إنما يخشى الله من عباده العلماء


الحلقة مفرغة

عظم منزلة العلم الشرعي وأهله

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فكما هو معلوم في عنوان هذه المحاضرة: (إنما يخشى الله من عباده العلماء), فهذه الآية وما تتضمنه من أحكام تحتاج إلى مقدمة في حقيقة ذلك العلم، وكذلك في حقيقة ما حث الله جل وعلا على تعلمه والتبصر فيه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد حث على التعلم وطلب العلم، وقد جاء في ذلك آيات كثيرة، وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة، وفضل العلم وأهميته بالقدر المعلوم الذي لا يخفى، والفطرة دالة عليه، وإنما يحتاج الإنسان إلى إبراز ذلك في الواقع؛ وذلك أن الإنسان مهما كان موصوفاً بالجهل فإنه يسعى إلى تحصيل العلم وتحقيقه، وإذا كان من الجهال ادعى العلم ولو زوراً، وهذا من مناقب العلم وفضله أنه يدعيه من ليس من أهله، وكذلك ضده؛ فإن الجهل يتبرأ منه الإنسان؛ لأنه يعلم أنه إذا وصف بالجهل فإنه حينئذٍ قد وصف بشيء مذموم، وألحقت به معرة، فيتبرأ من ذلك قدر إمكانه، سواء بلباس الزور أي: أن يدعي العلم وليس من أهله، أو أن يطلب العلم؛ لكي يتحقق فيه بخلاف ما ذم وسب به.

إن العلم محمود أياً كان؛ وذلك أن العلم الذي يوصل الإنسان إلى سعادته في دينه ودنياه من أعظم ما يحمد عليه الإنسان؛ وذلك أنه لا يمكن أن تتحقق السعادة للإنسان في دينه إلا بشيء من علوم الدنيا، ولا يمكن أن يجتمع للإنسان سعادة الدنيا وسعادة الآخرة إلا بمعرفة العلم الشرعي، والعلم الشرعي هو ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو الوحي، وما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إرث؛ ولهذا روى البخاري معلقاً، وقد جاء عند الإمام مسلم مسنداً قال عليه الصلاة والسلام: ( العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )؛ ولهذا يقول العلماء: إن ما جاء من إطلاق في كلام الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر للعلم فإن المراد به هو الوحي، وهو كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأصل فيه لا ينصرف إلى غيره إلا لقرينة متأكدة تصرفه عن هذا الأصل، وجل ما جاء من ذكر العلم في كلام الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو منصرف لذلك الإرث.

ولهذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العلماء على وصف الحقيقة والإطلاق هم الذين ورثوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ًولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر.

وإذا أردنا أن نقف على شيء من إطلاقات النصوص في فضل العلم وبيان عاقبة صاحبه، وما يحل به من وصف المحامد التي ألحقها به الشارع، فإن المراد بذلك هو التمكن من علم الشريعة والوحي؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم من حديث أبي هريرة : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ).

المراد بسلوك طريق العلم المسهل لطريق الجنة

والمراد بالعلم الذي يسلكه الإنسان هو: السبيل الذي يسلكه السالك حال مقصده لشيء من المرادات التي يريدها حال قيامه بها، سواء كان ذلك السلوك من السلوك البدني، أو كان من السلوك المعنوي، فإن الله جل وعلا يسهل له به طريقاً إلى الجنة، وكأنه جعل ذلك العلم طريقاً يسلكه الإنسان كحال السائرين الذين يسلكون السبل حتى تصل بهم إلى سعادة الدنيا، فكانت سعادة الآخرة حينئذٍ هي سلوك طريق العلم، ونهايتها وغايتها تقف عند الجنة، وتحقيق ذلك أنه لا يمكن لإنسان من البشر يريد أن يعبد لله جل وعلا بعبادة على الحقيقة والموافقة إلا بطلب العلم الشرعي؛ ولهذا كان العلماء على الحقيقة مع الصديقين والنبيين والشهداء من جهة المنزلة، وذلك أنه لا يمكن أن يعمل الإنسان عملاً من أعمال الفضائل، ولا أن يصل إلى مرتبة من المراتب إلا بواسطة هذا العلم الشرعي، وهذا معلوم من جهة النظر، ومتحقق من جهة العمل أيضاً بعمل الناس؛ ولهذا جاءت الأدلة متظافرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على العلم، وأنه من جهة التحقيق هو أصل السعادة وسبيل النجاة والكفاية من الشر؛ ولهذا امتدح الله سبحانه وتعالى العلماء والعارفين، والهداة المهتدين الذين يسلكون طريق محمد صلى الله عليه وسلم.

