس من نار جهنم، ويهديهم الله به إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وقد ضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لنفسه؛ فقال: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الفراش يتساقط فيها، فجعل ينفيه بيده، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار )، فهذه وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي قام بها منذ أمره الله تعالى بالدعوة إليه، وأنزل إليه جبريل ليبين له هذا المنهج الواضح؛ من ذلك الوقت قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالبشارة والنذارة حتى توفاه الله إليه بعد أن أتم له الدين ورضيه له، وترك هذا المنهج الذي كان يدعو إليه أمانة في أعناق الذين اقتنعوا بدعوته وآمنوا برسالته؛ فالدعوة إلى سبيل الله سبحانه وتعالى وصف الله الذي وصف به نفسه فقال سبحانه وتعالى: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ[يونس:25]، ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم الذي ارتضاه الله له بقوله: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46] وأمره به بقوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، وهو طريق من ارتضى الله تعالى أقوالهم؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:33].

أحوال المدعوين إلى الله تعالى

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج وهذا الطريق، وذكر تفاوت الناس عليه، وأنهم في ذلك على أربعة أقسام:

القسم الأول: قوم لا يتحملون سماع الذكرى، ويفرون منها فرارهم من الأسد، وهم الكفرة الفجرة، يقول الله تعالى فيهم: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51]، والقسورة: الأسد، وهؤلاء يفرون من الذكرى ومن الدعوة كفرارهم من الأسد، وهم المشركون.

القسم الثاني: قوم يستطيعون سماع ذلك بآذانهم ولكنه لا يصل إلى أفئدتهم ولا يخالطها، وهؤلاء هم المنافقون الذين يقول الله تعالى فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16]، فهم يسمعون بآذانهم ولكنهم لا ينتفعون؛ فلا تصل الذكرى إلى أفئدتهم ولا تعمل بها جوارحهم، وبذلك تكون حجة عليهم لا لهم، فتقوم الحجة لله عليهم، ولا يستطيعون مناكرة الله سبحانه وتعالى بعد أن أقام عليهم الحجة.

القسم الثالث: قوم يسمعون الذكرى من بعض الناس دون بعض؛ فيفرقون بين من يسمعون منه، وهؤلاء لا ينظرون إلى المدعو إليه وإنما ينظرون إلى الداعي نفسه، وحالهم حال مشركي قريش والطائف حين أرسل الله إليهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن؛ فقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ[الزخرف:31-32]؛ فهؤلاء يستنكرون قدر الله تعالى وقسمته لأرزاق عباده، والله تعالى يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51]، وقد أمرنا أن نستمع إلى القول ونفرق فيه؛ فنأخذ الصواب ونترك الخطأ، وآتانا فرقاناً نميز به بين الحق والباطل، وامتدح الذين يفعلون ذلك فقال سبحانه وتعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18].

القسم الرابع: قوم يسمعون الذكرى بآذانهم فتنقلها الآذان إلى القلوب فتشربها القلوب فتفيض أنوارها بالجوارح فتتيسر لطاعة الله سبحانه وتعالى والانقياد لأمره، وتنشط الأعضاء حينئذ لعبادة الله سبحانه وتعالى والانتفاع بما يتعلمون، وهؤلاء هم المؤمنون؛ لأن الله تعالى يقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالذكرى، وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، فهؤلاء يسمعون الذكرى ويتأدبون فيها أدبها، ثم تحملها آذانهم إلى قلوبهم فتخالط بشاشة قلوبهم، وتوزعها القلوب إلى الجوارح فتكون نوراً مستقيماً في جوارح الشخص، فيؤيدها ويهيئها لطاعة الله سبحانه وتعالى، وبذلك تصفو القلوب وتلين بطاعة الله تعالى، ولا تكون العبادة مجرد رياء يتراءى به الشخص أمام الناس أو مجرد أعمال وروتين وجده مجبراً عليه أو ورثه عن آبائه، بل يكون إذا سجد يعفر وجهه لله تعالى ويلاحظ نعمة الله عليه حين أذن له بالسجود، بعد أن أمره به، ولم يحرمه منه كما حرم منه إبليس الذي أمره بالسجود، ثم حرمه بالكبر على أن يعفر جبهته لله؛ لأنه يلاحظ أن الذين يؤذن لهم في السجود في هذه الدنيا فيضعون جباههم بين يدي الله إجلالاً لعظمة وجهه سبحانه وتعالى فيخرون بين يديه لوجهه معظمين، ولجلال أمره مقدرين، فلم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، فهؤلاء قد اختيروا من بين الخلق وأذن لهم؛ وبذلك إذا نودوا بالسجود يوم القيامة يتمكنون من السجود قال الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ[القلم:42]، فلا يستطيع من امتنع من السجود في هذه الدنيا إذا نودي إلى السجود يوم القيامة، فيدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك، فيجعل الله ظهورهم نحاساً؛ فلا يستطيعون السجود لعظمة الله سبحانه وتعالى.

