شرح الورقات في أصول الفقه [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقال رحمه الله: [باب القياس]:

عقد هذا الباب للنوع الرابع من أنواع الأدلة الإجمالية، فأول الأدلة الإجمالية: الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم القياس.

تعريف القياس

والقياس مصدر قاس الجرح إذا سبره ليعرف غوره، ومنه قول الشاعر:

إذا قاسها الآسي النِّطَاسيُّ أدبرت غثيثـتها وازداد وَهْـيًا هُزُومُها

يصف الشاعر طعنةً، (إذا قاسها الآسي) أي: أدخل فيها المسبار ليعرفَ غَوْرَهَا.

والقياس في اصطلاح الأصوليين: هو حمل معلوم على معلوم، لمساواته له في علة حكمه عند الحامل.

فقولنا: [حمل معلوم] أي: إلحاقه، والمعلوم: هو ما عُرف عينُه، والمقصود هنا: وجُهِل حكمه، لأن ما جاء النص بحكمه لا يُحتاج إلى حمله على غيره.

[على معلوم] أي: معلوم العين، معلوم الحكم، وهو الأصل.

[لمساواته له] أي: لموافقته له.

[في علة حكمه] أي: في تحقق العلة فيهما معاً، فلا قياسَ إلا في المعللات، فالتعبديات المحضة لا قياس فيها.

[في علة حكمه] سواء كانت تلك العلةُ نصيَّةً أو استنباطيَّةً.

[عند الحامل] أي: عند الذي قاس، ليدخل في ذلك: القياس الفاسد، فإن الفرعَ لا يساوي الأصلَ فيه في علة حكمه عند جمهور الناس، وإنما يساويه عند الحامل وحده، ومع ذلك يُسمى قياساً، وإن كان فاسداً.

وعرف المصنف القياس بقوله:

أركان القياس

[وأما القياس: فهو رد الفرع إلى الأصل في الحكم بعلة تجمعهما].

- فقال: [رد الفرع] أي: إلحاق مجهول الحكم، معروف العين.

- [إلى الأصل] أي: معروف الحكم والعين معاً.

والمقيس، يسمى عرفًا بـ [الفرع]، والمقيس عليه يُسمى عرفًا بـ [الأصل].

[في الحكم] وهذا هو وجه الرد، أي: إلحاقه به إنما هو في الحكم.

- [بعلة تجمعهما] أي: بسبب جمع العلة لهما، فالعلة تجمعهما معاً.

وهذا التعريف جامع للأركان الأربعة، التي هي أركان القياس، وهي: الفرع، والأصل، وحكم الأصل، والعلة الجامعة.

وهذه العلة تسمى بـ (الوصف الجامع) -أيضاً- في الاصطلاح.

والقياس مصدر قاس الجرح إذا سبره ليعرف غوره، ومنه قول الشاعر:

إذا قاسها الآسي النِّطَاسيُّ أدبرت غثيثـتها وازداد وَهْـيًا هُزُومُها

يصف الشاعر طعنةً، (إذا قاسها الآسي) أي: أدخل فيها المسبار ليعرفَ غَوْرَهَا.

والقياس في اصطلاح الأصوليين: هو حمل معلوم على معلوم، لمساواته له في علة حكمه عند الحامل.

فقولنا: [حمل معلوم] أي: إلحاقه، والمعلوم: هو ما عُرف عينُه، والمقصود هنا: وجُهِل حكمه، لأن ما جاء النص بحكمه لا يُحتاج إلى حمله على غيره.

[على معلوم] أي: معلوم العين، معلوم الحكم، وهو الأصل.

[لمساواته له] أي: لموافقته له.

[في علة حكمه] أي: في تحقق العلة فيهما معاً، فلا قياسَ إلا في المعللات، فالتعبديات المحضة لا قياس فيها.

[في علة حكمه] سواء كانت تلك العلةُ نصيَّةً أو استنباطيَّةً.

