لجنة التأليف الترجمة والنشر
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
نبذة تاريخية
للأستاذ احمد أمين رئيس اللجنة
في سنة 1913 كان في مدرسة المعلمين العليا بدرب الجماميز طائفة من الشباب تمتلئ نفوسهم غيرة على العالم الإسلامي، ويطيلون التفكير في وسائل إصلاحه والنهوض به، ألف بين أفرادها الشعور بالألم من موقف الشرق وخموله، والأيمان بوجوب العمل على تنبيهه والأخذ بيده ورفع مستواه؛ وقد نبتت هذه الفكرة عندهم على أثر حرب البلقان، ومطالعتهم في كتب تثير هذه المعاني في النفوس أمثال كتاب (طبائع الاستبداد) و (أم القرى) للكواكبي
فكانوا يجتمعون اجتماعات متعددة للبحث في وضع خطط لما ينوون القيام به من أعمال يجتمعون أحياناً في مدرسة وأحياناً في منزل وأحياناً في مسجد الجزيرة عقب تروضهم، وأحياناً يسافرون إلى بلد أحدهم في الإجازة وأحياناً يفرون من العمران ويجتمعون في الصحراء
وكانوا يتبادلون الرأي في مختلف الوسائل وينحون في ذلك مناحي مختلفة، فمنهم من كان يميل إلى التركيز كل الجهود في الإصلاح الديني ويرى أنه هو الوسيلة الوحيدة لرقى العالم الإسلامي، ومنهم من كانت تغلب عليه النزعة إلى الإصلاح الاجتماعي بأوسع معانيه - وكانت الآراء في ذلك تتشعب، وتذهب المناقشات بينهم كل مذهب
وهناك في (زاوية البقلي) في أحد اجتماعاتهم اعتزموا تكوين لجان منهم للقيام بأعمال مختلفة، إحداها (للتأليف والترجمة والنشر)، وهذا هو السبب في تسميتها (لجنة) لا جمعية ولا غيرها
وفي هذه الأثناء اتصلوا ببعض إخوانهم في مدرسة الحقوق فساهموهم هذه الأفكار وتطوعوا للعمل لها وبذل الجهد في تنفيذها؛ وكان من أظهر أفراد هذه الجماعة وأول الداعين إلى هذه الأفكار، وأشدهم حماسة ونشاطاً، الطلبة: محمد احمد الغمراوي، واحمد عبد السلام الكرداني، ومحمد عبد الواحد خلاف، واحمد زكي، وحسن مختار رسمي، ويوسف احمد الجندي، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد عبد الب فلما تخرج أكثر هؤلاء من مدرستي المعلمين والحقوق سنة 1914 وسنة 1915 عقدوا النية على أن يتموا رجالاً ما بدءوا به طلبة واتصل بهم إذ ذاك بعض إخوانهم ممن يميلون ميلهم ويشعرون شعورهم، ومن هؤلاء: محمد كامل سليم، وأمين مرسي قنديل، وعبد الحميد العبادي، ومحمد بدران، وعبد الحميد فهمي، ومحمد صبري أبو علم، واحمد أمين
ليس المقام الآن مقام ما فكروا فيه من مشروعات أخرى وما عملوا فيها وما آلت إليه إنما المقام الآن للجنة التأليف؛ فقد أكثر هؤلاء الأعضاء من ذكر التأليف والترجمة والنشر، وأملوا أن تقوم جماعتهم بهذا العمل، وأن يتسع نطاقها فيكون لهم مكتبة ومطبعة، ومدرسة نموذجية، ومجلة وأن تكون لهم كتب في مختلف العلوم والفنون تناسب جمهور المتعلمين في جميع مراحل التعليم
وكان أول ما عملوا أن عهدوا إلى الأستاذين أحمد زكي واحمد عبد السلام الكرداني تأليف كتاب في الكيمياء للمدارس الثانوية، والى الأستاذ محمد احمد الغمراوي تأليف كتاب في الطبيعة والى الأستاذين محمد خلاف وعبد الحميد فهمي تأليف كتاب في الحساب، والى الأستاذين محمد كامل سليم ومحمد بدران تأليف كتاب في الجغرافيا. وقد نفذت كل المشروعات ما عدا الثانيمنها أملوا هذه الآمال وكونوا هذه اللجان، ووضعوا مشروع هذه الأعمال وليس لديهم مال يستعينون به على أغراضهم، ولكن كان لهم أمل قوي وعزيمة ثابتة وإخلاص نقي وحسبهم من هذا غنى في هذا الحين بدأت اللجنة في