شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [57]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وعلى التابعين

ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

لا زلنا نذكر الطرق التي يحصن بها أهل الإيمان أنفسهم من الجان، وقلت: هذه الطرق على كثرتها وتعددها تنحصر في طريقين اثنين: طريق ينبغي أن نحصن أنفسنا منه، وأن نصونها عنه، وطريق ينبغي أن نتحلى به وأن نفعله، تخلية وتحلية، اجتناباً واكتساباً.

أما الأمر الأول فيدور على سبعة أمور:

أولها: أن نحفظ الخطرات.

وثانيها: أن نحفظ اللحظات.

وثالثها: أن نحفظ اللفظات.

ورابعها: أن نحفظ الخطوات.

وخامسها: أن نحفظ السمع آلة المسموعات.

وسادسها: أن نصون البطن الذي هو موطن الشهوات.

وسابعها: أن نصون فروجنا فهي أصل البليات، نسأل الله العافية من كل بلية بفضله ورحمته.

كنا ذكرنا هذه الأمور ووصلنا إلى آخرها، وقد أخذ منا وقتاً، علم الله جل وعلا ما كان في نيتي أن يأخذ ما أخذ، ولله في ذلك حكمة، وأسأل الله أن يعيننا على إنهائه في هذا المبحث، وسأوجز الكلام على الأمور الثمانية التي ينبغي أن نتحلى بها، لندخل بعد ذلك في متابعة مدارسة سنن الإمام الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

تقدم معنا أن صون الفرج شامل لأمرين: شامل لصونه عن النظر إليه، وشامل لصونه عن استعماله فيما لا يحل لنا أن نستعمله فيه.

أما الاستعمال الذي ينبغي أن نصون فروجنا عنه فذكرت في ذلك ثمان صور وأتبعها بتاسعة؛ لأنه يسأل عنها بكثرة.

أولها: أن نصون أنفسنا عن الزنا، وعن اللواط، وعن وطء المرأة في دبرها، وعن السحاق الذي يقع بين النساء، وعن المباشرة فيما دون السبيلين، وعن الاستمناء، وعن وطء المرأة في قبلها حال حيضها، وعن مباشرة البهائم، سواء كانت مفعولةً أو فاعلةً، هذه ثمانية أمور ينبغي أن نصون فروجنا عنها فلا نستعملها فيها، وأمر تاسع ختمت به المبحث الماضي فيما يتعلق بنظر كل من الزوجين إلى عورة صاحبه، وأردت بالعورة العورة المغلظة، وخصوصاً السوأتين كما تقدم معنا.

وهذه تكملة للمسألة التاسعة، وهي مسألة عاشرة ينبغي أن نذكرها، وينبغي لكل مسلم أن يعتني بها، وأن يعيها، وكل واحد بحاجة إليها، ألا وهي تحديد عورة كل من الصنفين الذكور والإناث، وماذا يحل لنا أن نراه من غيرنا من الذكور والإناث؟ وماذا يحل لغيرنا أن يراه منا وأن نمكنه من رؤيته؟ وما هو الذي ينبغي أن نصون أعين الناس عنه فيما يتعلق بنا فلا يرونه، وما ينبغي أن نصون أعيننا عنه فلا نراه من غيرنا؟ هذا هو موضوع مبحثنا، فلا بد من تفصيل دقيق لذلك بأدلته إن شاء الله، وقبل أن أشرع في بيان ما يتعلق بتفصيل العورة للصنفين للذكور والإناث، أحب أن أقدم مقدمةً لطيفة أيسر من المقدمات الماضية.

هذه المقدمة هي أن ديننا مبني على الحياء، وعلى مراقبة رب الأرض والسماء، في الجهر وفي الخفاء سبحانه وتعالى، والله أحق أن يستحيا منه، وبلغ الأمر عند سلفنا الكرام وأئمة الإسلام رضوان الله عليهم أجمعين أنهم كانوا يستحيون من الموتى، فلا يكشفون عوراتهم أمامهم، فكيف إذاً سيكون حالهم أمام الأحياء؟ وتقدم معنا ما يدل على هذا من فعل أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والأثر في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ورواه الإمام ابن سعد في الطبقات، وقد عزاه إليه الحافظ في الفتح (7/66)، وقال: رواه ابن سعد وغيره، وهو في الطبقات كما قلت، لكن الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله اقتصر في عزو هذا الحديث إلى طبقات ابن سعد، فقال: رواه ابن سعد وغيره، وهو في المسند والمستدرك، والعزو إليهما أولى من عزو الخبر إلى طبقات ابن سعد.

