خطب ومحاضرات
الذريعة بين السد والفتح [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد ذكرنا أن أهل العلم قاطبة -الأئمة الأربعة وغيرهم- أخذوا بالقواعد المتعلقة بالنظر إلى المآلات، والنظر إلى النص، والنظر أيضاً إلى القرائن، وأشهر وأكثر من عمل بهذه القاعدة هو الإمام مالك عليه رحمة الله، ثم الإمام أحمد عليه رحمة الله، وقد وجد ذلك أيضاً في كلام الإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة، وإن كان غير واحد من الأئمة الشافعية ينسب للإمام الشافعي عليه رحمة الله أنه لا يعتد بهذه القاعدة، وهذا فيه نظر، فعامة الأئمة عليهم رحمة الله تعالى على الاعتداد بها, على اختلاف في قوة نظر ذلك الإمام إلى المآلات، ولهذا الإمام الشافعي عليه رحمة الله في كتابه الأم لما مر على حديث أبي هريرة في نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن منع فضل الماء ليمنع به الكلأ, جعل ذلك من أبواب سد الذرائع, وأمر بالأخذ به، والشافعية عليهم رحمة الله أيضاً يمنعون الرجل أن يظهر فطره وهو معذور، كالذي يقدم من بلد آخر وهو مسافر وقد أفطر, فإذا قدم إلى بلد فإن الأصل فيه أنه يفطر؛ لأن من أفطر أول النهار يفطر آخره, على قول عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، وجماعة من الفقهاء من أهل الكوفة كـأحمد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي وعبد الله بن الأسود، وغيرهم، وجماعة من الفقهاء من الشافعية أيضاً يقولون: إن من أفطر أول النهار يفطر آخره، لكن إذا قدم إلى بلد ليس له أن يظهر فطره؛ لأن هذا يفضي إلى مفسدة, فمنع ذلك سداً للذريعة، ولهذا الشافعية يجيزون له الفطر في السر، فإذا أظهر فإنه يعزر، وليس هذا من التناقض في النصوص، ومن وصف هذا أنه من التناقض بالنصوص؛ حيث أن ذلك يجوز له في الباطن ولا يجوز له في الظاهر؛ فإن ذلك من البعد عن فهم مقاصد الشريعة, وسياسة العلماء بالأخذ بذلك، ولهذا الإمام أحمد عليه رحمة الله يعمل القاعدة في كثير من المسائل؛ كمسألة الوكالة: فمثلاً: حينما يوكل الشخص غيره ببيع أرض أو بيع بيت أو بيع مزرعة يقول: ليس له أن يبيع لنفسه؛ لأن هذا يفضي إلى مفاسد، ومن هذه المفاسد: التهمة؛ أن يتهمه الوكيل أنه باع لنفسه بسعرٍ دون سعر الناس، لكنه لو باع تلك الأرض لغيره بأقل من السعر الذي يشتري به فرضاً لما وقع في نفس مالك الأرض شيئاً، فلما كان ذلك سداً للذريعة منع منه, قال: ولو باع الوكيل لنفسه لفسد، وقال بذلك أيضاً الشافعية.
وقد منع الحنفية جملة من المسائل التي هي من جهة الأصل مباحة عملاً بهذه القاعدة، فقد منع ابن عابدين عليه رحمة الله -كما نص على ذلك في الحاشية- من بناء الدور والحجرات والأماكن في المساجد التي هي معمولة في زماننا هذا؛ قال: لأنها تفضي إلى جملة من المفاسد والمحرمات في المساجد؛ كالاختلاء على الأنظار, والتشبه بالبيوت, ونحو ذلك، فتنزه المساجد عن ذلك, فهذه مفسدة قد رآها سداً للذريعة, لكن قد يعمل بها آخرون؛ لأنهم لا ينظرون إلى ذلك المآل، ومن نظر إلى هذا وجد أن الأئمة عليهم رحمة الله تعالى قاطبة يعملون بذلك.
ويجب على المفتي عند تطبيق هذه القاعدة أن يحترز من أمور عديدة:
أولها: أن يمعن النظر في مقاصد الشريعة والمآلات، وهذا مطلب مهم, وهو أحد شرطي الاجتهاد.