[عند الحامل] أي: عند الذي قاس، ليدخل في ذلك: القياس الفاسد، فإن الفرعَ لا يساوي الأصلَ فيه في علة حكمه عند جمهور الناس، وإنما يساويه عند الحامل وحده، ومع ذلك يُسمى قياساً، وإن كان فاسداً.

وعرف المصنف القياس بقوله:

[وأما القياس: فهو رد الفرع إلى الأصل في الحكم بعلة تجمعهما].

- فقال: [رد الفرع] أي: إلحاق مجهول الحكم، معروف العين.

- [إلى الأصل] أي: معروف الحكم والعين معاً.

والمقيس، يسمى عرفًا بـ [الفرع]، والمقيس عليه يُسمى عرفًا بـ [الأصل].

[في الحكم] وهذا هو وجه الرد، أي: إلحاقه به إنما هو في الحكم.

- [بعلة تجمعهما] أي: بسبب جمع العلة لهما، فالعلة تجمعهما معاً.

وهذا التعريف جامع للأركان الأربعة، التي هي أركان القياس، وهي: الفرع، والأصل، وحكم الأصل، والعلة الجامعة.

وهذه العلة تسمى بـ (الوصف الجامع) -أيضاً- في الاصطلاح.

قال: [وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه] القياس المقصود به هنا قياس الطرد؛ لأن القياس ينقسم إلى قسمين: قياس طرد، وقياس عكس، فقياس العكس هو: معرفة حكم فرع بحمله على عكس حكم الأصل؛ لاختلافهما في العلة، وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: نعم، أرأيتم إذا وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)، فاستباحة الحلال الذي يثاب عليه الإنسان قياس، لكنه ليس كقياس الطرد؛ لأن الأصل والفرع لا تجمعهما علة، فلا يجتمعان في الحكم، فحكمهما مختلف لاختلاف علتهما، فعلة الإثم في الزنا أنه وضعها في حرام، ويقابلها علة الثواب في المباح أنه وضعها في حلال.

أما قياس الطرد: وهو الذي ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة التي ذَكَرَ، وهي: قياس العلة، وقياس الدلالة، وقياس الشبه.

قياس العلة

قال المصنف: [فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم].

العلة في الأصل: ما يُغَيِّر حالَ الشيء كالمرض، فالمرض يُسمى علة؛ لأنه يغير حال المريض.

والعلة في الاصطلاح: هي العلامة التي أناط بها الشارعُ الحكمَ، وأدركَ العقلُ وَجْهَ ترتيبه عليها.

ويمكن أن يُقال: هي الوصفُ الظاهر المنضبط، الذي عَلَّقَ الشارع به الحكمَ، وأدرك العقلُ وجهَ ترتيبه عليه.

فقلنا: (هي الوصف)، والمقصود به: كل ما يُعَلَّلُ به، سواء كان حكماً شرعياً، أو كان إثباتَ أمر، أو كان نفيَ أمر، أو كان مركباً من أمرين، فكل ذلك يُسمى علةً.

(الوصف الظاهر)، فالوصف الخفي لا يمكن أن يُعلل به، ومثله: الوصف الطردي، الذي لا اعتبار له.

(المنضبط) بخلاف الوصف المتردد، فلا يصلح للتعليل، فلا يُعلل به كالمشقة مثلاً، فهي غيرُ منضبطة؛ لاختلافهما بين شخص وشخص.

(الذي أناط الشارع به الحكم) أي: علَّق به الحكمَ.

(وأدرك العقلُ وجه ترتيبه به) ليَخرُج بذلك السببُ؛ فإن الشارع أناط به الحكم، لكن لا يُدرك العقلُ وجهَ إناطته به، كغروب الشمس، فقد علق الشارع عليه وجوبَ ثلاث ركعات، وهي: صلاة المغرب، وغروب الشفق علق الشارع عليه وجوبَ أربع ركعات، وهي صلاة العشاء، والعقل لا يُدرك لماذا عُلقت ثلاث ركعات على غروب الشمس، وأربع ركعات على غروب الشفق.

