الذريعة بين السد والفتح [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك, وله الحمد, وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أولاً: لقد ذكر أخونا المقدم بعض التنبيهات على جملة من متعلقات هذه المحاضرات، وأنها محاضرات شهرية, وستكون على الأغلب في أول ثلاثاء من كل شهر بإذن الله تعالى.

ثانياً: بالنسبة لما ذكر فيما طبع على الإعلان من وصف المتحدث بأوصاف مبالغة, لا ينبغي لشخص يقدر العلم أن يدونها، وأشكر للمتحدث والطابع إحسان الظن، ولي مع ذلك العتب؛ صوناً للشريعة، وحفظاً للسنة، وتوقيراً للعلم، ووضعاً للأمور في ميزانها.

ثالثاً: لا أنسى الشكر للقائمين على اللجنة العلمية في المبادرة باختيار أمثال هذه العناوين، والحث عليها، وقد بقي أخونا الشيخ بلال ملازماً لفترة حول هذه المحاضرات، وأشكر له صبره، وأشكر له أيضاً إعانته للنفس؛ أن دفعني إليها, وأنا أرى في ذلك المصلحة الراجحة في المبادرة فيها، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.

ضرورة بيان شريعة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنها

باكورة هذه المحاضرات هي كما هو مدون في هذا الإعلان: (الذريعة بين السد والفتح), وهذه المسألة مسألة عريضة كثر الكلام حولها، سواءً بالنص أو بالمعنى، ومن نظر في أصول الشريعة وجد أن ذلك من دعائم التشريع الإلهي فيما أوحاه الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما أوحاه الله عز وجل على سائر أنبيائه، ولما كان كذلك جعل الله عز وجل شريعته تامة، فأنزل الله عز وجل على نبيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3], فحينما أتم الله عز وجل على الأمة النعمة, وأكمل لهم الدين؛ دل على أن ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله على أنه من الدين, ومن صلبه، فيجب إقامة هذا الحد، وبيان قدره وحقيقته والتدليل عليه، ومعلوم أن شريعة الله عز وجل إن لم يكن لها منافحون يبينون الحق, ويزيلون الباطل -الذي كثر في الناس في الأعصار المتأخرة مع انتشار القلم، ونطق الرويبضة في الناس- فإنه يحدث في الأمة انتشار الجهل.

توجيه انتشار القلم بين الناس في آخر الزمان مع قلة العلم

ومن تأمل النصوص التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في انتشار العلم في آخر الزمان, وقبض العلماء كذلك؛ يجد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد وصف آخر الزمان بوصفين: انتشار القلم, وقبض العلم، وذلك يشير أن ورود القلم عند كثير من حملته لا يدل على العلم، وأنه قد يدل على جهل الإنسان, وكثرة الفتنة في الناس، وأن ( الله عز وجل يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ), كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن عمرو وغيره.

وانتشار القلم في الناس له مفاسده، وله مصالحه، لكن مفاسده كثيرة، ومن مفاسده: لبس الحق بالباطل، وعدم تمييز الخير من الشر، وعدم اتضاح سبل الهداية؛ لأن مَن حمل القلم في غير علم الشريعة أخذ يجره على سطور الشريعة ومعالمها؛ حتى طمست الشريعة بكثير من سواد الأقلام ومدادها، فحرفت الشريعة عن مسارها, وقد أخبر غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعم في الناس العمل بالجاهلية, ومخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بزعم أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نكران الناس العمل بالسنة بعد ابتعادهم عنها

