خطب ومحاضرات
القواعد لابن اللحام [2]
الحلقة مفرغة
التوكيل في الخصومة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ ومنها: أن التوكيل في الخصومة جائز وهو المنصوص عن الإمام أحمد ، وقاله الأصحاب، ويروى عن على -نقله حرب-، لكن قال ابن عقيل في فنونه: لا يصح التوكيل ممن علم ظلم موكله في الخصومة، وقال القاضي: قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً [النساء:105]، يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره، وكذا في المغني في الصلح عن المنكر يشترط أن يعلم صدق المدعي، فلا يحل دعوى ما لا يعلم ثبوته ].
التوكيل في الخصومة اختلف العلماء فيه، والراجح هو مذهب المالكية والحنابلة: أنه يجوز التوكيل في الخصومة، لكن العلماء اشترطوا شروطاً منها:
أن يعلم صدق موكله، فالذين يدرسون القضايا يجب عليهم ألا يدرسوها على أنه هل يمكن أن يحكم لهم أم لا، هذا لا يكفي، فبعض الذين يحامون عن الآخرين يدرسون القضية، فيجدون أن فيها ثغرة نظامية كما يقولون، فيأخذها لعلمه أنه يمكن أن يصرف النظر عن هذه القضية، لكنه يعلم أن هذه القضية محرمة، ونذكر لكم صورة، فمثلاً: لو أن جهةً من الجهات رفعت قضية على بائعي الدخان، الآن بائعو الدخان آثمون في بيعهم، لكن يستطيع شخص أن يجد لهم مخرجاً نظامياً يصرف النظر في القضية عن المحكمة العامة مثلاً، فهل له أن يتوكل مع علمه أن بائعي الدخان آثمون واقعون في الحرمة؟ نقول: لا يجوز أن تتوكل؛ لأن الله يقول: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً [النساء:105]، ولو كنت عالماً بالحكم له في القضية المنظورة، وأقول مثل ذلك في كثير من المسائل التي ربما يعلم الإنسان ظلم أحد المتداعيين فيها، ولكن يعلم أن الحكم له فيتوكل له، مثل مضارب تعلم عن حاله أنه كذاب، وأنه يأكل أموال الناس، فادعى عليه رب المال، فجئت أو جاء شخص يتوكل عن المضارب؛ لأن الأصل في المضارب أنه أمين، ولا يجوز ادعاء التهمة عليه إلا ببينة أو يمين المضارب، فإذا توكل شخص عن المضارب وهو يعلم أنه آكل للحرام ولا يبالي بالحلف فإنه آثم، ولو علم أن حكمه سوف يصادق عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أم سلمة : ( إنما أنا بشر ولعلي أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها ).
الإكراه المعتبر
يعني أن الضرر لا يلزم أن يكون في ماله، ولا يلزم أن يكون في أهله، لكن ربما يضره في وظيفته، يضره في سمعته فإنه يكفي، وهذا الإكراه يقسمه العلماء إلى قسمين كما تعلمون: إكراه ملجئ، وإكراه غير ملجئ، الغير الملجئ يعني إذا هدده من لا يصلح أن يوقع ما هدده به، وأما إذا غلب على ظنه أو ظن أنه ربما أوقعه جاز له ذلك، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد لـعلي بن المديني و يحيى بن معين حينما أفتيا في فتنة خلق القرآن، فقالوا يا أبا عبد الله هم فعلوا بنا وقالوا وقالوا، وكان أحمد لا يكلم علي بن المديني، ثم خرج وقال: يقولون: أرغمنا، ولو وضع عليهم السيف في رقبتهم لكان، لكنهم لم يضعوا، يعني أن التهديد غير كاف، وهذا من أحمد لعله في علي و يحيى بن معين من أهل العلم، ولكن الذي يظهر كما نقل ذلك ابن رجب في جامع بيان العلم وفضله: أن من هدد وغلب على ظنه أو ظن أنه سوف يفصل من وظيفته وغير ذلك فإنه لا يلزمه ما أوجبه الله عليه من الإنكار وغير ذلك، وهذا هو قول أكثر السلف كما نقله ابن رجب رحمه الله تعالى، ويظن بعض الناس أن هذا لا يجوز؛ لأنه ممن استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، كما قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:107]، وليس بصحيح، فإن الضرر يزال بقدر الإمكان، ومن المعلوم أن الإنكار شيء، وتصديق الإنكار شيء آخر، فمن لم ينكر خوفاً لكنه منكر بقلبه فقد برئ كما في صحيح مسلم من حديث أم سلمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كره فقد برئ، ولكن من رضي وتابع )، والله أعلم.