وأما العلة: فإن العقل يُدرك وجهَ تعليق الحكم عليها، كالإسكار: علة لمنع الخمر، فالعقل يُدرك العلاقة هنا؛ لأنه يعلم أن الخمر تَعتدي على العقل وتزيله، وأن الحفاظ على العقل من ضروريات الناس، لذلك جعل الشارعُ الإسكارَ - وهو إزالة العقل - علةً لتحريم الخمر.

قال: [فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم].

أي: كانت العلةُ فيه مقتضيةً للحكم، بمعنى: أنه لا يحسن تخلف الحكم عنها، بأن تُوجد هي في الفرع، ولا يوجد الحكم فيه، فهذا يكون حينئذ ممنوعاً.

ومثال ذلك: قياس ضرب الوالدين أو أحدهما على التأفيف؛ فإن الله تعالى يقول: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا[الإسراء:23] ، فهنا نهى أن يقول الولد لوالده: أفٍّ، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أفِّ وَلا تَنْهَرْهُمَا)، ومعناهما واحد، ويُلحق بالتأفيف: الضربُ والشتم وأنواع الأذى؛ لأن العلة متحققة فيها، وهي: عدم الإحسان إلى الوالدين وأذاهما، فالضرب أبلغ في الأذى من التأفيف، ومثله: الشتم، فكل ذلك أبلغ في الأذى من التأفيف.

فالمقيس عليه هو: التأفيف، والفرع: هوالضرب وأنواع الأذى، والحكم: التحريم، والعلة: الإيذاء.

فلا يحسن تخلف الحكم في الفرع الذي هو الضرب، بأن يُباح الضرب، مع منع التأفيف، فهذا لا يُستحسن عقلاً.

وهذا الفرع أبلغ في تحقق العلة فيه من الأصل، والعلة: هي قطع الأذى.

والمساوي: إلحاق الأرز بالقمح في الربوية، وفي التعشير، أي: في أخذ عشره في الزكاة، إذا كان مما سقت السماء، ونصف عشره إذا كان مما سقاه الإنسان بآلته.

والأرز لم يرد فيه النص، والنص إنما ورد في القمح، لكن يُلحق به الأرز لاجتماعهما في العلة وهي: الطعمية، والادخار، والكيل، والوزن، فهما يجتمعان في كل الأوصاف المعتبرة، فكلاهما طعام مقتات مدخر مكيل أو موزون، فيُلحق به بهذا القياس.

فالفرع: الأرز، والأصل هو البر -أي: القمح- والحكم: حرمة الربا، ووجوب الزكاة، والوصف الجامع : الطعمية، أي: الاقتيات والادخار، أو كونه مكيلاً أو موزوناً، على الخلاف في علة الربا في هذه الأجناس.

قياس الدلالة

النوع الثاني قياس الدلالة:

قال المصنف: [وهو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم، ولا تكون موجبة للحكم].

وهذا الذي يُسمى بالاستدلال، وهو ثلاثة أنواع:

1 - استدلالٌ بالعلة على المعلول.

2 - واستدلالٌ بالمعلول على العلة.

3 - والاستدلال بأحد المعلولين على الآخر.

وهو أن يُستدل بأحد النظيرين على الآخر، والمراد بالنظيرين هنا: المشتركان في الأوصاف، كما ذكرنا في الأرز والقمح، فيُمكـن أن يتخلف الحكم في الأرز -مثلاً- ويُثبت في القمح.

ومثل ذلك: السكر -مثلاً- وإلحاقه بالقمح في منع الربا فيه، بجامع أن كلاً منهما طعام، فالعلة هنا غير موجبةٍ للحكم؛ لأن العقل يمكن أن يُدرك فرقاً بين السكر والقمح، وهذا معنى قوله: [ولا تكون موجبة للحكم]؛ لاحتمال وجود فرق بين الفرع والأصل.

وأكثر الأصوليين يعرفون قياس الدلالة بأنه: الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، لا بالعلة نفسها.