الأمر الثاني: أن يمحص النظر بالأدلة والنصوص من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النظر في الذرائع التي قد ثبت نص قطعي بذاته في تلك الوسائل, وأن يدخل ذلك في أبواب القاعدة؛ من القصور عند العلماء, وإن كان هذا قد يفتح جملة من الأبواب الضيقة التي ينبغي للعالم أن يضيق السبيل إليها حتى لا تهدر النصوص، وكذلك أن يميز الناظر في هذه النصوص الأدلة القطعية من الظنية، وكذلك ما كان قطعياً في ثبوته، وما كان ظنياً، فإن الأدلة منها ما هو قطعي في ثبوته، ومنها ما هو قطعي في دلالته، وقد يكون قطعياً في الدلالة، ولكنه من جهة الثبوت ظني، وقد يكون من جهة الثبوت ظنياً، ولكنه في الدلالة قطعي، وقد يكون قطعي الدلالة؛ ككلام الله عز وجل الثابت المحكم التنزيل؛ لكنه من جهة الدلالة ظني، فيكون حينئذٍ الحكم فيه ظنياً، فيغلب الجانب بالأخذ بهذه القاعدة سداً للذريعة؛ لأن النص محتمل فلا يدخل فيه على الأغلب ما سواه، وقد يكون النص قطعياً، لكنه ظني الثبوت؛ ككثير من النصوص المعلولة التي يعلها العلماء, لهذا ينبغي للعالم أن يكون عالماً بالسنة حفظاً وضبطاً لها، عالماً بالصحيح من الضعيف، وأن يكون من أهل النقد والدراية في ذلك، ومعرفة سبل الرواية, وإعلال العلماء، ومعرفة مسالك التعليل, ومناهج النقاد في ذلك؛ حتى لا يستدرك عليه، أو لا يعمل بأثر ضعيف فيخالف في ذلك الشريعة من إهدار قاعدة معتبرة في نصوص الشرع.
الأمر الثالث مما ينبغي للمفتي أن يعتد به: أن يتجرد لله عز وجل ويكون غير مبالٍ بنقد ناقد، أو وصف واصف، وأن يتجرد لله عز وجل وإن وافق قوله قول غيره من المبطلين، وهذا من الأبواب الشائكة، فمثلاً: حينما نقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام منع من سب آلهة المشركين؛ امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، فإننا نجد أن كثيراً من الناس يعنف أو يشدد في أن ذلك تقليل في الولاء والبراء؛ الولاء لأهل الإيمان, والبراء من أهل الشرك والزيغ.
ويصعد قول أهل النفاق في زمن من الأزمنة من التهوين في ذلك, حينما ترد هذه المسألة؛ وهي سب الطواغيت، وأنهم كفرة، وأن هذا كفر بالله عز وجل, وهي أصنام وأوثان تعبد من دون الله؛ فيجد الإنسان في نفسه ثقلاً؛ أن إظهار أمثال هذه المسألة في زمن يظهر فيه قول المنافقين أنه قد يفهم من هذا أنه يكون في ركبهم، وهذا يفتقر إلى تجرد، وينظر فيه حال الأمر إلى مآل الأمر, وامتثال النص إن ورد فيه نص، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل بكثير من الأمور التي تخالف قوة الإسلام؛ كطمسه عليه الصلاة والسلام لوصف شرعي وصفه الله عز وجل به؛ وهو أنه رسول الله؛ كما في صلح الحديبية، كذلك أيضاً حينما يفتي العالم ويرى المصلحة راجحة في زمن كثر فيه المداهنة للمشركين، وترك المسلمون الجهاد، وظهرت فيه الذلة, ورأى المصلحة راجحة في صلح المسلمين مع فئة من المشركين، فإن أفتى بذلك أركبه الناس في ركب المداهنين، وهذا يفتقر إلى ورع شديد، وتتبع للنص ظاهر، وكذلك عدم الوجل من سطوة أهل النفاق؛ من أن يوصم الإنسان بتشدد بفعل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل من المرتدين، وترك بعض المنافقين، وقتل من المشركين, وفك بعضهم، وقد يرى العالم أن في فكاك أحد الأسرى مصلحة في زمن ذلة، ويرى بعض المسلمين أن في عدم فكاكه مصلحة أعظم، واختلاف ذلك يرجع إلى اختلاف الإنسان في باب المصلحة، ولهذا لما كانت هذه القاعدة مما يجمع عليها العلماء أخذاً, ويختلفون فيها تطبيقاً, وكانت محل اعتبار عند العلماء قاطبة, وهي من الأبواب الشائكة؛ كانت من أكثر أبواب المنافقين ولوجا ًودخولاً إليها من التقليل من شأنها، وعدم الاعتبار بها.