ولا يحق لأحد أن يدعو إلى طريق ما لم يكن بصيراً بهذا الطريق؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أتم الله جل وعلا له الدين أمره جل وعلا بأن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فكانت هذه الدعوة إلى الله على بصيرة، يعني: على بينة ومعرفة، فلا يدعو الإنسان على جهل.

هذا الأمر ينبغي أن يفهم أنه مقصد من مقاصد التشريع في تحقيق هذا العلم؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( من دل على هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة )، وهذه الدلالة لا بد أن تتحقق للتمييز بين الحق والباطل؛ فإن الإنسان لا يمكن أن يدعو إلى هدى إلا وقد عرف الهدى قبل الدعوة إليه، ولا يمكن أن يعرف طريق الشر ويحذر منه إلا وقد تحققت فيه معرفة ذلك الشر قبل الدعوة من التحذير إليه، فلما كان كذلك كانت الخطورة حينئذٍ في مقام العلماء، وتمييزهم عن الجهال.

العلماء الذين تحقق فيهم وصف العلم

الذين يرفعهم الله سبحانه وتعالى بالعلم على الحقيقة هم العلماء الذين تحقق فيهم الوصف، بخلاف الجهال الذين تحقق فيهم الجهالة، ورفعهم حينئذٍ العامة وسواد الناس، وصدروهم وجعلوهم من علية القوم، فيَضلون ويُضلون، ومعلوم أن الجهل إذا انزاح من الإنسان لا بد أن يحل محله العلم، وإذا انزاح العلم حل محله الجهل، وإذا انزاح العالم حل محله الجاهل، وإذا انزاح الجاهل حل محله العالم، وهذه سنة مطردة في كل حال، وفي كل زمن؛ ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو قال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ).

وهنا وقفات مهمة مع هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من جليل الأخبار وعظيمها، وكذلك من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، بقوله: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً )، هذا القابض هو الله، فيه دلالة على أن المبقي والرافع هو الله بالنسبة لمن تحقق فيه وصف العلم.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام هنا: ( حتى إذا لم يبق عالماً )، فالمبقي هو الله، ( اتخذ الناس رءوساً جهالاً )، الذين اتخذوا الجهال هم الناس، وهم الذين صدروهم، فبقاؤهم ببقاء هؤلاء الناس الذين يرفعونهم على أكتافهم، فإذا زال هؤلاء العوام الذين صدروا هؤلاء الجهال زالوا بزوالهم، ولم يبق لهم حينئذٍ أثر، وبه يعلم أن ولاية العالم لا يمكن أن يسقطها أحد، وأما ولاية الجاهل فهي التي يسقطها الناس؛ لأنهم من جهة الأصل هم الذين رفعوها بلا ولاية العالم بعلمه وبقائه بإظهار الحق وبيانه للناس، والتحذير من الشر على أي حال وعلى أي صورة كانت، كذلك أيضاً إذا علم هذا علم أن رفعة الله جل وعلا للعالم وبيان منزلته له في هذه الدنيا لا يمكن أن تزول إلا بزوال ذلك السبب، وزوال ذلك السبب بالأسباب الشرعية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خطر ترك العمل بالعلم

إذا صار الإنسان عالماً بعلم الله جل وعلا، إلا أنه لم يكن من العاملين بهذا العلم، فحينئذٍ يحق عليه الوصف أنه كحال علماء بني إسرائيل الذين حملوا العلم ولم يعملوا به، فاستحقوا المقت والعذاب من الله سبحانه وتعالى.

والإنسان الآخر هو من تحقق فيه وصف العلم، لكنه نكس على عقبيه، فدعا إلى خلافه، فالأول قد تعلم العلم، ولكنه لم يعمل بذاته، والثاني تعلم العلم ودعا إلى غيره، فكان على بصيرة من جهة التحقيق بهذا العلم، فكتمه ودعا الناس إلى غيره، ففيه شبه أيضاً ببني إسرائيل، وهذا لا شك أنه أشد خطراً، فذاك ضرره لازم على نفسه وخيره متعد إلى غيره، والثاني ضرره على نفسه ومتعد إلى غيره، وهو أشد تلبيساً على العامة من الأول، وذلك أن الأول قد اتبع شهوات النفس، وأما الثاني فإنه اتبع شهوات الغير وباع دينه بدنيا غيره، وهو أشد ضلالاً وانحرافاً.