كالشدة في الخمر أو الرائحة المخصوصة، فإن الغليان أو الإرغاء والإزباد في الخمر، ليس هو العلة -التي هي الإسكار- ولكنها دليل العلة.

قياس الشبه

النوع الثالث: قياس الشبه:

قال المصنف: [وهو الفرع المتردد بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهًا].

أي: هو إلحاق الفرعِ المترددِ بين أصلين بأكثرهما شبهاً به.

والأصوليون يمثلون له بـ(العبد)، فهل يُلحق بالجمل لاشتراكهما في الْمِلك، أو بالرجل الحر لاشتراكهما في الإنسانية؟ فالعبد له وصفان: الإنسانية وكونه مملوكاً، فبأيهما كان أكثر شبهاً يُلحق به.

فهو من ناحية التصرف مملوك، يُلحق بالمملوكات، فيُتصرف فيه كما يُتصرف في المملوكات الأُخَرِ.

وهو من ناحية الإنسانية: مكلف بالغ، له أوصاف الإنسان من العقل والتكليف والبلوغ وحصول الأجر على الطاعة، وحصول الإثم على المعصية.

فيُلحق بأكثرهما شبهاً به، والصحيح أنه يُلحق بالحر؛ لأنه به أشبه.

قال: [ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله].

أي: لا يُلجأ إلى قياس الشبه مع إمكان ما قبله، أي: مع وجود قياس الدلالة، أو قياس العلة.

شرط الفرع

قال: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل].

فللأصل شروط، وللفرع شروط، وللعلة شروط، ولحكم الأصل شروط.

وهذه الشروط غير محصورة لكثرة الخلاف فيها، وهو ذكر بعضَها هنا.

فقال: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل].

أي: من شروط الفرع، والشرط هنا لما أُضيف إلى المعرفة عمَّ؛ لأن كل مفرد أضيف إلى معرفة يعم، مثل قول الله تعالى: وَبَنَاتِ عَمِّكَ[الأحزاب:50] أي: كل أعمامك، ومنه قول الشاعر:

بها جيف الْحَسْرَى فأما عظامُها فَبِيـضٌ وأما جِـلدُها فصليبُ

جلدها: أي: كل جلودها، لأن الْحَسْرَى ليس لها جلد واحد، بل جلودها كثيرة بعدد رءوسها.

وهو هنا لم يقصد الحصر، ولهذا قال: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل]، والمقصود بالمناسبة هنا: المساواة في العلة، بأن تكون علة الحكم وصفاً مناسباً لكل من الأصل والفرع، وذلك مثل: إلحاق الحاقن بالغضبان في منع القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهـى أن يقضيَ القاضي وهو غضبان، وعلة النهي: تشوش الذهن، وهي موجودة في العاطش والجائِع والحاقِن والْحَازِقِ ونحو ذلك.

فالحاقن: هو الذي يحتاج إلى دخول الخلاء، أو إلى الاستراحة من البول.

والحازق: هو الذي يلبس خفاً قد ضَيَّقَ على رجله، فآلَمَهُ.

فهؤلاء في تشوش الذهن: كالغضبان.

فيُلحق هذا الفرع بالأصل هنا للمناسبة وهي: علة مستنبطة غير نصية.

شرط الأصل

قال رحمه الله: [ومن شرط الأصل: أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين].

[من شرط الأصل] أي: من شروط الأصل.

[أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين] أي: أن يكون حكمُه ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين، فإن كان ذلك الدليل محل خلاف بين الخصمين، أو كان وجود الحكم في الأصل محل خلاف بين الخصمين، لم يتفقا على ذلك القياس.

فهذا شرط لحكم الأصل، ومعناه: أن يكون حكم الأصل الذي يُراد إثباته في الفرع ثابتاً بدليل من نص -من كتاب أو سنة- أو إجماع، ويكون ذلك متفقاً عليه بين الخصمين المتنازعين؛ لأن البحث بينهما، فإذا ذكر المستدِلُّ -وهو أول المتكلِّمَيْنِ- الحكمَ مقترناً بدليله من نص أو إجماع، لم يُشترط موافقة الخصم؛ لأن دلالة النص الصريح أو الإجماع الصريح على الحكم يُؤمَنُ معه الانتشار، أي: انتشار النزاع.

