الكتب
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
الترجمة وأثرها في النهضة الفكرية
(تصدير معالي الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا لكتاب
(المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية) ترجمة الأستاذ يوسف
موسى، وسيظهر هذا الأسبوع)
لقد كانت الترجمة - وما تزال - دعامة من دعائم النهضات الفكرية
والثقافية للشعوب، وبالترجمة بدأت النهضة الثقافية في عصور الإسلام
الأولى؛ إذ أدرك الخلفاء المسلمون حاجة الأمم إلى استتمام غذائها
الفكري من كل سبيل، فتدفقت إلى النهر العربي وديان من مختلف
الثقافات العالمية، وظهر من بينها هذا اللون العربي الإسلامي على
خير ما يكون الاستواء.
وعندما نهضت أوربا من سباتها، ونفضت الكرى عن عيونها، رأت أن أقوم وسيلة لانتعاشها أن تنحو نحو الترجمة، فاندفع الناقلون يترجمون أمهات الكتب اللاتينية واليونانية، وتناولت أيديهم وأقلامهم كذلك أصول الكتب العربية التي عملت على ازدهار الثقافة الأوربية الحديثة.
وحين أسفر فجر هذه النهضة المصرية، وأدرك رجل مصر الحديثة رأس الأسرة المالكة محمد علي باشا، ما للترجمة من أثر فعال في إنعاش البلاد وإحيائها، هداه نظره الثاقب إلى إرسال البعوث العلمية إلى أوربا، لنقل معارف الأوربيين وثقافتهم إلى مصر باللغة العربية، فأرسل ثلاثة بعوث علمية في أزمنة مختلفة، كونت ثلاث طبقات من العلماء والأطباء والضباط والمهندسين، فنقلوا إلى العربية مئات من الكتب في العلوم والمعارف المختلفة. ولقد كان لذلك - بلا ريب - أثره الملموس في اللغة العربية والثقافة العربية. ومما هو قمن بالذكر أن كل المدد الذي استمده محمد علي باشا لتلك البعوث لم يكن من الأزهر، تلك الجامعة التي نشرت النور والمعرفة في أرجاء العالم الشرقي.
وكان من أظهر هؤلاء الأزهريين وأبعدهم صوتاً، المرحوم رفاعة بك الطهطاوي، الذي عهد إليه برياسة الطلبة المبعوثين إلى باريس، فقام بهذه المهمة خير قيام، واتصل في فرنسا برجلين عظيمين هما المسيو جومار والبارون دماسي، فأفاد من صحبتهما خيراً كثيراً، واستقدمه محمد علي إلى مصر في سنة 1246 هـ وعينه مترجماً في مدرسة طرة، ثم وكل إليه إدارة مدرسة الألسن ووضع نظام لها؛ وكان لتلك المدرسة فضل في نبوغ جماعة من فحول المترجمين. وكان المرحوم رفاعة بك بطبعه ميالاً إلى الترجمة، فعرب مدة إقامته بباريس وبعد رجوعه منها كثيراً من الكتب والرسائل؛ منها تعريب قانون التجارة، وتعريب القانون المدني الفرنسي، ورسالة المعادن، والمنطق وهو ترجمة لكتاب دومرسيه، وهندسة سانسير، وغيرها، حتى ليقال إنه ترجم بنفسه وبإشرافه ما يربو على ستمائة كتاب. على أن هذه النهضة التعريبية التي كان زعيمها رفاعة بك، سرعان ما سلط على دوحتها أعاصير من جو السياسة عبثت بأصولها، وأصابتها بما أوقف نموها وأطرادها، وهي بين الفينة والأخرى ما تزال بين النماء والذبول، إلى أن استقر أمرها في وقتنا الحاضر بما نرجو له دوام الاطراد والتقدم والتحرر، بفضل جهود العاملين على رفع مستوى الثقافة من رجال العلم ورجال الحكم. لقد خطر لي أن أتحدث عن رفاعة بك هذا الحديث الذي أسجل به فضله وسبقه، عندما أردت أن أقدم هذا السفر النفيس الذي وضعه المستشرق الفرنسي الأستاذ جوتييه، وقام بترجمته الأستاذ الشيخ محمد يوسف موسى.
لقد سرني أن يصل هذا الأستاذ الأزهري ما بين ماضي رجال الأزهر وحاضرهم في تعريب الثقافات الأوربية التي نحن في أشد الحاجة إليها وإلى من يحسن نقلها، وأعجبني أن ينهض الأستاذ بإكمال ما بدأ به رفاعة بك.
وعسى أن يكون فيما أدرك من نجاح وتوفيق في تعريب هذا الكتاب حافز له ولأمثاله من نابهي رجال الأزهر، على إتمام تلك السلسلة التي صاغ حلقتها الأولى سلفهم الكريم. إني إذ أهنئ الأستاذ بإخراج هذا الكتاب في ثوب عربي فائق، لأهنئه بحسن اختياره للموضوع؛ إذ أن كتاب الأستاذ جوتييه هذا يعد من الكتب ذوات الخطر في دراسة الفلسفة الإسلامية. ولقد كان من حسن حظ هذا الكتاب أن يجد من أبناء العربية رجلا فاضلا مثل الأستاذ المعرب، له من الإلمام الواسع بالعلوم الفلسفية ما مكنه من أن يحسن عمله، فيستحق منا ومن قراء العربية شكراً موفوراً.