أرشيف المقالات

الرجوع في الهبة في الفقه الإسلامي

مدة قراءة المادة : 29 دقائق .
الرجوع في الهبة في الفقه الإسلامي


أولاً: تصوير المسألة:
أ - الهبة والصدَقة والعطية والهدية، معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بغير عِوَض، واسم العطية شامل لجميعها، وكذلك الهبة.
والصدقة والهدية متغايران؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة[1]، فمَن أَعطى شيئًا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدَقة، ومَن دفع إلى إنسان شيئًا، يتقرَّب به إليه محبَّة له، فهو هدية، وجميع ذلك مندوب إليه، ومحثوث عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تهادوا تحابُّوا))[2]، وقد قال تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ إذا ثبَت هذا فإنَّ المَكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة إلا بالقبض، وهو قول جماهير العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لإجماع الصحابة على ذلك دون مخالف؛ ولأن الهبة عقد تبرُّع فلا يَثبت الملك فيه بمُجرَّد القول كالوصيَّة، وذهَبَ المالكيَّة والظاهرية إلى القول بلزوم الهِبَة بمُجرَّد العقد؛ عملاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((العائد في هبته كالعائد في قَيئِه))؛ ولأنه إزالة ملك بغير عِوَض، فلزم بمجرد العقد كالوقف والعتق؛ ولأنه عقد لازم يَنقُل الملك كالبَيع[3].
 
ب - الرجوع في الهِبَة أو الاعتصار حقيقته: ارتجاع الواهب أو المعطي عطيته أو هبته دون عِوَض، برضا الموهوب له، أو رغمًا عنه، ويُعتبَر الرجوع عن الهبة رضاءً أو قضاءً إبطالاً لأثر العَقدِ، ولا يردُّ الموهوب له الثمار إلا مِن تاريخ الرجوع رضاءً، أو من تاريخ الحكْم، وله أن يستردَّ النفقات الضرورية، أما النفقات الأخرى، فلا يستردُّ منها إلا ما زاد في قيمة المال الموهوب، وإذا استعاد الواهب المال الموهوب بغير رضاء أو قضاء، كان مسؤولاً عن هلاكه مهما كان سببه، وإذا صدر حكم بالرجوع في الهبة وهلك المال في يد الموهوب له، بعد إعذاره أو إخطاره بضرورة التسليم، فإن الموهوب له يكون مسؤولاً عن الهلاك، مهما كان سببه.[4]
 
ثانيًا: تحرير محل النزاع:
أ - اتفق الفقهاء على عدم جواز رجوع المتصدق في صدقته إذا قُبضت لأجنبي كانت أو لغير أجنبي؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "من وهب هِبةً على وجه الصدقة، فإنه لا يَرجِع فيها"[5]، وهذا ما أخذ به قانون المعاملات الإماراتي، والمدني الأردني؛ حيث نص في المادة (649) إماراتي، والمادة (579) أردني: يُعتبَرُ مانعًا من الرجوع في الهبة، ما يلي: إذا كانت الهِبَة صدقةً أو لجهة من جهات البر.
 
ب - اتفق الفقهاء على عدم جواز الرجوع في الهبة، إذا كانت بعِوَض، وقد أخذ بذلك القانون المدني الأردني والإماراتي وحسب نص المادة (649) من قانون المعاملات الإماراتي، ونص المادة (579) من القانون المدني الأردنيِّ.
 
جـ - اتفق الفقهاء على سقوط الدَّين، إذا وهب الدائن الدين للمدين؛ لأن الساقط لا يعود، وقد أخذ بذلك القانون المدني الأردني والإماراتي، كما جاء في المادتين السابقتَين.
 
د - لا يجوز الرجوع في الهبة، إذا مات أحد طرفي عقد الهبة بعد قبض المال الموهوب؛ لأن المال الموهوب ينتقل بحكم الشرع بالموت إلى الورثة، وقد أخذ القانون المدني الأردني والإماراتي بذلك، وحسب نص المادتين السابقتين.
 
هـ - لا يجوز الرجوع في الهبة، إذا كانت الهبة من أحد الزوجين للآخر، أو لذي رحم محرَّم؛ كالأخت، ما لم يترتب على ذلك مفاضَلة بين هؤلاء دون مسوغ شرعي، وهذا أمر متَّفق عليه في الققه والقانون.
 
