صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فبإذن الله تعالى نتكلم عن صفة الحج، وهو حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما نلحق فيه بعض الأحكام التي قد تكلم فيها بعض الفقهاء من السلف من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، ولا نريد مسألة إلا وندلل عليها من الكتاب والسنة، ومن أقوال الأئمة من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم كما هو المعتاد.

إن الله جل وعلا قد جعل للإسلام أركاناً، وأكد وجوبها، وهي آكد شرائع الإسلام، والأركان هي ما يبنى عليها البناء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) ، وجاء في الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل فقال: ( ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )، وكذلك قد جاء هذا في قصة جبريل في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر عن عمر عليه رضوان الله تعالى.

والحج هو من أركان الإسلام، وقد ذكر بعض العلماء أنه يأتي بعد الزكاة في التعظيم والتأكيد، وقد أمر الله عز وجل بالإتيان به كما في قوله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

وحج بيت الله جل وعلا فرض على كل مسلم عاقل بالغ حر ومستطيع، والحج قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفته أخبار عديدة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حج حجة واحدة بعد هجرته، وقد حج قبل ذلك بمكة، ويأتي الكلام على هذه المسألة.

إذا علم أن الحج ركن يعلم أن في كفر تاركه خلافاً عند العلماء كما هو معلوم، وقد ذهب غير واحد من العلماء إلى أن من ترك الحج كسلاً وتهاوناً ولو من غير جحود أنه كافر خارج من ملة الإسلام، وهذا مروي عن غير واحد من السلف، مروي عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، وعن سعيد بن جبير و نافع مولى عبد الله بن عمر ، و الحكم بن عتيبة ، ورواية عن الإمام أحمد جزم بها إسحاق بن راهويه ، وهو قول بعض الفقهاء من المالكية كـابن حبيب وغيره.

واعتمدوا في ذلك على ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] إلا أنه لا يثبت صراحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تكفير تارك الحج خبر.

نعم، قد روى الترمذي عليه رحمة الله تعالى في سننه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الشعب من حديث هلال أبي هشام عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من ملك زاداً وراحلة فلم يحج فمات فما عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً )، وهذا الحديث لا يصح إسناده، قد أنكره عامة الحفاظ: فقد أنكره الترمذي عليه رحمة الله تعالى لما أخرجه في سننه، وكذلك قال ابن عدي لما أخرجه في كتابه الكامل قال: هذا الخبر ليس بمحفوظ. وأنكره كذلك الإمام البخاري عليه رحمة الله تعالى في كتابه التاريخ، فقال: هذا منكر. وكذلك أشار إلى ضعفه وإعلاله البيهقي عليه رحمة الله تعالى في كتابه الشعب، فقال: تفرد به هلال أبو هشام، وهو غير محتج به.

وإن كان لهذا من الشواهد ما لا يعضده كحديث أبي أمامة فقد رواه الدارمي في سننه، وكذلك إسحاق بن راهويه في المسند، و الروياني في مسنده أيضاً من حديث عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة ، ويرويه عن عبد الرحمن بن سابط ليث بن أبي سليم ، ويرويه عن ليث شريك بن عبد الله النخعي بنحو حديث علي بن أبي طالب، وهو معلول بعلل عدة، في إسناده: شريك بن عبد الله النخعي ، وكذلك ليث بن أبي سليم ، والصواب كذلك فيه الإرسال كما جزم به غير واحد من الحفاظ، فقد رواه الإمام أحمد في كتابه الإيمان، وكذلك ابن أبي شيبة في المصنف مرسلاً، ولم يذكروا أبا أمامة ، وهذا هو الصواب.

وذكر اليهودية والنصرانية هنا ثابت عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كما عند أبي بكر الإسماعيلي في الصحيح، فقد رواه من حديث أبي عمرو الأوزاعي عن ابن أبي المهاجر عن عبد الرحمن بن غنم عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى قال: ( من أطاق الحج فلم يحج فما عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً ) .