الإخلاص في طلب العلم وثمرة ذلك

لهذا ينبغي للعالم إذا أراد أن يسلك طريق العلم، وأن يكون على بصيرة بأمر الله جل وعلا وأن يكون مخلصاً في قوله وفعله، وأن يبتدأ تحصيل العلم لله سبحانه وتعالى؛ فإن أعظم ما يضل فيه الإنسان في هذا الباب أن يطلب العلم لغير الله، فإذا طلب العلم لغير الله فإنه يبلغه حينئذٍ لغير الله، فإذا بلغه لغير الله دعا الناس في حال عدم وجود معرفة لديه في مسألة أو نازلة دعاهم إلى شيء من غير التشريع يظنه ويزعمه تشريعاً، فدعا الناس حينئذٍ إلى البدعة؛ ولهذا اقترنت البدعة بالجهالة مع ادعاء العلم، وذلك أن البدعة تنسب إلى الشريعة بخلاف المعصية؛ فإن الإنسان يفعلها مع إقراره بمخالفة الشريعة، فهو يفعلها ويستغفر ويتوب، ويتوب الله جل وعلا عليه إن علم صدقه، بخلاف المبتدع الذي يفعل البدعة وينسبها زوراً للشريعة، فإن قلده الناس على ذلك كان الأمر متناسخاً، والإثم والوزر على ظهره باقياً؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما جاء في حديث عبد الله بن عباس و أبي هريرة و أبي موسى ، قال-: ( إن الله لا يقبل من صاحب بدعة توبة )، سئل الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى كما في بعض مسائله عن قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يتقبل الله من صاحب بدعة توبة )، قال: لا يوفق إلى التوبة؛ وذلك أن الإنسان إذا فعل بدعة من البدع ودعا الناس إليها فرجوعه عنها من الصعوبة بمكان، وذلك أن الناس قد قلدوه على هذه البدعة وهذا العمل الذي يزعم أنه من الوحي، فإذا استمر الناس على هذا العمل، فيقع في نفسه، ويشرب في قلبه حب الأتباع، فإذا أشرب في قلبه ذلك علم أنه إن نكس على ذلك خسر أولئك الأتباع باتباعهم على تلك الضلالة بخلاف الذي يدعو إلى جهالة، فإنه لا يكابر وسيتوب، فإن تاب تاب الله جل وعلا عليه ورجوعه أقرب من رجوع صاحب البدعة، والناس حينئذٍ يتبعونه ويعلمون أن اتباعهم على هوى لا على علم، وكذلك أصحاب الغواية من أصحاب المعاصي والفسوق إذا تاب صاحب المعصية والفسق في الغالب أن الناس يتأثرون به ممن يقتدى بقوله وفعله، بخلاف صاحب البدعة فإنه يكون ملازماً لها، فإن فتح الله جل وعلا على قلبه ورجع قلما يتبعه من أصحابه من سلك طريقه بجهالة، وذلك أنهم يذمونه لو عرف الحق ثم رجع عنه، وهذا معلوم مشاهد عند طرائق أهل البدع ورءوسهم الذين يدعون إلى الضلال بزعم أنه من العلم والوحي.

ولهذا يتكلم العلماء على أهمية النية وأنها من عظيم الأمور في عمل الإنسان وعلى الأخص في مسألة العلم وطلبه؛ فإن الإنسان إذا تحقق فيه وصف الإخلاص لله سبحانه وتعالى في القول والعمل، وفقه الله جل وعلا وأعانه، وكان من أهل الثبات، بخلاف الذي فيه أصل الإخلاص، لكن يرد عليه شيء من النواقض كالرياء والسمعة وغير ذلك فإنه ينقص عن هذا؛ لأن من كانت حاله كذلك يقل عند الإخلاص في عبادة السر وعمله؛ فإن الإنسان إذا كان يطلب العلم لغير الله، أو يتعبد بالعبادة لغير الله؛ فإنه في باطن أمره لا يطلب العلم في خفايا الأمر وفي سره، وكذلك المتعبد لله جل وعلا في العلن لا يتعبد في السر، وهذه حال المنافقين؛ ولهذا قد جعل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى عبادة السر هي الفارقة بين المؤمن والمنافق، كما روى ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق وغيره، قالوا: من حديث عمران أن رجلاً جاء إلى حذيفة بن اليمان وسأله عن النفاق فقال: أتصلي إذا خلوت؟ وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم. قال: اذهب فما جعلك الله منافقاً، وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان إذا تعبد لله سبحانه وتعالى بعبادة سر، فإن الله سبحانه وتعالى أعطاه براءة من النفاق؛ لأن الإنسان إذا تجرد لله جل وعلا بعبادة الخفاء كان دافعاً له بالإكثار من عبادة الظاهر، وكذلك من المؤكدات على صدق وإخلاص ظاهر الإنسان، وإذا علم ذلك في سائر العبادة علم هذا في أشرفها، وأشرف العبادات على الإطلاق هو العلم بالله سبحانه وتعالى وبمعرفة أحكام الله جل وعلا؛ وذلك أن الإنسان لا يمكن أن تتحقق فيه عبادة فاضلة أو مفضولة إلا عن طريق العلم، فلا يمكن أن يوحد إلا بالعلم، ولا يمكن أن يقيم أركان الإسلام إلا بالعلم فيها.