و - لا يجوز الرجوع في الهبة، إذا تصرَّف الموهوب له في المال الموهوب تصرُّفًا ناقِلاً للملكية، فإذا اقتصر التصرُّف على بعض المال المَوهوب، جاز للواهب أن يرجع في الباقي، وقد أخذ القانون بذلك.
 
ز - لا يجوز الرجوع في الهِبَة إذا زادت العين الموهوبة زيادةً متَّصلة ذات أهمية تزيد من قيمتها، أو غيَّر الموهوب له المال الموهوب على وجه تبدل فيه اسمه، وقد أخذ القانون بذلك.
 
ح - لا يجوز الرجوع في الهِبَة إذا هلك المال الموهوب في يد الموهوب له، فإذا كان الهلاك جزئيًّا، جازَ الرجوع في الباقي، وقد أخذ بذلك القانون.
 
ط - يجوز الرجوع في الهبة برضا طرفَي عقد الهِبَة، ويعدُّ ذلك مِن قَبيل الإقالة أو الفسخ الاتفاقي، وهذا أمر متَّفقٌ عليه في الفقه والقانون.
 
ي - تَنتهي الهِبَة بموت الواهب أو إفلاسه قبل تسليمه الهِبة للموهوب له.
 
ك - اختلف الفقهاء في جواز رجوع الواهب إذا وهب لولده أو لأجنبي[6]، وفي غير الحالات والصور والموانع السابقة[7].
 
ثالثًا: منشأ الخلاف في مسألة الرجوع في الهِبَة:
يَرجع الخلاف في هذه المسألة إلى الأسباب التالية:
1 - الأدلة الواردة في المسألة أدلة ظنيَّة يتطرَّق إليها الاحتمال، تتَّسع للرأي والرأي الآخر، وفيها مجال واسع للرأي والاجتهاد.
 
2 - تعارض الأدلة الواردة في المسألة من حيث الظاهِر، واختلاف الفقهاء في تأويلها، والجمع والتوفيق بينها.
 
3 - اختلاف الفقهاء في التكييف الفقهي لعقد الهِبَة أو الوصف الشرعي، فمَن وصَفَها بأنَّها عقد لازم كالبيع والعتق والوقف، قال بعدم جواز الرجوع في الهِبَة، ومن وصَفها بأنها عقد تبرُّع غير لازم كالعارية قال بجواز الرجوع فيها مع الكراهة، وهم الحنفية[8].
 
رابعًا: آراء الفقهاء في مسألة الرجوع في الهِبة:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة إلى فريقَين:
الأول: ويَرى أنَّ الأصْل الرجوع في الهِبَة إلا لمانع، ويُنسَب هذا الرأيُ إلى الحنفيَّة، واستدلُّوا على ذلك بما يلي:
أ - قال تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 86].
 
وجه الاستدلال بالآية الكريمة:
التحية لفظ مُشتَرَك، وُضِعَ للدَّلالة على معنى السلام والثناء والهدية بالمال بأوضاع مختلفة، والمشترك يتعين أحد وجوهه بالدليل، وقد تعيَّن معنى التحية بالآية الكريمة بالهدية، ودليل ذلك من نفس الآية، وهو قوله تعالى {أَوْ رُدُّوهَا}؛ لأنَّ الرد إنما يتحقَّق في الأعيان لا في الأعراض؛ لأنه عبارة عن إعادة الشيء، وهذا لا يُتصوَّر في الأعراض ومنها السلام، والآية تقتضي ردَّ الهدية بعينها، وهذا لا يتحقَّق إلا بالقول بجواز الرجوع في الهبة وهو الأصل، ما لم يَمنع مِن ذلك مانع شرعي[9].
 
ب - عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الواهِبُ أحقُّ بهبتِه ما لم يُثب[10] منها[11].
 
وجه الاستدلال بالحديث الشريف:
الحديث نصٌّ في جواز الرجوع في الهِبَة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الواهب أحق بهبته ما لم يَصِلْ إليه العِوَض[12].
 