وشبهات المنافقين في ذلك لا تخلو من أحوال:
النظر إلى ذات الفعل من غير نظر إلى مآله
الحالة الأولى: النظر إلى ذات الفعل من غير نظر إلى مآله، كتجريد الأفعال عن المآلات، ولهذا ينبغي عند الرد على الشبهات أن ينظر إلى المآلات وتقرر، وألا ينظر إلى ذات الوسائل، أو أن يبالغ بتلك الوسائل، وهذا ما يرجع فيه إلى حكمة العالم؛ لأن المنافقين إذا قللوا من هذه القاعدة بالنظر إلى تلك النوازل وأنها مباحة بذاتها يهملون جانب المفاسد، وإظهار هذه المفاسد يبين للناس تلك الحرمة، ولهذا ما من أمر الله عز وجل به إلا بين الله عز وجل المفسدة التي تئول بخلافه، وهذا ظاهر، ولهذا حينما نهى الله سبحانه وتعالى عن سب آلهة المشركين بيّن العلة في ذلك، وما سكت، وهي أن يسب الله عدواً بغير علم، وبيان المآلات من واجبات العلماء، وألا يكتفي العلماء ببيان تحريم الوسائل، فإن تحريم الوسائل مع انتشار أقوال كثير من المنافقين مما يقوي قول المنافقين على قول أهل الحق، وهذا ما ينبغي أن يأخذه أهل العلم والفتوى بالاعتبار.
الطعن في قاعدة: سد الذرائع بما يخرمها من نصوص الشريعة الأخرى
الأمر الثاني من أحوالهم في ذلك: أن يطعنوا في هذه القاعدة بما يخرمها من نصوص الشريعة، وفتاوى العلماء ونحو ذلك، وهذا يبين حاله ببيان هذه القاعدة وأصلها في الشريعة والاعتداد بها، واعتداد المخالف بذلك في مواضع أخرى، فإن العالم إذا اعتد بهذه القاعدة في مواضع أخرى، وخالفها في مواضع أخرى دل على أنه ما خالف هذه القاعدة، وإنما خالف على الاعتداد بذلك المقصد، وذلك المآل، وفي هذا نقض للاحتجاج بأقوال من قال بمخالفة ذلك، ولهذا نجد في أقوال كثير من حملة الأقلام في وقتنا الذين يلبسون الحق بالباطل: التقليل من كثير من الأحكام الشرعية بأحكام شرعية أخرى، فمثلاً: في مسألة الاختلاط يقولون: إن اختلاط الرجال بالنساء محرم لأجل الذريعة أي: أنه يفضي إلى محرم، وهذه الذريعة منتفية مع وجود المحرم, أو منتفية إن كانت في أوساط الرجال، أو منتفية إذا كان ذلك في جمع غفير، أو منتفية لوجود صور قد رخص الشارع فيها؛ كوجود ذلك في المسجد الحرام حال الطواف، وفي المسعى، وفي وجود صف النساء خلف صف الرجال، وفي بيع النساء للرجال، وفي بيع الرجال للنساء في الصدر الأول, وغير ذلك من وقائع الأعيان.