وعلى كل حال الحديث رجاله رجال الصحيح، وهذا لرجال المسند كما في المجمع في (9/37).

حياء عائشة رضي الله عنها

ولفظ الحديث: عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن فيه أبي سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، فأقول: زوجي وأبي، فأضع عني ثيابي. وهي حتماً تستر ما بين السرة والركبة، لكن يظهر الشعر، أو يظهر مثلاً شيء من الساعدين تقول: هذا زوجي يحل له أن يرى مني كل شيء، وهذا أبي وسيأتينا ما الذي يحل للمحارم أن يروه من محارمهم.

قالت: فلما دفن سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه ما دخلت حجرتي إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياءً من عمر.

وهذا كنت ذكرته سابقاً، وقلت: هذا نص صريح، وتقرير واضح لا يحتاج كما يقال: إلى ترجيح، أن الأموات يشعرون ويحسون ويرون، وإلا لو كان سيدنا عمر رضي الله عنه بمنزلة الجماد، فعلام تستحي منه؟ هل يستحي الإنسان من جدران بيته؟! إذاً: هذا له ارتباط وواقع الأمر كما قلت يسمع ويرى ويحس ويشعر شعوراً أدق من شعور الأحياء.

حياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه

ولقد وصل الأمر بسلفنا من الحرص على الحياء أنهم حتى في وصف الشدائد والمحن يعرضون عن العورات، ولا يبالون بالمغانم وإن كان سيترتب على تحصيلها شيء من النظر إلى عورة محرمة، فانظر لهذه الواقعة لسيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه في موقعة الخندق، وهي في الروض الأنف في الجزء الثالث، صفحة ثمانين ومائتين، وفي البداية والنهاية للإمام ابن كثير في الجزء الرابع، صفحة سبع ومائة.

لما خرج عمرو بن ود، ويقال: عمرو بن أد، وهو من عتاة المشركين، اقتحم الخندق، واقترب إلى جهة المسلمين، وعقر خيله لئلا يتراجع، فإما أن يكسر المسلمين وإلا أن يقتل، واقتحم معه من اقتحم، لكن ذاك لم يدم طويلاً، فما إن نزل عن خيله، وقال: من يبارز؟ حتى قام سيدنا علي رضي الله عنه، وقال: أنا، ائذن لي يا رسول الله! عليه الصلاة والسلام، فقال له نبينا عليه الصلاة والسلام: (إنه عمرو بن ود أو عمرو بن أد، هذا من صناديد قريش ومن عتاتهم، وأنت لا زلت شاباً)، فقال الثاني: أنتم تزعمون أن قتلاكم في الجنة، أين أهل الجنة ليخرجوا إلي؟ فقام سيدنا علي وقال: ائذن لي يا رسول الله! عليه الصلاة والسلام، فقال له الثانية: (إنه عمرو بن ود أو ابن أد )، فجلس، فنادى الثالثة، فقال: ائذن لي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (اخرج إليه)، فتقدم سيدنا علي رضي الله عنه فقال له: من أنت؟ قال: علي، قال: ابن أبي طالب؟ قال: نعم، قال: يا ابن أخي! لا أريد أن أريق دمك، إنما أريد أن أريق دم أعمامك ممن هو أكبر منك فليتقدم الكبار، أما أنت فلا زلت شاباً وليس من المروءة أن أريق دمك، فيقال: إن عمرو بن ود قتل من هو أصغر منه، فقال سيدنا علياً: لكني أريد أن أريق دمك، تفضل، فأخذته حمية الجاهلية والعزة بالإثم فتقدم فضرب سيدنا علي رضي الله عنه بسيفه، فتناول الضربة بدرقته فقدها نصفين، ثم انهال عليه سيدنا علي باليد الأخرى على حبل عاتقه فألقاه قتيلاً، فعندما ضربه وكاد أن يقتله كشف سوأته وولاها لسيدنا علي رضي الله عنه، يريد أن يريه سوأته بعد أن ضربه، وهو في سكرات الموت، فسيدنا علي أغمض طرفه عن سوأته وضربه ضربة قاضية، وذهب، فقال له سيدنا عمر : أبا الحسن ! هل أخذت درعه؟ فهي أنفس درع عند العرب، قال: إنه استقبلني بسوأته فعففت عن أخذها لئلا أرى عورته.

