الإسلام وأهل الكتاب


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد أكرم الله جل وعلا هذه الأمة بهذا الدين العظيم, وقد أنعم الله سبحانه وتعالى وتفضل عليها بجملة من الفضائل والمكارم, ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل إلى هذه الأمة سيد ولد آدم, وأنزل الله جل وعلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كتابه العظيم، وقد أكرم الله جل وعلا هذه الأمة أن جعلها خاتمة للأمم, ومعلوم أن خاتمة الشيء يكون فضله به يعني بتلك الخاتمة, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث سهل: ( إنما الأعمال بالخواتيم )، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن الأفراد يختم لهم في أعمالهم بحسب ما كانوا عليه, وهذا إذا كان في الذوات والأفراد كذلك فإنه أيضاً في أبواب الأزمنة والدهور, وكذلك المجتمعات، فإذا كان المجتمع في آخره فاضلاً فإن هذا دليل على فضل الأمة ومنزلتها الآخرة, وقد جعل الله جل وعلا هذه الأمة مفضلة ومكرمة على غيرها, ويكفي أن الإنسان يرى ثمرة ذلك في جملة من النصوص والأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى, وكذلك من حديث عبد الله بن عمر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما مثلكم ومثل الذين من قبلكم من اليهود والنصارى كرجل استأجر أُجراء, فقال: من يعمل لي من غدوة إلى صلاة الظهر على قيراط, فعملت اليهود, ثم قال: من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط, فعملت النصارى, ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى صلاة المغرب على قيراطين, فعملتم أنتم, فقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل أجراً, فقال الله جل وعلا: ذلك فضلي أوتيه من أشاء ).

ويكفي هذا أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لهذه الأمة من حسن العاقبة عنده ما ليس لغيرها من الأمم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك جملة من الأخبار, من أظهرها أن هذه الأمة هي أكثر أهل الجنة دخولاً وأقل أهل النار دخولاً، ويكفي في هذا ما جاء عند الطبراني وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أهل الجنة مائة وعشرون صفاً أمتي منهم ثمانون )، وهذا دليل على منزلة هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم، وهي أمة مرحومة, وقد اجتمعت فيها أسباب الرحمة والفضل من جهة تضعيف الأجر, وكذلك الخصائص التي خصت بها بكتابها المحفوظ الذي لا يبدل, وهذا هو عين الرحمة, ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، وقد جاء عن غير واحد من السلف كما جاء عن عبد الله بن عباس وكذلك جاء عن مجاهد بن جبر في قول الله جل وعلا: (( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ )), قال: هو الإسلام والقرآن, أي: أن الله جل وعلا قد جعل فضله وهو الإسلام والقرآن هو ما ينبغي للإنسان أن يفرح ويسعد به، وأن يعلم أن الله جل وعلا قد خصه وقدمه على غيره من الأمم والشعوب، فالله سبحانه وتعالى قد أنزل في هذه الأرض ديناً واحداً لا يتغير ولا يتبدل من جهة أصوله، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري وغيره: ( نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد )، والمراد بذلك: هم الأخوة غير الأشقاء الذين ينتسبون إلى نسب واحد؛ ولكن أمهاتهم شتى، والمراد من ذلك: أن الأحكام التي ينزلها الله جل وعلا على عباده تختلف وتتباين من شريعة إلى شريعة, وهذا ما يتعلق في أبواب الفروع, وأما ما يكون من أبواب الأصول فإن الأصول ثابتة من جهة العقائد وأصول الديانة، وأما فرعيات الدين فإنها من جهة الأصل متشابهة إلا أنها تختلف من جهة الهيئة وتتفق من جهة الأصل، يعني: بوجود الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك وعتق الرقاب وغيرها, وذلك أن هذه الصور تتباين بحسب الأسباب الشرعية المؤدية إليها, وإنما ظهرت جملة من الشرائع على بعض في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم للخصائص التي قد احتفت بها, وهذه منزلة ليست لأحد إلا لهذه الأمة, أن الله جل وعلا جعل كتابها بيناً, وجعل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم رسالة تامة, وجعل الله جل وعلا نبيه شاهداً على سائر الأمم وسائر الخلق يوم القيامة, وجعل الله جل وعلا أبناء هذه الأمة لمنزلتها وفضلها شهداء على الناس, وهذه خصيصة ليست لأمة ولا لشعب من الشعوب إلا لأمة الإسلام، الله سبحانه وتعالى الدين الذي أنزله على سائر أنبيائه هو دين الإسلام, ولا يقبل الله جل وعلا ديناً غيره, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، فدين الإسلام هو دين التوحيد الذي أنزله الله جل وعلا على سائر الأنبياء, فهو ثابت ومستقر، ولا يكذب خبر عند نبي أو في شرعة من الشرائع إلا ويؤيد ذلك النص الذي جاء بعده, وهذا ما ينبغي أن يعلم وأن يؤكد عليه.