كذلك الاستدلال ببعض الأحوال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الخلوة بالأجنبية، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يذهب إلى أم حرام عليها رضوان الله تعالى، فيذهب إليها في دارها، ويضع رأسه في حجرها؛ فتفليه عليه الصلاة والسلام، والخبر في الصحيح، فقالوا: وهذا فيه دليل على عدم تحريم الخلوة بالأجنبية، وهو انتزاع لنص في مقابل نصوص كثيرة، ومواجهة أمثال هذه النصوص بالاستدلال للتهوين من قاعدة سد الذريعة: أن تبين حقيقة تلك الأحوال، وأن يدلل على أن الشارع أخذ بكثير من الأحوال اعتداداً بهذه القاعدة، وأن تزال الشبهة عن تلك النازلة، فحينما كان النبي عليه الصلاة والسلام يذهب إلى أم حرام عليها رضوان الله تعالى حمل غير واحد من العلماء ذلك على أن النبي عليه الصلاة والسلام هو أبو المؤمنين، وهو أملك لإربه في نسائه فغيرهن من باب أولى، فلما كان النبي عليه الصلاة والسلام نساؤه أمهات المؤمنين، فهو أبوهم، كما جاء في قراءة أبي بن كعب كما عند ابن جرير الطبري وغيره قال: (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم)، وكذلك جاء في قراءة عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى في قول الله عز وجل: مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]، وفي قراءة سبعية: (من أَنْفَسِكُم)، قال: (وهو أبوهم تقريباً للمودة منهم).
قال غير واحد من العلماء: إن النبي عليه الصلاة والسلام في حكم آباء المؤمنين، وأن الخلوة في حقه تختلف عن غيره عليه الصلاة والسلام، ويختلف من ذلك ما تكون فيه الذريعة ظاهرة فيحرم ذلك حتى عليه، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه أبو المؤمنين لا يصافح النساء؛ لأن في ذلك ذريعة علانية، فإنه لما كان في البيعة امتنع من مصافحة النساء، وأناب غيره؛ لأن في هذا إظهار للأمر، ولهذا قد يقع من العالم في بعض الأحيان في السر ما لا يقع في العلانية في ما هو داخل في أبواب سد الذرائع مما يلحق في مسألتنا السابقة، ولهذا يقول العلماء والفقهاء: إنه ينبغي للمفتي أن يصوم التطوع سراً، ويظهر الفطر فيما ثبت الدليل فيه؛ إذا خشي أن صيامه يفهم منه العامة الوجوب، كمداومة الناس الآن لصيام ست من شوال، فلا حرج على العالم أن يظهر الفطر ويكتم الصيام, فيقول: أنا مفطر هذا اليوم؛ لأن في ذلك سداً لذريعة أعظم مع تحقق تلك المصلحة.
وكذلك أبو بكر وعمر لم يضحيا، ولم يقل أحد: إن عليهما أن يضحيا في السر؛ لأن الأضحية تبين، والكذب في ذلك يظهر، وفي ذلك سد لذريعة أعظم, وجلب لذريعة مفسدة أعظم، فيقال بسد ذريعة عظمى، وهي خلط شريعة ظاهرة بشريعة أخرى ما قصدها الشارع؛ بارتكاب ما هو أدنى من ذلك؛ وهو الفطر في صيام الست أو عدم الأضحية في عيد الأضحى, وغير ذلك من المسائل.
الحالة الأولى: النظر إلى ذات الفعل من غير نظر إلى مآله، كتجريد الأفعال عن المآلات، ولهذا ينبغي عند الرد على الشبهات أن ينظر إلى المآلات وتقرر، وألا ينظر إلى ذات الوسائل، أو أن يبالغ بتلك الوسائل، وهذا ما يرجع فيه إلى حكمة العالم؛ لأن المنافقين إذا قللوا من هذه القاعدة بالنظر إلى تلك النوازل وأنها مباحة بذاتها يهملون جانب المفاسد، وإظهار هذه المفاسد يبين للناس تلك الحرمة، ولهذا ما من أمر الله عز وجل به إلا بين الله عز وجل المفسدة التي تئول بخلافه، وهذا ظاهر، ولهذا حينما نهى الله سبحانه وتعالى عن سب آلهة المشركين بيّن العلة في ذلك، وما سكت، وهي أن يسب الله عدواً بغير علم، وبيان المآلات من واجبات العلماء، وألا يكتفي العلماء ببيان تحريم الوسائل، فإن تحريم الوسائل مع انتشار أقوال كثير من المنافقين مما يقوي قول المنافقين على قول أهل الحق، وهذا ما ينبغي أن يأخذه أهل العلم والفتوى بالاعتبار.