لهذا كان العلماء أعظم الناس منزلة عند الله سبحانه وتعالى، وأولهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، لما كان كذلك عليه الصلاة والسلام أعلم الناس وهو مبلغ الوحي عن الله جل وعلا بواسطة جبريل.

وكان من بعده هم أتباعه عليهم رضوان الله تعالى من الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام ممن أخذ العلم عنه كانوا تبعاً له، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علم الله العلم البشري المطلق الكامل، ومن جاء بعده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أقرب إلى الكمال والنقص فيهم بحسب قربهم وبعدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من تقدم في الإسلام ومن تأخر.

وكذلك طول المكث والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهود مجالسه، ومنزلتهم في ذلك بحسب منزلتهم من القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان كذلك علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من علم يتعلمه أصحابه وأتباعه ويعملون به إلا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أجر، وكذلك المبلغون ممن يأتون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغوا حكماً لمن جاء بعدهم إلا كان الأجر لمن بلغ، أحصاه الله جل وعلا ونسيه الناس.

ولهذا كثير من الناس يعمل كثيراً من العبادات كأركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام، وإذا سئل من علمك ذلك لا يستحضر أحداً بعينه علمه تلك العبادة، ولكن الله جل وعلا يعلم مفاصل الأمور ودقائقها: الصلاة قد تعلمها من فلان، والزكاة قد تعلمها من فلان، وتأكدها وبينها من فلان، فتلك الأجور تأتي بحسب المبلغين والعارفين الذين بلغوا ذلك العلم، فتناسخ ذلك العمل وذلك العلم في الناس، وكانت الأجور بحسب قدر المبلغين؛ ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم الأجر العظيم والمزية الكبرى على جميع من جاء بعدهم، وهذا من أعظم الفضائل والخصائص التي خصهم الله جل وعلا بها، وقد اختارهم من صحبة نبيه، وجعلهم جل وعلا هم المبلغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهمية طلب العلم الشرعي

إن العلم هو أفضل العبادات على الإطلاق، وهذا بإجماع العلماء فرضه أفضل الفروض، وواجبه أفضل الواجبات، وسنته ومستحبه أفضل المستحبات على الإطلاق، وقد حكى الإجماع على ذلك جماعة من السلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن عبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عمرو و عبد الله بن عباس و أبي ذر و أبي الدرداء ، وروي عن جماعة من التابعين، وهو قول الإمام مالك و الشافعي و أحمد و أبي حنيفة ، وغيرهم من أئمة الإسلام، ومن نظر إلى نفسه في الحث على العلم وبيان فضله وبيان طرق السالكين له وجد ذلك ظاهراً بيناً، بل إن الإنسان إذا استفرغ وسعه بتحصيل العلم، ولو كان من العلم المفضول إذا كان حفظ ذلك العلم مما تحفظ به تلك المسألة، ولا حافظ لها إلا ذلك الشخص كانت في حقه أولى من الفرائض ومتأكدات النوازل؛ ولهذا كان جملة من العلماء ربما تساهلوا ببعض النوافل، وتركوها لأجل تحقيق العلم، وقد جاء عن الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى -كما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع، وكذلك رواه ابن عساكر- أن الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى كان جالساً في حلقة من مسجده فجاء أحد من أصحابه فوضع الألواح ثم ذهب يصلي، قال له الإمام مالك عليه رحمة الله: ما الذي ذهبت إليه بأفضل مما قمت منه، يعني بذلك طلب العلم؛ ولهذا يقول أبو زرعة عليه رحمة الله تعالى: آثرت مجالس الإمام أحمد عليه رحمة الله على النوافل، يعني: ما يفعله من الحرص على العلم أفضل من أداء النوافل في حال ورودها.

ضرورة اهتمام طالب العلم بالعبادة

مع أنه ينبغي لطالب العلم أن يكون من المكثرين من العبادة والصلاة والاستغفار، وأن يكون له بذلك مزية وخصيصة عن غيره من عامة الناس؛ ولهذا كان العلماء عليهم رحمة الله تعالى لا يفرقون في أداء العبادة بين الحل والترحال، وهذا من حرصهم عليها.

وقد ذكر ابن أبي يعلى في كتابه طبقات الحنابلة عن الإمام أحمد عليه رحمة الله أنه كان في ليلة مسافراً ومعه أحد أصحابه، فلما قام الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في ليلة من الليالي يصلي فوضع ماءه عند صاحبه، فلما قام لصلاة الفجر وجده لم يمسه، فقال: لم لم تمس الماء؟ قال: إني مسافر، فقال: سافر مسروق وما نام إلا ساجداً يعني: من كثرة عبادته.

وإذا نظرنا إلى حال الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في مثل هذا الموضع، وكذلك حال الأئمة في مواضع أخرى، نجد أنهم يفرقون بين المسائل المتزاحمة في مسائل تحصيل العلم وتحقيقه إذا كان لا يتحصل الإنسان تحقيق العلم إلا بمزاحمة عبادة أخرى فإنها تقدم العبادة على غيرها؛ ولهذا قد ذكر عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى كما ذكر ابن الجوزي وغيره، وكذلك البيهقي أن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى سافر من العراق إلى صنعاء يريد طلب العلم عند عبد الرزاق ، فلما قدم إليه طرق بابه فخرج.. وكان الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى شاباً فتياً في أول فتوته، فخرج بقال فقال: لا تزعج الشيخ يا فلان! قال: فابتعد الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى عن الباب حتى خرج عبد الرزاق من بيته، فقال: ابتدره الإمام أحمد عليه رحمة الله فسلم عليه فقال: يا شيخ! إني قدمت من العراق أريد أن أكتب عنك، قال: من أنت؟ فقال: أنا أحمد بن حنبل ، قال: فاعتنقني فقال: آلله أنت أحمد بن حنبل ؟ قال: نعم، قال: ثم أخذ يحدثني حتى اشتبكت النجوم، فكان الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى إذا تذكر عبد الرزاق بكى، وذلك أنه قد عُرف باسمه عنده وهو شاب فتي في أول عمره، أي: أن بلغ خبره عبد الرزاق وهو في صنعاء فارتحل إليه فوجد اسمه عنده عليهم رحمة الله.

على طالب العلم أن يتحقق فيه الإخلاص لله سبحانه وتعالى، فإذا حرم الإنسان في ابتداء الأمر الإخلاص في الغالب أنه يحرم التوفيق والثبات، وإذا ازداد من العلم ازداد معه عدم الإخلاص حتى ينحرف الإنسان في أبواب العلم وفي أبواب البلاغ؛ ولهذا من أعظم ما يضل الأمة في سبيلها وهدايتها: أن يتعلم العلم غير المخلصين لله جل وعلا فيبلغ العلم بأهوائهم، وبأهواء الناس فيكونون حينئذٍ أرباب جمهور، وأرباب عامة لا يريدون إغضاب الناس فيفتونهم بحسب أهوائهم، وبحسب ما يريدونهم؛ لهذا يضل الناس ويضلون، أما العالم الحق الذي يتعلم العلم لله سبحانه وتعالى، فإذا تعلم العلم لله سبحانه وتعالى كان عند البلاغ مستحضراً رضا الله جل وعلا؛ لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو السابق قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء )، يعني: الله جل وعلا كما أنه صدر العالم بالعلم فهو الذي يقبضه، أما الجاهل: ( حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ).

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فكما هو معلوم في عنوان هذه المحاضرة: (إنما يخشى الله من عباده العلماء), فهذه الآية وما تتضمنه من أحكام تحتاج إلى مقدمة في حقيقة ذلك العلم، وكذلك في حقيقة ما حث الله جل وعلا على تعلمه والتبصر فيه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد حث على التعلم وطلب العلم، وقد جاء في ذلك آيات كثيرة، وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة، وفضل العلم وأهميته بالقدر المعلوم الذي لا يخفى، والفطرة دالة عليه، وإنما يحتاج الإنسان إلى إبراز ذلك في الواقع؛ وذلك أن الإنسان مهما كان موصوفاً بالجهل فإنه يسعى إلى تحصيل العلم وتحقيقه، وإذا كان من الجهال ادعى العلم ولو زوراً، وهذا من مناقب العلم وفضله أنه يدعيه من ليس من أهله، وكذلك ضده؛ فإن الجهل يتبرأ منه الإنسان؛ لأنه يعلم أنه إذا وصف بالجهل فإنه حينئذٍ قد وصف بشيء مذموم، وألحقت به معرة، فيتبرأ من ذلك قدر إمكانه، سواء بلباس الزور أي: أن يدعي العلم وليس من أهله، أو أن يطلب العلم؛ لكي يتحقق فيه بخلاف ما ذم وسب به.

إن العلم محمود أياً كان؛ وذلك أن العلم الذي يوصل الإنسان إلى سعادته في دينه ودنياه من أعظم ما يحمد عليه الإنسان؛ وذلك أنه لا يمكن أن تتحقق السعادة للإنسان في دينه إلا بشيء من علوم الدنيا، ولا يمكن أن يجتمع للإنسان سعادة الدنيا وسعادة الآخرة إلا بمعرفة العلم الشرعي، والعلم الشرعي هو ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو الوحي، وما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إرث؛ ولهذا روى البخاري معلقاً، وقد جاء عند الإمام مسلم مسنداً قال عليه الصلاة والسلام: ( العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )؛ ولهذا يقول العلماء: إن ما جاء من إطلاق في كلام الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر للعلم فإن المراد به هو الوحي، وهو كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأصل فيه لا ينصرف إلى غيره إلا لقرينة متأكدة تصرفه عن هذا الأصل، وجل ما جاء من ذكر العلم في كلام الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو منصرف لذلك الإرث.

ولهذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العلماء على وصف الحقيقة والإطلاق هم الذين ورثوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ًولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر.

وإذا أردنا أن نقف على شيء من إطلاقات النصوص في فضل العلم وبيان عاقبة صاحبه، وما يحل به من وصف المحامد التي ألحقها به الشارع، فإن المراد بذلك هو التمكن من علم الشريعة والوحي؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم من حديث أبي هريرة : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ).

والمراد بالعلم الذي يسلكه الإنسان هو: السبيل الذي يسلكه السالك حال مقصده لشيء من المرادات التي يريدها حال قيامه بها، سواء كان ذلك السلوك من السلوك البدني، أو كان من السلوك المعنوي، فإن الله جل وعلا يسهل له به طريقاً إلى الجنة، وكأنه جعل ذلك العلم طريقاً يسلكه الإنسان كحال السائرين الذين يسلكون السبل حتى تصل بهم إلى سعادة الدنيا، فكانت سعادة الآخرة حينئذٍ هي سلوك طريق العلم، ونهايتها وغايتها تقف عند الجنة، وتحقيق ذلك أنه لا يمكن لإنسان من البشر يريد أن يعبد لله جل وعلا بعبادة على الحقيقة والموافقة إلا بطلب العلم الشرعي؛ ولهذا كان العلماء على الحقيقة مع الصديقين والنبيين والشهداء من جهة المنزلة، وذلك أنه لا يمكن أن يعمل الإنسان عملاً من أعمال الفضائل، ولا أن يصل إلى مرتبة من المراتب إلا بواسطة هذا العلم الشرعي، وهذا معلوم من جهة النظر، ومتحقق من جهة العمل أيضاً بعمل الناس؛ ولهذا جاءت الأدلة متظافرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على العلم، وأنه من جهة التحقيق هو أصل السعادة وسبيل النجاة والكفاية من الشر؛ ولهذا امتدح الله سبحانه وتعالى العلماء والعارفين، والهداة المهتدين الذين يسلكون طريق محمد صلى الله عليه وسلم.

ولا يحق لأحد أن يدعو إلى طريق ما لم يكن بصيراً بهذا الطريق؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أتم الله جل وعلا له الدين أمره جل وعلا بأن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فكانت هذه الدعوة إلى الله على بصيرة، يعني: على بينة ومعرفة، فلا يدعو الإنسان على جهل.

هذا الأمر ينبغي أن يفهم أنه مقصد من مقاصد التشريع في تحقيق هذا العلم؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( من دل على هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة )، وهذه الدلالة لا بد أن تتحقق للتمييز بين الحق والباطل؛ فإن الإنسان لا يمكن أن يدعو إلى هدى إلا وقد عرف الهدى قبل الدعوة إليه، ولا يمكن أن يعرف طريق الشر ويحذر منه إلا وقد تحققت فيه معرفة ذلك الشر قبل الدعوة من التحذير إليه، فلما كان كذلك كانت الخطورة حينئذٍ في مقام العلماء، وتمييزهم عن الجهال.

الذين يرفعهم الله سبحانه وتعالى بالعلم على الحقيقة هم العلماء الذين تحقق فيهم الوصف، بخلاف الجهال الذين تحقق فيهم الجهالة، ورفعهم حينئذٍ العامة وسواد الناس، وصدروهم وجعلوهم من علية القوم، فيَضلون ويُضلون، ومعلوم أن الجهل إذا انزاح من الإنسان لا بد أن يحل محله العلم، وإذا انزاح العلم حل محله الجهل، وإذا انزاح العالم حل محله الجاهل، وإذا انزاح الجاهل حل محله العالم، وهذه سنة مطردة في كل حال، وفي كل زمن؛ ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو قال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ).

وهنا وقفات مهمة مع هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من جليل الأخبار وعظيمها، وكذلك من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، بقوله: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً )، هذا القابض هو الله، فيه دلالة على أن المبقي والرافع هو الله بالنسبة لمن تحقق فيه وصف العلم.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام هنا: ( حتى إذا لم يبق عالماً )، فالمبقي هو الله، ( اتخذ الناس رءوساً جهالاً )، الذين اتخذوا الجهال هم الناس، وهم الذين صدروهم، فبقاؤهم ببقاء هؤلاء الناس الذين يرفعونهم على أكتافهم، فإذا زال هؤلاء العوام الذين صدروا هؤلاء الجهال زالوا بزوالهم، ولم يبق لهم حينئذٍ أثر، وبه يعلم أن ولاية العالم لا يمكن أن يسقطها أحد، وأما ولاية الجاهل فهي التي يسقطها الناس؛ لأنهم من جهة الأصل هم الذين رفعوها بلا ولاية العالم بعلمه وبقائه بإظهار الحق وبيانه للناس، والتحذير من الشر على أي حال وعلى أي صورة كانت، كذلك أيضاً إذا علم هذا علم أن رفعة الله جل وعلا للعالم وبيان منزلته له في هذه الدنيا لا يمكن أن تزول إلا بزوال ذلك السبب، وزوال ذلك السبب بالأسباب الشرعية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذا صار الإنسان عالماً بعلم الله جل وعلا، إلا أنه لم يكن من العاملين بهذا العلم، فحينئذٍ يحق عليه الوصف أنه كحال علماء بني إسرائيل الذين حملوا العلم ولم يعملوا به، فاستحقوا المقت والعذاب من الله سبحانه وتعالى.

والإنسان الآخر هو من تحقق فيه وصف العلم، لكنه نكس على عقبيه، فدعا إلى خلافه، فالأول قد تعلم العلم، ولكنه لم يعمل بذاته، والثاني تعلم العلم ودعا إلى غيره، فكان على بصيرة من جهة التحقيق بهذا العلم، فكتمه ودعا الناس إلى غيره، ففيه شبه أيضاً ببني إسرائيل، وهذا لا شك أنه أشد خطراً، فذاك ضرره لازم على نفسه وخيره متعد إلى غيره، والثاني ضرره على نفسه ومتعد إلى غيره، وهو أشد تلبيساً على العامة من الأول، وذلك أن الأول قد اتبع شهوات النفس، وأما الثاني فإنه اتبع شهوات الغير وباع دينه بدنيا غيره، وهو أشد ضلالاً وانحرافاً.

لهذا ينبغي للعالم إذا أراد أن يسلك طريق العلم، وأن يكون على بصيرة بأمر الله جل وعلا وأن يكون مخلصاً في قوله وفعله، وأن يبتدأ تحصيل العلم لله سبحانه وتعالى؛ فإن أعظم ما يضل فيه الإنسان في هذا الباب أن يطلب العلم لغير الله، فإذا طلب العلم لغير الله فإنه يبلغه حينئذٍ لغير الله، فإذا بلغه لغير الله دعا الناس في حال عدم وجود معرفة لديه في مسألة أو نازلة دعاهم إلى شيء من غير التشريع يظنه ويزعمه تشريعاً، فدعا الناس حينئذٍ إلى البدعة؛ ولهذا اقترنت البدعة بالجهالة مع ادعاء العلم، وذلك أن البدعة تنسب إلى الشريعة بخلاف المعصية؛ فإن الإنسان يفعلها مع إقراره بمخالفة الشريعة، فهو يفعلها ويستغفر ويتوب، ويتوب الله جل وعلا عليه إن علم صدقه، بخلاف المبتدع الذي يفعل البدعة وينسبها زوراً للشريعة، فإن قلده الناس على ذلك كان الأمر متناسخاً، والإثم والوزر على ظهره باقياً؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما جاء في حديث عبد الله بن عباس و أبي هريرة و أبي موسى ، قال-: ( إن الله لا يقبل من صاحب بدعة توبة )، سئل الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى كما في بعض مسائله عن قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يتقبل الله من صاحب بدعة توبة )، قال: لا يوفق إلى التوبة؛ وذلك أن الإنسان إذا فعل بدعة من البدع ودعا الناس إليها فرجوعه عنها من الصعوبة بمكان، وذلك أن الناس قد قلدوه على هذه البدعة وهذا العمل الذي يزعم أنه من الوحي، فإذا استمر الناس على هذا العمل، فيقع في نفسه، ويشرب في قلبه حب الأتباع، فإذا أشرب في قلبه ذلك علم أنه إن نكس على ذلك خسر أولئك الأتباع باتباعهم على تلك الضلالة بخلاف الذي يدعو إلى جهالة، فإنه لا يكابر وسيتوب، فإن تاب تاب الله جل وعلا عليه ورجوعه أقرب من رجوع صاحب البدعة، والناس حينئذٍ يتبعونه ويعلمون أن اتباعهم على هوى لا على علم، وكذلك أصحاب الغواية من أصحاب المعاصي والفسوق إذا تاب صاحب المعصية والفسق في الغالب أن الناس يتأثرون به ممن يقتدى بقوله وفعله، بخلاف صاحب البدعة فإنه يكون ملازماً لها، فإن فتح الله جل وعلا على قلبه ورجع قلما يتبعه من أصحابه من سلك طريقه بجهالة، وذلك أنهم يذمونه لو عرف الحق ثم رجع عنه، وهذا معلوم مشاهد عند طرائق أهل البدع ورءوسهم الذين يدعون إلى الضلال بزعم أنه من العلم والوحي.

