العالِم والعالَم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله جل وعلا قد جعل الخلق على مراتب، وجعل لهم درجات معلومة؛ وذلك لأن ميزة الإنسان بقدر ما يتحقق فيه من فضل، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى الناس يتمايزون بقدر العلم والعمل، فمن تحصل لديه شيء من العلم ووافقه شيء من العمل بما علم، فإن هذا له مرتبة بقدر ما تحصل له من النوعين، وفضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء في هذين البابين أي: باب العلم وباب العمل، والموفق من أراد الله جل وعلا به خيراً فوفقه للعلم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث معاوية: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي )، والمراد من ذلك أن الله جل وعلا يهب العباد من العلم ويعطيهم من فضله سبحانه وتعالى بقدر الخيرية التي يسوقها الله جل وعلا لهؤلاء العباد من الخلق.

إن مزية العلماء ومقامهم في الأرض يكون بقدر علمهم من وحي الله سبحانه وتعالى كتاباً وسنة، وهم يتفاضلون بحسب مقامهم في أوساط الناس، فربما يتحصل للإنسان من العلم والإدراك ما لا يتحصل لغيره في زمن يتوافر فيه العلماء، فيكون فضله يختلف عمن دونه ممن تحصل لديه دون ذلك من العلم، ولكنه في زمن قلة أهل العلم والمعرفة، وانتشار الجهالات في الناس، والناس حينئذٍ يفتقرون ويحتاجون إلى شيء قليل من العلم يستضيئون به من ظلمات الجهل.

ومن نظر في فضل العلم يعلم أن ما جاء في نصوص الكتاب والسنة من بيان فضله ومقداره على وجه العموم كافٍ في السعي إلى تحققه في الإنسان، ويكفي في ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه أن يسأله زيادة في العلم، والله جل وعلا لم يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يسأله زيادة في شيء من أمر الدين والدنيا إلا العلم، فقد قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، والزيادة في هذا العلم هو علم الآخرة، علم الدين، ولهذا إذا أطلق العلم في كلام الله جل وعلا وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمراد به العلم بكلامه سبحانه وتعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة قال: عليه الصلاة والسلام: ( العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، من أخذه أخذ بحظٍ وافر )، المراد من ذلك: أن العلم الذي تركه الأنبياء هو الوحي، والوحي إذا أطلق يشمل الكتاب والسنة، وكذلك إذا أطلق الكتاب فإنه يشمل قول الله جل وعلا وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خلاف بين العلماء في ذلك، والعالم يتعلم العلم؛ لكي يقرب من الله جل وعلا لا ليتحقق له نصيب من الدنيا، ولهذا يقول الله جل وعلا مبيناً هذه الغاية في كتابه العظيم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وذلك أن العالم كلما تحصل لديه شيء من العلم قرب من الله بعمله ذلك، وكذلك ببلاغ ما لديه من العلم، فعظم أجره وثوابه عند الله سبحانه وتعالى بقدر ما تحقق فيه من علم، وبقدر ما بلغ غيره من ذلك العلم؛ فإن العاملين به يكثرون ويكون ذلك في ميزانه عند الله جل وعلا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة )، وهذا في حال تبليغ العلم، ولهذا كان العلماء عند الله جل وعلا على منزلة رفيعة يحشرون مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وذلك لأنهم يقترنون بهم من وجوه متعددة، من أعظم هذه الوجوه أن العلماء أقرب الناس شبهاً بالأنبياء لتحقق ذلك الأمان والوصف فيهم بخلاف غيرهم، وإن كان قد يوجد في بعض الناس من تحقق الأمان وتحقق الخشية في الله جل وعلا وإن كانوا على جهالة بتوفيق من الله سبحانه وتعالى لكنه نادر، ولهذا الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى لما انتقد عنده معروف قال عليه رحمة الله لما قيل له: إنه قليل الفقه، قال: وهل يراد من الفقه إلا ما وصل إليه معروف؟ يعني: أنه قد توصل إلى خشية الله جل وعلا والتعبد له بغير علم، وهذا ما يسعى إليه العلماء، ولكنه في الأغلب لا يتحقق للإنسان إلا على بينة وبصيرة.