ما يتعلق بمحاضرة اليوم وهو ما نتكلم عليه هو مسألة الإسلام وأهل الكتاب, هذا العنوان من المسائل المهمة وعلى الأخص في زمننا هذا الذي كثر فيه اللبس والخلط, وكذلك أيضاً قد دخل في هذا الباب جملة من المسائل الشائكة التي يحتاج إليها كثير من المسلمين فيما يتعلق بشأنهم من أمر الدنيا أو ما يتعلق بمسائل عقائدهم وإيمانهم مما له صلة بأصل الإيمان وثباته واستقراره، فجملة من المسائل تتعلق بأصل الإيمان, التحول عنها تحول عن الإيمان بالكلية, وثمة مسائل هي من مسائل الأحكام الفقهية, وثمة أيضاً مسائل تسمى من أبواب الآداب والسلوك ونحو ذلك، هذه من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يكون على بينة وبصيرة بها.

حفظ الله للدين الإسلامي من التبديل والاندثار

إنما قلنا: الإسلام وأهل الكتاب؛ لأن الإسلام شيء وأهل الكتاب شيء؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه على سائر الأنبياء, سواء ما أنزله الله جل وعلا من الصحف على إبراهيم وعلى موسى وعلى عيسى, أو ما أنزله الله جل وعلا من الفرقان والهدى المبين على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, من جهة الحقيقة هو دين الإسلام، ولكن قد نال هذا الدين في بعض الفترات شيء من التحريف والتبديل, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم, كلما ذهب نبي جاء نبي بعده )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( وختم الله جل وعلا بي الأنبياء ), وفي هذا إشارة إلى مسألة مهمة، وهي أن الشريعة الإسلامية محفوظة من التبديل بالكلية من جهة اللفظ والمعنى, فلا ينطمس أو يندثر أو يدرس معنى الإسلام بالكلية إلى قيام الساعة, بل يقال: إنه قد يندثر من بلد ولكنه من جهة الأصل باقٍ, وهذا أمر ينبغي أن يكون الإنسان على بينة منه, ولا يكون ذلك إلا في آخر الزمن حينما يقبض الله جل وعلا أرواح أهل الإيمان, أو في الفترة التي تسبق ذلك بقليل، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن ماجه وكذلك الحاكم في كتابه المستدرك من حديث ربعي أن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب -يعني: يدفن- حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، إلا رجال يقولون: لا إله إلا الله، سمعنا آبائنا يقولونها فنحن نقولها, وقال صلة لـحذيفة عليه رضوان الله تعالى, قال: وما تغنيهم لا إله إلا الله؟ قال: تنجيهم من النار لا أب لك! ), وهذا الإشارة من حذيفة بقوله: تنجيهم من النار, باعتبار أن هذا لا يدري, والإنسان قد فعل ما كلف به وما وصل إليه علمه، فإن الإنسان إذا فعل ما وصل إليه علمه قد أدى ما عليه, وإذا جهل شيئاً فإن الله جل وعلا يعذره بجهله, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وخلفاء الرسل هم النذر من العلماء والدعاة والمصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, الذين هم خلفاء الأنبياء في هذه الأرض, فوجب أولاً أن يعلم أن دين الإسلام محفوظ, وأن الدروس الذي ذكره حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلق ببعض البلدان لا بكونه يزول من هذه الأرض بالكلية, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة )، وفي هذا إشارة إلى بقاء شوكة الإسلام ظاهرة, ولهذا قال: (ظاهرين على الحق)، يعني: أن لهم صولة وجولة وقوة في هذه الأرض, ومن علامة قوتهم وصولتهم أيضاً أنهم يحيون شريعة المقاتلة على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم أن دين الإسلام إنما يسمى بدين الإسلام ما لم ينله ويطله التحريف والتبديل والتغيير, فإذا نال الدين التحريف والتبديل فإنه لا يسمى ديناً, ولهذا لما جاءت الكتب السماوية على أنبياء الله جل وعلا وقعت في أيدي الأتباع من الأحبار والرهبان من بني إسرائيل فبدلوا فيها ما بدلوا, فناداهم الله جل وعلا بجملة من النداء مما يشير إلى تحريفهم لكلام الله جل وعلا، وبين أنهم ليسوا على شيء، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ [المائدة:68]، وبين الله سبحانه وتعالى في غير ما موضع أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه, وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يأتي بيانه من اتباع ما كان بأيديهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التعريف باليهود والنصارى

اليهود هم من أهل الكتاب والنصارى من أهل الكتاب, وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى, وإنما سمي اليهود يهوداً قيل: يسمون انتساباً ليهودا بن يعقوب وقيل: إنهم يسمون باليهود؛ لقول موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه ووجد أنهم قد اتخذوا العجل جسداً فعبدوه من دون الله جل وعلا, فقال موسى عليه السلام لربه: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، فسموا على هذا الاسم, وثمة أقوال أخرى الله أعلم بها.

وأما بالنسبة للنصارى فكانوا أنصاراً لعيسى بن مريم, وكان موسى قد أنزل الله جل وعلا عليه كتابه التوراة, وهو الذي يسمى في اصطلاح بني إسرائيل في زمننا العهد القديم, والإنجيل أنزله الله جل وعلا على عيسى عليه السلام, وكان أتباعه النصارى, وعيسى جاء بعده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, والإنجيل هو الذي يسمى بالعهد القديم.

