القواعد لابن اللحام [8]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, وبعد:

فسنستأنف درسنا في كتاب القواعد لـابن اللحام الحنبلي, وقد وصلنا إلى القاعدة السابعة, ومعلوم أن القواعد التي مرت وإن لم تكن من قواعد أو من مسائل الأصول المشهورة إلا أنها من الأهمية بمكان, وهي من عوارض الأهلية، كما مر معنا من الأشياء التي تكون ثمرتها في أصول الفقه ليست كبيرة خاصة القاعدة السابعة, فإن هذه من المسائل التي تحدث فيها الفقهاء رحمهم الله على الأصول وثمرتها في علم الأصول قليلة؛ لأنها تتعلق بولي الأمر, وتتعلق بالثواب والعقاب, ومعرفة ما على المكلف من حكم؛ ولهذا سوف نذكرها على عجل.

الملقي: قال المؤلف رحمه الله: [ القاعدة السابعة: الكفار مخاطبون بالإيمان إجماعاً -ونقله القرافي- وبفروع الإسلام في الصحيح عن أحمد رحمه الله تعالى, وقاله الشافعي أيضاً, واختاره أكثر أصحابنا وأصحاب الشافعي و الرازي و الكرخي وجماعة من الحنفية وبعض المالكية, وجمهور الأشعرية والمعتزلة. وعن أحمد رواية لا يخاطبون بالأوامر, ويخاطبون بالنواهي، وهو الذي قاله القاضي أبو يعلى في مقدمة المجرد. وحكى بعض أصحابنا رواية أنهم غير مخاطبين بشيء من الفروع الأوامر والنواهي, وقاله بعض الحنفية ].

تكليف الكفار بالإيمان

الشيخ: الحمد لله, هذه القاعدة تتحدث عن الكفار, وهل هم مكلفون أم لا، ومن المعلوم أن الذين يذكرون هذا إنما يقصدون التكليف من حيث الثواب والعقاب, لا من حيث رفع العقل وعدم المؤاخذة, فإذا قالوا: إن الكفار مخاطبون بالإيمان فيقصدون شيئاً, وإذا قالوا: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة فيقصدون شيئاً آخر.

فإذا قلنا: إن الكفار مخاطبون بالإيمان -وهذا نقله القرافي بالإجماع- بمعنى أننا نأمرهم أن يؤمنوا, فصار هذا من المسائل العلمية، إذاً العبد مأمور بالاعتقاد في المسائل العلمية؛ ومأمور مع الاعتقاد بالعمل في المسائل العملية, فالمسائل العلمية مثل: الإيمان بالله، والإيمان بالرسل, والإيمان بالقرآن, والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فهؤلاء الكفار مخاطبون بالإيمان, يعني: يتوجب عليهم الإيمان ويجب عليهم أن يفعلوا الإيمان الآن.

تكليف الكفار بفروع الشريعة

وهم مخاطبون بشرائع الإسلام التي نحن نسميها بفروع الشريعة, التي هي المسائل العملية.

لكن المسائل العملية يظهر أن الذين يقولون بأنهم مكلفون إنما نظروا إلى المؤاخذة, ولم ينظروا إلى أصل الفعل؛ لأنهم أجمعوا على أن لكل امرئ ما نوى في العبادات, والكافر ليس له نية. إذاً من قال: إن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام إنما نظر إلى المؤاخذة في الآخرة, لا إلى أصل الفعل مع بقائهم على الكفر.

هل يعني ذلك أن الذين يقولون: إنهم غير مخاطبين أنهم لا يعذبون؟ قالوا: إن تعذيبهم يوم القيامة بسبب عدم إيمانهم بالله، فيعاقبون لأنهم كفار؛ لكن الذين يقولون: إنهم مخاطبون بفروع الشريعة يقولون: مع أنهم يعذبون لأجل كفرهم فهم يعذبون -أيضاً- لأجل تركهم المأمورات, فيزيد العذاب عليهم, ودليلهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:42-45], إذاً هذا العذاب بسبب تركهم الواجبات وفعلهم المحرمات، هذا هو المشهور، وهو رواية عن أحمد وهو قول الشافعي, وأكثر الحنابلة, وأكثر أصحاب الشافعي، وهو قول علماء الأصول, كـالرازي و الكرخي من الحنفية وجماعة من الحنفية, وبعض المالكية، وهو المذهب المالكي, وجمهور الأشعرية والمعتزلة.