وينبغي قبل الولوج في الكلام عن موضوع هذه المحاضرة أن ينبه على أمر مهم، وقاعدة جليلة؛ وهي أنه قد جاء في النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغير واحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين: أن عمل الناس من جهة الأصل يتردد بين أن يكون من الأعمال الضعيفة والصحيحة، وبين أن يكون متردداً أيضاً بين القبول والمسامحة, والرفض والرد، والعمل المقبول هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما كان عليه أئمة الإسلام، وما كان عليه إجماع الأمة, فينبغي أن يصار إليه، فإذا كثر في الناس الجهل, وغاب الدليل -وخاصة مع تقادم الزمن, وانقراض القرون المفضلة، وتعصب كثير من الناس لآراء واستحسانات عقلية، وتمسكهم بقواعد يظنونها من الشريعة فيضربون بها كثيراً من النصوص- يظهر حينئذٍ الجهل في الناس، ويلحق كثير من الناظرين والقارئين لقواعد الإسلام وكلام العلماء المتقدمين بالاعتبار بالعمل وأخذه, وعدم مخالفة القائلين به؛ يحمل هذه الأقوال على أعمال كثير من المتأخرين التي تخالف السنة، ولهذا روى الدارمي من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه قال: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير والصغير، ويعمل بها بغير السنة، حتى إذا عمل بالسنة قال الناس: قد بدلت السنة. قالوا: كيف ذلك ومتى؟ فقال عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: إذا كثر قراؤكم, وقل فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقل الأمناء فيكم). وهذا يدل على أن انتشار القلم في الناس لا يعني التزام العلم، وأن كثرة الذين يقرءون الحروف لا يعني بذلك انتشار المعرفة الحقة، وتمييز الحق من الباطل، ولهذا من نظر في نصوص الشريعة التي أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: انتشار القلم, وقبض العلماء في أحاديث متفرقة، يظن الناظر أن في انتشار القلم انتشاراً لعلم الشريعة، وأن هذا معارض لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبض العلماء، بل أن فيه إشارة أصرح وأظهر أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أشار إلى القلم بخصوصه، ولم يعبر بذلك عن العلم دل على أن انتشار القلم معنى أعم من ذلك، وأنه يدخل فيه تلبيس الشريعة بغيرها، وكذلك القراء الذين يقرءون النصوص، ولكنهم لا يقيمون الحدود، فيضل بأفعالهم كثير من الناس، فيلتبس حينئذٍ الحق بالباطل، وخاصة في سرعة انتشار المكتوب والمقروء، وخاصة في زمننا هذا تكثر الأهواء، ويلتبس الحق بالباطل، ويشح حينئذٍ تمييز الحق من الباطل عند كثير من الناس، فيتبع كثير من الخلق أناساً يحسنون الظن بهم، وهم أبعد ما يكونون عن العلم بالشريعة وفقهها، وتمييز الحق من الباطل، وإقامة حدود الله عز وجل.

الهجوم على نصوص الشريعة الواضحة البينة

ونلحظ في الأزمنة المتأخرة هجوماً عريضاً على نصوص الشريعة الواضحة البينة, فضلاً عن المتشابهات عند كثير من الناس, وهي محكمات عند كثير من العلماء, ففي قول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين وغيرهما- من حديث النعمان بن بشير: ( إن الحلال بيّن, والحرام بيّن, وبينهما أمور مشتبهات ), قال غير واحد من العلماء: إن الشريعة لا يوجد فيها مشتبهات على الإطلاق، وإنما يوجد فيها مشتبهات عند أكثر الناس، وهي من المحكمات البينات عند أهل العلم، وقد يتحقق عند بعض العلماء من أحكام الشريعة من البينات ما لا يتحقق عند غيرهم، فشريعة الله عز وجل من جهة الإجمال بينة ظاهرة، ولكنها قد تكون عند بعضهم من المشتبهات، ولهذا لما طعن في أصول الشريعة الظاهرة البينة المحكمة عند عامة المسلمين, وما استقر عليه الإجماع من المتقدمين والمتأخرين؛ دل على أن التلبيس والتدليس فيما كان دون ذلك من باب أولى، وهذا ما ينبغي أن يحترز منه.

