تفسير الربع الأخير من سورة المائدة بأسلوب بسيط
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [1] الربع الأخير من سورة المائدة
الآية 97: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾: أي جعله صلاحًا لدينهم، وأمنًا لحياتهم، فبِالحَجِّ إليه يكتمل إسلامهم، وبه تحط أوزارهم، وتتضاعف حسناتهم، ويجتمع فيه جميع أجناس المسلمين من كل فج عميق، فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض، وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية، ﴿ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾: يعني وحَرَّم تعالى العدوان والقتال في الأشهر الحرم (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب)، ﴿ وَالْهَدْيَ ﴾: أي وحرَّم تعالى الاعتداء على ما يُهدَى إلى الحَرم من بهيمة الأنعام، ﴿ وَالْقَلَائِدَ ﴾: يعني وحرَّم كذلك الاعتداء على القلائد، وهي ضفائر من صوف أو وَبَر، كانوا يضعونها في رقاب الهَدي لتكون علامةً على أن الرجل آتٍ من الحرم أو ذاهبٌ إليه، فهذه الأربعة: (البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد) كانت تقوم مقام السلطان بين العرب، فتحقق بذلك الأمن والرخاء في ديارهم (وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش)، فهذا من تدبير الله تعالى لعباده، وهو دليلٌ على عِلمه وحكمته، ولهذا قال بعدها: ﴿ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾، ومِن ذلك ما شَرَعه لحماية خلقه بعضهم من بعض، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ فلا تخفى عليه خافية.
الآية 98، والآية 99: ﴿ اعْلَمُوا ﴾ أيها الناس ﴿ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ لِمن عصاه ولم يتب ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ لمن تاب ورجع إليه، واعلموا أنَّ ﴿ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ وقد بلَّغ كما أُمِر وقام بوظيفته، وبقِيَ الأمر إليكم: فإن رجعتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم ويرحمكم، وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعاقبكم عليه.
• وقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾، فيه وعدٌ ووعيد، لأنَّ عِلمه تعالى بالظواهر والبواطن يترتب عليه الجزاء، أي إنه تعالى سيُجازيكم بما يعلمه منكم.
الآية 100: ﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي ﴾: أي لا يتساوي ﴿ الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ﴾، فالكافر لا يتساوي مع المؤمن، والعاصي لا يتساوي مع المطيع، والجاهل لا يتساوي مع العالم، والمبتدع لا يتساوي مع المُتبع، والمال الحرام لا يتساوي مع الحلال، حتى ﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ ﴾ أيها الإنسان ﴿ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾ وعدد أهله، ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾: يعني فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة باجتناب الخبائث، وفِعل الطيبات ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ بالحصول على هدفكم الأعظم، وهو رضا الله تعالى والفوز بالجنة.
الآية 101، والآية 102: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ ﴾ مِن أمور الدين لم تؤمَروا فيها بشيء، كالسؤال عن الأمور التي يترتب عليها تشديدات في الشرع، وغير ذلك.
• واعلم أن سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحُجُّوا)، فقال رجل: (أفِي كل عام يا رسول الله؟)، فسكت، حتى قالها الرجل ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا، ولو قلتُ نعم: لوجبتْ، ولو وجبتْ: لما استطعتم)، ثم قال: (ذروني ما تركتكم) فنزلتْ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾: أي ولو كُلِّفتموها لَشقَّتْ عليكم، ﴿ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ ﴾: يعني وإن تسألوا عنها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين نزول القرآن عليه تُبيَّن لكم، وقد تُكلَّفونها فتعجزون عنها، ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ﴾: أي سكت الله عنها (وكل ما سكت الله عنه فهو مما أباحه وعفا عنه)، وكذلك عفا الله عنكم فلم يؤاخذكم بما سألتم، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لعباده إذا تابوا، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ عليهم فلا يعاجلهم بالعقوبة.
• ثم يخبر تعالى عباده المؤمنين بأنَّ مِثل تلك الأسئلة ﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ لرسلَهم، ﴿ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾: يعني فلما أُمِروا بها جحدوها، ولم يُنَفذوها، فاحذروا أن تكونوا مثلهم.