وأورده بإسناده ابن كثير عند قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] ونقله بإسناده عن أبي بكر الإسماعيلي، وقال: إسناده صحيح. يعني عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، ولكنه يحمل على الجحود لا على الترك كسلاً وتهاوناً.

وأما ما يحتج به بعض الفقهاء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جزم بكفر تارك الحج بما جاء عند ابن جرير الطبري في تفسيره من حديث ابن عياض عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت رسول الله، فكرر عليه مرة ومرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من السائل؟ فقيل: فلان بن فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجبت، ولو جبت لما أطقتم، ولو تركتموه لكفرتم؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] ) وهذا لا حجة به؛ فإنه لا يصح من جهة الإسناد، ومن جهة المتن؛ لأن فيه تفرداً وغرابة، وكذلك قد جاء عن سعيد بن جبير عند اللالكائي في شرحه أصول اعتقاد أهل السنة، وجاء أيضاً عن عبد الله بن مسعود ، وعن عبد الله بن عباس ، وكلها فيها كلام.

والذي يظهر -والله أعلم- أن من ترك الحج كسلاً وتهاوناً أنه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، إذا كان من أهل الوجوب قطعاً فهو على خطر عظيم؛ فإنه إن أدركه عام وموسم حج ولم يحج فرط ولحقه الإثم.

والحج على الفور كما هو قول جمهور العلماء، وظواهر الأدلة من الكتاب والسنة خلافاً لما ذهب إليه غير واحد من الأئمة كالإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى، وقال به عطاء بن أبي رباح وغيره على أن الحج على التراخي ليس على الفور. ومن نظر وتأمل فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك الصحابة والتابعين من مبادرتهم بأداء الحج واستنفارهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دل ذلك على تأكيده، وهذا ظاهر بين، ومن نظر إلى من جاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم من الفجاج والطرق، وجاء من نجد ومن اليمن وغيرها تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم واقتداء به، بل تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وهن في أشهرهن الأخيرة من الحمل، كما في قصة أسماء بنت عميس كما جاء في الصحيح وغيره.

من شروط وجوب الحج: البلوغ والعقل، وقد ذكر بعض العلماء عن بعض الأئمة الأربعة أنه لا يرى صحة حج الصبي، كما نقل ابن بطة عن أبي حنيفة عليه رحمة الله تعالى، فهذا القول فيه نظر؛ فـأبو حنيفة ممن يقول بصحة حج الصبي، كما نقل الإجماع على ذلك الطحاوي عليه رحمة الله تعالى -وهو حنفي- في كتابه شرح معاني الآثار، فقال: أجمع العلماء على صحة حج الصبي. وهو من أئمة الحنفية، ومن أعلم الناس بأقوال أبي حنيفة عليه رحمة الله، ولعل ما نقله ابن بطة عليه رحمة الله تعالى من الوهم، أو أراد من كان صِغره شديداً كمن كان في مهده ونحو ذلك، فإن هذا أيضاً فيه نظر لمعارضته لصريح الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمجنون قد ذهب الإمام أحمد في رواية - وهو الصواب - إلى أن حجه صحيح، ويكتب له الأجر؛ قياساً على الصبي، وإنما جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبي؛ لأن ورود الجنون على الناس نادر جداً، وأما الصبي والصغير فيكثر فلا تخلو دار من صبي صغير؛ ولهذا ورد السؤال عن الصبي ولم يرد السؤال عن المجنون؛ لقلة وروده، والقياس هنا معتبر، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بأخذه خاصة فيما يتعلق الأجور وسعة رحمة الله سبحانه وتعالى؛ ولذا قال الله جل وعلا: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2] .