حفظ الله للعلم وتيسيره للناس

والله جل وعلا قد يسر العلم للناس، وجعل علمه متضمناً في كتابه سبحانه وتعالى، ولهذا جعل الله جل وعلا الكتاب محفوظاً من أن تناله أيدي العابثين بالتحريف والتأويل، وكذلك أخذ الغايات النفسية والوصول إلى شيء من مطامع النفس أو مطامع الناس من متاع الدنيا الزائل، حماه الله جل وعلا من أن يطمس على سبيل العموم، فلا يتبصر الإنسان وحياً إلا بهذا الحق الدائم، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

الله جل وعلا نزل الذكر على نبيه عليه الصلاة والسلام وجعله محفوظاً، وحفظه من الله سبحانه وتعالى هو حفظ بنوعين: حفظ الحروف وحفظ المعاني، ولا يمكن أن ينال القرآن شيء من التحريف فينطمس ذلك على سائر أهل العلم، وإنما يبقى العلم في الناس ما بقي أهل العلم، ولهذا الله جل وعلا يقبض أهل العلم والمعرفة في آخر الزمان، ثم يقيم الله جل وعلا القيامة على الناس إذا بقي شرار الخلق، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعهم من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا )، وهذا يكون في آخر الزمان، ويكون كذلك في قبل آخر الزمان بحسب البلدان، فقد يضمحل العلم، وكذلك ربما يزول في بلد من البلدان حتى لا يبقى فيها شيء من أنواع الخير بزوال العلماء منه، ولكن الخيرية موجودة في الأرض، والناس مخاطبون بالارتحال والتنقل وطلب الحق، كما أن الله جل وعلا أمر خير الخلق بعد أنبياء الله جل وعلا وهم الصحابة أن يهاجروا من مكة إلى المدينة طلباً للخير ودوامه، وكذلك الأخذ من منبعه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

إن الكلام على العلم ومراتبه، والأدلة الواردة في ذلك في كلام الله جل وعلا مما يطول جداً، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان الغبطة لمن تحقق لديه شيء من العلم، وبلغه إلى الناس، وهذا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا حسد إلا في اثنتين )، وكذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الأمان في هذه الأرض أن ذلك يتحقق في الناس بحسب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذين يقربون من النبي عليه الصلاة والسلام قد يقربون منه زمناً، وقد يقربون منه اتباعاً وهدياً ومعرفة بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الأغلب في أحوال الناس أنهم إذا كانوا أقرب من النبي زمناً كانوا أقرب له عليه الصلاة والسلام اتباعاً، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري عليه رضوان الله تعالى، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الخبر المشهود: ( أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد ).

المراد بهذا الأمان هو القرب من النبي عليه الصلاة والسلام والاهتداء بهديه، وكذلك التسنن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفته على سبيل التحقيق كما يريد عليه الصلاة والسلام، وهذا يتحقق فيمن جمع بين الأمرين: قرب من النبي زمناً، وكذلك أيضاً قرب من الوحي الصادق بحسب ما يريده النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا أخبر عليه الصلاة والسلام أن الطائفة المنصورة والناجية في آخر الزمان هي من كان على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، يعني: مشابهة مما يدل على أنه لا يلزم من تأخر الإنسان زمناً تأخره كذلك في أبواب الفضل بالكلية عمن قرب من النبي عليه الصلاة والسلام زمناً وقرب من النبي عليه الصلاة والسلام هدى، وإنما هذا يكون بحسب القرب من الله جل وعلا، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعاً.

ولاية العالم

العالم له الولاية الكبرى، والطاعة ما استقام لأمر الله جل وعلا، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته، وقرن الله جل وعلا طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، أمر الله جل وعلا بطاعة أولي الأمر، وأولوا الأمر إذا انصرف بداهة ينصرف إلى أهل العلم والمعرفة، وإن كان قد ورد في كلام بعض المفسرين أنه ينصرف إلى السلاطين والأمراء، ولكن من نظر إلى المفسرين من الأئمة المتقدمين من السلف وغيرهم يجد أنهم يصرفون ذلك ابتداءً إلى أهل العلم والمعرفة بالله جل وعلا، كما جاء هذا عن غير واحد من المفسرين، جاء هذا عن عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر و عطاء بن أبي رباح ، وكذلك جاء عن الحسن البصري و سعيد بن جبير وغيرهم، وقد روى ابن المنذر في كتابه التفسير من حديث عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة أن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى تلى الآية السابقة، فقال: أولو الأمر هم أهل طاعة الله الذين يعلمون الناس الدين ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، فأمر الله جل وعلا بطاعته، وجاء هذا أيضاً عن مجاهد بن جبر، وهو إمام المفسرين من التابعين، كما رواه أيضاً ابن المنذر و ابن أبي حاتم من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه في هذا الموضع قال: هم فقهاء المسلمين وعلماؤهم، وذلك أن الله جل وعلا إنما أمر بالرجوع إلى حكمه، وحكمه لا يمكن أن يتحقق بالإنسان وهو جاهل بأمر الله سبحانه وتعالى، وقد روي هذا المعنى كما تقدم عن غير واحد من المفسرين، وذلك أن الطاعة من جهة الأصل لا يمكن أن تتحقق للإنسان إلا إذا كان ذلك على سبيل المعروف، ولا يمكن أن يتحقق للإنسان كثرة المعروف إلا بحسب قربه من الدليل من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما قرب من الوحي كلما كان أمره بالمعروف، وكلما بعد عن الوحي قل وصفه بالعلم، وكان أمره بخلاف المعروف، ولهذا جاء في الخبر: (إنما الطاعة بالمعروف) إنما يطاع الإنسان بحسب قربه من المعروف وأمره به، فإذا بعد عن ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولهذا فإن الطاعة التي أمر الله جل وعلا بها في أمثال هذه المواضع، إنما تنصرف إلى أهل العلم والمعرفة الذين أمرهم الله سبحانه وتعالى ببلاغ الدين عنه، وأمرهم جل وعلا بتحمل هذه الأمانة قولاً وعملاً، وعلى هذا فإن العالم أمانته عند الله جل وعلا عظيمة.