عمل قانون لها وعهدت إلى الأستاذ حسن مختار رسمي بوضعه واجتمع الأعضاء سنة 1915 بالمدرسة الإعدادية بالعباسية لأن كثيراً من أعضاء اللجنة كانوا مدرسين بها فقرءوا القانون وأدخلوا عليه بعض تعديلات وانتخبوا أعضاء مجلس الإدارة وبدأ الأعضاء يدفع كل منهم عشرة قروش في الشهر، ثم جعلت مالية اللجنة أسهماً كل منهم ثمنه جنيه وهذا بدء التكون المالي للجنة - ولم يكن يزيد عدد الأعضاء إذ ذاك على خمسة عشر عضواً بدأت اللجنة عملها بأن وضع الأستاذان احمد زكي واحمد الكرداني كتابهما في الكيمياء في جزأين فعهد في قراءته ونقده للأستاذين محمد خلاف ومحمد الغمراوي وكان من اجمل المناظر اجتماعهم وعملهم؛ فقد استأجروا شقة خاصة في منزل أحدهم أعدها لهم أولهم وظلوا يجتمعون ليل نهار يقرءون وينقدون ويراجعون إلى أن يدركهم الملل فيناموا وقد بلغ منهم الجهد حتى إذا أتموه بعد عناء قدموه للطبع، ولم يكن في اللجنة ما يكفي للأنفاق عليه فاقترضت اللجنة من بعض الأعضاء ما يكفي لذلك لم يكن في مال اللجنة ما يكفيأيضاًلاستئجار مكان خاص فكان مجلس الإدارة يجتمع في بيت أحد الأعضاء وأكثر ما كان ذلك في بيت عبد الحميد أفندي العبادي بالحلمية أو بيت محمد أفندي خلاف كذلك - وأحياناً يجتمعون في مقهى قلّ زواره - ولما أنشئت نقابة المعلمين أساتذتها اللجنة في أن تجتمع فيها فأذنت، وكانت الجمعية العمومية لها تنعقد في إحدى المدارس الأهلية كالإعدادية ووادي النيل كذلك لم تكن تستطيع أن تستأجر مكاناً تخزن فيه كتبها فكان كل مؤلف يخزن كتابه في بيته ويبيع منه ما طلب ويعمل حسابه بنفسه ويقدمه للجنة ثم اتفقت اللجنة مع مكتبة أن تودع فيها كل كتبها في نظير خصم اكبر على ما يباع - وكان أحد الأعضاء يتولى حساب اللجنة على طريقة ساذجة بسيطة.
وقد كانت هذه الأعمال كلها مما يعرض اللجنة للضياع والانحلال لولا ما ملئ به أعضاؤها من صدق وإخلاص وثقة أخذت اللجنة بعد ذلك تنمو تدريجياً فزاد أعضاؤها حتى بلغوا الآن بضعاً وسبعين، وزاد إنتاجها واتسع عملها وكثر مالها فاتخذت لها مركزاً، وكان أول ما فعلت ذلك إنها استأجرت مكاناً في شارع الأمير يوسف بالحلمية القديمة بثلاثة جنيهات شهرياً اتخذته مخزناً ومكاناً للأدارة، ثم انتقلت منه إلى مكان في شارع غيط العدة، ثم إلى مكان في شارع المبدولي، ثم في شارع الساحة، ثم في مكانها الحالي.
ونظمت دفاترها واستخدم لها العمال ليقوموا بحسابها على الطراز الحديث ومما يلاحظ إنها بدأت أول أمرها بالكتب المدرسية لرواجها، ولتكوين دعامة مالية، لها ثم توسعت بعد ذلك فلم تبال ما تطبع متى وثقت به من الناحية العلمية ولو كان الكتاب كتاب الخاصة كما فعلت في ترجمة كتاب الأخلاق لأرسطو، والبصريات كما يلاحظ أن اكثر أعضاؤها واوفرهم إنتاجاً كان من المعلمين، لأن طبيعة عملهم جعلتهم اكثر اتصالاً بالكتب، وميلاً إلى تأليفها أو ترجمتها وقد ساعد اللجنة على رواج كتبها الثقة التي منحها الجمهور إياها مقابل ما تبذله من جد في التدقيق فيما تنشر، فليست تخرج كتاباً إلا بعد أن يمر على لجنة مختصة تنظر فيه بإمعان، وتقدم تقريراً عنه بصلاحيته، أو تقترح إدخال إصلاح عليه غير مبالية كثيراً برواج الكتاب أو عدم رواجه متى وثقت أن الكتاب يخدم العلم ويحقق غرضها، ويفيد ولو الخاصة ومنذ أربعة أعوام سعت اللجنة لدى وزارة المعارف أن تمنحها مبلغاً من المال للاستعانة به على التأليف الكتب القيمة وترجمتها ونشرها.