ويجب على الصبي إن حج، والمجنون إذا عقل، والأعرابي إذا هاجر أن يحج حجة أخرى بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام أحمد و البيهقي و الدارقطني وغيرهم من حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى ) وهذا الخبر -وإن لم يصح مرفوعاً- فله حكم الرفع، وهذا قد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في صحته مرفوعاً وموقوفاً، وإن كان عامة النقاد على أنه لا يصح مرفوعاً، والصواب فيه الوقف وهو الصواب، نص على ذلك غير واحد من الأئمة كـابن المنذر والإمام أحمد و الدارقطني وغيرهم، ومال بعضهم إلى صحته مرفوعاً، وهو ظاهر كلام الإمام الحاكم عليه رحمة الله تعالى، وكذلك ابن خزيمة وغيره؛ وذلك أنه قد تفرد به محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن شعبة بن الحجاج عن سليمان الأعمش عن أبي ربيعة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، فقالوا: إنه قد تفرد به محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع كما قال ذلك الإمام الطبراني عليه رحمة الله تعالى حينما أخرجه في كتابه المعجم، وكذلك الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد حينما أخرجه، ونص على إعلاله مرفوعاً الدارقطني عليه رحمة الله تعالى في كتابه العلل، إلا أن له حكم الرفع، وذلك أنه قد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد صحيح عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي ربيعة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: احفظوا عني ولا تقولوا: قال عبد الله بن عباس. ومراده بذلك أنه يرويه عمن فوقه ممن يحتج بقوله، ولا أحد فوقه ممن يحتج بقوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا بلغ الصبي في أيام الحج في يوم عرفه أو قبلها فحجه صحيح عند جماهير أهل العلم، وهو قول إمام أهل المناسك عطاء بن أبي رباح ، وكذلك قتادة بن دعامة السدوسي كما روى سعيد بن أبي عروبة في كتابه المناسك عن قتادة و عطاء أن حجه صحيح، وهذا مروي عن الإمام أحمد ، وكذلك الإمام مالك وغيرهما.

وقال بعضهم: إن حجه صحيح إذا جدد إحرامه، وهو مروي عن أبي حنيفة عليه رحمة الله.

وتجديد الإحرام وتجديد النية تقييده فيه نظر، والصواب أن حجه صحيح؛ لأن الأمر متعلق بصحة التلبس بالعمل، فإذا صح منه صبياً صح منه كبيراً، والعبرة هنا بالإجزاء لا من جهة الصحة، فلو كان الأمر يتعلق بالصحة للزم استحضار النية، فإذا كان العمل صحيحاً فلا حاجة أن يقال: إنه يجب عليه أن يستحضر النية.

من شروط وجوب الحج: الاستطاعة، ومفهوم الاستطاعة أن يكون مستطيعاً قادراً على الحج، وهذا ظاهر قول الله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] فقيد الله سبحانه وتعالى أمره وكذلك ما يقع في الكفر على من انتفى فيه شرط الوجوب، وهو الاستطاعة مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] أي: إلى بيت الله سبحانه وتعالى، والاستطاعة في كلام الله سبحانه وتعالى لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لها تفسيراً من وجه يصح، وإن كان قد أخرج الحاكم في مستدركه، وكذلك قد رواه الدارقطني في سننه من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الاستطاعة هي الزاد والراحلة ) وهذا الخبر لا يصح موصولاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصواب فيه الإرسال، فقد رواه الدارقطني من حديث جعفر بن عبد الله عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقد جاء من وجه آخر موصولاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث قتادة عن أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى، والصواب فيه الإرسال، صوب إرساله الدارقطني عليه رحمة الله تعالى وغيره.