وإنما اشْتُرِط هذا لئلا يمنع الخصمُ الحكمَ في الأصل أصلاً، فيُحتاج حينئذ إلى إثبات الحكم أولاً في الأصل، فينتقل الخلاف عن محله إلى مسألة أخرى.

فمثلاً: من يُنكر الربويةَ في الفُلُوس، ويرى أن لا ربا فيها مطلقاً، راجت أو لم ترُجْ، ويُلحق بها العُملات المعاصرة اليوم، فحكم الأصل عنده إنما ثبت بدليل ليس محل اتفاق بينه وبين الخصم، فإذا احتج بذلك، سيُخاصِمُهُ الخصمُ بأن الفلوس -أصلاً- عنده ربوية، فينتقل الخلاف في العملات إلى الفلوس، وهكذا...

شرط العلة

قال المصنف: [ومن شرط العلة: أن تَطَّرِدَ في معلولاتها، فلا تنتقض لفظاً ولا معنى].

أي: من شروط العلة كذلك: أن تطرد، أي: أن تَثْـبُتَ في معلولاتها.

والاطراد في العلة معناه: ملازمتها للثبوت، والانعكاس: ملازمتها للنفي، وكل ذلك مُشترَطٌ فيها.

فإن وُجد الحكم ولم تُوجد العلة؛ فتلك العلةُ مقدوحٌ فيها، وإن وُجدت العلة ولم يوجد الحكم؛ فتلك العلة مقدوح فيها أيضاً.

وهما قادحان معروفان، أحدهما يُسمى بـ: الكَسْرِ، والآخرُ يُسمى بـ: النَّقْضِ.

وذلك: كالإسكار، فكلما وُجد الإسكار في شيء، وُجد فيه التحريم، فلا يمكن أن يكون المشروبُ مسكرًا وهو مباح، بل كلما وجدت العلة وجد الحكم، ولقد فسر الاطراد بقوله: [فلا تنتقض لفظاً ولا معنى].

أي: أن لا يكون فيها النقضُ - الذي هو قادح من قوادح العلة - وهو: أن توجد العلة في صورة ولا يوجد الحكم، وهو من القوادح التي يبطل بها القياس.

ولا فائدة في قوله: [لفظاً ولا معنى]، فالمقصود: عدم انتقاضها فقط، ولكن يقصد هنا: أن لا تنتقض في الثبوت ولا في الانتفاء، فيقصد هنا: الاطراد والانعكاس في العلة.

قال المصنف: [فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم].

العلة في الأصل: ما يُغَيِّر حالَ الشيء كالمرض، فالمرض يُسمى علة؛ لأنه يغير حال المريض.

والعلة في الاصطلاح: هي العلامة التي أناط بها الشارعُ الحكمَ، وأدركَ العقلُ وَجْهَ ترتيبه عليها.

ويمكن أن يُقال: هي الوصفُ الظاهر المنضبط، الذي عَلَّقَ الشارع به الحكمَ، وأدرك العقلُ وجهَ ترتيبه عليه.

فقلنا: (هي الوصف)، والمقصود به: كل ما يُعَلَّلُ به، سواء كان حكماً شرعياً، أو كان إثباتَ أمر، أو كان نفيَ أمر، أو كان مركباً من أمرين، فكل ذلك يُسمى علةً.

(الوصف الظاهر)، فالوصف الخفي لا يمكن أن يُعلل به، ومثله: الوصف الطردي، الذي لا اعتبار له.

(المنضبط) بخلاف الوصف المتردد، فلا يصلح للتعليل، فلا يُعلل به كالمشقة مثلاً، فهي غيرُ منضبطة؛ لاختلافهما بين شخص وشخص.