الشريعة الإسلامية ابتداءً من الوحيين الكتاب والسنة، وانتهاءً بآراء أئمة الإسلام، وقبل ذلك إجماع الأمة من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم يواجه هجمة ليست باسم الإلحاد والزندقة؛ فإن ذلك بيّن، وإنما باسم إسلام جديد؛ لأن الهجوم على الإسلام صراحة باسم الكفر غير مقبول، ولكن الهجوم على الإسلام بصياغة جديدة وإسلام جديد هو الذي يتغلغل على أفهام كثير من الناس، ويختلط معهم حينئذٍ الصواب مع الخطأ، فلا يكون حينئذٍ ثمة تمييز.

سعي الأعداء إلى جعل الخلاف الشاذ في مصاف الخلاف المعتبر

والمرحلة التي يخطط لها أعداء الله عز وجل في هذا الوقت هي انتزاع نصوص الخلاف في كلام العلماء, وضرب النصوص الشرعية التي جاءت بكلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا استنزفت مسائل الخلاف وجعلت الأقوال الشاذة في مصاف الخلاف المتحقق المقرر مما يقبل قوله، وهذا مشاهد في كثير من المسائل التي يعد فيها الخلاف هو من الخلاف النازل الذي لا يعتد به، فتصعد هذه الأقوال, وتظهر للناس؛ حتى يكون هذا من جملة الخلاف المعتبر بإظهاره للناس، ولكن العلماء الحق الذين يستضيئون ويستنيرون بكلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الحق من الباطل, حتى وإن كثر المنادون بالباطل في مصافة الحق.

ولهذا لا يغتر الناس بعمل المجتمعات, ولا يغتر العلماء وطلاب الدليل بما يؤطر عليه الناس من أقوال فقهية، ولهذا أخرج الخطيب البغدادي من حديث عبد الله الجعفري عن عبد الله بن الحسن وكان جليساً لـربيعة، وكان يتحدث معه في عمل الناس، فقالوا بمسألة فقال بها عبد الله بن الحسن، فقال رجل عنده: إن هذا ليس عليه عمل الناس، فقال عبد الله بن الحسن: أرأيت لو كان على الأمة حكام فأجبروا الناس على العمل بالجهل, هل يقال: إن هذا ليس عليه عمل الناس إذا أفتي بخلاف ذلك؟ فقال ربيعة: إن هذا لكلام أبناء الأنبياء. ومراده بذلك: ورثة الأنبياء، فإن ( الأنبياء ورثوا العلم, فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر )، وأولى من يرث الرجل هم أولاده من البنين والبنات.

ولهذا شريعة الله عز وجل لا تخضع لعمل الناس ولا لسوادهم، وهذا كما تقدم الإشارة إليه في كلام عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى في أناس عملوا بغير السنة، فإذا عمل بالسنة قيل: تركت السنة، وجعل ذلك في زمن يكثر فيه القراء، ويقل فيه الفقهاء، ويقل فيه الأمناء، ويكثر فيه الأمراء، وهذا مشاهد ملموس في الأعصار المتأخرة من تشتت دول الإسلام إلى دويلات متعددة، وكذلك كثرة المذاهب, وترأس كثير من الرويبضات الذين نطقوا بأحكام الله عز وجل، والنصوص الظاهرة البينة على أنها تحتمل احتمالات متعددة، وجردوا ذلك عن فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

هذه المقدمة يحتاج إليها في هذه المحاضرة، وما يأتي بعدها بإذن الله عز وجل من محاضرات قادمة.

باكورة هذه المحاضرات هي كما هو مدون في هذا الإعلان: (الذريعة بين السد والفتح), وهذه المسألة مسألة عريضة كثر الكلام حولها، سواءً بالنص أو بالمعنى، ومن نظر في أصول الشريعة وجد أن ذلك من دعائم التشريع الإلهي فيما أوحاه الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما أوحاه الله عز وجل على سائر أنبيائه، ولما كان كذلك جعل الله عز وجل شريعته تامة، فأنزل الله عز وجل على نبيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3], فحينما أتم الله عز وجل على الأمة النعمة, وأكمل لهم الدين؛ دل على أن ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله على أنه من الدين, ومن صلبه، فيجب إقامة هذا الحد، وبيان قدره وحقيقته والتدليل عليه، ومعلوم أن شريعة الله عز وجل إن لم يكن لها منافحون يبينون الحق, ويزيلون الباطل -الذي كثر في الناس في الأعصار المتأخرة مع انتشار القلم، ونطق الرويبضة في الناس- فإنه يحدث في الأمة انتشار الجهل.

ومن تأمل النصوص التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في انتشار العلم في آخر الزمان, وقبض العلماء كذلك؛ يجد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد وصف آخر الزمان بوصفين: انتشار القلم, وقبض العلم، وذلك يشير أن ورود القلم عند كثير من حملته لا يدل على العلم، وأنه قد يدل على جهل الإنسان, وكثرة الفتنة في الناس، وأن ( الله عز وجل يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ), كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن عمرو وغيره.

وانتشار القلم في الناس له مفاسده، وله مصالحه، لكن مفاسده كثيرة، ومن مفاسده: لبس الحق بالباطل، وعدم تمييز الخير من الشر، وعدم اتضاح سبل الهداية؛ لأن مَن حمل القلم في غير علم الشريعة أخذ يجره على سطور الشريعة ومعالمها؛ حتى طمست الشريعة بكثير من سواد الأقلام ومدادها، فحرفت الشريعة عن مسارها, وقد أخبر غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعم في الناس العمل بالجاهلية, ومخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بزعم أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وينبغي قبل الولوج في الكلام عن موضوع هذه المحاضرة أن ينبه على أمر مهم، وقاعدة جليلة؛ وهي أنه قد جاء في النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغير واحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين: أن عمل الناس من جهة الأصل يتردد بين أن يكون من الأعمال الضعيفة والصحيحة، وبين أن يكون متردداً أيضاً بين القبول والمسامحة, والرفض والرد، والعمل المقبول هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما كان عليه أئمة الإسلام، وما كان عليه إجماع الأمة, فينبغي أن يصار إليه، فإذا كثر في الناس الجهل, وغاب الدليل -وخاصة مع تقادم الزمن, وانقراض القرون المفضلة، وتعصب كثير من الناس لآراء واستحسانات عقلية، وتمسكهم بقواعد يظنونها من الشريعة فيضربون بها كثيراً من النصوص- يظهر حينئذٍ الجهل في الناس، ويلحق كثير من الناظرين والقارئين لقواعد الإسلام وكلام العلماء المتقدمين بالاعتبار بالعمل وأخذه, وعدم مخالفة القائلين به؛ يحمل هذه الأقوال على أعمال كثير من المتأخرين التي تخالف السنة، ولهذا روى الدارمي من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه قال: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير والصغير، ويعمل بها بغير السنة، حتى إذا عمل بالسنة قال الناس: قد بدلت السنة. قالوا: كيف ذلك ومتى؟ فقال عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: إذا كثر قراؤكم, وقل فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقل الأمناء فيكم). وهذا يدل على أن انتشار القلم في الناس لا يعني التزام العلم، وأن كثرة الذين يقرءون الحروف لا يعني بذلك انتشار المعرفة الحقة، وتمييز الحق من الباطل، ولهذا من نظر في نصوص الشريعة التي أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: انتشار القلم, وقبض العلماء في أحاديث متفرقة، يظن الناظر أن في انتشار القلم انتشاراً لعلم الشريعة، وأن هذا معارض لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبض العلماء، بل أن فيه إشارة أصرح وأظهر أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أشار إلى القلم بخصوصه، ولم يعبر بذلك عن العلم دل على أن انتشار القلم معنى أعم من ذلك، وأنه يدخل فيه تلبيس الشريعة بغيرها، وكذلك القراء الذين يقرءون النصوص، ولكنهم لا يقيمون الحدود، فيضل بأفعالهم كثير من الناس، فيلتبس حينئذٍ الحق بالباطل، وخاصة في سرعة انتشار المكتوب والمقروء، وخاصة في زمننا هذا تكثر الأهواء، ويلتبس الحق بالباطل، ويشح حينئذٍ تمييز الحق من الباطل عند كثير من الناس، فيتبع كثير من الخلق أناساً يحسنون الظن بهم، وهم أبعد ما يكونون عن العلم بالشريعة وفقهها، وتمييز الحق من الباطل، وإقامة حدود الله عز وجل.

ونلحظ في الأزمنة المتأخرة هجوماً عريضاً على نصوص الشريعة الواضحة البينة, فضلاً عن المتشابهات عند كثير من الناس, وهي محكمات عند كثير من العلماء, ففي قول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين وغيرهما- من حديث النعمان بن بشير: ( إن الحلال بيّن, والحرام بيّن, وبينهما أمور مشتبهات ), قال غير واحد من العلماء: إن الشريعة لا يوجد فيها مشتبهات على الإطلاق، وإنما يوجد فيها مشتبهات عند أكثر الناس، وهي من المحكمات البينات عند أهل العلم، وقد يتحقق عند بعض العلماء من أحكام الشريعة من البينات ما لا يتحقق عند غيرهم، فشريعة الله عز وجل من جهة الإجمال بينة ظاهرة، ولكنها قد تكون عند بعضهم من المشتبهات، ولهذا لما طعن في أصول الشريعة الظاهرة البينة المحكمة عند عامة المسلمين, وما استقر عليه الإجماع من المتقدمين والمتأخرين؛ دل على أن التلبيس والتدليس فيما كان دون ذلك من باب أولى، وهذا ما ينبغي أن يحترز منه.

الشريعة الإسلامية ابتداءً من الوحيين الكتاب والسنة، وانتهاءً بآراء أئمة الإسلام، وقبل ذلك إجماع الأمة من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم يواجه هجمة ليست باسم الإلحاد والزندقة؛ فإن ذلك بيّن، وإنما باسم إسلام جديد؛ لأن الهجوم على الإسلام صراحة باسم الكفر غير مقبول، ولكن الهجوم على الإسلام بصياغة جديدة وإسلام جديد هو الذي يتغلغل على أفهام كثير من الناس، ويختلط معهم حينئذٍ الصواب مع الخطأ، فلا يكون حينئذٍ ثمة تمييز.

والمرحلة التي يخطط لها أعداء الله عز وجل في هذا الوقت هي انتزاع نصوص الخلاف في كلام العلماء, وضرب النصوص الشرعية التي جاءت بكلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا استنزفت مسائل الخلاف وجعلت الأقوال الشاذة في مصاف الخلاف المتحقق المقرر مما يقبل قوله، وهذا مشاهد في كثير من المسائل التي يعد فيها الخلاف هو من الخلاف النازل الذي لا يعتد به، فتصعد هذه الأقوال, وتظهر للناس؛ حتى يكون هذا من جملة الخلاف المعتبر بإظهاره للناس، ولكن العلماء الحق الذين يستضيئون ويستنيرون بكلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الحق من الباطل, حتى وإن كثر المنادون بالباطل في مصافة الحق.

ولهذا لا يغتر الناس بعمل المجتمعات, ولا يغتر العلماء وطلاب الدليل بما يؤطر عليه الناس من أقوال فقهية، ولهذا أخرج الخطيب البغدادي من حديث عبد الله الجعفري عن عبد الله بن الحسن وكان جليساً لـربيعة، وكان يتحدث معه في عمل الناس، فقالوا بمسألة فقال بها عبد الله بن الحسن، فقال رجل عنده: إن هذا ليس عليه عمل الناس، فقال عبد الله بن الحسن: أرأيت لو كان على الأمة حكام فأجبروا الناس على العمل بالجهل, هل يقال: إن هذا ليس عليه عمل الناس إذا أفتي بخلاف ذلك؟ فقال ربيعة: إن هذا لكلام أبناء الأنبياء. ومراده بذلك: ورثة الأنبياء، فإن ( الأنبياء ورثوا العلم, فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر )، وأولى من يرث الرجل هم أولاده من البنين والبنات.

ولهذا شريعة الله عز وجل لا تخضع لعمل الناس ولا لسوادهم، وهذا كما تقدم الإشارة إليه في كلام عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى في أناس عملوا بغير السنة، فإذا عمل بالسنة قيل: تركت السنة، وجعل ذلك في زمن يكثر فيه القراء، ويقل فيه الفقهاء، ويقل فيه الأمناء، ويكثر فيه الأمراء، وهذا مشاهد ملموس في الأعصار المتأخرة من تشتت دول الإسلام إلى دويلات متعددة، وكذلك كثرة المذاهب, وترأس كثير من الرويبضات الذين نطقوا بأحكام الله عز وجل، والنصوص الظاهرة البينة على أنها تحتمل احتمالات متعددة، وجردوا ذلك عن فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

هذه المقدمة يحتاج إليها في هذه المحاضرة، وما يأتي بعدها بإذن الله عز وجل من محاضرات قادمة.

عنوان هذه المحاضرة كما هو معلوم: (الذريعة بين الفتح والسد).

تعريف الذريعة

الذريعة المراد بها: هي الوسيلة والطريق والسبيل الموصل إلى المقصود، ولهذا الإنسان قبل ذهابه أو قصده إلى الغايات لابد أن يلتمس لها طرقاً ووسائل، فهذه الطرق والوسائل هي الذرائع التي يتذرع الإنسان بها للوصول إلى غاياته.

وجه إكثار العلماء من إطلاق لفظ: سد الذرائع دون لفظ: فتح الذرائع

وقد جاءت الشريعة ببيان هذه الوسائل سواءً في باب السد أو في باب الفتح، والعلماء عليهم رحمة الله تعالى يكثرون من قولهم: سد الذرائع. ويغلبون هذا المعنى؛ باعتبار أن الشريعة جاءت بما يدل على هذا المعنى أكثر من أبواب فتح الذرائع؛ لأن فتح الذرائع متعلق بالغايات، فإذا كانت الغاية مباحة دلَّ ذلك على أن الذريعة إليها لا حاجة إلى النص بالوسيلة إليها، لكن إذا كانت الغاية من المحرمات كانت الذريعة إليها من جملة المشتبهات على الإنسان، فلذلك كثرة النصوص في بيان كثير من الوسائل الموصلة إلى كثير من المحرمات؛ لأن هذا من جملة المشتبهات على كثير من الناس، فإن من قصر نظره عن بيان كثير من ذوات الأحكام يلتبس عليه كثير من الوسائل والطرق والسبل الموصلة إلى كثير من الأعمال التي تفضي إلى كثير من المحرمات؛ لعدم البصيرة عند كثير من الناس التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يهتدي بها وأصحابه، كما في قول الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]. فالبصيرة هو أن يكون العامل والمفتي والمتعلم على بصيرة من السبل؛ كما يكون على بصيرة من الغايات، فإن الشريعة تعطي الوسائل أحكام الغايات، فإذا كانت الغايات من المباحات كانت الوسائل من المباحات من باب أولى, ما لم تكن تلك الوسيلة من المحرمات بذاتها؛ لضرر يطرأ عليها, سواءً مما يرجع إلى الإنسان بذاته أو يرجع إلى غيره، كما يأتي بيانه بإذن الله.

إذاً: تغليب العلماء عليهم رحمة الله في بيان سد الذريعة, والإكثار من هذا النص, وعدم الإشارة إلى الفتح؛ باعتبار أن قاعدة فتح الذرائع لا حاجة إليها؛ لأن الفتح متعلق بأصل الغاية، فإذا كانت مباحة فسائر الذرائع إليها مباحة, هذا على الأغلب، وإنما يعلِّقون السد باعتبار أن هذا متعلق بالغايات، فإذا كانت الغاية محرمة احتاج العلماء لبيان سد هذه الغايات الموصلة إلى محرم واحد، فكانت نصوص الشريعة تدل على الإكثار من سد الذرائع, وبيان خطرها.

عمل العلماء بقاعدة: سد الذرائع

ولهذا يشير العلماء عليهم رحمة الله تعالى في بيان الذرائع وأحوالها والتدليل عليها من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأئمة الإسلام وفقهاء الدين، فإن هذه القاعدة -وهي قاعدة سد الذرائع- معمول بها، والأدلة على ذلك ظاهرة في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, والخلفاء الراشدين الأربعة عليهم رضوان الله تعالى، وكذلك أئمة الإسلام ممن جاء بعدهم.

الإجماع على العمل بقاعدة: سد الذرائع

فهذه القاعدة من أصول الدين، وقد حكي الإجماع عليها، كما حكى ذلك غير واحد من العلماء؛ كالإمام الشاطبي والقرافي، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله, وابن القيم، وغيرهم من أئمة الإسلام، وجاءت عملاً بالنص عن غير واحد من أئمة الإسلام من الأئمة الأربعة؛ كـأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وكذلك إسحاق بن راهويه، وغيرهم من العلماء الذين يعملون بها، وإن كانوا لا ينصون بها بالنص.

ترك أهل الظاهر العمل بقاعدة: سد الذرائع

وهذه القاعدة يقلل من شأنها من لم يأخذ بما هو أعظم من هذا الأصل -كأصل المصالح المرسلة أو القياس وغير ذلك- من الأئمة كـابن حزم الأندلسي، وغيرهم من أهل الظاهر الذين يأخذون بظواهر الأدلة، ويلحقون بعض الوسائل بأصولها؛ باعتبار أنها موصلة ومفضية إليه، أو باعتبار الضرر المتحصل عليها بناءً على القياس الأولى، وهذا الكلام مما هو معلوم ومتقرر، والسبيل في الرجوع إليه متيسر، وليس بمتعذر لمن أراده.

إذاً: القاعدة عند العلماء معمول بها، والنصوص في كلام الله سبحانه وتعالى معلومة مشاهدة في كثير من الأحكام، كما يأتي بسطها بإذن الله، وقبل تقرير الأدلة وذكرها, وبيان كلام العلماء عليهم رحمة الله، وما نسب إلى بعض العلماء من عدم الاعتداد بهذه القاعدة، وكذلك ذكر شبهات الذين طعنوا بأمثال هذه الأصول في الشريعة، وكذلك الشبهات التي تنقدح عند كثير من المتعلمين بعدم الأخذ بهذه القاعدة، وعدم إعطائها حقها، سواءً بالتطبيق في باب السد أو في باب الفتح.

تعلق الشريعة بمعرفة المقاصد

أولاً: الشريعة متعلقة بمعرفة المقاصد، وهذه القاعدة هي فرع عن تلك القاعدة التي تقدم الكلام عليها، فما من شيء من قواعد الشريعة إلا وهو يفتقر إلى معرفة المقاصد، ومعرفة نصوص الأدلة، ولهذا يذكر بعض الأئمة عليهم رحمة الله -كالإمام الشاطبي عليه رحمة الله في الموافقات والاعتصام-: أن المجتهد لا يمكن أن يكون مجتهداً إلا إذا تحقق فيه وصفان:

الوصف الأول: أن يكون عارفاً بالأدلة والنصوص من كلام الله عز وجل, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أدلة الإسلام الأصلية من إجماع الصحابة، والقياس.

الوصف الثاني: أن يكون عالماً بمقاصد الشريعة, وما ترجوه وتطلبه من تحقيق تلك المقاصد، فإذا كان عالماً بهذين الأصلين كان متحقق الآلية في باب الاجتهاد، وإذا كان مقصراً في أبواب الأدلة عالماً بالمقاصد اضطرب ولم ينصف، فغلب جانب المصالح مع وجود نصوص الشريعة.

أقسام الذرائع الواردة في كلام الله وكلام رسوله

ولهذا العلماء عليهم رحمة الله يقسمون الذرائع التي جاءت في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدة أقسام: ذرائع منصوص عليها بأنها محرمة؛ وهي قطعية، وذرائع منصوص عليها على أنها ليست معتبرة، وذرائع مترددة بين القبول والرفض باعتبار المصالح التي تئول إليها، فإن كانت من المصالح الراجحة فإنه يؤخذ بها، وإذا كانت من المفاسد الراجحة فإنه لا يعتد بها، ويقال حينئذٍ بالقطع.

وجه سد بعض الناس العمل بقاعدة سد الذريعة

لما انتشر القلم في الناس، وكثر المتحدثون في كلام الله عز وجل بغير علم، وكثر القراء والكتبة الذين لا يعتنون بنصوص الشريعة من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، استهوى كثير من الناس الحمية للدين بسد الذريعة التي قد أذن الشارع بفتحها في بعض الأحوال، وحمل بعض الناس عدم الاعتبار بسد الذريعة هروباً من بعض المصطلحات التي يطلقها كثير من المتأخرين أو جملة من المنافقين؛ سواءً بالوصم بالتشدد أو الغلو ونحو ذلك، لكن كل ذلك ينبغي للعالم ألا يصرفه عن الأخذ بالأدلة من الكتاب والسنة، وإعمال القاعدة وفق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الذريعة المراد بها: هي الوسيلة والطريق والسبيل الموصل إلى المقصود، ولهذا الإنسان قبل ذهابه أو قصده إلى الغايات لابد أن يلتمس لها طرقاً ووسائل، فهذه الطرق والوسائل هي الذرائع التي يتذرع الإنسان بها للوصول إلى غاياته.

وقد جاءت الشريعة ببيان هذه الوسائل سواءً في باب السد أو في باب الفتح، والعلماء عليهم رحمة الله تعالى يكثرون من قولهم: سد الذرائع. ويغلبون هذا المعنى؛ باعتبار أن الشريعة جاءت بما يدل على هذا المعنى أكثر من أبواب فتح الذرائع؛ لأن فتح الذرائع متعلق بالغايات، فإذا كانت الغاية مباحة دلَّ ذلك على أن الذريعة إليها لا حاجة إلى النص بالوسيلة إليها، لكن إذا كانت الغاية من المحرمات كانت الذريعة إليها من جملة المشتبهات على الإنسان، فلذلك كثرة النصوص في بيان كثير من الوسائل الموصلة إلى كثير من المحرمات؛ لأن هذا من جملة المشتبهات على كثير من الناس، فإن من قصر نظره عن بيان كثير من ذوات الأحكام يلتبس عليه كثير من الوسائل والطرق والسبل الموصلة إلى كثير من الأعمال التي تفضي إلى كثير من المحرمات؛ لعدم البصيرة عند كثير من الناس التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يهتدي بها وأصحابه، كما في قول الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]. فالبصيرة هو أن يكون العامل والمفتي والمتعلم على بصيرة من السبل؛ كما يكون على بصيرة من الغايات، فإن الشريعة تعطي الوسائل أحكام الغايات، فإذا كانت الغايات من المباحات كانت الوسائل من المباحات من باب أولى, ما لم تكن تلك الوسيلة من المحرمات بذاتها؛ لضرر يطرأ عليها, سواءً مما يرجع إلى الإنسان بذاته أو يرجع إلى غيره، كما يأتي بيانه بإذن الله.

إذاً: تغليب العلماء عليهم رحمة الله في بيان سد الذريعة, والإكثار من هذا النص, وعدم الإشارة إلى الفتح؛ باعتبار أن قاعدة فتح الذرائع لا حاجة إليها؛ لأن الفتح متعلق بأصل الغاية، فإذا كانت مباحة فسائر الذرائع إليها مباحة, هذا على الأغلب، وإنما يعلِّقون السد باعتبار أن هذا متعلق بالغايات، فإذا كانت الغاية محرمة احتاج العلماء لبيان سد هذه الغايات الموصلة إلى محرم واحد، فكانت نصوص الشريعة تدل على الإكثار من سد الذرائع, وبيان خطرها.