وأما الذين أدركوا معنى السجود، وذاقوه تذللاً لعظمة الله سبحانه وتعالى وإجلالاً لوجهه؛ فخروا بين يديه لوجهه معظمين وجلال قدره مقدرين، فهم الذين يؤذن لهم بالسجود حين ينادى بالناس على رؤوس الأشهاد، فيسجدوا ليمتازوا عن المتكبرين الجبارين، ويقال: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ[يس:59]، فيخرج بعث النار حينئذ.

إن هؤلاء الذين ينتفعون بالذكرى ويستفيدون بها هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرط في هذه الآية الكريمة أن من قال إنه من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فوظيفته أن يدعو إلى الله على بصيرة؛ لأنه قال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]؛ فمن ادعى أنه من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولم يدع إلى الله على بصيرة فإنه كاذب كذبه الله تعالى في كتابه.

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج وهذا الطريق، وذكر تفاوت الناس عليه، وأنهم في ذلك على أربعة أقسام:

القسم الأول: قوم لا يتحملون سماع الذكرى، ويفرون منها فرارهم من الأسد، وهم الكفرة الفجرة، يقول الله تعالى فيهم: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51]، والقسورة: الأسد، وهؤلاء يفرون من الذكرى ومن الدعوة كفرارهم من الأسد، وهم المشركون.

القسم الثاني: قوم يستطيعون سماع ذلك بآذانهم ولكنه لا يصل إلى أفئدتهم ولا يخالطها، وهؤلاء هم المنافقون الذين يقول الله تعالى فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16]، فهم يسمعون بآذانهم ولكنهم لا ينتفعون؛ فلا تصل الذكرى إلى أفئدتهم ولا تعمل بها جوارحهم، وبذلك تكون حجة عليهم لا لهم، فتقوم الحجة لله عليهم، ولا يستطيعون مناكرة الله سبحانه وتعالى بعد أن أقام عليهم الحجة.

القسم الثالث: قوم يسمعون الذكرى من بعض الناس دون بعض؛ فيفرقون بين من يسمعون منه، وهؤلاء لا ينظرون إلى المدعو إليه وإنما ينظرون إلى الداعي نفسه، وحالهم حال مشركي قريش والطائف حين أرسل الله إليهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن؛ فقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ[الزخرف:31-32]؛ فهؤلاء يستنكرون قدر الله تعالى وقسمته لأرزاق عباده، والله تعالى يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51]، وقد أمرنا أن نستمع إلى القول ونفرق فيه؛ فنأخذ الصواب ونترك الخطأ، وآتانا فرقاناً نميز به بين الحق والباطل، وامتدح الذين يفعلون ذلك فقال سبحانه وتعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18].

القسم الرابع: قوم يسمعون الذكرى بآذانهم فتنقلها الآذان إلى القلوب فتشربها القلوب فتفيض أنوارها بالجوارح فتتيسر لطاعة الله سبحانه وتعالى والانقياد لأمره، وتنشط الأعضاء حينئذ لعبادة الله سبحانه وتعالى والانتفاع بما يتعلمون، وهؤلاء هم المؤمنون؛ لأن الله تعالى يقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالذكرى، وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، فهؤلاء يسمعون الذكرى ويتأدبون فيها أدبها، ثم تحملها آذانهم إلى قلوبهم فتخالط بشاشة قلوبهم، وتوزعها القلوب إلى الجوارح فتكون نوراً مستقيماً في جوارح الشخص، فيؤيدها ويهيئها لطاعة الله سبحانه وتعالى، وبذلك تصفو القلوب وتلين بطاعة الله تعالى، ولا تكون العبادة مجرد رياء يتراءى به الشخص أمام الناس أو مجرد أعمال وروتين وجده مجبراً عليه أو ورثه عن آبائه، بل يكون إذا سجد يعفر وجهه لله تعالى ويلاحظ نعمة الله عليه حين أذن له بالسجود، بعد أن أمره به، ولم يحرمه منه كما حرم منه إبليس الذي أمره بالسجود، ثم حرمه بالكبر على أن يعفر جبهته لله؛ لأنه يلاحظ أن الذين يؤذن لهم في السجود في هذه الدنيا فيضعون جباههم بين يدي الله إجلالاً لعظمة وجهه سبحانه وتعالى فيخرون بين يديه لوجهه معظمين، ولجلال أمره مقدرين، فلم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، فهؤلاء قد اختيروا من بين الخلق وأذن لهم؛ وبذلك إذا نودوا بالسجود يوم القيامة يتمكنون من السجود قال الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ[القلم:42]، فلا يستطيع من امتنع من السجود في هذه الدنيا إذا نودي إلى السجود يوم القيامة، فيدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك، فيجعل الله ظهورهم نحاساً؛ فلا يستطيعون السجود لعظمة الله سبحانه وتعالى.