جـ - إجماع الصحابة؛ فإنه رُوي عن سيدنا عمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعبدالله بن عُمر وكثير من الصحابة القول بجواز الرجوع في الهبة، ولم يَرِد عن غيرهم خلافه، فيكون إجماعًا.[13]
 
د - المَعقول: عقد الهِبة من العقود التي تتعدَّد فيه المَقاصد والأغراض والدوافع، وهذه المقاصد متعلِّقة بأصحابها، ولا يطَّلع عليها أحد غيرهم، والواهب خبير نفسِه، فقد يهب بقصد الإحسان والإنعام على الموهوب له، وقد يهب له طمعًا في المكافأة والمجازاة عرفًا وعادةً، وقد لا يَحصل هذا المقصود من الموهوب له، وفوات المقصود من عقد مُحتمَل للفسْخِ يمنع لزومه كالبيع؛ لأنه يعدم الرضا، والرضا كما هو شرط في الصحَّة فهو شرْط اللزوم، كما في البَيع إذا وجد المُشتري بالمَبيع عيبًا، ولم يَلزمه العقد؛ لعدم الرِّضا عند عدم حصول المقصود وهو السلامة، وكذلك الهِبَة إذا لم يتحقَّق مَقصود الواهب من الهِبَة لم يلزمه عقد الهبة، ويكون له الرجوع فيها.[14]
 
والفريق الثاني: يرى أن الأصل في الهِبَة اللزوم، إلا في هبة الوالد لولده، ويُنسَب هذا الرأي إلى المالكيَّة والشافعية والحنابلة والظاهرية[15]، واستدلُّوا على رأيهم هذا بما يلي:
أ - قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...
﴾ الآية.
وجه الاستدلال بالآية الكريمة:
الآية الكريمة أصل تشريعي عام، يُفيد بعمومه وجوب الوفاء بالعقود، وهذا يقتضي لزومها؛ لأن الوفاء أثر لذلك، وعقد الهِبَة يندرج تحت هذا الأصل التشريعي العام.
 
ب - قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾.
وجه الاستدلال بالآية الكريمة:
الآية الكريمة أصل تشريعي عام، يفيد بعمومه حرمة إبطال الأعمال، وهذا يسلتزم الرجوع في الأعمال؛ لأنه من وسائل إبطالها، والرجوع في الهبة يندرج تحت هذا الأصل التشريعي العام، والذي يَقضي بعمومه عدم جواز الرجوع في الهِبَة إلا بدليل شرعيٍّ خاصٍّ، كهِبَة الوالد لولده، والهِبَة بعِوَض؛ لورود أدلة خاصة بها، ويَبقى النص العام عاملاً فيما وراء الخاص؛ ليكون الأصل عدم جواز الرُّجوع، والرجوع استثناء بدليل شرعي خاصٍّ مُعتبَر.
 
ب - عن ابن عباس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل الذي يَرجِع في صدقته كمثلِ الكَلب يقيء ثم يعود في قيئه، فيأكله))، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العائد في هِبَته، كالعائد في قيئه))[16].
وجه الاستدلال بالحديث الشريف:
يفيد الحديث تَحريم الرجوع في الهِبَة؛ لأنَّ الرجوع في القيء حرام، فالمشبه به وهو الرجوع في الهبة حرام مثله.[17]
 
جـ - عن عمرو بن شعيب، حدثني طاووس عن ابن عمر وابن عباس، يَرفعان الحديث، قال: لا يحلُّ الرجل أن يعطي عطية، ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، مثل الذي يعطي العطية، ثم يرجع فيها، كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء، ثم عاد إلى قيئه".
 
قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال الشافعي: لا يحلُّ لمَن وهَبَ هِبةً أن يَرجع فيها، إلا الوالد، فله أن يرجع فيما أعطى ولده، واحتجَّ بهذا الحديث[18].
 
وجه الاستدلال بالحَديث الشريف:
الحديث نصٌّ في الموضوع، لأنه ينصُّ صراحة على حرمة الرجوع في الهبة، إلا فيما يهَبُ الوالد لولده.
 
د - المعقول، ويشتمل على ما يلي:
1 - الرجوع في الهبة، يؤدي إلى العداوة والبغضاء، وهذا لا يجوز شرعًا.
 