الأمر الثاني من أحوالهم في ذلك: أن يطعنوا في هذه القاعدة بما يخرمها من نصوص الشريعة، وفتاوى العلماء ونحو ذلك، وهذا يبين حاله ببيان هذه القاعدة وأصلها في الشريعة والاعتداد بها، واعتداد المخالف بذلك في مواضع أخرى، فإن العالم إذا اعتد بهذه القاعدة في مواضع أخرى، وخالفها في مواضع أخرى دل على أنه ما خالف هذه القاعدة، وإنما خالف على الاعتداد بذلك المقصد، وذلك المآل، وفي هذا نقض للاحتجاج بأقوال من قال بمخالفة ذلك، ولهذا نجد في أقوال كثير من حملة الأقلام في وقتنا الذين يلبسون الحق بالباطل: التقليل من كثير من الأحكام الشرعية بأحكام شرعية أخرى، فمثلاً: في مسألة الاختلاط يقولون: إن اختلاط الرجال بالنساء محرم لأجل الذريعة أي: أنه يفضي إلى محرم، وهذه الذريعة منتفية مع وجود المحرم, أو منتفية إن كانت في أوساط الرجال، أو منتفية إذا كان ذلك في جمع غفير، أو منتفية لوجود صور قد رخص الشارع فيها؛ كوجود ذلك في المسجد الحرام حال الطواف، وفي المسعى، وفي وجود صف النساء خلف صف الرجال، وفي بيع النساء للرجال، وفي بيع الرجال للنساء في الصدر الأول, وغير ذلك من وقائع الأعيان.
كذلك الاستدلال ببعض الأحوال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الخلوة بالأجنبية، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يذهب إلى أم حرام عليها رضوان الله تعالى، فيذهب إليها في دارها، ويضع رأسه في حجرها؛ فتفليه عليه الصلاة والسلام، والخبر في الصحيح، فقالوا: وهذا فيه دليل على عدم تحريم الخلوة بالأجنبية، وهو انتزاع لنص في مقابل نصوص كثيرة، ومواجهة أمثال هذه النصوص بالاستدلال للتهوين من قاعدة سد الذريعة: أن تبين حقيقة تلك الأحوال، وأن يدلل على أن الشارع أخذ بكثير من الأحوال اعتداداً بهذه القاعدة، وأن تزال الشبهة عن تلك النازلة، فحينما كان النبي عليه الصلاة والسلام يذهب إلى أم حرام عليها رضوان الله تعالى حمل غير واحد من العلماء ذلك على أن النبي عليه الصلاة والسلام هو أبو المؤمنين، وهو أملك لإربه في نسائه فغيرهن من باب أولى، فلما كان النبي عليه الصلاة والسلام نساؤه أمهات المؤمنين، فهو أبوهم، كما جاء في قراءة أبي بن كعب كما عند ابن جرير الطبري وغيره قال: (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم)، وكذلك جاء في قراءة عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى في قول الله عز وجل: مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]، وفي قراءة سبعية: (من أَنْفَسِكُم)، قال: (وهو أبوهم تقريباً للمودة منهم).
قال غير واحد من العلماء: إن النبي عليه الصلاة والسلام في حكم آباء المؤمنين، وأن الخلوة في حقه تختلف عن غيره عليه الصلاة والسلام، ويختلف من ذلك ما تكون فيه الذريعة ظاهرة فيحرم ذلك حتى عليه، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه أبو المؤمنين لا يصافح النساء؛ لأن في ذلك ذريعة علانية، فإنه لما كان في البيعة امتنع من مصافحة النساء، وأناب غيره؛ لأن في هذا إظهار للأمر، ولهذا قد يقع من العالم في بعض الأحيان في السر ما لا يقع في العلانية في ما هو داخل في أبواب سد الذرائع مما يلحق في مسألتنا السابقة، ولهذا يقول العلماء والفقهاء: إنه ينبغي للمفتي أن يصوم التطوع سراً، ويظهر الفطر فيما ثبت الدليل فيه؛ إذا خشي أن صيامه يفهم منه العامة الوجوب، كمداومة الناس الآن لصيام ست من شوال، فلا حرج على العالم أن يظهر الفطر ويكتم الصيام, فيقول: أنا مفطر هذا اليوم؛ لأن في ذلك سداً لذريعة أعظم مع تحقق تلك المصلحة.
وكذلك أبو بكر وعمر لم يضحيا، ولم يقل أحد: إن عليهما أن يضحيا في السر؛ لأن الأضحية تبين، والكذب في ذلك يظهر، وفي ذلك سد لذريعة أعظم, وجلب لذريعة مفسدة أعظم، فيقال بسد ذريعة عظمى، وهي خلط شريعة ظاهرة بشريعة أخرى ما قصدها الشارع؛ بارتكاب ما هو أدنى من ذلك؛ وهو الفطر في صيام الست أو عدم الأضحية في عيد الأضحى, وغير ذلك من المسائل.
من تلك الأحوال التي ينبغي للعالم أن يكون على بينة فيها عند الكلام على هذه القاعدة: أن يتجرد في الفتوى فيما لم يعايشه بذاته، كالفتيا لمجتمع لم يعيشه الإنسان، مثل: الفتيا لأهل الأقليات الإسلامية الذين يعيشون في بلد الغربة، فمن يعيش في بلد الغربة يحكمه حاله، وإذا كان من أهل الورع عنده فيفتيه بقدر الحاجة، فإن الأحوال في ذلك تختلف وتتباين، فالفتيا لمن كان في بلد الإسلام تختلف عن رجل يعيش لضرورة بين ظهراني المشركين، فهذا يختلف فيه بقدره، ويعظم الإشكال في وقتنا؛ لأن الفتوى من العالم تنتشر؛ بخلاف السابق فقد يفتي الإنسان أحدٌ بخصوصه، ولا يشكل على أحد من عامة الناس، ولكن الآن الفتوى تظهر حتى وإن كانت للخاصة، فيظهرها الناس باعتبار ظهور الوسائل الحديثة، فيتأكد على العالم شدة التحري والاحتراز، وهذا لا يهمل ولا يغفل إظهار أصل الشريعة؛ من أن الشريعة أوجبت كذا, وحرمت كذا، لكن يباح فتحاً للذريعة كذا، كما يباح للمغترب مثلاً أن يلبس زي المشركين إذا كان في ذلك مفسدة عليه؛ كأن يتعرض لأذية، أو سلب، أو سب، ونحو ذلك, فلا حرج عليه أن يلبس زيهم، وقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في المصنف- أنهم كانوا في غزوة فدخلوا وفتحوا بلاد المشركين، ولبسوا من لباسهم، وإسناد ذلك عنهم صحيح، فيحترز العالم في الفتيا في الأمور المشكلة خاصة إذا كان الرجل في أمن ويفتي لمن كان في خوف، أو كان في خوف ويفتي لمن كان في أمن، فليس لأحد ركن إلى الدنيا أن يفتي لأهل الثغور والجهاد، وهو في مأمن من أمره، وليس لأحد أن يفتي وهو في أوساط المسلمين أن يفتي لأحد من المغتربين في مسألة لم يعايشها، ولكن هذا -كما تقدم- لا يمنع من تقدير المسألة على وجه العموم في الشريعة, وأن الأمور تقدر بقدرها على وجه الإجمال، وذلك أن الناس يتباينون من جهة الأخذ والاعتداد بالفتوى، فمنهم من يترخص ويتساهل، ومنهم من يأخذ الضرورة والحاجة بقدرها، ولهذا لما كان الناس على مثل هذه الحال وجب على المفتي أن يكون شديد الاحتراز.
وهنا جملة من المسائل تشكل على بعض طلاب العلم عند الكلام على مسألة سد الذرائع وفتحها, وما يتعلق فيها، فمنها: مسألة المصالح المرسلة ونحو ذلك، المصالح المرسلة هي من جهة الأصل فرع عنها قاعدة سد الذرائع، فإذا فهم الإنسان المصلحة بنى عليها سد الذريعة، فإذا ترجحت المصلحة فتح الذريعة فيها, وإذا ترجحت المفسدة سد الذريعة، وإذا ترددت بينهما أخذ الإنسان بباب الاحتياط، وأخذ أيضاً بجانب الورع.
ولهذا العلماء عليهم رحمة الله يقسمون الذرائع إلى أحوال:
الحال الأولى: ذريعة محرمة بالنص؛ كسب آلهة المشركين، وشرب القليل من الخمر.
الحال الثانية: ذريعة غير معتبرة بالنص؛ كالمنع من زراعة العنب أو التمر؛ لأنه يتخذ خمراً، فهذه ذريعة ليست بمعتبرة.
الحال الثالثة: ذريعة مترددة بين ذلك أي: بين الاعتبار وعدمه، وأمثال ذلك: ما يتعلق بأبواب البيع مما يفضي إلى الربا، والعلماء يختلفون في ذلك، والإمام مالك عليه رحمة الله يكثر من سد الذرائع المفضية إلى الربا، فيشدد في جملة من صور التورق، ويشدد في كثير من المعاملات التي تفضي إلى الربا، فقد قال: فما آل إلى ربا نظر إلى مقصده وحرمت سائر وسائله.
ومن العلماء من لا يأخذ ببعض الصور؛ تغليباً لحاجة الناس، ولهذا الشريعة قد رخصت في العرايا ما فيها من الغرر؛ فتحاً للذريعة وحاجة الناس، والعرايا هي أن يبيع الإنسان ما في النخل خرصاً بالتمر، ومعلوم أن الإنسان بحاجة إلى رطب عند جذاذ النخل، ومعلوم أن التمر لابد أن يكون مثلاً بمثل، فإذا باع التمر على رءوس النخل مخروصاً، فهذا جائز، إذا كان ذلك فيه مصلحة للناس، وإذا انتفت فلا يقال بالمنع؛ لثبوت النص بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهل يرخص في أبواب الجهالة والغرر في بعض الأحوال فتحاً للذريعة؟ وهل يخالف هذا النص؟
يقال: قد تفتح الذريعة في بعض الأحوال وإن خالفت النص الصريح؛ حملاً لذلك على الضرورة، مثال ذلك: إذا سئل شخص -وقد سئلت هذا السؤال شخصياً- فقال له السائل: والدي مسجون في دين، وقدره مائة ألف، وبحثت عن فكاك أبي فلم أجد، ولم أجد إلا شخصاً يعطيه الربا، ويقول: وأبي له في السجن أربع سنين، ولم أجد محسناً يفكه وهو مريض، ووراءه أسرة تعوله، ولم أجد فكاكه إلا بربا، فهل لي أن آخذه وأفكه لما فيه من أذية وما في ذلك من مصلحة؟ فهل يفتى له بالجواز أو يقال: يبقى على مرضه ويموت في السجن؟ نقول: يجوز، ومع ذلك لا يقال للربا: إنه حلال، بل يبقى على أمره, ويعظم الربا, ويفتى لمن هذه حاله بجواز ذلك، ففتحت الذريعة هنا نظراً للمقصد والمآل، والمقصد والمآل في هذه الحال هو موت الرجل؛ لأنه مصاب بمرض عضال، ويحتاج إلى علاج، ولديه عائلة يعولها، ولا يعمل إلا هذا الابن، وكان يساعده أبوه في النفقة على الأسرة، فقد يقال بجواز ذلك في مثل هذه الحال، مع أن الربا محرم بالنص، فألحقت تلك المسألة بأبواب الذريعة إلحاقاً لما حرم عيناً بما حرم للحاجة، وهذا يلحقه العلماء في جملة من المسائل؛ كحال مسألة الضرورة في أكل الميتة، وكذلك أيضاً مسألة شرب الخمر لمن غص بلقمة وخشي الهلاك، ووجد عنده خمر, ونحو ذلك، وغير هذه المسائل النادرة، لكنها لا تنقض لذلك أصلاً، فالتفقه في هذه المسائل من المهم لطالب العلم خاصة مع التباس كثير من المسائل عند العامة، وكذلك نشوء كثير من المنافقين من حملة الأقلام الذين تسلموا كثيراً من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة؛ ببث كثير من الشبهات من التقليب بأحكام الشريعة, وعدم الاعتداد بها، وهم الآن يمرون بمرحلة انتزاع مسائل الخلاف الشاذة، حتى إذا انتشرت للناس أتوا إلى أصول الشريعة الصريحة التي ليس فيها خلاف فهدموها، فإذا ظهر في الناس القول الشاذ وما بقي إلا القطعيات حينئذٍ ابتدروا إلى القطعيات, وطمس الإسلام، ولهذا ينبغي لأهل العلم إذا أخذوا بقواعد سد الذرائع أو فتحها أن يبينوا أصل الشريعة في ذلك، وأن فتح الذريعة في باب لا يعني تعطيلاً لنصوص الشريعة.
كذلك أيضاً ينبغي للعالم حال الإفتاء أن يتجرد لله عز وجل كما تقدم الإشارة إليه، وألا يغتر بكلام الناس في المباحات أو تعظيم المصالح ونحو ذلك، فنحن حينما نقرأ لكلام كثير من المعلقين على أحوال العمل في بلاد المسلمين الذين يدعون إلى الاختلاط فهم يتعللون فيقولون: إن نصف المجتمع معطل، وأن المرأة تعمل مع أخيها الرجل، وأن المرأة تكد، ويحتجون بقاعدة سد الذرائع أنها ربما تلجأ في ذلك إلى الفواحش والمحرمات، أو يلجئون للسرقة، وعمر بن الخطاب ترك القطع عام الرمادة ونحو ذلك، وهذا كأنه إغفال لجانب عظيم؛ أن الشارع رخص للمرأة من جهة الأصل بأن تعمل ما تشاء؛ لكن لا تخالف أمر ربها، كأن تختلط بالرجل وتخلو به، والأبواب المباحة في ذلك معلومة، ولهذا كن -حتى في الصدر الأول- يأتين إلى الأسواق ويشترين، والرجل يبيع، ولهذا يقول علي بن أبي طالب كما في المسند: إن نساءكم ليزاحمن العلوج في الأسواق -يعني: الأعاجم- أما تغارون؟ إنه لا خير فيمن لا يغار، وهو ولي أمر المسلمين لكن ما منع من ذلك، ولهذا نجد مثلاً حينما يتكلم البعض يقول: لماذا المرأة لا تبيع في المحلات التجارية، وكيف الرجل الأجنبي يبيع للمرأة؟! وتعظم جوانب من المفاسد, وتظهر للناس من أناس هم من جهة الأصل لا يؤمنون بأمثال هذه المفاسد، ويرونها من جهة التحقيق مصالح، فينبغي للعالم والمفتي أن ينظر لمن يتكلم في أمثال هذا الكلام، وألا يجرد تلك المعاني عن قائلها، فيلحق القول بقائله، وكذلك ينظر إلى أبواب أخرى لا يبرزها القائل، فيتجرد في البحث والنظر والتنقيب في كثير من المصالح، وكلام كثير من الناس حينما يجد كثيراً من الكتاب حين يتكلمون في خلوة الرجل بالمرأة، يبطلون هذا الأمر ويقولون: لماذا لا تخلو المرأة بالرجل؟ هذا عدم ثقة بالمرأة، وعدم ثقة بنزاهتها, وشك بنية المرأة ونحو ذلك، فإذا جاءت قيادة المرأة للسيارة قالوا: كيف تجعلونها تخلو بالأجنبي، ولا تقود بنفسها, هذه عدم غيرة ونحو ذلك، وقد شاهدت ذلك من كاتب واحد، ونسي أنه كتب عن الخلوة أنها ليست من الشريعة، وأن هذا شك بالمرأة، وعدم ثقة بها، وحينما تكلم على مسألة قيادة المرأة للسيارة قال: كيف نجعلها تخلو بالأجنبي، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما )؟ وروى ذلك الإمام أحمد من حديث فلان، وصححه ابن حجر وغيره، وغير ذلك من الكلام الذي ينبغي ألا ينطلي على العالم المتجرد للنص.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] | 2714 استماع |
إنما يخشى الله من عباده العلماء | 2477 استماع |
إن خير من استأجرت القوي الأمين | 2316 استماع |
العالِم والعالَم | 2313 استماع |
الذريعة بين السد والفتح [1] | 2299 استماع |
الإسلام وأهل الكتاب | 2134 استماع |
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] | 2103 استماع |
الردة .. مسائل وأحكام | 2077 استماع |
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] | 2046 استماع |
الرقية الشرعية أحكام وآثار | 2033 استماع |