ينبغي أن يعلم أن اليهود والنصارى قد خصهم الله جل وعلا بجملة من الخصائص ليست لغيرهم من الكفار والمشركين, وذلك من أبواب التشديد ومن أبواب التيسير, وهذا ينبغي أن يحيط به طالب العلم, وأن يعلم أن ما جاء من كلام الله جل وعلا في تخصيص أهل الكتاب بجملة من النداءات أن ذلك لكونهم أقرب أهل الأرض إلى معرفة الحق لوجود إرث سابق لديهم, بخلاف غيرهم من الصابئين والمجوس وكذلك الملحدين والذين أشركوا والزنادقة وغيرهم الذين لا يدينون بشيء من دين الحق, فبدلوا دين الله سبحانه وتعالى تبديلاً، ولم يكن لديهم شيء من الأصول ولا من الفروع إلا النزر اليسير، بخلاف اليهود والنصارى فلديهم شيء من الحق، ولكن الباطل قد ظهر وطغى على حقهم, وأشركوا مع الله جل وعلا غيره.

نسخ الإسلام لكل الشرائع السابقة له

ينبغي أن يعلم أن الله جل وعلا قد نسخ شريعة عيسى بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح, قال: ( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم؛ وذلك أنه ليس بيني وبينه نبي )، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله جل وعلا إلى الناس كافة, ومعنى إلى الناس كافة أنه لا يستثنى أحد من البشر بعدم دخوله بالخطاب الذي يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم الخلق، ولهذا قال الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، قال: ( كان النبي يبعث إلى قومه خاصة, وإن الله بعثني إلى الناس كافة )، وهذا دليل على أن من لم يستجب لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس من أهل الإيمان, وأنه من أهل الكفر, والأدلة في ذلك ظاهرة بينة, ولم يقل أحد من أهل الإسلام قاطبة ممن ينتسب إلى الإسلام من أهل الطوائف السنية والبدعية الداخلة في دائرة الإسلام أن اليهود والنصارى على حق في يوم من الأيام وأنهم ناجون، ويستثنى من ذلك من كان من اليهود والنصارى ممن لم يبلغه الدليل, لم تبلغه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم, ولهذا يقول الله جل وعلا مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن استجارة المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم لعدم العلم السابق لديهم توجب أن يجيرهم وأن يعطيهم الأمان, وكذلك أن يسمعهم كلام الله ثم يبلغهم المأمن, أي: يكون بينه وبينهم عهد إلى أمد معلوم, ثم يكون بينه وبين هؤلاء ما سنه الله جل وعلا من المنابذة وكذلك العداء والمجاهدة أو الجزية وغير ذلك مما يأتي الكلام عليه.

الله جل وعلا قد حكم على كل من خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلك منهجه بأنه كافر خارج من ملة الإسلام, ولا خلاف في ذلك أياً كان دينه ومذهبه, سواء كان كتابياً أو غير كتابي, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة، قال: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، وفي هذا حينما خصص النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى بالخصيصة هنا: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة), وأكد ذلك بالقسم بقوله: (والذي نفسي بيده), إشارة إلى أن اليهود والنصارى هم الذين يسبق إلى الأذهان أنهم من أهل الحق السابق قبل ورود الإسلام, وأنهم إذا دخلوا في هذه الدائرة فإنه يدخل في هذا ممن كان أبعد منهم من باب أولى, فإذا كان الذي دخل في هذا الباب هو اليهودي والنصراني فإن الوثني الذي يعبد الحجر والشجر أو المجوسي أو الصابئ أو غير ذلك يدخلون في هذا من باب أولى, ولا خلاف عند العلماء في ذلك.

ثمة طوائف نشأت في هذا من الاتحادية والحلولية؛ كـابن سبعين وابن هود والتلمساني وغيرهم من الطوائف المعاصرة أيضاً الذين يدعون إلى ما يسمى بوحدة الأديان, باعتبار أنها كلها تؤدي إلى الله جل وعلا وأنها تؤدي إلى الحق وغير ذلك, وهذا هو داخل فيما نتحدث عنه بداهة, باعتبار أن الله جل وعلا قد حسم كل دين وشرعة سابقة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفي في ذلك ظهور النصوص الواضحة البينة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاليهود يقولون: نحن على الحق, والنصارى يقولون: نحن على الحق, والله جل وعلا يبين الحق، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، فبين الله جل وعلا أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء، وأن الحق في ذلك إنما هو لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, الذي جدد الله جل وعلا به الحنيفية السمحاء كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: ( إنما بعثت بحنيفية سمحاء )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه انفرد بذلك عن غيره, وأن الحق الذي يطلب عند غيره ولو كان عند موسى وعيسى ممن سبقه من الأنبياء أن ذلك ضلال بصورة حق، وقد روى الإمام أحمد وغيره وكذلك ابن أبي شيبة وأبو عمرو الداني وغيرهم من حديث مجالد عن الشعبي ( أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أتى بلوح أو صحيفة من التوراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, هذه التوراة أقرأ فيها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: ( والله لو كان موسى حياً فاتبعتموه وتركتموني لضللتم )، وفي هذا إشارة إلى أن موسى يتبع النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أن شرع النبي صلى الله عليه وسلم ناسخٌ لما سبق, وكذلك عيسى في آخر الزمان حينما يرجع يحكم بالحنيفية, ولا يؤم المسلمين وإنما إمامهم منهم, مع فضله وجلالته على أمة محمد بالنبوة ومقامها الذي شرفه الله جل وعلا بها.

التوراة وأقسامها

من الأمور المهمة أن يُعلم أن ما لدى اليهود والنصارى من كتب مما تقدم الكلام عليه ويصطلح عليه بالعهد القديم والعهد الجديد، أن المراد بالعهد القديم هو التوراة وما أنزله الله جل وعلا على موسى, والتوراة هي التي تقسم إلى خمسة أقسام, وهي: سفر التكوين, وسفر الخروج, وسفر التثنية, وسفر اللاويين, وسفر العدد, وهذه الأسفار الخمسة هي التي تسمى بالعهد القديم, فأما سفر الخروج فالمراد بذلك ما تضمنه هذا السفر من ذكر خروج البشرية، وكذلك طوفان نوح وما نجى الله جل وعلا به البشرية بعد ذلك, ثم ذكر فيه قصة إبراهيم مع قومه, وكذلك ذكروا قصة يعقوب ويوسف إلى وفاته, ثم ما جاء بعد ذلك من سفر التثنية، وما جاء فيه من جملة الأحكام الفقهية في أمور النكاح والاقتصاد والبيوع وغير ذلك, وأما سفر اللاويين فإنه ينسب إلى لاوي بن يعقوب، فقد ذكروا فيه قصة يعقوب مع قومه، وذكروا فيه جملة من قصص موسى عليه السلام, وكذلك جملة من الأحكام الفقهية في هذا الباب, وكذلك سفر العدد ذكروا فيه عدد بني إسرائيل وأماكنهم وقصصهم, وكذلك مواشيهم ودوابهم وغير ذلك, وهذه الأسفار قد طالها جملة من التناقض والتدليس، وقد أجمع العلماء قاطبة من أهل الإسلام على أن ما جاء في التوراة أنه ناله التحريف على خلاف عند العلماء في التحريف, هل ينضم إلى التحريف المعنوي تحريف الألفاظ أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، مع إجماعهم على أن الإنجيل قد ناله التحريف، أعني: تحريف الألفاظ وتحريف المعاني, وأما ما كان من تحريف التوراة فقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال مع اتفاقهم على تحريف المعاني.

ومعلوم أن التوراة قد أنزلها الله جل وعلا على لغة بني إسرائيل من قوم موسى, وهذه اللغة إذا نالها التحريف من جهة المعنى وقلبت المعاني ومناسبات النزول وسياقاتها فإن الأحرف والألفاظ لا تغني أصحابها شيئاً إذا جردت من كتب التأويل والتفسير على غير المعنى, فإذا كانت كتب التفسير تطبق على خلاف معنى مراد الله جل وعلا منها، فلو قيل بعدم تحريف اللفظ بحسب الموضع فإنه يقال: إن وجود اللفظ كعدمه، ومن العلماء من قال: إنه لم ينل هذا الكتاب تحريف الألفاظ وإنما طاله تحريف المعاني حتى غلب عليه، وقد نص على هذا جماعة من العلماء؛ كـالبخاري عليه رحمة الله فإنه قال ذلك في كتابه الصحيح, قال: فإنه لا يمكن أن يزيل أحد حرفاً من حروف الله جل وعلا في كتابه, وإنما تأولوه أي: قلبوا معانيه، وذهب بعض العلماء إلى أن فيه تحريفاً ولكنه قليل, وقد نص على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله, وثمة طوائف قالوا: إنه كله محرف, ولا يوجد فيه شيء مما ينسب لله جل وعلا, حتى قيل في هذا: إنه لا ينسب لله، وإنما هو من أقوال الناس، ولو استنجى به الإنسان لما كان محرماً, وهو قول مردود ممن حسم بهذا وجزم به ومع بعد هذا القول إلا أن الأمة قد اتفقت على تحريف المعنى فيه, وأن ما جاء فيه قد نسخه الله جل وعلا بشريعتين:

الشريعة الأولى: شريعة عيسى, وأن من لم يؤمن من اليهود بشريعة عيسى عليه السلام فهو كافر, وأن الله جل وعلا قد نسخ الشريعتين شريعة النصارى واليهود بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه, وهذا لا خلاف عند العلماء فيه, أن الله جل وعلا قد نسخ سائر الشرائع السابقة بشرعة الإسلام, ولهذا قال جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

مما ينبغي أن يعلم أن القول بأن اليهود والنصارى لهم الحق بالتدين بما هم فيه, وكذلك التعبد لله جل وعلا, وأنهم يؤجرون على ما هم عليه من الحق، أن ذلك كفر وردة مخرج عن دين الإسلام, ولا خلاف عند العلماء في ذلك كما تقدم بيانه, مما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، وكذلك ما جاء في قول الله جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، قد خص الله جل وعلا جملة من الأحكام وجعلها خاصة بأهل الكتاب, يأتي الكلام عليها بإذن الله جل وعلا فيما يتعلق بالأصول والفروع.