من تحمل هذه الأمانة فحجته عند الله سبحانه وتعالى خطيرة، وقامت عليه، فإن الله جل وعلا كما أنه يرفعه بالقرآن، كذلك فإن الله جل وعلا ربما يضعه بالقرآن إن بعد عن دين الله باعتبار أن الحجة قد قامت عليه، وإذا قام بأمر الله سبحانه وتعالى وبلغ الدين والهدى والخير للناس كان من أهل الحظوة عند الله جل وعلا والقرب، وحشر مع النبيين والصديقين والشهداء، وكفى بذلك منزلة، إذا تحقق هذا علم أن ولاية العالم لا يمكن أن تنزع ما دام عالماً مؤدياً أمر الله جل وعلا بنوعيه قولاً وعملاً، يجب مع ذلك أن يطاع عند أمره ما اهتدى بهدي الله، وابتعد عن الزيغ والضلال، وأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والله جل وعلا قد يسر العلم للناس، وجعل علمه متضمناً في كتابه سبحانه وتعالى، ولهذا جعل الله جل وعلا الكتاب محفوظاً من أن تناله أيدي العابثين بالتحريف والتأويل، وكذلك أخذ الغايات النفسية والوصول إلى شيء من مطامع النفس أو مطامع الناس من متاع الدنيا الزائل، حماه الله جل وعلا من أن يطمس على سبيل العموم، فلا يتبصر الإنسان وحياً إلا بهذا الحق الدائم، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

الله جل وعلا نزل الذكر على نبيه عليه الصلاة والسلام وجعله محفوظاً، وحفظه من الله سبحانه وتعالى هو حفظ بنوعين: حفظ الحروف وحفظ المعاني، ولا يمكن أن ينال القرآن شيء من التحريف فينطمس ذلك على سائر أهل العلم، وإنما يبقى العلم في الناس ما بقي أهل العلم، ولهذا الله جل وعلا يقبض أهل العلم والمعرفة في آخر الزمان، ثم يقيم الله جل وعلا القيامة على الناس إذا بقي شرار الخلق، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعهم من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا )، وهذا يكون في آخر الزمان، ويكون كذلك في قبل آخر الزمان بحسب البلدان، فقد يضمحل العلم، وكذلك ربما يزول في بلد من البلدان حتى لا يبقى فيها شيء من أنواع الخير بزوال العلماء منه، ولكن الخيرية موجودة في الأرض، والناس مخاطبون بالارتحال والتنقل وطلب الحق، كما أن الله جل وعلا أمر خير الخلق بعد أنبياء الله جل وعلا وهم الصحابة أن يهاجروا من مكة إلى المدينة طلباً للخير ودوامه، وكذلك الأخذ من منبعه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

إن الكلام على العلم ومراتبه، والأدلة الواردة في ذلك في كلام الله جل وعلا مما يطول جداً، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان الغبطة لمن تحقق لديه شيء من العلم، وبلغه إلى الناس، وهذا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا حسد إلا في اثنتين )، وكذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان الأمان في هذه الأرض أن ذلك يتحقق في الناس بحسب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذين يقربون من النبي عليه الصلاة والسلام قد يقربون منه زمناً، وقد يقربون منه اتباعاً وهدياً ومعرفة بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الأغلب في أحوال الناس أنهم إذا كانوا أقرب من النبي زمناً كانوا أقرب له عليه الصلاة والسلام اتباعاً، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري عليه رضوان الله تعالى، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الخبر المشهود: ( أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد ).

المراد بهذا الأمان هو القرب من النبي عليه الصلاة والسلام والاهتداء بهديه، وكذلك التسنن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفته على سبيل التحقيق كما يريد عليه الصلاة والسلام، وهذا يتحقق فيمن جمع بين الأمرين: قرب من النبي زمناً، وكذلك أيضاً قرب من الوحي الصادق بحسب ما يريده النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا أخبر عليه الصلاة والسلام أن الطائفة المنصورة والناجية في آخر الزمان هي من كان على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، يعني: مشابهة مما يدل على أنه لا يلزم من تأخر الإنسان زمناً تأخره كذلك في أبواب الفضل بالكلية عمن قرب من النبي عليه الصلاة والسلام زمناً وقرب من النبي عليه الصلاة والسلام هدى، وإنما هذا يكون بحسب القرب من الله جل وعلا، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعاً.

العالم له الولاية الكبرى، والطاعة ما استقام لأمر الله جل وعلا، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته، وقرن الله جل وعلا طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، أمر الله جل وعلا بطاعة أولي الأمر، وأولوا الأمر إذا انصرف بداهة ينصرف إلى أهل العلم والمعرفة، وإن كان قد ورد في كلام بعض المفسرين أنه ينصرف إلى السلاطين والأمراء، ولكن من نظر إلى المفسرين من الأئمة المتقدمين من السلف وغيرهم يجد أنهم يصرفون ذلك ابتداءً إلى أهل العلم والمعرفة بالله جل وعلا، كما جاء هذا عن غير واحد من المفسرين، جاء هذا عن عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر و عطاء بن أبي رباح ، وكذلك جاء عن الحسن البصري و سعيد بن جبير وغيرهم، وقد روى ابن المنذر في كتابه التفسير من حديث عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة أن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى تلى الآية السابقة، فقال: أولو الأمر هم أهل طاعة الله الذين يعلمون الناس الدين ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، فأمر الله جل وعلا بطاعته، وجاء هذا أيضاً عن مجاهد بن جبر، وهو إمام المفسرين من التابعين، كما رواه أيضاً ابن المنذر و ابن أبي حاتم من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه في هذا الموضع قال: هم فقهاء المسلمين وعلماؤهم، وذلك أن الله جل وعلا إنما أمر بالرجوع إلى حكمه، وحكمه لا يمكن أن يتحقق بالإنسان وهو جاهل بأمر الله سبحانه وتعالى، وقد روي هذا المعنى كما تقدم عن غير واحد من المفسرين، وذلك أن الطاعة من جهة الأصل لا يمكن أن تتحقق للإنسان إلا إذا كان ذلك على سبيل المعروف، ولا يمكن أن يتحقق للإنسان كثرة المعروف إلا بحسب قربه من الدليل من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما قرب من الوحي كلما كان أمره بالمعروف، وكلما بعد عن الوحي قل وصفه بالعلم، وكان أمره بخلاف المعروف، ولهذا جاء في الخبر: (إنما الطاعة بالمعروف) إنما يطاع الإنسان بحسب قربه من المعروف وأمره به، فإذا بعد عن ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولهذا فإن الطاعة التي أمر الله جل وعلا بها في أمثال هذه المواضع، إنما تنصرف إلى أهل العلم والمعرفة الذين أمرهم الله سبحانه وتعالى ببلاغ الدين عنه، وأمرهم جل وعلا بتحمل هذه الأمانة قولاً وعملاً، وعلى هذا فإن العالم أمانته عند الله جل وعلا عظيمة.

من تحمل هذه الأمانة فحجته عند الله سبحانه وتعالى خطيرة، وقامت عليه، فإن الله جل وعلا كما أنه يرفعه بالقرآن، كذلك فإن الله جل وعلا ربما يضعه بالقرآن إن بعد عن دين الله باعتبار أن الحجة قد قامت عليه، وإذا قام بأمر الله سبحانه وتعالى وبلغ الدين والهدى والخير للناس كان من أهل الحظوة عند الله جل وعلا والقرب، وحشر مع النبيين والصديقين والشهداء، وكفى بذلك منزلة، إذا تحقق هذا علم أن ولاية العالم لا يمكن أن تنزع ما دام عالماً مؤدياً أمر الله جل وعلا بنوعيه قولاً وعملاً، يجب مع ذلك أن يطاع عند أمره ما اهتدى بهدي الله، وابتعد عن الزيغ والضلال، وأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] 2705 استماع
إنما يخشى الله من عباده العلماء 2469 استماع
إن خير من استأجرت القوي الأمين 2312 استماع
الذريعة بين السد والفتح [1] 2294 استماع
الإسلام وأهل الكتاب 2126 استماع
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] 2098 استماع
الذريعة بين السد والفتح [2] 2097 استماع
الردة .. مسائل وأحكام 2071 استماع
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] 2039 استماع
الرقية الشرعية أحكام وآثار 2023 استماع