انظر لهذه الشهامة، وهذه المروءة، وهذه الكرامة، تلك تستحي أن تكشف عن جسمها وتستر شعرها وجسدها أمام الميت الذي دفن في حجرتها رضي الله عنها، وهذا يعف عن درع ثمينة غالية؛ لأن ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، لئلا يرى سوأته عندما استقبله بسوأته، أنت قبل قليل كنت تتهدد وتتوعد، لما ضربت كشفت عن سوأتك؛ لأنه يعرف سيدنا علياً رضي الله عنه، وأنه لا يمكن أن يرى هذه العورة، فعفّ عنه وانصرف، وما نزع الدرع التي كانت عليه.

ولفظ الحديث: عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن فيه أبي سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، فأقول: زوجي وأبي، فأضع عني ثيابي. وهي حتماً تستر ما بين السرة والركبة، لكن يظهر الشعر، أو يظهر مثلاً شيء من الساعدين تقول: هذا زوجي يحل له أن يرى مني كل شيء، وهذا أبي وسيأتينا ما الذي يحل للمحارم أن يروه من محارمهم.

قالت: فلما دفن سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه ما دخلت حجرتي إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياءً من عمر.

وهذا كنت ذكرته سابقاً، وقلت: هذا نص صريح، وتقرير واضح لا يحتاج كما يقال: إلى ترجيح، أن الأموات يشعرون ويحسون ويرون، وإلا لو كان سيدنا عمر رضي الله عنه بمنزلة الجماد، فعلام تستحي منه؟ هل يستحي الإنسان من جدران بيته؟! إذاً: هذا له ارتباط وواقع الأمر كما قلت يسمع ويرى ويحس ويشعر شعوراً أدق من شعور الأحياء.

ولقد وصل الأمر بسلفنا من الحرص على الحياء أنهم حتى في وصف الشدائد والمحن يعرضون عن العورات، ولا يبالون بالمغانم وإن كان سيترتب على تحصيلها شيء من النظر إلى عورة محرمة، فانظر لهذه الواقعة لسيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه في موقعة الخندق، وهي في الروض الأنف في الجزء الثالث، صفحة ثمانين ومائتين، وفي البداية والنهاية للإمام ابن كثير في الجزء الرابع، صفحة سبع ومائة.

لما خرج عمرو بن ود، ويقال: عمرو بن أد، وهو من عتاة المشركين، اقتحم الخندق، واقترب إلى جهة المسلمين، وعقر خيله لئلا يتراجع، فإما أن يكسر المسلمين وإلا أن يقتل، واقتحم معه من اقتحم، لكن ذاك لم يدم طويلاً، فما إن نزل عن خيله، وقال: من يبارز؟ حتى قام سيدنا علي رضي الله عنه، وقال: أنا، ائذن لي يا رسول الله! عليه الصلاة والسلام، فقال له نبينا عليه الصلاة والسلام: (إنه عمرو بن ود أو عمرو بن أد، هذا من صناديد قريش ومن عتاتهم، وأنت لا زلت شاباً)، فقال الثاني: أنتم تزعمون أن قتلاكم في الجنة، أين أهل الجنة ليخرجوا إلي؟ فقام سيدنا علي وقال: ائذن لي يا رسول الله! عليه الصلاة والسلام، فقال له الثانية: (إنه عمرو بن ود أو ابن أد )، فجلس، فنادى الثالثة، فقال: ائذن لي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (اخرج إليه)، فتقدم سيدنا علي رضي الله عنه فقال له: من أنت؟ قال: علي، قال: ابن أبي طالب؟ قال: نعم، قال: يا ابن أخي! لا أريد أن أريق دمك، إنما أريد أن أريق دم أعمامك ممن هو أكبر منك فليتقدم الكبار، أما أنت فلا زلت شاباً وليس من المروءة أن أريق دمك، فيقال: إن عمرو بن ود قتل من هو أصغر منه، فقال سيدنا علياً: لكني أريد أن أريق دمك، تفضل، فأخذته حمية الجاهلية والعزة بالإثم فتقدم فضرب سيدنا علي رضي الله عنه بسيفه، فتناول الضربة بدرقته فقدها نصفين، ثم انهال عليه سيدنا علي باليد الأخرى على حبل عاتقه فألقاه قتيلاً، فعندما ضربه وكاد أن يقتله كشف سوأته وولاها لسيدنا علي رضي الله عنه، يريد أن يريه سوأته بعد أن ضربه، وهو في سكرات الموت، فسيدنا علي أغمض طرفه عن سوأته وضربه ضربة قاضية، وذهب، فقال له سيدنا عمر : أبا الحسن ! هل أخذت درعه؟ فهي أنفس درع عند العرب، قال: إنه استقبلني بسوأته فعففت عن أخذها لئلا أرى عورته.