أما أن يقول المنكر أو أن يفعل المنكر فلا يجوز إلا بتهديد حقيقي، ولا يكفي فيه الظن، فمن أكره على قول الكفر وعلم أنه سوف يفعل به، جاز له قول الكفر، كما قال تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، نزلت هذه الآية في قصة عمار ، حيث إنه أكره حقيقة وضرب، فإذا كان الأمر كذلك فنعم، أما أن يقال: سوف نفصلك من الوظيفة أو قل باطلاً فلا يجوز أن يقول باطلاً إذا كان التهديد غير جدي، والله أعلم.
دفع الصائل
لو جاءته بهيمة صائلة عليه، أو انقض عليه الخروف الاسترالي ولحقه، وهو يستطيع أن ينفك عنه بإقفال الباب دونه، فيجب عليه، لكن لا يدخل البيت ويأخذ البارود ويقتله، ويقول: هذا صائل، لا يجوز هذا؛ لأنك يمكن أن تسلم من شره بإقفال الباب عنك أو عنه، وعلى هذا فلو قتله بعد أن انفك من شره فإنه يكون ضامناً، ذكر ذلك أبو محمد المقدسي ابن قدامة رحمه الله، وعلى هذا فالضرر يزال بقدر الإمكان، فإن ظن أن ضرره لا يندفع إلا بالقتل فقتله جائز، ويكون ذلك بينه وبين الله ديانةً، فإن ادعى أنه لا ينفك ضرره إلا بذلك فهذا بينه وبين الله، وقضاءً ربما يحكم له بعدم دفع التعويض، لكنه يأثم بينه وبين الله إذا كان قادراً أن يزيل هذا الضرر بأخف منه، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال في الترغيب والمحرر: يدفع بأسهل ما يظن أنه يندفع به، واختار أبو محمد المقدسي وغيره: أن له دفعه بالأسهل إن خاف أن يبدره ].
إن خاف أن يبدره، يعني: لو أنه أقفل الباب خوفاً منه، وعلم أنه لا يستطيع أن يخرج كل اليوم، فعند الباب هذا الصائل، فله أن يدفع شره؛ لأنه ربما يبتدره مرةً أخرى، والله أعلم.
هذا كله بناءً على الظن وغلبة الظن.
والمؤلف بدأ يذكر بعض الصور التي ربما تكون بعيدة عن هذه المسألة.
من أدخل إلى جوفه شيئاً وشك في وصوله
لو أدخل إنسان شيئاً في جوفه، فلو قال: لم يصل إلى حلقي، أو أنه قليل، أو ليس بقليل فإننا نقول: ابن على غلبة الظن، من ذلك بخاخ الربو، ففيه عشرة مليلتر، كل بخاخ يحتوي على ثلاثة أجزاء: ماء قليل، وأكسجين، ومواد كيميائية، فإذا بخ الصائم الذي فيه ربو هذا فمن المعلوم أن غالب الأشياء تذهب إلى الجهاز التنفسي: إلى الرئتين والقصبة الهوائية، ولا تذهب إلى مجرى المعدة، والذي يذهب جزء يسير جداً؛ لأن البخ أقل من سبعة أعشار الملعقة الصغيرة، والذي يذهب مع قلته يمكن أن يدخل المعدة، ويمكن ألا يدخل المعدة؛ لأنه ربما يقف عند المريء ويتعلق بجدار المريء قليلاً، وعلى هذا فنقول: لا بأس باستعمال بخاخ الربو في حق الصائم؛ لأن أكثر هذه الأشياء يذهب إلى الجهاز التنفسي ولا يذهب إلى الجهاز الهضمي، والذي يذهب قليل جداً أقل مما يبقى من الماء بعد المضمضة، والذي يبقى أقل من المضمضة يمكن أن يذهب إلى المعدة، ويمكن ألا يذهب إلى المعدة، والأصل أنه لا يجوز إبطال صوم الصائم بظن راجح، أو غالب عدم وصوله، وهذا منها، والله أعلم.