من عقائد اليهود الباطلة

وأما ما يتعلق بالإشارة إلى عقائد اليهود فإن اليهود كما بين الله جل وعلا أشد الناس عداوة للذين آمنوا؛ وذلك لما كان فيهم من حقد وغل, وكذلك ما يعتقدونه في قلوبهم أنهم الشعب المختار الذين اصطفاهم الله جل وعلا على سائر الخلق, والنصارى يؤمنون بالعهد القديم وهو التوراة, وأما اليهود فلا يؤمنون بالعهد الجديد وهو الإنجيل, ولهذا فإن النصارى في دواوينهم ومصنفاتهم وكذلك في فقههم يشيرون إلى العهد القديم والعهد الجديد؛ ولهذا يعظم النصارى اليهود بهذه المنزلة باعتبار ما كان في العهد القديم من بيان منزلتهم ومكانتهم وأنهم الشعب المختار؛ ولهذا يذل النصارى أمام اليهود في كثير من الأمور, فمع كون اليهود لا يؤمنون بما كان لدى النصارى فإنهم لا يقرون بكتابهم، فإذا كانوا لا يقرون بكتاب النصارى الذي أنزله الله جل وعلا على عيسى عليه السلام وهو الإنجيل وهم من بني إسرائيل، فكيف يقرون ويؤمنون بالكتاب الذي أنزله الله جل وعلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو من العرب؟ فاختلف عنهم جنساً ولغة, فإن ذلك أدعى إلى العناد والتكبر, وكذلك ما كان فيهم من خصال قد جرأتهم على جناب الله جل وعلا, فكان في اعتقادهم أنهم قالوا: إن عزيراً ابن الله, وقالت النصارى: إن المسيح ابن الله, وتعالى الله جل وعلا عن ذلك علواً كبيراً.

ومن عقائد اليهود أنهم يقولون: إن الملائكة بنات الله, والله جل وعلا قد تزوج من الجن فأنجبت ملائكة, تعالى الله جل وعلا عن ذلك علواً كبيرا, ولهذا قال الله جل وعلا: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158]، قال ابن جرير الطبري في كتابه التفسير: عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: اعتقدوا أن الله جل وعلا تزوج من الجن فأنجب الملائكة، وما هؤلاء إلا عباد مكرمون عند الله سبحانه وتعالى، وهذا من ضلالهم وزيغهم، وقد تجرؤوا على الله جل وعلا في جملة من المواضع، منها في قولهم: إن يد الله مغلولة, غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64], وهذا من الضلال والزيغ, فإذا تجرؤوا على كلام الله جل وعلا وعلى ذات الله سبحانه وتعالى فإنه فيما كان من غيره من الأحكام والذوات من باب أولى.

سبب تخصيص اليهود والنصارى عند ندائهم في القرآن بلفظ (أهل الكتاب)

وإنما كانت خصائص النداء لليهود والنصارى في كلام الله جل وعلا في جملة من المواضع يذكر الله سبحانه وتعالى اليهود والنصارى ويناديهم بأهل الكتاب؛ وذلك لحكم وعلل:

من أظهرها: أن أهل الكتاب هم أظهر الناس تمسكاً بالحق قبل مجيء الإسلام, فإن الناس كانوا يتيمنون بالحق الذي لديهم حتى الوثنيون, ولهذا قد جاء عند أبي داود في كتابه السنن وكذلك عند ابن جرير الطبري من حديث أبي بشر عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى قال في قول الله جل وعلا: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، قال: كانت الأنصار حينما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إذا ولدت المرأة منهم وكانت مقلاة, يعني: إذا كانت تنجب ويموت في بطنها, تنذر أن الله جل وعلا إن سلم لها ولدها وخرج حياً أن تجعله عند اليهود يرضعونه وأن تهوده, وهذا فيه إشارة إلى أنهم يتيمنون بالكتاب الذي لديهم, ولهذا وجه الله جل وعلا لهم الخطاب بذلك، فيدخل في الخطاب من كان غيرهم من الوثنيين من باب أولى.

الأمر الثاني: أن أهل الكتاب هم أكثر أمم الأرض, فوجه الله جل وعلا لهم الخطاب باعتبار الأكثرية.

الأمر الثالث: أن الحق الذي لديهم أظهر من غيرهم وهم أقرب إلى الاستجابة, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقى من العناد من المشركين من كفار قريش أكثر وأشد من العناد الذي لاقاه من النصارى, وهذا ظاهر بين, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر من لعنه وكذلك دعائه ومقاتلته لكفار قريش أكثر مما كان لليهود والنصارى مع كثرتهم وكونهم ليسوا من أهل الإسلام وليسوا على الحق.