انظر لهذه الشهامة، وهذه المروءة، وهذه الكرامة، تلك تستحي أن تكشف عن جسمها وتستر شعرها وجسدها أمام الميت الذي دفن في حجرتها رضي الله عنها، وهذا يعف عن درع ثمينة غالية؛ لأن ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، لئلا يرى سوأته عندما استقبله بسوأته، أنت قبل قليل كنت تتهدد وتتوعد، لما ضربت كشفت عن سوأتك؛ لأنه يعرف سيدنا علياً رضي الله عنه، وأنه لا يمكن أن يرى هذه العورة، فعفّ عنه وانصرف، وما نزع الدرع التي كانت عليه.

إذا ما قصر الإنسان وتعرض للفتن فلا يلومن إلا نفسه.

ثبت في كتاب الزهد للإمام أحمد في (ص:40)، ونقله عنه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين في (3/98)، أن نبي الله داود قال لابنه نبي الله سليمان: يا بني! امش وراء الأسد والأسود، والأسود يراد منه الحية العظيمة الخبيثة السوداء إذا لدغت قتلت، امش وراء الأسد والأسود، ولا تمش وراء امرأة، متحجبة أو سافرة، انتبه، لا تعرض نفسك للفتن، ولا تعرض نفسك للمحن، إذا عرضتها فلا تلومن إلا نفسك، يتلاعب بك الشيطان كما يتلاعب الصبيان بالكرة.

وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من شرها عندما كان يسافر إذا جن عليه الليل، ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود ، والنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة في (ص:378)، ورواه الحاكم في المستدرك، وصححه ووافقه عليه الذهبي ، وهو في جامع الأصول في (4/292)، وفيه العزو إلى سنن أبي داود دون رواية النسائي ؛ لأنها ليست على شرط الكتاب.

والحديث حسنه الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الأذكار للنووي ، ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل يقول: يا أرض! ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، ومن شر ما خلق فيك، ومن شر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكني البلد -أي: من الجن والشياطين- ومن والدٍ -وهو إبليس - وما ولد)، وتقدم معنا الحديث ضمن مباحث الجن في سنن الترمذي .

(من أسد وأسود)، الأسود -كما قلت-: الحية العظيمة، وقيل: الأسود المراد منه الشخص، وكل شخص يقال له: أسود، ولذلك قال: سواد شخص، يعني: نعوذ بالله من الأسد ومن كل شخص مؤذٍ من ثعبان أو غيره، إنس أو جن، (امش وراء الأسد والأسود، ولا تمش وراء امرأة)، احترس يا عبد الله، احترس، إذا عرض الإنسان نفسه للمحن فلا يلومن إلا نفسه.

افتتان رجل أطلق نظره إلى المردان

يذكر الإمام ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص:199)، وأعاد القصة في (ص:255)، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا فهو ولينا وحسبنا سبحانه وتعالى، أن رجلاً أطلق نظره إلى المردان -وسيأتينا حكم النظر إليهم ضمن مبحثنا بإذن ربنا الرحمن- ففتن، ومن أطلق نظره طال أسفه، وأخذه الهيام والعشق، وهذا جنون أشنع من الجنون الذي يصاب به الإنسان عندما يفقد عقله، لكن هنا جنون اختياري يكتسبه الإنسان لنفسه، فأصيب بالهيام، فتوسط بعض الناس إلى معشوقه، وقال: عاشقك لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، لو زرته زيارة فقط لينظر إليك ويمتع عينيه بك، فلعل جمرة اللهيب في قلبه تنطفي، فيقال: إنه لما أراد أن يدخل ذاك سمع بمعشوقه، وأنه أراد أن يدخل عليه، فبدأ يقول ألفاظاً فيها بذاءة وتغزل وقال: والله لا أدخل، فخرج، عندها أنشد من رآه وفتن به بيتين من الشعر سمعهما الوسيط:

أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنف النحيل

رضاك أحلى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل

نسأل الله العافية من سخطه، فقال له هذا الوسيط: يا هذا! اتق الله، كفرت بالله من أجل شهوة رخيصة خسيسة خبيثة؟ يقول: ففارقته وعلمت أنه لا يسمعني، ولا فائدة منه، ولا عقل له، يقول: فما وصلت باب الدار إلا سمعت الصراخ عليه أنه قد قضى ومات.

وهذا كما قال الشاعر الثاني الضال المضل:

يرتشفن من فمي رشفات هن فيه أحلى من التوحيد

صارت القبلات أحلى من توحيد رب الأرض والسموات؟ فإذا فقد الإنسان عقله انتهى، البعير يعقل بالعقال، والإنسان يعقل بالعقل، فإذا ضيع عقله وعلق همته بشهوة رخيصة انتهى.

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين

العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين

فذاك بين الحين والحين يصرع، وأما هذا فصرعه ملازم لا ينفك عنه طرفة عين، وهذه الأبيات اللطيفة في مجموع الفتاوى في (15/425).

افتتان مؤذن بجارية نصرانية كانت سبب موته على الكفر

كم من إنسان -نسأل الله العافية- ترك دينه وختم له بالكفر والردة من أجل إطلاق النظر، فما استطاع بعد ذلك أن يضبط النفس عندما حصل في قلبه مرض.

القصة يوردها الإمام ابن القيم في الجواب الكافي (ص:199)، والإمام الذهبي في الكبائر (ص:25)، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا بفضله ورحمته.

وخلاصتها: أن إنساناً مشهوداً له بالخير، وأراد أن يقيم شعيرةً عظيمةً، أن يدعو الناس إلى خير العمل وإلى الفلاح، وإلى الصلاة، فصعد المنارة ليؤذن، فوقع نظره على جارية أعجب بها ففتنته، فنزل في الحال وطرق الباب، وقال: القلب مأسور وتعلق بك، قالت: ماذا تريد؟ أنت إن دعوتني إلى حرام لا أجيبك، فهذا زنا وعهر ولا أجيبك، وإن دعوتني إلى زواج فأهلي لا يزوجونك؛ لأنك موحد مسلم وأنا نصرانية، فإن تتنصر نبحث في القضية، فوافق، فقالت له: تنصر من الآن، فتنصر وأراد أن يخطبها من أهلها فقالت: لا أهلي لا يقنعون بذلك ولا يقبلون، اذهب واشترِ صليباً وضعه في صدرك، وتعال إذا شعروا أنك متنصر خاطب، نبحث بعد ذلك في شأنك، وأنا أتوسط لك بذلك، فذهب ووضع الصليب في رقبته، وتقدم معنا أن لبس الصليب ردة بالاتفاق.

وجاء فطرق الباب وأدخلوه ووجدوا علامة النصارى في صدره، ففاوضهم كأنهم ركنوا إليه بتقدير الله جل وعلا، ومن شدة هيامه وعشقه تمايل فسقط فانكسرت رقبته فمات، لا حصل شهوته، ولا سلم له دينه، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، ولذلك كم من إنسان يختم له بمثل هذه الأحوال، فنسأل الله أن يتوفانا في أحب الأحوال إليه، وهو راض عنا بفضله ورحمته، فهو ولينا وحسبنا سبحانه وتعالى.

الجزاء من جنس العمل، أطلق النظر فطال الأسف، ولو اتقى الله وضبط نفسه لما حصل عنده ما حصل، فانظروا للنماذج الطيبة، وانظروا لهذه النماذج، وقارنوا لتروا الفارق والبون الشاسع بين الصنفين كما بين الملائكة الكرام، والحدادين في هذه الحياة.

أعود كما قلت إلى ما سنذكره في هذا المبحث من تحديد عورة الصنفين، وما الذي يحل لنا أن نراه من الصنفين، وما الذي لا يحل لنا أن نمكن الصنفين من النظر إليه.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3976 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع