خطب ومحاضرات
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسند وغيره أنه قال: ( التقوى هاهنا ) والمراد بذلك أن أصل ما يتقي الإنسان من عمل مصدره القلب، وليس مراده عليه الصلاة والسلام أن التقوى في القلب لا تتعدى، وإنما التقوى التي يتقي بها الإنسان عذاب الله بترك المحرمات، وبالإتيان بالواجبات أصلها ومنبتها ومنشأها من القلب، وعليه لا يمكن لإنسان أن يرى شجرة مخضرة ويقول ويدعي أنها لا تسقى، ولا يمكن لإنسان أن يرى شجرة ميتة ويقول: إنه يسقيها، هذا كلام فاسد لا يستقيم بالنظر وعند أهل الخبرة، بل عند أدنى أهل الخبرة والمعرفة في هذا الباب.
وكذلك في نصوص الشرع بالنسبة للقلب والجوارح، وهو ظاهر بين؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، وهذا الفساد الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام متعلق بسائر أنواع الذنوب من أعلاها وهو الإشراك بالله، ثم ما يليه من البدع، ثم الكبائر والصغائر، متعلق بتقصير القلب وإقباله، وكلما كان قلبه معرضاً عن الله أقبل على المحرمات، وكلما كان مقبلاً على الله عز وجل أقبل على الطاعات وأعرض عن المحرمات؛ وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يستقيم إيمان المسلم حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلب المسلم حتى تستقيم جوارحه ) فثمة تلازم.
ولا يتحقق الإيمان في قلب الإنسان على الدوام إلا بسلامة الشيئين: سلامة القلب، وسلامة الجوارح، وهو الاستقامة؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام مسلم من حديث الثقفي قال: ( قل: آمنت بالله فاستقم ) أي: استقم على هذا الأمر.
والقلوب جاء ذكرها في كلام الله في مواضع كثيرة ذكر أقسامها وما يؤثر فيها، أقسامها في باب الخير، وأقسامها في باب الشر، وما يحيي هذه القلوب وما يميتها كل ذلك مذكور في كلام الله سبحانه وتعالى بين لمن تأمله.
وقد يذكر الله عز وجل القلب باسمه، وقد يذكره بغير اسمه كالفؤاد، كما قال الله عز وجل: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].
والله عز وجل لا ينظر إلى الصور ولا ينظر إلى الأعمال، وإنما ينظر إلى القلوب؛ لأن المنافق يعمل ويخالفه المخلص، فيتشابه في الظاهر مع المؤمن، ويختلف مع المخلص في الباطن، وقد لا يعمل لعجز وعدم قدرة فيتوافق مع المؤمن العاجز؛ والإنسان يأخذ بالظواهر؛ ولهذا كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار لتلبس أمرهم، وشدة مكرهم لحال الأمة، فكانوا في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم استحقوا ما يستحقه أهل الإيمان من حظوة ونصرة في الدنيا، فكانوا أشد من الكفار الذين قد نصب لهم العداء في الدنيا فكانوا دونهم يوم القيامة، كما قال الله عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] .
والقلوب ذكر العلماء أنها على أربعة أقسام:
الأول: قلب لا يحب إلا الله، وتفرد بحبه ولا يلتفت إلا إلى ما أحب الله، ويبغض ما يبغضه الله، ولا يتعلق بشيء غيره، فهذا قلب نادر الوجود، ويعز وجوده جداً، وهي قلوب الأنبياء والصديقين وكبار الأولياء الذين لا تعلق لهم إلا بالله سبحانه وتعالى، فتجردت قلوبهم محبة لله، فأحبهم الله عز وجل، فرضي عنهم ورضوا عنهم، وهؤلاء هم أهل الإيمان والكمال الخلص.
الثاني: القلوب التي لا تحب الله وأقبلت، وشغلت قلبها وشغلت نفسها بحب غيره، فأشربت حب غير الله من لذائذ الدنيا ومتاعها، وهذا كثير في الأرض من المنافقين الخلص، والكفرة الخلص.
الثالث: الذين أحبوا الله عز وجل، وغلبت عليهم محبة الله مع انصراف شيء يسير إلى الدنيا وملذاتها، وهذا يوجد في كل القرون، وهم أهل الإيمان، لكنهم ليسوا أهل الكمال المطلق.
الرابع: الذين أسرفوا بالانصراف والإقبال إليها، وفي قلبهم شيء من محبة الله أو أصل المحبة، فكانوا أضعف الناس إيماناً، وهؤلاء منهم الذين يدخلون النار من أهل الإيمان، ومن أقلهم درجة آخر المؤمنين خروجاً من النار الذين في قلوبهم أصل الإيمان وهو أصل المحبة.
ينبغي للإنسان أن يتبصر بأعظم أعمال القلوب، وأعظم أعمال القلوب هو المحبة فالرجاء فالخوف فالتوكل، وهذه أعظم أعمال القلوب على الإطلاق، وأعظمها وأحبها إلى الله عز وجل هو المحبة؛ وذلك أن المحبة هي أصل كل أعمال القلوب وكل أعمال الجوارح، ولا يمكن أن يعمل الإنسان عملاً لأحد وهو لا يحبه حتى وإن عمل في الظاهر فيكون قد نافق في باطنه، فكان كطريقة الأبالسة وأعوان الشياطين من المنافقين الخلص والعياذ بالله.
أما من جهة عمل القلب في باب الحلال والحرام فإن أعمال القلب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: عمل سيئة بنفسه، وحسنة بنفسه، وإن لم يتلبس بعمل، فقد يعمل القلب عملاً ويثاب عليه بنفسه من غير لحوق أو طلب عمل، وهذا كسائر أعمال القلب من المحبة والرجاء والتصديق والإنابة والخوف وغير ذلك من أعمال القلوب، فهذه يثاب الإنسان على وجودها في قلبه، وإن كانت في الأصل تستلزم عملاً، لكنها من جهة الثواب يثاب عليها الإنسان على استقرارها ووجودها، ولا يلزم منها عمل من جهة تحقق الثواب، ويلزم من العمل وجود الإيمان واستقراره، لكنه يثاب على أصل وجود هذا العمل.
الثاني: عمل سيئة وحسنة لكنه باعتبار العمل، فإن كان الإنسان عاجزاً عن العمل فإنه يأثم بالسيئة، ويثاب بالحسنة، كمن رغب أن يعمل عملاً كالنفقة، هذا في باب الحسنات، لكنه عاجز عن الإنفاق، فهذا يثاب على عمله، وكالذي يرغب بعمل السيئة بشرب خمر وزنا وغير ذلك من فسوق، لكنه منعه مانع خوف من أحد، أو من رقيب وغير ذلك، فهذا يلحقه الإثم؛ لأنه ما ترك العمل لأجل الله، فهذا من عمل العمل السيئ الذي يعاقب عليه الإنسان.
الثالث: العمل الذي لا بد أن يتحقق معه عمل الجوارح؛ لكي يثاب عليه الإنسان ولكي يعاقب عليه، أما من جهة العقاب فهي الوساوس والخواطر التي عفا الله عز وجل عن وجودها في قلب الإنسان، فالإنسان معفو عنه في وجودها كالذي يفكر فيمن خلق رب العالمين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الشيطان لا يزال بأحدكم، فيقول: من خلق كذا وكذا، حتى يقول: من خلق الله )، فهذا مما لا يأثم به الإنسان؛ لأنه وساوس لم يعمل بها الإنسان ولم ينسق إليها، كذلك في باب الخير، تلك الخواطر التي يرغب الإنسان في تحققها مع إمكان العمل ولم يعمل، فهذه لا يثاب الإنسان عليها حتى يوجد العمل، كالذي يود أن يصلي وأن يصوم وأن يتصدق، وقد سلم الله عز وجل له جسده، ورزقه المال، لكنه لم يصل ولم يصم ولم ينفق، فهذا لا يثاب وهو المحروم من الأجر.
ومن جهة نتائج العمل على القلب جاء تقسيمها في كلام الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أقسام، أي: بعد ورود العمل من الخير والشر:
القسم الأول: قلوب مريضة. القسم الثاني: قلوب موجفة إلى الله. القسم الثالث: قلوب قاسية.
القسم الأول: قلوب مريضة، وهي التي قد تمكن منها الشيطان بالشبهة، ويكون منها الكفار الخلص، ويكون كذلك منها المنافقون، وكذلك من في قلبه مرض من أهل الإيمان ممن قد وقع فيه الشبهات.
وهذه التقسيمات إنما كانت ثمرة لذلك العمل الذي قد عمله الإنسان أو أسرف في جنب الله به، فكان قلبه على هذه الحال.
والقلب المتقرب إلى الله، قريب منه، موجف له سبحانه وتعالى، فهذا قلب أهل العلم العالمين العارفين بكلام الله، وهم أكثر الناس خشية كما قال الله عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
وذلك أن الإنسان كلما تبصر بالشرع وعرف الأحكام عرف الحكم، وأن الله عز وجل أراد به خيراً فاطمأن قلبه وسكن كما قال الله سبحانه وتعالى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:53-54].
القلوب المخبتة والموجفة إلى الله هي العالمة بالله، والقلوب المريضة هي التي تعلقت بالشبهات، والقلوب القاسية هي التي كالحجارة هي قلوب المنافقين، أو التي قد أكثرت من الوقوع في المحرم حتى أصبحت قاسية.
الابتلاء الذي يرد على القلب على أنواع:
النوع الأول: الشبهات، وهي الفتن والمحن التي تحل بالأمة، وكذلك المصائب والرزايا التي تنزل بالإنسان من ابتلاء واختبار وامتحان؛ لينظر الله عز وجل حال الإنسان، فيصيب الله عز وجل الإنسان بالحرمان: حرمان المال، وحرمان الجاه، وكذلك حرمان النسب وغير ذلك، فينظر الله عز وجل حاله، فربما كان من أشد أهل الأرض قسوة بهذا البلاء الذي يعرض له بشدة الفقر والصائب والهموم والأمراض، وفقد الأهل والأولاد وغير ذلك، فإن كان كذلك واستجاب ولم يصبر كان من القاسية قلوبهم، وإن صبر وشكر ورضي كان من القلوب الراضية، القلوب الخاشعة، وهذا لا يكون في الغالب إلا لأهل العلم والموفقين.
وأما من جعل لهذه المصائب وهذه الشبهات منفذاً ومدخلاً إلى قلبه فقد يتشربها القلب حتى يصبح قاسياً؛ لهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الإمام مسلم من حديث ربعي عن حذيفة قال: ( تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً، فأيما قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب لم يشربها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أبيض، وقلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً ). والمراد بذلك هو قلب المنافق.
وهذه الفتنة التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام: ( تعرض الفتن على القلوب ) الفتن كما تقدم هي المصائب والشبهات التي ترد على الإنسان إما في دينه، وإما ما يبتليه الله عز وجل من مرض ووصب، فينظر الله عز وجل مقامه في أعلى مقام العبودية من جهة الصبر والرضا على أقدار الله، فإن صبر ثبته الله عز وجل على دينه، يقول حذيفة عن النبي عليه الصلاة والسلام في قلب المنافق: ( يكون أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً )؛ وهذا هو الختم على القلب.
أما بالنسبة للمؤمن فقال: ( فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ) وهذا هو الختم عليه من جهة التوفيق والسلامة، وهذا لا يكون إلا لمن اشتد به البلاء، ولا يمكن أن يمكن الإنسان في دينه إلا بعد ابتلاء؛ ولهذا قيل للشافعي: هل خير للإنسان أن يبتلى فيمكَّن، أو يمكَّن ثم يبتلى؟ فقال الشافعي عليه رحمة الله: لا يمكَّن الإنسان حتى يبتلى. والمراد بالتمكين هو التمكين من جهة قوة الإيمان حتى يرد على هذا القلب من الفتن والشبهات والمصائب والكوارث التي تلحق الإنسان ثم يصبر، ثم يختم الله عز وجل عليه أنه لا يضره شيء؛ لهذا روى ابن أبي عمر في المسند من حديث سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب عن ابن أبي ليلى قال: أخبرني رجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( تختلف فيكم ملائكة الليل وملائكة النهار، فيصلون ويلتقون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فتصعد ملائكة الليل بعد صلاة الفجر، وتنزل بعد صلاة العصر، وأما ملائكة النهار فتنزل بعد صلاة الفجر فتصلي معكم، وتصعد بعد صلاة العصر، فيقول الله عز وجل للملائكة: ماذا وجدتم عبادي؟ فيقولون: وجدناهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، فتقول الملائكة: إن فيهم عبدك فلاناً نزل به بلاء، فوجدناه صابراً شاكراً، فيقول الله سبحانه وتعالى -وهو أعلم-: زيدوه في البلاء، فيزيدونه في البلاء، فيقول الله عز وجل: ماذا صنع عبدي؟ فيقولون: زدنا، فيقول الله عز وجل: زيدوه في البلاء، فيزيدونه في البلاء، فيقول: كيف وجدتم عبدي؟ قالوا: وجدناه صابراً شاكراً، فيقول: زيدوا عبدي في البلاء، فيزيدونه في البلاء، فيقول الله سبحانه وتعالى: زيدوه، فيقول الملائكة والله عز وجل أعلم بذلك: زدناه حتى نفدت زيادة البلاء، قال: كيف وجدتم عبدي؟ قالوا: وجدناه أصبر عبد وأشكره في السراء والضراء، قال: فأشهدكم أني أبقيته على ما هو عليه لا يضره شيء حتى يلقاني ) قد رواه ابن أبي عمر بإسناد جيد في مسنده.
وهذا البلاء وهذا التمكين للإنسان بقوة الإيمان لا يمكن أن يتحقق للإنسان إلا بعد شدة البلاء الذي يأتيه، يميز الله عز وجل القلب الصابر من غيره، فالمؤمن لا يكون إلا عالماً بقدر الله أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فلا يطمع فيما عند الناس، فيقول: إنه لي، ولا يقول: إن ما لديه يغويه، فيعرض عن منهج الله سبحانه وتعالى، فيكون صابراً في الحالين حينئذ يبقيه الله جل وعلا على الإيمان، فيختم الله سبحانه وتعالى له على البقاء.
وأما صاحب القلب القاسي، وهو القسم الثاني من أقسام القلوب فهذا الذي قد استجاب للذنوب والمعاصي واسترسل فيها، فكانت قسوة القلب كقسوة الجوارح، كقسوة اليد التي لا يستطيع أن ينتفع بها الإنسان، لا يستطيع أن ينتفع بها الإنسان في طعام، فتوصل الطعام إلى فيه، ولا يستطيع أن ينتفع منها الإنسان ببطش، ولا بزينة، وغير ذلك، كذلك القلب لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فيكون قاسياً كالحجارة؛ لأنه قد استجاب لهذه الذنوب وهذه الفتن، فختم عليه، فيقع الإنسان في المعصية، ثم يقع فيها أخرى، ثم يقع في المعصية مرة أخرى حتى يشرب قلبه تلك المعصية مع إقراره أن هذه معصية، لكنه لا يستطيع أن يتجاوزها، فيشترك مع غيره من أهل الإيمان بالإقرار بهذه المعصية أنها معصية، ويختلف عن غيره بأنه لا يستطيع تركها؛ بسبب أنه قد ابتدأ وما ارتدع، ثم سوف على نفسه حتى كان قلبه قاسياً؛ لهذا يجب على المؤمن أن يعلم ما يلين قلبه ويعيده إلى الله ويقربه إليه، وهذه مذكورة في كلام الله سبحانه وتعالى.
هنا يستحسن بنا أن نذكر ما يقسي قلب الإنسان، ويجعله قاسياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فلا يدنو من الخير، وإن كان يقر بأنه خير، ولا يدع المنكر مع إقراره بأنه منكر.
السبب الأول: التعرض للشبهات
أول هذه الأمور التي تقسي القلب هي: التعرض للشبهات، وهذه الشبهات كثيرة جداً من التشكيك في الدين، والمبالغة بالنظر إلى تعليلات الأحكام الشرعية، وأن الله سبحانه وتعالى أمر بكذا فما العلة والحكمة من ذلك؟ وكأنه يحاسب الله على تشريعه، إن وافقت حكمة الله ما في قلبه انقاد، وإلا انقاد وفي قلبه قلة تسليم؛ ولهذا جعل الله عز وجل المسلمين له هم المؤمنين الخلص كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] هذا هي طريقة أهل الإيمان، والكمال الخلص الذين ينقادون باتباع تام من غير تشكيك ونظر إلى العلل، وهذا لا يعني أنه لا يجوز للإنسان أن ينظر في العلل والأحكام، بل ينظر ما نص فيها، وينظر كذلك ما استنبط من أحكام الشرع من تحليل أو تحريم، سواء كان في باب الأمر أو باب النهي على العموم من باب المحرمات والمكروهات، أو الواجبات والمندوبات، لكنه لا يعلق قلبه بذلك، ولا يجعل ذلك مناط تصديق وغير ذلك، فإنه إن جعله مناط تصديق واطمئنان وجد في قلبه من الشبهات ما وجد؛ لهذا امتدح الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة الذين يسلمون لأمره؛ لهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوتون في هذا الباب، فكان أعلاهم مرتبة الصديقون كـأبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، وإنما فاق من فاق؛ لأنه قد انقاد وأعطى التسليم المطلق للنبي عليه الصلاة والسلام، فصدقه بالمعجزات، وخوارق العادات، فكان أفضل الخلق بعد أنبياء الله سبحانه وتعالى.
والشبهات إن استرسل فيها الإنسان كان من أهل القلوب المريضة ومن أهل الزيغ، وهذا من علامات أهل الزيغ كما تقدم بيانه، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] يعني: ما تشابه من أحكام الشرع، وعليه إذا أراد الإنسان أن يعلم حال قلبه في باب الشبهات فلينظر إلى اقتناصه الرخص من أحكام الله وأحكام النبي عليه الصلاة والسلام، فإن وجد قلبه يتعلق بها -مع تركه الواضحات البينات- فليعلم أنه من أهل الشبهات، وليكن حذراً من هذا فربما طمس على قلبه؛ والعياذ بالله.
السبب الثاني: الذنوب والمعاصي
السبب الثاني مما يقسي القلوب: الذنوب والمعاصي، والإسراف فيها، كلما أسرف الإنسان بالذنوب ابتعد عن عمل الخير، وحرم الإقبال إلى الله عز وجل، والإكثار من الطاعات.
السبب الثالث: التقليل من عبادة السر
السبب الثالث: التقليل من عبادة السر، وهذا من أعظم ما يقسي القلب؛ ولهذا كلما قل عمل الإنسان في السر بعد عن الله، وكلما كثرت عبادة السر عنده مما لا يطلع عليه أحد كان من المقربين من الله، وإذا أراد الإنسان أن يعرف مقامه عند رب العالمين فلينظر إلى العبادة التي لا يعلمها أحد من خلقه إلا هو ورب العالمين، فإن لم يكن ليس لديه نصيب من عبادة السر فليعلم أنه إلى النفاق أقرب، وإن عدم عبادة السر فليعلم أنه من المنافقين الخلص، وإن كان لديه شيء وافر من عبادة السر فليعلم أنه من أهل الإيمان، وربما كان من أهل الكمال؛ لأن عبادة السر لا يمكن أن تتحقق في شخص في قلبه نفاق، وهذا معلوم مشاهد؛ لهذا قد امتدح الله سبحانه وتعالى الذين يؤدون العبادة خفية عن عيون الناس، وقال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما-: ( سبعة يظلهم الله في ظلة يوم لا ظل إلا ظله ) ، وذكر منهم عليه الصلاة والسلام ( رجل قد أنفق بيمينه نفقة لا تعلم بها شماله )، وذكر النبي عليه الصلاة والسلام منهم ( رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) قوله: (خالياً) يعني: أنه ليس معه ومع الله عز وجل أحد، ومن أعظم العبادة: البكاء من خشية الله الذي لا يمكن أن يوجد لدى إنسان في السر، فيبكي من خشية الله، فتسمه النار أبداً؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( عينان لا تمسهما النار يوم القيامة: عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله ) والمراد بذلك من خشية الله لا من خشية غيره، ولا رياء في غيره، ولا حباً في سمعة غيره، وكلما كان الإنسان متحققاً بهذا كان من أهل الإيمان الخالص.
ومن أراد أن ينظر إلى مقامه في العبودية لينظر إلى عبادة السر بجميع أنواعها من صلاة وصيام وصدقة وصلة رحم وغير ذلك، فإن كان له نصيب وافر فليعلم أنه من أهل الإيمان الصادق، وإن كان نظر إلى أعماله ولا يوجد عمل السر إلا وقد أطلع عليه الناس، أو عمله علانية فليعلم أنه إلى النفاق أقرب، بل إنه لو قيل: إنه لا يعلم مؤمن ليس لديه عمل سر لما كان ذلك بعيداً؛ لأنه لا يمكن أن يكون في قلب الإنسان شيء من الخشية ثم لا يعمل عملاً لا يراقب فيه إلا الله، وهذا معلوم مشاهد.
السبب الرابع: البعد عن العلم الشرعي
السبب الرابع مما يقسي القلوب: البعد عن العلم الشرعي وعن أسبابه؛ لهذا جعل الله سبحانه وتعالى العلماء هم أصحاب القلوب الخاشعة الخائفة، ويلزم من ذلك أنه بنقص العلم لدى الإنسان تنقص الخشية والخوف من الله، وبذلك تتحقق القسوة في قلب الإنسان؛ لهذا كانت الثمرة في العلم الخيرية كما قال عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) ومن لم يرد به خيراً معنى ذلك لا يفقهه في الدين؛ لهذا قال الله عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]؛ لهذا فضل الله سبحانه وتعالى العلماء على غيرهم، فكان الصادق منهم مع النبيين والصديقين والشهداء.
السبب الخامس: مخالطة أصحاب القلوب القاسية
السبب الخامس: مخالطة أصحاب القلوب القاسية، وإن كان الإنسان من أهل العلم.
فكثرة المخالطة لشيء تنقل من أخلاقه وصفاته شيئاً كثيراً إلى مخالطه؛ فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( الغلظة والقسوة في الفدادين أهل الوبر عند أصول أذناب الإبل من ربيعة ومضر ) وقسوة القلوب يلزم منها الإعراض عن الطاعة، والتعليل في مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( غلظ القلوب والقسوة في الفدادين أهل الوبر ) وهم أهل الإبل، فهل المراد هذه المخلوقات بذاتها أم أن الأصل أن من اعتنى بها أعرض عن مواضع العبادة ولها، ولا يمكن أن يتحقق لديه تلك الأسباب من علم ومخالطة أهل الصلاح ونحو ذلك؟ يقال: إنه قد يجتمع هذا في الطاعة أي: تركها بانشغال الإنسان، وعليه يشترك مع هذا غير الإبل كالانشغال بالدنيا ونحو ذلك، وإن لم يكن الإنسان من أهل الإبل كالمبالغة في التجارة والانصراف فيها والإقبال إلى الدنيا يشترك مع غيره، وقد يكون تخصيص النبي عليه الصلاة والسلام بالإبل لأنها كانت هي تجارة العرب في الغالب حينئذ.
أول هذه الأمور التي تقسي القلب هي: التعرض للشبهات، وهذه الشبهات كثيرة جداً من التشكيك في الدين، والمبالغة بالنظر إلى تعليلات الأحكام الشرعية، وأن الله سبحانه وتعالى أمر بكذا فما العلة والحكمة من ذلك؟ وكأنه يحاسب الله على تشريعه، إن وافقت حكمة الله ما في قلبه انقاد، وإلا انقاد وفي قلبه قلة تسليم؛ ولهذا جعل الله عز وجل المسلمين له هم المؤمنين الخلص كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] هذا هي طريقة أهل الإيمان، والكمال الخلص الذين ينقادون باتباع تام من غير تشكيك ونظر إلى العلل، وهذا لا يعني أنه لا يجوز للإنسان أن ينظر في العلل والأحكام، بل ينظر ما نص فيها، وينظر كذلك ما استنبط من أحكام الشرع من تحليل أو تحريم، سواء كان في باب الأمر أو باب النهي على العموم من باب المحرمات والمكروهات، أو الواجبات والمندوبات، لكنه لا يعلق قلبه بذلك، ولا يجعل ذلك مناط تصديق وغير ذلك، فإنه إن جعله مناط تصديق واطمئنان وجد في قلبه من الشبهات ما وجد؛ لهذا امتدح الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة الذين يسلمون لأمره؛ لهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوتون في هذا الباب، فكان أعلاهم مرتبة الصديقون كـأبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، وإنما فاق من فاق؛ لأنه قد انقاد وأعطى التسليم المطلق للنبي عليه الصلاة والسلام، فصدقه بالمعجزات، وخوارق العادات، فكان أفضل الخلق بعد أنبياء الله سبحانه وتعالى.
والشبهات إن استرسل فيها الإنسان كان من أهل القلوب المريضة ومن أهل الزيغ، وهذا من علامات أهل الزيغ كما تقدم بيانه، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] يعني: ما تشابه من أحكام الشرع، وعليه إذا أراد الإنسان أن يعلم حال قلبه في باب الشبهات فلينظر إلى اقتناصه الرخص من أحكام الله وأحكام النبي عليه الصلاة والسلام، فإن وجد قلبه يتعلق بها -مع تركه الواضحات البينات- فليعلم أنه من أهل الشبهات، وليكن حذراً من هذا فربما طمس على قلبه؛ والعياذ بالله.
السبب الثاني مما يقسي القلوب: الذنوب والمعاصي، والإسراف فيها، كلما أسرف الإنسان بالذنوب ابتعد عن عمل الخير، وحرم الإقبال إلى الله عز وجل، والإكثار من الطاعات.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] | 2709 استماع |
إنما يخشى الله من عباده العلماء | 2473 استماع |
إن خير من استأجرت القوي الأمين | 2314 استماع |
العالِم والعالَم | 2307 استماع |
الذريعة بين السد والفتح [1] | 2296 استماع |
الإسلام وأهل الكتاب | 2129 استماع |
الذريعة بين السد والفتح [2] | 2101 استماع |
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] | 2100 استماع |
الردة .. مسائل وأحكام | 2075 استماع |
الرقية الشرعية أحكام وآثار | 2028 استماع |