وأمثل ما جاء في الاستطاعة ما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] قال: الاستطاعة أن يسلم الله عز وجل الإنسان بدنه، وأن يكون له زاد وراحلة من غير أن يجحف به. والمراد بذلك من غير أن يجحف به كأن يكون ثمة أضرار مثل أن يضيع من يملك قوته، فإنه حينئذ يسقط عنه الحج، ومن كان عليه دين فإنه لا يجب عليه الحج، ويجب عليه وفاء دينه، إذا كانت نفقة الحج تستوفي ذلك الدين، وأما إذا كان الدين عليه كثيراً، وذلك المال الذي يحج به قليلاً فإن الأولى في حقه أن يدفع المال لمستحقه؛ لأن حقوق الناس مبنية على المشاحة، وحقوق الله سبحانه وتعالى مبنية على المسامحة، ولا يجب عليه الحج، وإن كان مديناً بقناطير مقنطرة، ولا يملك لها وفاء، وملك مبلغاً يسيراً فيؤديه لمن له الدين؛ فإن الديون لابد من قضائها يوم القيامة، وقضاؤها يكون بالحسنات كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشهيد يغفر له كل ذنب قد اقترفته يمينه إلا الدين ) فلابد من قضائه يوم القيامة؛ وذلك لتعلقه بحقوق الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر وحث على قضاء الديون قبل وفاة الإنسان، أما استئذان صاحب الدين فلا أعلم أصلاً لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من أقوال السلف، ولا من أقوال الأئمة الأربعة، خلافاً لما يذكره بعض الفقهاء أنه ينبغي لمن كان عليه أن يستأذن من صاحب الدين، وهذا لا أصل له، إلا أن يكون المقصود بالاستئذان هو أن يتحلله، فالتحلل أمر آخر، فالاستئذان لا وجه له، فليس عبداً عنده رقيقاً حتى يستأذنه، ولا أصل لذلك ولا دليل عليه.

من شروط وجوب الحج شرط خاص بالمرأة وهو: وجود المحرم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع محرم )، وقد استثنى بعض العلماء أن تحج المرأة مع مجموعة من النساء، والقائم عليهن ثقة عدل صادق صالح مأمون، فإنه يستثنى من ذلك، وهذا هو الصواب، يستثنى من ذلك جواز ذهابها لا فرضية وجوبها، وإن كان قد ذهب بعض الفقهاء من الشافعية إلى فرض وجوب الحج عليه إذا كان ثمة من النساء، والقائم عليهن ثقة أنه يجب عليها الحج، والصواب أنه لا يجب عليها، لكنه يؤكد في حقها الحج، ويرتفع الوجوب لعدم وجود المحرم، نص على ذلك غير واحد من الأئمة كالإمام مالك ، وكذلك الإمام أحمد و الشافعي وغيرهم، نص على ذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في رواية، وذهب إلى هذا عبد الله بن عمر بن الخطاب، وذهب إلى هذا أيضاً أمهات المؤمنين كـعائشة ، وهو قول عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف و القاسم بن محمد وغيرهم أنه يجوز للمرأة أن تحج إذا كانت مع مجموعة من النساء، والقيم عليهن ثقة.

ولا يجوز للرجل أن يمنع امرأته من حج الفريضة إذا وجدت محرماً كأخ أو أب ونحو ذلك، وهل يجب عليه أن يخرج مع زوجته أم لا؟ على خلاف عند العلماء، ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجب عليه، وذهب الإمام أحمد إلى الوجوب، واستدلوا بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن رجلاً اكتتب في غزوة كذا وكذا، وامرأته حاجة، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج مع امرأته ) ، وقوله: ( اكتتب في غزوة كذا ) أي: أنه فُرض عليه من الجمع والتأكيد؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216] أي: فرض الله سبحانه وتعالى عليكم؛ ولهذا يقول الشاعر:

لا تأمنن فزارياً خلوت به على قلوصك واكتبها بأسيار

أي: واشدد عليها، أي: إنه أُكد عليه من جهة الحج، ومن جهة الجهاد، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذهاب إلى الجهاد، مع أنه قد اكتتب فيه إلى الحج مع امرأته، وهذا دليل ظني فيما يظهر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رخص له، وقد يرخص النبي عليه الصلاة والسلام لمن كان مكتتباً في غزوة لئن يبقى في المدينة كأن يقوم يؤم الناس، أو يحرس أعراض المسلمين أو أموالهم، ونحو ذلك.