2 - الأصل في العقود اللزوم، وإنما لا تلزم بعارض أو خلل، ولم يُوجد عارض يمنع لزوم الهبة؛ لأنَّ المقصود من عقد الهِبَة، هو صِلَة الرحم والمحبة والثواب وإظهار الجود والسخاء، وهذه المَقاصد لا تتحقَّق إلا بلزوم الهِبَة، وتَنْتفي بالرجوع فيها[19].
 
3 - الرجوع في الهبة ليس من محاسن الأخلاق، والشارع عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليُتمِّم محاسن الأخلاق.[20]
 
4 - قياس الهبة للأجنبي على الهبة لذي رحم محرَّم؛ لأنَّ المقصد من الهبة في الأمرين واحد؛ ولا مسوِّغ للتَّفريق بينهما[21].
 
خامسًا: الرجوع في الهبة في قانون المعاملات الإماراتي والمدني الأردني[22]:
نصت المواد (646 - 653) إماراتي، والمواد (576 - 581) أردني على أحكام الرجوع في الهبة، وهي مستمدَّة من مذهب الحنفيَّة، وهي مُتطابقة تمامًا، غير أنَّ القانون الإماراتي أضاف أحكام الرجوع في الهِبَة بين الوالد وولده، وهذه الأحكام مستمَدَّة من فقه المالكية، ولم ينص عليها القانون المدني الأردني، وفيما يلي بيانها، المادة (652) يجوز للأب أن يَسترجِعَ مِن ولده ما وهبه، ويجوز للأم أيضًا أن تَسترجع من ولدها ما وهبته، إذا لم يكن يتيمًا فإن كان يتيمًا، فلا يجوز لها أن تسترجع منه، ولو طرأ اليتم بعد الهبة، هذه المادة تفرَّد بها قانون المعاملات الإماراتي، وهي مُستمدَّة مِن مذهب المالكية، والذي ينصُّ على عدم جواز الرجوع في الهبة إلا فيما يهَبُه الوالد لولده، وكما جاءت بذلك السنَّة، وهذا الاستثناء قاصر على الأب ولا يشمَل الجدَّ؛ لأن رجوع الأب فيما يهب لولده ليس رجوعًا حقيقةً؛ لأنَّ الولد امتداد أبيه، وهو ومالُه لأبيه، والأب ليس متَّهمًا في رجوعه؛ لأنه يَقصد بذلك إصلاح ولده وتربيته، وأُعطي هذا الحق للأم قياسًا على الأب، أو لشمول النصوص الواردة في السنَّة، والتي أشرنا إليها سابقًا؛ لأنَّ ذِكرَ الأب جاء على سبيل التغليب، واعتبر القانون والفقه المالكي يُتْم الولد مانعًا من موانع رجوع الأم فيما تهَبُ لولدها.
 
وجاءت المادة (653) لتنصَّ على موانع الرجوع فيما وهَبه كلٌّ مِن الأبوين لولده، وهي:
أ - إذا تغيَّر ذات المال الموهوب، أو تصرَّف فيه الموهوب له تصرُّفًا يُخرجه عن مُلكه.
 
ب - إذا حدث تعامل مالي مع الموهوب له بسبب الهِبَة، وكان مِن شأن الرجوع في الهبة الإضرار بالموهوب له أو بالغير.
 
جـ - إذا حدث للموهوب له أو للواهب مرض مخوف بعد الهِبة إلا أن يزول مرضه، فيعود لكل من الأبوين حقه في استرجاع ما وهبه لولده[23].
 
سادسًا: المناقشة والتَّرجيح:
1 - مناقشة أدلة القائلين بجواز الرجوع في الهبة، وهم الحنفية ومن معهم، ويرد على استدلالهم بما يلي:
أ - الاستدلال بالآية الكريمة ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ...
﴾ استدلال غير صحيح؛ لأن ظاهر الآية يفيد أن المقصود بالتحية السلام؛ حيث يقول: السلام عليكم، ورد التحية يكون بقوله: وعليكم السلام، وقد حددت ذلك السنَّة؛ ولهذا تكون الآية خارج محلِّ النزاع؛ لأنها تتحدث عن أمر من مكارم الأخلاق، وهو أمر متَّفق عليه بين الفقهاء.
 