إذ كان هذا العمل من اهم الأعمال التي يصح أن تقوم بها وزارة المعارف وكان لبعض أعضاء اللجنة السعي المشكور في أن مجلس النواب طلب من وزارة المعارف أن تمنح اللجنة مقداراً من المال لهذا الغرض.
كما كان لبعضهم سعي مشكور آخر في إجابة وزارة المعارف له وألفت وزارة المعارف لجنة من الأستاذ سكرتير عام الوزارة، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق، ورئيس اللجنة، للنظر في المال الذي تقرره الوزارة، وكيفية صرفه، والكتب التي ينفق عليها هذا المبلغ وقد منحت الوزارة اللجنة ألف جنيه في ثلاثة أعوام متوالية أنفقت منها على طبع كتاب فتح العرب لمصر، والنجوم في مسالكها، والجزء الأول من السلوك للمقريزي، ولا تزال مستمرة في إخراج الكتب القيمة كلما تجمع لها شيء من المال فلوزارة المعارف الشكر على هذه الثقة كما للأعضاء الذين سعوا هذا السعي الشكر على ما سعوا وأخيراً وبعد عشرين سنة من حياتها يحق للجنة أن تقف وقفة قصيرة تنظر في ماضيها وتستعرض تاريخها.
وأظنها تغتبط لذلك - أولا - لأنها عاشت عشرين عاما في جو كثيرا ما تموت فيه مشروعات وليدة - وثانيا - لأنها عاشت عيشة طبيعية فتدرجت في أدوار الحياة على مهل ولم نطفر طفرة شيطانية.
وتغتبط إذ تراها قد ضمت كثيرا من صفوة رجال العلم، وأخرجت للناس نحو الستين كتابا بين مؤلف ومترجم ومنشور، تسد كلها حاجات الثقافة في أطوار التعليم المختلفة - كما إنها تغتبط بثباتها في مركزها وحصرها نفسها في الدائرة التي رسمتها لنفسها من أول أمرها، فلم تتدخل في مجادلات دينية، ولم تغامر في نواح سياسية، أيمانا منها بان الثقافة ونشرها وسيلة من اكبر الوسائل لرقي الأمة، ومن اكبر عوامل الإسراع في نهضتها. وتبتهج إذ تبتدئ مرحلة أخرى من مراحلها، بدايتها تكوين مطبعة مستقلة لها تساعدها على تحقيق غرضها فيزيد نتاجها، ويتضاعف مجهودها.
وقد أسست - فعلا - المطبعة وبدأت من ثلاثة شهور تخرج الكتب التي ترى اللجنة نشرها، وهذا بلا شك يتطلب من اللجنة بذل مجهودا اكبر في التأليف والترجمة إذ تشعر - مع وجود المطبعة - بأن وراءها ما تعوله يصيح دائما بطلب الغذاء، وليس غذاؤه إلا ما نؤلف أو تترجم أو تنشر.
وأظن أن في مكنة أعضائها ما يضمن لهذا الطفل الغذاء الكافي حتى التخمة ولعل الذين فكروا في اللجنة أيام ولادتها سنة 1914 أو قبلها بقليل يغتبطون إذ يرون سنة 1934 أن كثيرا من الآمال أصبحت حقائق، وان الأماني تحولت إلى شجرة طيبة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، وانهم وقد جنوا ثمارها قد تجددت لهم أماني أخرى أوسع من الأولى وابعد مدى، لكنهم يشعرون أن الصبر إنما هو عند الصدمة الأولى، وانهم اليوم اكثر خبرة، واقدر بمالهم ورجالهم على تحقيق أغراضهم الجديدة، فهم لا يرتاحون إلا أن يروا كل مرحلة من مراحلهم يتضاعف إنتاجها - حقق الله آمالنا، ووفقنا في مستقبل أعمالنا أضعاف ما وفقنا في ماضينا، فقد عودنا أن يجازى الجد والإخلاص بالخير دائما. احمد أمين