ولهذا يتكلم العلماء على أهمية النية وأنها من عظيم الأمور في عمل الإنسان وعلى الأخص في مسألة العلم وطلبه؛ فإن الإنسان إذا تحقق فيه وصف الإخلاص لله سبحانه وتعالى في القول والعمل، وفقه الله جل وعلا وأعانه، وكان من أهل الثبات، بخلاف الذي فيه أصل الإخلاص، لكن يرد عليه شيء من النواقض كالرياء والسمعة وغير ذلك فإنه ينقص عن هذا؛ لأن من كانت حاله كذلك يقل عند الإخلاص في عبادة السر وعمله؛ فإن الإنسان إذا كان يطلب العلم لغير الله، أو يتعبد بالعبادة لغير الله؛ فإنه في باطن أمره لا يطلب العلم في خفايا الأمر وفي سره، وكذلك المتعبد لله جل وعلا في العلن لا يتعبد في السر، وهذه حال المنافقين؛ ولهذا قد جعل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى عبادة السر هي الفارقة بين المؤمن والمنافق، كما روى ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق وغيره، قالوا: من حديث عمران أن رجلاً جاء إلى حذيفة بن اليمان وسأله عن النفاق فقال: أتصلي إذا خلوت؟ وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم. قال: اذهب فما جعلك الله منافقاً، وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان إذا تعبد لله سبحانه وتعالى بعبادة سر، فإن الله سبحانه وتعالى أعطاه براءة من النفاق؛ لأن الإنسان إذا تجرد لله جل وعلا بعبادة الخفاء كان دافعاً له بالإكثار من عبادة الظاهر، وكذلك من المؤكدات على صدق وإخلاص ظاهر الإنسان، وإذا علم ذلك في سائر العبادة علم هذا في أشرفها، وأشرف العبادات على الإطلاق هو العلم بالله سبحانه وتعالى وبمعرفة أحكام الله جل وعلا؛ وذلك أن الإنسان لا يمكن أن تتحقق فيه عبادة فاضلة أو مفضولة إلا عن طريق العلم، فلا يمكن أن يوحد إلا بالعلم، ولا يمكن أن يقيم أركان الإسلام إلا بالعلم فيها.

لهذا كان العلماء أعظم الناس منزلة عند الله سبحانه وتعالى، وأولهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، لما كان كذلك عليه الصلاة والسلام أعلم الناس وهو مبلغ الوحي عن الله جل وعلا بواسطة جبريل.

وكان من بعده هم أتباعه عليهم رضوان الله تعالى من الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام ممن أخذ العلم عنه كانوا تبعاً له، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علم الله العلم البشري المطلق الكامل، ومن جاء بعده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أقرب إلى الكمال والنقص فيهم بحسب قربهم وبعدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من تقدم في الإسلام ومن تأخر.

وكذلك طول المكث والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهود مجالسه، ومنزلتهم في ذلك بحسب منزلتهم من القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان كذلك علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من علم يتعلمه أصحابه وأتباعه ويعملون به إلا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أجر، وكذلك المبلغون ممن يأتون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغوا حكماً لمن جاء بعدهم إلا كان الأجر لمن بلغ، أحصاه الله جل وعلا ونسيه الناس.

ولهذا كثير من الناس يعمل كثيراً من العبادات كأركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام، وإذا سئل من علمك ذلك لا يستحضر أحداً بعينه علمه تلك العبادة، ولكن الله جل وعلا يعلم مفاصل الأمور ودقائقها: الصلاة قد تعلمها من فلان، والزكاة قد تعلمها من فلان، وتأكدها وبينها من فلان، فتلك الأجور تأتي بحسب المبلغين والعارفين الذين بلغوا ذلك العلم، فتناسخ ذلك العمل وذلك العلم في الناس، وكانت الأجور بحسب قدر المبلغين؛ ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم الأجر العظيم والمزية الكبرى على جميع من جاء بعدهم، وهذا من أعظم الفضائل والخصائص التي خصهم الله جل وعلا بها، وقد اختارهم من صحبة نبيه، وجعلهم جل وعلا هم المبلغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] 2714 استماع
إن خير من استأجرت القوي الأمين 2317 استماع
العالِم والعالَم 2313 استماع
الذريعة بين السد والفتح [1] 2299 استماع
الإسلام وأهل الكتاب 2137 استماع
الذريعة بين السد والفتح [2] 2106 استماع
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] 2105 استماع
الردة .. مسائل وأحكام 2077 استماع
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] 2046 استماع
الرقية الشرعية أحكام وآثار 2033 استماع