وكذلك أيضاً من هذه الظواهر أن الله جل وعلا لم ينزل على نبيه عليه الصلاة والسلام آية أخذ الجزية إلا في السنة التاسعة من الهجرة, وذلك بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين, وذلك أن المشركين على قول غير واحد من العلماء لا تؤخذ منهم الجزية بل يقاتلون, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقاتل كفار قريش, ولم يعرض عليهم الجزية باعتبار تأخر إنزالها، فلما نزلت عليه آية الجزية لم يكن ثمة أحد من العرب على الشرك, وما كان من أهل الكفر كانوا هم اليهود والنصارى.

إنما قلنا: الإسلام وأهل الكتاب؛ لأن الإسلام شيء وأهل الكتاب شيء؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه على سائر الأنبياء, سواء ما أنزله الله جل وعلا من الصحف على إبراهيم وعلى موسى وعلى عيسى, أو ما أنزله الله جل وعلا من الفرقان والهدى المبين على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, من جهة الحقيقة هو دين الإسلام، ولكن قد نال هذا الدين في بعض الفترات شيء من التحريف والتبديل, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم, كلما ذهب نبي جاء نبي بعده )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( وختم الله جل وعلا بي الأنبياء ), وفي هذا إشارة إلى مسألة مهمة، وهي أن الشريعة الإسلامية محفوظة من التبديل بالكلية من جهة اللفظ والمعنى, فلا ينطمس أو يندثر أو يدرس معنى الإسلام بالكلية إلى قيام الساعة, بل يقال: إنه قد يندثر من بلد ولكنه من جهة الأصل باقٍ, وهذا أمر ينبغي أن يكون الإنسان على بينة منه, ولا يكون ذلك إلا في آخر الزمن حينما يقبض الله جل وعلا أرواح أهل الإيمان, أو في الفترة التي تسبق ذلك بقليل، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن ماجه وكذلك الحاكم في كتابه المستدرك من حديث ربعي أن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب -يعني: يدفن- حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، إلا رجال يقولون: لا إله إلا الله، سمعنا آبائنا يقولونها فنحن نقولها, وقال صلة لـحذيفة عليه رضوان الله تعالى, قال: وما تغنيهم لا إله إلا الله؟ قال: تنجيهم من النار لا أب لك! ), وهذا الإشارة من حذيفة بقوله: تنجيهم من النار, باعتبار أن هذا لا يدري, والإنسان قد فعل ما كلف به وما وصل إليه علمه، فإن الإنسان إذا فعل ما وصل إليه علمه قد أدى ما عليه, وإذا جهل شيئاً فإن الله جل وعلا يعذره بجهله, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وخلفاء الرسل هم النذر من العلماء والدعاة والمصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, الذين هم خلفاء الأنبياء في هذه الأرض, فوجب أولاً أن يعلم أن دين الإسلام محفوظ, وأن الدروس الذي ذكره حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلق ببعض البلدان لا بكونه يزول من هذه الأرض بالكلية, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة )، وفي هذا إشارة إلى بقاء شوكة الإسلام ظاهرة, ولهذا قال: (ظاهرين على الحق)، يعني: أن لهم صولة وجولة وقوة في هذه الأرض, ومن علامة قوتهم وصولتهم أيضاً أنهم يحيون شريعة المقاتلة على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم أن دين الإسلام إنما يسمى بدين الإسلام ما لم ينله ويطله التحريف والتبديل والتغيير, فإذا نال الدين التحريف والتبديل فإنه لا يسمى ديناً, ولهذا لما جاءت الكتب السماوية على أنبياء الله جل وعلا وقعت في أيدي الأتباع من الأحبار والرهبان من بني إسرائيل فبدلوا فيها ما بدلوا, فناداهم الله جل وعلا بجملة من النداء مما يشير إلى تحريفهم لكلام الله جل وعلا، وبين أنهم ليسوا على شيء، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ [المائدة:68]، وبين الله سبحانه وتعالى في غير ما موضع أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه, وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يأتي بيانه من اتباع ما كان بأيديهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اليهود هم من أهل الكتاب والنصارى من أهل الكتاب, وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى, وإنما سمي اليهود يهوداً قيل: يسمون انتساباً ليهودا بن يعقوب وقيل: إنهم يسمون باليهود؛ لقول موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه ووجد أنهم قد اتخذوا العجل جسداً فعبدوه من دون الله جل وعلا, فقال موسى عليه السلام لربه: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، فسموا على هذا الاسم, وثمة أقوال أخرى الله أعلم بها.

وأما بالنسبة للنصارى فكانوا أنصاراً لعيسى بن مريم, وكان موسى قد أنزل الله جل وعلا عليه كتابه التوراة, وهو الذي يسمى في اصطلاح بني إسرائيل في زمننا العهد القديم, والإنجيل أنزله الله جل وعلا على عيسى عليه السلام, وكان أتباعه النصارى, وعيسى جاء بعده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, والإنجيل هو الذي يسمى بالعهد القديم.

ينبغي أن يعلم أن اليهود والنصارى قد خصهم الله جل وعلا بجملة من الخصائص ليست لغيرهم من الكفار والمشركين, وذلك من أبواب التشديد ومن أبواب التيسير, وهذا ينبغي أن يحيط به طالب العلم, وأن يعلم أن ما جاء من كلام الله جل وعلا في تخصيص أهل الكتاب بجملة من النداءات أن ذلك لكونهم أقرب أهل الأرض إلى معرفة الحق لوجود إرث سابق لديهم, بخلاف غيرهم من الصابئين والمجوس وكذلك الملحدين والذين أشركوا والزنادقة وغيرهم الذين لا يدينون بشيء من دين الحق, فبدلوا دين الله سبحانه وتعالى تبديلاً، ولم يكن لديهم شيء من الأصول ولا من الفروع إلا النزر اليسير، بخلاف اليهود والنصارى فلديهم شيء من الحق، ولكن الباطل قد ظهر وطغى على حقهم, وأشركوا مع الله جل وعلا غيره.

ينبغي أن يعلم أن الله جل وعلا قد نسخ شريعة عيسى بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح, قال: ( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم؛ وذلك أنه ليس بيني وبينه نبي )، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله جل وعلا إلى الناس كافة, ومعنى إلى الناس كافة أنه لا يستثنى أحد من البشر بعدم دخوله بالخطاب الذي يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم الخلق، ولهذا قال الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، قال: ( كان النبي يبعث إلى قومه خاصة, وإن الله بعثني إلى الناس كافة )، وهذا دليل على أن من لم يستجب لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس من أهل الإيمان, وأنه من أهل الكفر, والأدلة في ذلك ظاهرة بينة, ولم يقل أحد من أهل الإسلام قاطبة ممن ينتسب إلى الإسلام من أهل الطوائف السنية والبدعية الداخلة في دائرة الإسلام أن اليهود والنصارى على حق في يوم من الأيام وأنهم ناجون، ويستثنى من ذلك من كان من اليهود والنصارى ممن لم يبلغه الدليل, لم تبلغه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم, ولهذا يقول الله جل وعلا مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن استجارة المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم لعدم العلم السابق لديهم توجب أن يجيرهم وأن يعطيهم الأمان, وكذلك أن يسمعهم كلام الله ثم يبلغهم المأمن, أي: يكون بينه وبينهم عهد إلى أمد معلوم, ثم يكون بينه وبين هؤلاء ما سنه الله جل وعلا من المنابذة وكذلك العداء والمجاهدة أو الجزية وغير ذلك مما يأتي الكلام عليه.

الله جل وعلا قد حكم على كل من خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلك منهجه بأنه كافر خارج من ملة الإسلام, ولا خلاف في ذلك أياً كان دينه ومذهبه, سواء كان كتابياً أو غير كتابي, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة، قال: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، وفي هذا حينما خصص النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى بالخصيصة هنا: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة), وأكد ذلك بالقسم بقوله: (والذي نفسي بيده), إشارة إلى أن اليهود والنصارى هم الذين يسبق إلى الأذهان أنهم من أهل الحق السابق قبل ورود الإسلام, وأنهم إذا دخلوا في هذه الدائرة فإنه يدخل في هذا ممن كان أبعد منهم من باب أولى, فإذا كان الذي دخل في هذا الباب هو اليهودي والنصراني فإن الوثني الذي يعبد الحجر والشجر أو المجوسي أو الصابئ أو غير ذلك يدخلون في هذا من باب أولى, ولا خلاف عند العلماء في ذلك.

ثمة طوائف نشأت في هذا من الاتحادية والحلولية؛ كـابن سبعين وابن هود والتلمساني وغيرهم من الطوائف المعاصرة أيضاً الذين يدعون إلى ما يسمى بوحدة الأديان, باعتبار أنها كلها تؤدي إلى الله جل وعلا وأنها تؤدي إلى الحق وغير ذلك, وهذا هو داخل فيما نتحدث عنه بداهة, باعتبار أن الله جل وعلا قد حسم كل دين وشرعة سابقة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفي في ذلك ظهور النصوص الواضحة البينة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاليهود يقولون: نحن على الحق, والنصارى يقولون: نحن على الحق, والله جل وعلا يبين الحق، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، فبين الله جل وعلا أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء، وأن الحق في ذلك إنما هو لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, الذي جدد الله جل وعلا به الحنيفية السمحاء كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: ( إنما بعثت بحنيفية سمحاء )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه انفرد بذلك عن غيره, وأن الحق الذي يطلب عند غيره ولو كان عند موسى وعيسى ممن سبقه من الأنبياء أن ذلك ضلال بصورة حق، وقد روى الإمام أحمد وغيره وكذلك ابن أبي شيبة وأبو عمرو الداني وغيرهم من حديث مجالد عن الشعبي ( أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أتى بلوح أو صحيفة من التوراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, هذه التوراة أقرأ فيها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: ( والله لو كان موسى حياً فاتبعتموه وتركتموني لضللتم )، وفي هذا إشارة إلى أن موسى يتبع النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أن شرع النبي صلى الله عليه وسلم ناسخٌ لما سبق, وكذلك عيسى في آخر الزمان حينما يرجع يحكم بالحنيفية, ولا يؤم المسلمين وإنما إمامهم منهم, مع فضله وجلالته على أمة محمد بالنبوة ومقامها الذي شرفه الله جل وعلا بها.

من الأمور المهمة أن يُعلم أن ما لدى اليهود والنصارى من كتب مما تقدم الكلام عليه ويصطلح عليه بالعهد القديم والعهد الجديد، أن المراد بالعهد القديم هو التوراة وما أنزله الله جل وعلا على موسى, والتوراة هي التي تقسم إلى خمسة أقسام, وهي: سفر التكوين, وسفر الخروج, وسفر التثنية, وسفر اللاويين, وسفر العدد, وهذه الأسفار الخمسة هي التي تسمى بالعهد القديم, فأما سفر الخروج فالمراد بذلك ما تضمنه هذا السفر من ذكر خروج البشرية، وكذلك طوفان نوح وما نجى الله جل وعلا به البشرية بعد ذلك, ثم ذكر فيه قصة إبراهيم مع قومه, وكذلك ذكروا قصة يعقوب ويوسف إلى وفاته, ثم ما جاء بعد ذلك من سفر التثنية، وما جاء فيه من جملة الأحكام الفقهية في أمور النكاح والاقتصاد والبيوع وغير ذلك, وأما سفر اللاويين فإنه ينسب إلى لاوي بن يعقوب، فقد ذكروا فيه قصة يعقوب مع قومه، وذكروا فيه جملة من قصص موسى عليه السلام, وكذلك جملة من الأحكام الفقهية في هذا الباب, وكذلك سفر العدد ذكروا فيه عدد بني إسرائيل وأماكنهم وقصصهم, وكذلك مواشيهم ودوابهم وغير ذلك, وهذه الأسفار قد طالها جملة من التناقض والتدليس، وقد أجمع العلماء قاطبة من أهل الإسلام على أن ما جاء في التوراة أنه ناله التحريف على خلاف عند العلماء في التحريف, هل ينضم إلى التحريف المعنوي تحريف الألفاظ أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، مع إجماعهم على أن الإنجيل قد ناله التحريف، أعني: تحريف الألفاظ وتحريف المعاني, وأما ما كان من تحريف التوراة فقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال مع اتفاقهم على تحريف المعاني.

ومعلوم أن التوراة قد أنزلها الله جل وعلا على لغة بني إسرائيل من قوم موسى, وهذه اللغة إذا نالها التحريف من جهة المعنى وقلبت المعاني ومناسبات النزول وسياقاتها فإن الأحرف والألفاظ لا تغني أصحابها شيئاً إذا جردت من كتب التأويل والتفسير على غير المعنى, فإذا كانت كتب التفسير تطبق على خلاف معنى مراد الله جل وعلا منها، فلو قيل بعدم تحريف اللفظ بحسب الموضع فإنه يقال: إن وجود اللفظ كعدمه، ومن العلماء من قال: إنه لم ينل هذا الكتاب تحريف الألفاظ وإنما طاله تحريف المعاني حتى غلب عليه، وقد نص على هذا جماعة من العلماء؛ كـالبخاري عليه رحمة الله فإنه قال ذلك في كتابه الصحيح, قال: فإنه لا يمكن أن يزيل أحد حرفاً من حروف الله جل وعلا في كتابه, وإنما تأولوه أي: قلبوا معانيه، وذهب بعض العلماء إلى أن فيه تحريفاً ولكنه قليل, وقد نص على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله, وثمة طوائف قالوا: إنه كله محرف, ولا يوجد فيه شيء مما ينسب لله جل وعلا, حتى قيل في هذا: إنه لا ينسب لله، وإنما هو من أقوال الناس، ولو استنجى به الإنسان لما كان محرماً, وهو قول مردود ممن حسم بهذا وجزم به ومع بعد هذا القول إلا أن الأمة قد اتفقت على تحريف المعنى فيه, وأن ما جاء فيه قد نسخه الله جل وعلا بشريعتين:

الشريعة الأولى: شريعة عيسى, وأن من لم يؤمن من اليهود بشريعة عيسى عليه السلام فهو كافر, وأن الله جل وعلا قد نسخ الشريعتين شريعة النصارى واليهود بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه, وهذا لا خلاف عند العلماء فيه, أن الله جل وعلا قد نسخ سائر الشرائع السابقة بشرعة الإسلام, ولهذا قال جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

مما ينبغي أن يعلم أن القول بأن اليهود والنصارى لهم الحق بالتدين بما هم فيه, وكذلك التعبد لله جل وعلا, وأنهم يؤجرون على ما هم عليه من الحق، أن ذلك كفر وردة مخرج عن دين الإسلام, ولا خلاف عند العلماء في ذلك كما تقدم بيانه, مما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، وكذلك ما جاء في قول الله جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، قد خص الله جل وعلا جملة من الأحكام وجعلها خاصة بأهل الكتاب, يأتي الكلام عليها بإذن الله جل وعلا فيما يتعلق بالأصول والفروع.