وأما الذين أدركوا معنى السجود، وذاقوه تذللاً لعظمة الله سبحانه وتعالى وإجلالاً لوجهه؛ فخروا بين يديه لوجهه معظمين وجلال قدره مقدرين، فهم الذين يؤذن لهم بالسجود حين ينادى بالناس على رؤوس الأشهاد، فيسجدوا ليمتازوا عن المتكبرين الجبارين، ويقال: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ[يس:59]، فيخرج بعث النار حينئذ.

إن هؤلاء الذين ينتفعون بالذكرى ويستفيدون بها هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرط في هذه الآية الكريمة أن من قال إنه من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فوظيفته أن يدعو إلى الله على بصيرة؛ لأنه قال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]؛ فمن ادعى أنه من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولم يدع إلى الله على بصيرة فإنه كاذب كذبه الله تعالى في كتابه.

ولكن كثيراً من الناس قد يعرض له جند من جنود الشيطان كالشبهة؛ فإن الشيطان له جندان أحدهما الشهوة والثاني الشبهة، فالشهوة هي التي يقع بها الشخص فيما لا يرضي الله تعالى، فمن الناس من تكون شهوته في جوارحه؛ فيسلط على ما حرم الله عليه، ومنهم من تكون شهوته في لسانه؛ فيسلط على قول ما لا يرضي الله تعالى، ويسلط على الفري في أعراض الناس والتكلم فيهم، ويسلط على نفسه بالكذب والنميمة والكلام القبيح، ومنهم من تكون شهوته في النفخة التي يجدها في صدره؛ فيكون متكبراً جواظاً عتلاً غليظاً في نفسه كبيراً وعند الله صغيراً، يتكبر وينتفخ على عباد الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات:11].

ثم الجند الثاني وهو الشبهة، والشبهات التي يلقيها الشيطان متفاوتة متنوعة، والله تعالى يعصم من هذه الشبهات من شاء من عباده؛ فهي فتن تعرض عليها القلوب كأعواد الحصير عوداً عوداً، حتى تكون القلوب على قلبين: قلب تنبو عنه الفتن، ولا يتأثر بها، ولا يشربها، وينكرها، وقلب لا ينجو من فتنة، وتتراكم الفتن فيه حتى يكون كالكوز مسوداً مجخياً، وبذلك يظلم فلا يدرك شيئاً من براهين الله وآياته الساطعة الواضحة، ولله سبحانه وتعالى يقول في ضربه لآياته الواضحة: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:109-111]، فلا تغني الآيات شيئاً إلا إذا صب الله تعالى الهداية في قلوب العباد؛ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ[يونس:101]، فمن لم يرد الله به الهداية لا يمكن أن ينتفع بالذكرى؛ فإن أعظم ما يجاهد به الإنسان وأعظم ما تكافح به الشبهات هو هذا القرآن، الذي يقول الله تعالى فيه: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52]، ويقول فيه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]، ومع ذلك نجد كثيراً من الناس يسمع القرآن من ألفه إلى يائه، ومن أوله إلى آخره وينبو عن قلبه؛ فلا يباشر بشاشة قلبه ولا يتأثر به ولا تقطر له دمعة واحدة، ولا يقشعر جلده ولا ترتفع منه شعرة بعد أن سمع القرآن من أوله إلى آخره؛ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ[الأعراف:185]، فمتى تأتي هذا القلب الميت الهداية وقد مر عليه القرآن من أوله إلى آخره فلم ينتفع به؟! وبأي كتاب يهتدي؟ والله تعالى يقول: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185].

إن هذا القرآن نور وآيات بينات، ولكن الله لم يكن ليجعله بدار هوان، فهو عزيز على الله تعالى وعظيم: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]؛ فكل قلب متنجس يقذره الله أن يجعله محلاً للقرآن، ولكن يمكن أن يجعل بعض الألسنة محلاً للقرآن ولكنه لا يصل إلى قلوبها الميتة؛ لأن القلوب التي هي جيفة ميتة نجس، فلا يمكن أن تكون محلاً للقرآن الذي هو مشرف عند الله تعالى في الصحف؛ لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ[الواقعة:79]، لذلك يمنع الله تعالى أقواماً ببعض الشبهات، وكثير منها ناشئ عن أعمالهم فيحول بينهم وبين هذه الهداية بسبب ذلك.