الآية 103: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ﴾: يعني ما شرع الله للمشركين ما ابتدعوه في بهيمة الأنعام مِن تَرْك الانتفاع ببعضها وجَعْلها للأصنام، وهي: (البَحيرة: وهي الناقة إذا ولدتْ خمسة صغار (وكان الخامس ذكراً)، فيَشقون أذنها ثم يُحرمون ركوبها، والسائبة: وهي الناقة التي تُترَك وتُنذَر للأصنام، فلا تُركَب ولا يُحمَل عليها ولا تؤكل، والوصيلة: وهي الناقة التي تكون أول ولادتها أنثى، أو التي تتصل ولادتها بأنثى بعد أنثى، فلا يذبحوها، والحامي: وهو الذكر من الإبل إذا وُلد مِن صُلبه عددٌ من الإبل، فيَمنعون ظهره من الركوب والحَمل).
﴿ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾: يعني ولكنّ الكفار نسبوا ذلك إلى الله تعالى افتراءً عليه، ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾: أي لا يميزون الحق من الباطل.
الآية 105: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾: يعني ألزِموا أنفسكم بالعمل بطاعة الله واجتناب معصيته، وداوِموا على ذلك وإن لم يستجب الناس لكم، فإذا فعلتم ذلك فـ ﴿ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾: أي لا يَضركم مَن أصَرَّ على ضلاله بعد أن أمرتموه بالمعروف، ونهيتموه عن المنكر، ﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ﴾ في الآخرة ﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، ويجازيكم على أعمالكم.
الآية 106: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ...
﴾ اختلف العلماء في هذه الآية: هل هي منسوخة أم لا، لذلك لم أشأ أن أخوض في تفسيرها، ولا في تفسير الآيتين اللتين بعدها، لأنهما مرتبطتان بها.
الآية 109: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ﴾: أي فيسألهم عن جواب أُمَمِهِم لهم حينما دَعَوْهم إلى التوحيد، ﴿ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ﴾ فنحن لا نعلم ما في صدور الناس، ولا ما أحدَثوا بَعدَنا ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾.
الآية 116، والآية 117: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾؟ ﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾: يعني ما ينبغي لي أن أقول للناس غير الحق، ﴿ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ لأنه لا يَخفى عليك شيء، فإنك سبحانك ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾: أي إنك أنت عالمٌ بكل شيء مِمَّا ظَهَر أو خَفِي.
• ثم قال عيسى عليه السلام: يا ربِّ ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾: يعني ما قلتُ لهم إلا ما أوحيتَهُ إليَّ، وأمرتني بتبليغه ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ﴾: أي وكنتُ على ما يفعلونه - وأنا بينهم - شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم، ﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ﴾: يعني فلما وَفَّيْتَني أجلي على الأرض، ورفعتني إلى السماء حيًّاً: ﴿ كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾: أي كنتَ أنت المُطَّلِع على سرائرهم، ﴿ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ فلا تخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء.
الآية 118: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ وأنت أعلم بأحوالهم، تفعل بهم ما تشاء بعَدْلِك، ﴿ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ برحمتك لِمَن أتى منهم بأسباب المغفرة كالاستغفار والتوبة والأعمال الصالحة: ﴿ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ﴾ الذي لا يمنعه مانع مما أراد، فلا تمنعه الذنوب من المغفرة لعباده التائبين، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في تدبيره وأمره، (وفي هذه الآية ثناءٌ على الله تعالى بحكمته وعدله، وكمال علمه).
الآية 119: ﴿ قَالَ اللَّهُ ﴾ تعالى لعيسى عليه السلام يوم القيامة: ﴿ هَذَا يَوْمُ ﴾ الجزاء الذي ﴿ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾: أي ينفع الموحدين توحيدهم، وانقيادهم لشرع ربهم، وصِدقهم في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم ﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾: أي تجري من تحت قصورها الأنهار ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ فقبل حسناتهم، ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ بما أعطاهم من جَزيل ثوابه ﴿ ذَلِكَ ﴾ الجزاء والرضا منه عليهم هو ﴿ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
[1] وهي سلسلة تفسير للآيات التي يَصعُبُ فهمُها في القرآن الكريم (وليس كل الآيات)، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبو بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو شرحُ الكلمة الصعبة في الآية.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.