وإذا شرعت المرأة بالحج فليس له منعها؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالإتمام، فقال الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، والإتمام واجب حتى في حج وعمرة النافلة، فيجب الإتيان به على وجه التمام كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه البخاري معلقاً، ورواه البيهقي و ابن أبي شيبة من حديث إبراهيم عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى رخص لأمهات المؤمنين أن يحججن مع عثمان و عبد الرحمن بن عوف ، وهذا دليل على الترخيص إذا كانت المرأة مع مجموع من النساء.

وجاء عند ابن أبي شيبة من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أنه حج معه نساء ليس معهن محرم. وهذا إسناده صحيح، وجاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى وفيه إرسال، انقطاع من حديث يونس عن الزهري عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، وفيه كلام.

تقدم أن الحج على الفور، ويجب على الإنسان إن أدركه وقت الحج وهو مستطيع وقد توفرت فيه الشروط أن يحج، وإن لم يحج فقد أثم، ومن قال بالتراخي فقوله مرجوح، وذلك أن فرضية الحج على الأعيان لا يمكن تقديرها إلا بالمبادرة والفورية، وأما إذا قيل: إنه على التراخي فمتى يأثم الإنسان، وإذا علقنا الأمر بالتراخي والقدرة فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد روي عنه كما جاء عند الإمام أحمد من حديث إسماعيل بن خليفة عن أبيه عن فضيل عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أراد الحج فليتعجل؛ فإن الإنسان لا يدري ماذا يعرض له ) ربما مرض ونحو ذلك، وفي هذا إشعار وإن كان الخبر فيه إعلال، وجاء له شاهد عند أبي داود من حديث مهران أبي صفوان عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أراد الحج فليتعجل ) ، وجاء في لفظ آخر وهو حديث عبد الله بن عباس السابق ( تعجلوا بالحج -يعني الفريضة-؛ فإن الإنسان لا يدري ماذا يعرض له ) ، وفي تعليقه في هذا الخبر ( تعجلوا بالحج -يعني الفريضة-؛ فإن الإنسان لا يدري ماذا يعرض له ) أنه ربما عرض له مرض ونحو ذلك فحصل له من التسويف الذي يحاسب عليه؛ ولهذا أمر بالتعجل، وإن كان في الخبر علة في طريقه الأول وطريقه الثاني أيضاً، إلا أن ظاهر استنفار رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على الفورية.

كذلك أن قول التراخي فيه من عدم ظهور الحكمة؛ فإن الله سبحانه وتعالى حينما أمر بالحج، وقيل: إن الإنسان يعذر إذا مد الله عز وجل في أجله، وما جاءه موت الفجأة في الستين والسبعين ونحو ذلك، قيل من المكلف بالحج إذا كان الإنسان يعذر إذا مات وهو صحيح، هل يعذر إذا كان الإنسان قد هرم وسقط هذا ما قال به أحد من العلماء، فارتباط أداء الحج وفرضيته يكون بالاستطاعة وإدراك الوقت، وإن لم يؤده مع قدرته عليه أثم.

وينبغي للمؤمن على كل وجه أن يبادر بأداء الحج؛ لما فيه من الفضيلة والمنقبة والأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قد روى الإمام أحمد و البخاري و مسلم من حديث أبي حازم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كما ولدته أمه ) ، وجاء أيضاً في الصحيحين في البخاري و مسلم ، ورواه الإمام مالك أيضاً في الموطأ وعنه البخاري و مسلم من حديث مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ).

وقرن الله سبحانه وتعالى الحج بالإسلام من جهة تكفير الذنوب، وكذلك بالهجرة كما جاء في قصة استحضار عمرو بن العاص عليه رضوان الله تعالى في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن شماسة المهري عن حبيب عن عمرو بن العاص عليه رضوان الله تعالى أنه لما حضرته الوفاة تذكر حياته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! -وقد مددت إليه يدي ثم قبضتها- فقال لي: ما لك يا عمرو؟ فقلت: يا رسول الله! إني أريد أن أشترط، قال: وما تشترط؟ قال: إني أريد أن أشترط أن يغفر لي ذنوبي، فقال: أما تعلم يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله ) .