المسائل في هذا الباب كثيرة واقعاً.
الصيد الذي غاب ثم وجد ميتاً
ثالثها: إن غاب نهاراً حل، وإن غاب ليلاً لم يحل، وإن وجد فيه غير أثر سهمه مما يحتمل أنه أعان على قتله حرم، قاله غير واحد من الأصحاب، وعزي إلى نص أحمد ، ولم يقولوا: ووجد فيه أثراً يغلب على الظن أنه أعان على قتله، كما قالوا في السهم المسموم، قال بعض المتأخرين من أصحابنا: ويتوجه التسوية بين السهم والأثر؛ لعدم الفرق، وأن المراد بالظن في السهم المسموم الاحتمال ].
الآن هذا شخص صاد صيداً، ثم غاب الصيد عنه، ثم وجده مقتولاً ميتاً، فالأصل أننا نقول: كيف مات؟ هل مات بسهمنا أم بشيء آخر؟ الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الأصل أن الذي قتله هو سهم الصائد، لكن إن وجد ما يعارضه غلبنا جانب الموجود، وليس جانب سهامنا، ولهذا قال كما في حديث أبي ثعلبة الخشني : ( وإذا وجدت مع كلبك كلباً آخر فلا تأكل؛ لأنك لا تدري أكلبك الذي صاد أم كلب آخر )، لكن لو لم أجد إلا كلبي، فهل يجوز أن نأكل؟ نعم يجوز، مع احتمال أنه ربما يكون مع كلبي كلب آخر لكنه هرب، كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإذا قتلت صيدك، ثم وقع في الماء، فوجدته غريقاً فلا تأكل؛ لأنك لا تعلم أسهمك الذي قتله أم الماء ).
وعلى هذا فنقول: إذا ضربت الصيد ثم اختفى وبعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث أو أربع وجدته نقول: هل فيه جراح غير جراح صيدك؟ فإن قال: فيه جراح أخرى، قلنا: لا تأكل، وإن كان ليس فيه جراح إلا جراح صيدك جاز أن تأكل، والله تبارك وتعالى أعلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( فوجدته غريقاً فلا تأكل )، غلب الحرام، ولم يأخذ بغلبة الظن، وهذه من المسائل التي لا نأخذ فيها بغلبة الظن؛ لأجل أن القول بغلبة الظن هنا مدعاة إلى الوقوع في الحرمة، فأخذنا باليقين، ومرت معنا مسائل أخذنا فيها بغلبة الظن لا محالة، وهنا أخذنا باليقين لا محالة، وهو الترك، والله أعلم.
لو قال: له ألف علي في علمي أو في ظني
يعني لو قال له: هل في ذمتك يا زيد لعمرو شيء؟ يقول: والله الذي أعلم أن في ذمتي شيئاً له، نقول: يلزمك، وإذا قال: أظن، فإنه لا يلزم.
تقبيل الصائم الذي يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل
لقول عائشة رضي الله عنها: ( ولكنه كان أملككم لإربه )، فإذا علم الصائم أن تقبيله سوف يؤدي إلى الإفطار فإنه يمنع، وعلى مذهب الحنابلة المذي عندهم يفطر، فإذا كان سريع المذي فقبل بشهوة فأمذى فإنه عند الحنابلة يكون حكمه حكم التقبيل، أي: محرماً، وعلى القول الراجح وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس في أحد قوليه: أن المذي لا يفطر، وعلى هذا فلو غلب على ظنه أن المذي سوف يخرج فلا بأس؛ لأن المذي لا يفطر، لكن إذا غلب على ظنه أنه ربما أمنى فإنه يحرم؛ لأن المظنة تقام مقام الحقيقة عند خشية وقوعها، والله أعلم.