(الذي أناط الشارع به الحكم) أي: علَّق به الحكمَ.

(وأدرك العقلُ وجه ترتيبه به) ليَخرُج بذلك السببُ؛ فإن الشارع أناط به الحكم، لكن لا يُدرك العقلُ وجهَ إناطته به، كغروب الشمس، فقد علق الشارع عليه وجوبَ ثلاث ركعات، وهي: صلاة المغرب، وغروب الشفق علق الشارع عليه وجوبَ أربع ركعات، وهي صلاة العشاء، والعقل لا يُدرك لماذا عُلقت ثلاث ركعات على غروب الشمس، وأربع ركعات على غروب الشفق.

وأما العلة: فإن العقل يُدرك وجهَ تعليق الحكم عليها، كالإسكار: علة لمنع الخمر، فالعقل يُدرك العلاقة هنا؛ لأنه يعلم أن الخمر تَعتدي على العقل وتزيله، وأن الحفاظ على العقل من ضروريات الناس، لذلك جعل الشارعُ الإسكارَ - وهو إزالة العقل - علةً لتحريم الخمر.

قال: [فقياس العلة: ما كانت العلةُ فيه موجبةً للحكم].

أي: كانت العلةُ فيه مقتضيةً للحكم، بمعنى: أنه لا يحسن تخلف الحكم عنها، بأن تُوجد هي في الفرع، ولا يوجد الحكم فيه، فهذا يكون حينئذ ممنوعاً.

ومثال ذلك: قياس ضرب الوالدين أو أحدهما على التأفيف؛ فإن الله تعالى يقول: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا[الإسراء:23] ، فهنا نهى أن يقول الولد لوالده: أفٍّ، وفي القراءة السبعية الأخرى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أفِّ وَلا تَنْهَرْهُمَا)، ومعناهما واحد، ويُلحق بالتأفيف: الضربُ والشتم وأنواع الأذى؛ لأن العلة متحققة فيها، وهي: عدم الإحسان إلى الوالدين وأذاهما، فالضرب أبلغ في الأذى من التأفيف، ومثله: الشتم، فكل ذلك أبلغ في الأذى من التأفيف.

فالمقيس عليه هو: التأفيف، والفرع: هوالضرب وأنواع الأذى، والحكم: التحريم، والعلة: الإيذاء.

فلا يحسن تخلف الحكم في الفرع الذي هو الضرب، بأن يُباح الضرب، مع منع التأفيف، فهذا لا يُستحسن عقلاً.

وهذا الفرع أبلغ في تحقق العلة فيه من الأصل، والعلة: هي قطع الأذى.

والمساوي: إلحاق الأرز بالقمح في الربوية، وفي التعشير، أي: في أخذ عشره في الزكاة، إذا كان مما سقت السماء، ونصف عشره إذا كان مما سقاه الإنسان بآلته.

والأرز لم يرد فيه النص، والنص إنما ورد في القمح، لكن يُلحق به الأرز لاجتماعهما في العلة وهي: الطعمية، والادخار، والكيل، والوزن، فهما يجتمعان في كل الأوصاف المعتبرة، فكلاهما طعام مقتات مدخر مكيل أو موزون، فيُلحق به بهذا القياس.

فالفرع: الأرز، والأصل هو البر -أي: القمح- والحكم: حرمة الربا، ووجوب الزكاة، والوصف الجامع : الطعمية، أي: الاقتيات والادخار، أو كونه مكيلاً أو موزوناً، على الخلاف في علة الربا في هذه الأجناس.

النوع الثاني قياس الدلالة:

قال المصنف: [وهو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم، ولا تكون موجبة للحكم].

وهذا الذي يُسمى بالاستدلال، وهو ثلاثة أنواع:

1 - استدلالٌ بالعلة على المعلول.

2 - واستدلالٌ بالمعلول على العلة.

3 - والاستدلال بأحد المعلولين على الآخر.