ومقارنة النبي عليه الصلاة والسلام الحج بهاتين الشعيرتين العظيمتين: أولهما: الإسلام الذي لا يمكن أن يتحقق فيه للإنسان نجاة وفوز مطلقاً إلا به، والهجرة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، بل بين أن من لم يهاجر وهو قادر عليها أنه من جملة الكافرين المنافقين الخارجين عن الإسلام من أهل مكة كما جاء في آيات الوعيد المعروفة في كلام الله سبحانه وتعالى.

وقرنها عليه الصلاة والسلام مع هذين لفضل الحج؛ ولهذا قد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الحج يكفر الصغائر والكبائر، وهذا هو الصحيح، وهذا مروي عن مطرف وعن الحسن ، وذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم.

والذي ينبغي للإنسان أن يكون متجرداً من النيات السيئة، ومتجرداً من الهوى وطلب الدنيا ومطامعها، وأن يكون حجه بمال حلال؛ فإن الله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، قد روى الإمام مسلم في الصحيح من حديث عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51] ، وأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له ) ؟!

وقد ذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى إلى أن من حج بمال حرام أن حجه ليس بمبرور، واتفق العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم إلى أن حجه صحيح، لكنه ليس بمبرور، يعني: لا يندرج تحت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والحج المبرور ليس جزاء إلا الجنة ) ، ولا يأتي تحت قوله عليه الصلاة والسلام: ( من حج ومن لم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كما ولدته أمه )؛ لأنه قد ركب مطية، وأحرم من مال حلال، وتزود وأكل وشرب بمال حرام، فالله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له الإنسان.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم لفضل الحج قد حج قبل ذلك، قيل: إنه على ما علمه من ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث سفيان عن زيد بن حباب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد أن هاجر ) ولكن إسناده ضعيف، والصواب فيه الإرسال، كما أعله الإمام البخاري عليه رحمة الله تعالى في كتابه التاريخ فقال: إنما هو عن مجاهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج قبل هجرته كما في صحيح البخاري من حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال: أضللت بعيراً لي بمكة، فذهبت في يوم عرفه، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة مع الناس، وقريش بمزدلفة، فقلت: والله إن هذا لمن الحمس ما الذي جاء به هاهنا، ومعلوم أن قريشاً يسمون الحمس، والحمس هم الذين شددوا على أنفسهم، مأخوذ من الحماس أو الذين تحمسوا وشددوا على أنفسهم، فكانوا لا يخرجون من الحرم، وحدود الحرم هي أطراف مزدلفة، ففي عرفة يقفون بمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله وأهل حرم الله فلا نخرج من حدود الحرم، وهذا من الجاهلية مما غُيِّر من مشاعر الحج مما كان عليه أهل الحنيفية السمحة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وقف مع بقية العرب الذين حجوا بعرفة، معارضاً ما كان عليه كفار قريش عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أنه قد حج قبل ذلك، لكن كم حجة حجها عليه الصلاة والسلام؟ الله أعلم، ولكن يدل على فضيلة الحج وتأكده، ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى لم يفرض الحج على عباده إلا بعد الهجرة، على خلاف: هل هو في السنة السادسة أو في الثامنة أو في التاسعة، والصواب أنه في السنة التاسعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر و أبا هريرة ومن معه بأن يحجوا، وأن ينادوا: ( ألا يحجنَّ بعد هذا العام مشرك، وألا يطوف في البيت عريان).

الحج يجب أن يتلبس الإنسان بنسكه في أشهر الحج، وألا يحرم قبل ذلك، لقول الله سبحانه وتعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] .




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] 2714 استماع
إنما يخشى الله من عباده العلماء 2478 استماع
إن خير من استأجرت القوي الأمين 2317 استماع
العالِم والعالَم 2314 استماع
الذريعة بين السد والفتح [1] 2299 استماع
الإسلام وأهل الكتاب 2138 استماع
الذريعة بين السد والفتح [2] 2106 استماع
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] 2105 استماع
الردة .. مسائل وأحكام 2077 استماع
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] 2047 استماع