ب - الاستدلال بحديث أبي هريرة ((الواهب أحق بهبته)) استدلال غير صحيح؛ لأن الحديث ضعيف؛ لوجود إبراهيم بن إسماعيل في إسناده، وهو ضعيف مطعون فيه[24]، والحديث الضعيف، لا يصحُّ الاحتجاج به، ولا يقوى على معارضة الأدلة الصحيحة الواردة في كتب الصِّحاح، والمتفق على صحتها بين المحدثين، ومنها حديث ((العائد في هبته)).
 
يقول ابن قدامة: وأحاديثنا أصح من أحاديثهم وأولى[25].
 
ج - الاستدلال بالإجماع استدلال غير صحيح؛ لأنَّ الإجماع لا يكون في معارضة الأدلة الصحيحة والثابتة والمعتبرة شرعًا، كما أن الإجماع قد ثبت وجود من خالفه، فقد ثبت في السنة الصحيحة أنَّ عبدالله بن عمر وابن عباس، قالا بخلافه[26]، والإجماع لا ينعقِد مع وجود المخالف، فثبَت أن القول بالإجماع قولٌ ينقصه الدليل، فلا يصحُّ الاحتِجاج به شرعًا.
 
د - الاستدلال بالمعقول - وهو تعدد المقاصد - استدلال غير صَحيح؛ لأن المقصد الشرعي من تشريع الهبة محدَّد ثابت شرعًا ولا يلتفت لمَقصد المكلَّف غير الشرعي، ويجب أن يتفق مقصد المكلَّف مع مقصد الشارع، حتى تتحقَّق حكمة التشريع.
 
يقول الشاطبي: "قصد الشارع من المكلَّف، أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصد الله في التشريع"، ويقول أيضًا: "كل مَن ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شُرعت له فقد ناقَضَ الشريعة، وكلُّ مَن ناقَضها فعملُه في المناقَضة باطل"[27].
 
ويقول القرافيُّ: "والقاعِدة الشرعية المَشهورة في أبواب العقود الشرعية، أنَّا لا نُبطِل عقدًا مِن العقود، إلا بما يُنافي مقصود ذلك العقد، دون ما لا يُنافي مقصوده"[28].
 
ويقول ابن تيمية: "الأصْل في العقود الرضا، ونتيجتُها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقُد"[29].
 
ويقول ابن قيم الجوزية: "والأصْل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بُعثتْ به الرسل وأُنزلت به الكتب"[30].
 
هذه أقوال الأئمَّة المُحقِّقين، تفيد أنَّ المعاملة شُرعت لتحقيق مقصد شرعي، ويجب أن يتفق قصد المكلف مع قصد الشارع؛ لأنَّ القصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعيِّ؛ ولهذا لا تترك المعاملات والأحكام لمقاصد الأفراد؛ لما في ذلك من العبث، والشرع منَزَّه عن العبَث.
 
2 - مناقشة أدلة القائلين بلزوم الهبة، وهم المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، ويردُّ على استدلالهم بما يلي:
إنَّ الاستدلال بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ استدلال غير صحيح؛ لأن الآية الكريمة تتحدَّث عن وجوب الوفاء بالعقود الملزمة للجانبين، وهذا أمر متَّفق عليه، وعقد الهبة عقد غير لازم؛ لأنه من عقود التبرعات المالية، وهو مندوب إليه باتفاق العلماء، وليس واجبًا، ولهذا لا تشمل الآية بحكمها عقد الهبة، إلا إذا كان لازمًا كالهِبة بعوض، وبهذا يظهر أن الآية خارج محلِّ النِّزاع، فلا يصحُّ الاستدلال بها على لزوم عقد الهِبَة ووجوب تنفيذه وعدم الرجوع فيه.
 
ب - الاستدلال بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ استدلال غير صحيح؛ لأن الآية الكريمة تُحرِّم إبطال الأعمال اللازمة والواجِبة، وهذا أمر متَّفق عليه، وخارج محل النزاع، أما الأُمور المندوبة كالهِبة، فيَجوز إبطالها والرجوع فيها مع الكَراهة، والآية الكريمة لا تشمل بعمومها المندوبات؛ ولهذا تكون خارج محل النزاع، ولا يجوز الاستدلال بها على لزوم الهبة والرجوع فيها؛ لأنَّ عقد الهبة باتفاق العلماء أمر مندوب إليه.
 