وهو أن يُستدل بأحد النظيرين على الآخر، والمراد بالنظيرين هنا: المشتركان في الأوصاف، كما ذكرنا في الأرز والقمح، فيُمكـن أن يتخلف الحكم في الأرز -مثلاً- ويُثبت في القمح.

ومثل ذلك: السكر -مثلاً- وإلحاقه بالقمح في منع الربا فيه، بجامع أن كلاً منهما طعام، فالعلة هنا غير موجبةٍ للحكم؛ لأن العقل يمكن أن يُدرك فرقاً بين السكر والقمح، وهذا معنى قوله: [ولا تكون موجبة للحكم]؛ لاحتمال وجود فرق بين الفرع والأصل.

وأكثر الأصوليين يعرفون قياس الدلالة بأنه: الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، لا بالعلة نفسها.

كالشدة في الخمر أو الرائحة المخصوصة، فإن الغليان أو الإرغاء والإزباد في الخمر، ليس هو العلة -التي هي الإسكار- ولكنها دليل العلة.

النوع الثالث: قياس الشبه:

قال المصنف: [وهو الفرع المتردد بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهًا].

أي: هو إلحاق الفرعِ المترددِ بين أصلين بأكثرهما شبهاً به.

والأصوليون يمثلون له بـ(العبد)، فهل يُلحق بالجمل لاشتراكهما في الْمِلك، أو بالرجل الحر لاشتراكهما في الإنسانية؟ فالعبد له وصفان: الإنسانية وكونه مملوكاً، فبأيهما كان أكثر شبهاً يُلحق به.

فهو من ناحية التصرف مملوك، يُلحق بالمملوكات، فيُتصرف فيه كما يُتصرف في المملوكات الأُخَرِ.

وهو من ناحية الإنسانية: مكلف بالغ، له أوصاف الإنسان من العقل والتكليف والبلوغ وحصول الأجر على الطاعة، وحصول الإثم على المعصية.

فيُلحق بأكثرهما شبهاً به، والصحيح أنه يُلحق بالحر؛ لأنه به أشبه.

قال: [ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله].

أي: لا يُلجأ إلى قياس الشبه مع إمكان ما قبله، أي: مع وجود قياس الدلالة، أو قياس العلة.

قال: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل].

فللأصل شروط، وللفرع شروط، وللعلة شروط، ولحكم الأصل شروط.

وهذه الشروط غير محصورة لكثرة الخلاف فيها، وهو ذكر بعضَها هنا.

فقال: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل].

أي: من شروط الفرع، والشرط هنا لما أُضيف إلى المعرفة عمَّ؛ لأن كل مفرد أضيف إلى معرفة يعم، مثل قول الله تعالى: وَبَنَاتِ عَمِّكَ[الأحزاب:50] أي: كل أعمامك، ومنه قول الشاعر:

بها جيف الْحَسْرَى فأما عظامُها فَبِيـضٌ وأما جِـلدُها فصليبُ

جلدها: أي: كل جلودها، لأن الْحَسْرَى ليس لها جلد واحد، بل جلودها كثيرة بعدد رءوسها.

وهو هنا لم يقصد الحصر، ولهذا قال: [ومن شرط الفرع: أن يكون مناسباً للأصل]، والمقصود بالمناسبة هنا: المساواة في العلة، بأن تكون علة الحكم وصفاً مناسباً لكل من الأصل والفرع، وذلك مثل: إلحاق الحاقن بالغضبان في منع القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهـى أن يقضيَ القاضي وهو غضبان، وعلة النهي: تشوش الذهن، وهي موجودة في العاطش والجائِع والحاقِن والْحَازِقِ ونحو ذلك.

فالحاقن: هو الذي يحتاج إلى دخول الخلاء، أو إلى الاستراحة من البول.

والحازق: هو الذي يلبس خفاً قد ضَيَّقَ على رجله، فآلَمَهُ.

فهؤلاء في تشوش الذهن: كالغضبان.

فيُلحق هذا الفرع بالأصل هنا للمناسبة وهي: علة مستنبطة غير نصية.