العودة للزوج الأول إن ادعت أنها نكحت غيره وطلقت وغلب على ظنه صدقها
ما قاله المؤلف صحيح، أما الذين يذهبون الآن إلى بعض البلدان التي لا تبالي المرأة فيها بالعدة، ولا تبالي بأحد فلا يجوز، أما إذا علم صدقها وأنها صاحبة ديانة لله سبحانه وتعالى، وعلم ذلك من معاشرتها، فلا بأس، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولو كذبها الزوج الثاني في الوطء فالقول قوله في تنصيف المهر، والقول قولها في إباحتها للأول؛ لأن قولها في الوطء مقبول ].
يعني لو قال الزوج الثاني: إني لم أطأها صدق في تنصيف المهر؛ لأنه لم يدخل بها؛ لأنه ضامن هنا، ولا يصدق بقوله في إباحتها للأول، هذا قول.
القول الثاني: أن القول قول الثاني لا الأول؛ لأنه إذا خلا بها خلوةً يمكن معها الاستمتاع فقد وقع المهر كاملاً، وإلا للزم إذا طلق العنين بعد عشر سنين أن ينصف المهر، وهذا بعيد، ولا قاعدة فيه فيما أعلم، ولو قال به قائل فهو ضعيف، أما الثاني فإن القول قوله؛ لأن الوطء لا يعلم إلا من جهته؛ لأن المرأة متهمة هنا، والله تبارك وتعالى أعلم، فالأول لا يقبل قوله إذا علمت الخلوة؛ لأن المهر ثابت، وأما الثاني فإن التهمة بحقها معلومة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لعلك تريدين أن ترجعي إلى
فإذا طلقها الزوج الأول، ثم ادعت أنه تزوجها شخص ثان وأنه أصابها حتى تحل للأول، وأنكر النكاح وأنكر الإصابة، أو أثبت النكاح وأنكر الإصابة، فالراجح أن القول قوله خلافاً للمؤلف. المؤلف يقول: إنه يقبل قولها، قالوا: لأن مثل ذلك لا يعلم إلا من جهته، لكن هذا ليس بصحيح؛ لو كانت المسألة مسألة انقضاء عدة لقلنا: إن القول قولها؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتها، أما إذا كان هناك وطء فإن العلم يمكن أن يصل إلى الاثنين، وإذا وصل إلى الاثنين فإنه يترك قول من هو متهم، والمتهم هنا الزوجة، وفي الوطء من عدمه المتهم الزوج الذي لم يتنصف عليه المهر، فلا يقبل قولها، وهذا الذي جعلنا نرجح خلاف ما ذكره المؤلف.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولو ادعت نكاح حاضر وأصابته، وأنكرها أصل النكاح والإصابة حلت للأول في الأصح ].
ما قاله المؤلف ليس صحيحاً، الأقرب أنها إذا ادعت نكاح الحاضر فأنكر النكاح والإصابة فالأصل أنه لا يجوز للأول أن يتزوجها؛ لأن الأصل عدم الزواج، إذا ثبتت الزوجية فالأصل بقاؤها، وإذا لم تثبت الزوجية فالأصل عدمها.
قال المؤلف رحمه الله: [ وهذان الفرعان مشكلان جداً ]، لكن على قول الشافعية: مشكل فيمن ادعت أنه وطئها فأنكر، فيتنصف المهر، الشافعي يشترط في المهر الوطء، أما الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة وهو قول علي بن أبي طالب و عمر بن الخطاب : فيكفي فيه الخلوة التي يمكن معها الاستمتاع كما حكى ذلك أبو العباس ابن تيمية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
القواعد لابن اللحام [21] | 2464 استماع |
القواعد لابن اللحام [3] | 2347 استماع |
القواعد لابن اللحام [23] | 2231 استماع |
القواعد لابن اللحام [22] | 2223 استماع |
القواعد لابن اللحام [8] | 2081 استماع |
القواعد لابن اللحام [16] | 1921 استماع |
القواعد لابن اللحام [9] | 1868 استماع |
القواعد لابن اللحام [17] | 1823 استماع |
القواعد لابن اللحام [27] | 1792 استماع |
القواعد لابن اللحام [1] | 1787 استماع |