جـ - أما بالنسبة لحديث ابن عباس وحديث عمرو بن شعيب، فهي أحاديث يتطرَّق إليها الاحتمال والتأويل، وفيما يلي بيان ذلك[31]:
1 - حمل الأحاديث على الرجوع بغير قضاء ولا رضاء، وذلك لا يجوز عندنا إلا فيما وهب الوالد لولده، فإنه يحلُّ له أخذه مِن غير رضا الولد ولا قضاء القاضي، إذا احتاج إليه للإنفاق على نفسه، كما، أنه محمول على نفي الحل من حيث المروءة لا من حيث الحكم، والتشبيه من حيث ظاهر القبح مروءة وطبيعة لا شريعة؛ لأن فعل الكلب لا يوصف بالحرمة الشرعية؛ لكنه يُوصَف بالقُبح الطبيعي.
 
2 - وقوله فيما يهبه الوالد لولده محمول على أخذ مال ابنه عند الحاجة إليه، وخرج بصورة الرجوع مجازًا، وإن لم يكن رجوعًا حقيقةً؛ لأن الولد وماله لأبيه.
 
د - الاستدلال بالمعقول استدلال صحيح، لكنه لا يُفيد لزوم الهِبَة وعدم جواز الرجوع فيها، ولكنَّه يُفيد القبح والكراهية، وهو ما نقول به.
 
التَّرجيح:
يترجَّح لدينا رأي جماهير العلماء، والذي يَرى لزوم الهبة، وعدم جواز الرجوع فيها، شريطة القبض في المنقول كالمَكيل والموزون، وكذلك التسجيل في الدوائر الرسمية بالنسبة للعقار، وللأسباب التالية:
أ - قوة الأدلة الواردة في ذلك سندًا ومتنًا.
 
ب - الاحتمالات التي أوردها الحنفية، لا تستند إلى دليل مقبول؛ ولهذا تسقط في الاعتبار الشرعي.
 
جـ - من أجل تحقيق المقصد الشرعي من الهبة، والذي يتمثَّل بالأجر والثواب والمحبة بين الناس، والرجوع يؤدِّي إلى الخصومة والتنازع والعَداوة، وهذه أمور محرَّمة وباطِلة، فما يؤدي إليها وهو الرجوع في الهبة يكون باطلاً بالبَداهة.
 
د - من أجل الحفاظ على مبدأ استقرار المعاملات بين الناس، وهو مبدأ أصيل ومهمٌّ في التعامُل بين الناس، وإناطة أَمرِ الهِبة بقَصد الإنسان ونيَّته المُتغيِّرة، يؤدِّي إلى عدم استقرار التعامُل بين الناس؛ ولهذا يجب ربط الهِبَة بمَقصدها الشرعي الثابت؛ لأنَّه يمثِّل حكمة تشريع الهِبة.
 
هـ - ولارتباط الهبة بمَحاسن الأخلاق وحسْن العادات، والأخلاق الحسَنة تتَّسم بالديمومة والثبات.



[1] البخاري: صحيح البخاري (2 / 175)، ومسلم: صحيح مسلم (2 / 756)، وابن العربي: عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (3 / 157).



[2] البيهقي: السنن الكبرى (6 / 169).



[3] السرخسي: المبسوط (12 / 47) وما بعدها، وابن حزم: المحلى (9 / 12) وما بعدها، والنووي: المجموع (15 / 370) وما بعدها، وابن قدامة: المغني (8 / 329) وما بعدها، ومحمد عليش: منح الجليل شرح مختصر سيدي خليل (8 / 174) وما بعدها، وابن جزي: القوانين الفقهية (ص: 241) وما بعدها.


[4] السرخسي: المبسوط (12 / 49) وما بعدها، ومحمد عليش: منح الجليل شرح مختصر سيدي خليل (8 / 205)، وأحمد بن قودر: تكملة فتح القدير (9 / 49)، وجمعية الحقوقيين: قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة (مادة 650، 651) (ص: 146، 147)، وهذا هو رأي الحنفية، وبه أخذ القانون المدني الأردني والإماراتي، وخالف القانون بذلك رأي جماهير العلماء، والذي يَرى عدم جواز الرجوع في الهِبة، إلا في حالات خاصَّة، استِثناءً، وهم المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.


[5] الإمام مالك: الموطأ (2 / 754).


[6] الأجنبي: من لم يكن ذا رحم محرَّم من الواهب، يخرج بذلك من كان ذا رحم وليس بمحرَم كبني الأعمام والأخوال، ومن كان مَحرمًا، ليس بذي رحم؛ كالأخ الرضاعي، والرحم المحرم كالأخ والأخت، والعم والخال.


[7] انظر: السرخسي: المبسوط (12 / 49) وما بعدها، وأحمد بن قودر: تكملة فتح القدير (9 / 38)، وابن قدامة: المغني (8 / 278) وما بعدها، وابن جزي: القوانين الفقهية (ص: 127)، وابن حزم: المحلى (9 / 120) وما بعدها، جمعية الحقوقيين: قانون المعاملات الإماراتي (ص: 146)، ونقابة المحامين: المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الأردني (2 / 529).


[8] وبرأي الحنفية أخذت معظم القوانين العربية، ومنها المدني المصري والسُّوري والأردني والإماراتي، انظر: الكاساني: البدائع (6 / 128)، والمَوصلي الاختيار (3 / 51)، والشاشي القفال: حلية العلماء (6 / 54) وما بعدها، ومحمد قدري باشا: الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية، المواد 515 إلى 529، مطبوع مع قانون الأحوال الشخصية السوري (ص: 83، 84).


[9] الكاساني: البدائع (6 / 128)، وابن العربي: أحكام القرآن (1 / 465، 466).



[10] يُثب: أي يعوض.


[11] ابن ماجه: سنن ابن ماجه (2 / 798).


[12] الكاساني: البدائع (6 / 128).



[13] الكاساني: البدائع (6 / 128)، وابن حزم: المحلى (9 / 128، 129)، والسيوطي: تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك (2 / 224).


[14] الكاساني: البدائع (6 / 128)، والسرخسي: المبسوط (12 / 49) وما بعدها.


[15] ابن رشد: بداية المجتهد (2 / 332)، والشربيني: مغني المحتاج (2 / 402)، والشافعي: الأم (4 / 63)، والشاشي القفال: حلية العلماء (6 / 54)، وابن قدامة: الكافي (2 / 469)، وابن حزم: المحلى (9 / 127) وما بعدها، وابن جزي: القوانين القفهية (ص: 241) وما بعدها، والنووي: المجموع (15 / 370).



[16] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري (7 / 35)، والنووي: صحيح مسلم بشرح النووي (6 / 71)، وابن العربي: عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (8 / 293).


[17] الشوكاني: نَيل الأوطار (6 / 114).



[18] ابن العربي، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (8 / 294).



[19] الكاساني، البدائع (6 / 128).


[20] ابن رشد: بداية المجتهد (2 / 333).


[21] ابن قدامة: المغني (8 / 277).


[22] جمعية الحقوقيين: قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة، قانون اتحادي رقم (5) لسنة 1985م المعدل بالقانون الاتحادي رقم (1) لسنة 1987 (ص: 145) وما بعدها، ونقابة المحامين: المذكِّرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني (2 / 529) وما بعدها، ومحمد قدري باشا: مرشد الحيران (ص: 29، 30).



[23] ابن جزي: القوانين الفقهية (ص: 241) وما بعدها، ومحمد عليش: منح الجليل شرح مختصر سيدي خليل (8 / 226) وما بعدها، وابن رشد: بداية المجتهد (2 / 232، 233).



[24] ابن ماجه: سنن ابن ماجه (2 / 798).


[25] ابن قدامة: المغني (8 / 278).


[26] ورد الحديث في أدلة الجمهور السابقة؛ انظر: ابن قدامة: المغني (8 / 277) وما بعدها، وابن حزم: المحلى (9 / 130) وما بعدها.



[27] الشاطبي: الموافقات (2 / 331، 332).


[28] القرافي: الفروق (3 / 12).


[29] ابن تيمية: الفتاوى (3 / 485).



[30] ابن قيم الجوزية: إعلام الموقِّعين (2 / 7).


[31] الكاساني: البدائع (6 / 128).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١