إذاً هذا هو المقصود أنهم مخاطبون بمعنى المؤاخذة, وسوف يعذبون عليها يوم القيامة, والمؤلف لم يذكر هل هم مخاطبون بالعقوبات, كالزنا والفواحش والأكل في نهار رمضان, بحيث لو رئي شخص يفعل هذا لعوقب أهلاً، لا يقال: العقاب لا يكون إلا باعتقاد, فالصحيح -أيضاً- أنهم مخاطبون بالعقوبات.

قوله: (وعن أحمد رواية يقول: لا يخاطبون بالأوامر ويخاطبون بالنواهي).

يعني: لا يخاطبون بالمسائل العملية التي فيها فعل, لكنهم يخاطبون في المسائل العملية التي فيها ترك, فإذا فعلوا ما أمروا بتركه فإنهم يعاقبون, وهذه هي التي يسميها العلماء: مخاطبون بالعقوبات.

قوله: (وحكى بعض أصحابنا رواية: أنهم غير مخاطبين بشيء من الفروع: الأوامر والنواهي).

هذا القول يحتمل أنهم غير مخاطبين في الآخرة, ويحتمل غير مخاطبين في الدنيا فلهم أن يفعلوا ما شاءوا, وهذا القول فيه ما فيه؛ لأنه يلزم على ذلك أن لهم الحق أن يتصرفوا في بلاد الإسلام كأهل الذمة بما يخالف شرائع الإسلام, وهذا باطل لو كان على إطلاقه, لكنهم مأمورون، بمعنى أنهم يفعلون ما يفعله أهل الإسلام من الشرائع الظاهرة, أما العقوبات التي تحل بأهل الإسلام من قبل ولي الأمر فهم مخاطبون بها أيضاً, وهي تكون من الشرائع الظاهرة, مثل شرب الخمر, وهذه يعاقب عليها، ولا يقول: أنا ديني يقول لي: اشرب الخمرة، وكذلك الأكل في نهار رمضان لا يصح أن يقول: أنا لا أؤمن أصلاً بالقرآن، ولا أؤمن بالصيام, إذاً أنا أفعل ما هو في ديني. نقول: لا؛ بل أنت مخاطب بالعقوبات.

تكليف الكفار بالقتال مع المسلمين

الملقي: [ وحكى القرافي عن الملخص للقاضي عبد الوهاب أن المرتد مكلف بالفروع دون الأصل, قال القرافي : ومر بي في بعض الكتب التي لا أستحضرها الآن أنهم مكلفون بما عدا الجهاد، أما الجهاد فلا؛ لامتناع قتالهم أنفسهم ].

الشيخ: يعني: هم غير مخاطبين بالقتال؛ لأن معنى هذا أنهم سيقاتلون أنفسهم! وهذا القول محل نظر؛ لأن أهل الذمة لو أرادوا أن يقاتلوا مع أهل الإسلام لصد عدوان المعتدي من الكفار ببلاد أهل الإسلام, ولكان هذا جهاداً في حق أهل الإسلام, وإن لم يكن جهاداً في حق الكفار, لكنهم مأمورون, فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين, فلو أن ولي أمر المسلمين أمر أهل الذمة أن يقاتلوا كان واجباً عليهم, وإلا لعدوا قد خفروا الذمة؛ لأنه يجب على ولي أمر المسلمين أن يحمي أهل الذمة, ويسعى بذمتهم أدناهم.

وأما قوله: (لامتناع قتالهم أنفسهم)؛ فنقول: الجهاد يتنوع؛ فهناك جهاد الطلب, وهناك جهاد الدفع, وليس المقصود بالجهاد قتال كل كافر كما يظن قائل هذا: (لامتناع قتالهم أنفسهم)؛ لأنه ظن أن الجهاد هو قتال كل كافر وهذا ليس بصحيح؛ لأن من الكفار من هم معاهدون أو مستأمنون أو من أهل الذمة, إذاً الجهاد ليس قتال كل كافر, ولكن الجهاد هو لإعلاء كلمة الله, وحماية أوطان أهل الإسلام وهذا جهاد الدفع, وإعلاء كلمة الله في بلاد أهل الكفر وهذا جهاد الطلب.

فلو ظهر الإسلام في بلد ولو كان بعض أهله كفاراً فإنهم إن كانوا من أهل الكتاب يدفعون الجزية, ولكن لا يقاتلون.

أثر الشرط الشرعي في صحة التكليف عند الكافر

الملقي: [ وذكر الآمدي وتبعه ابن الحاجب وغيره أن أصل القاعدة أن حصول الشرط الشرعي هل هو شرط في صحة التكليف أم لا؟ فعندنا ليس بشرط، وعندهم هو شرط ].

الشيخ: الشرط الشرعي هو: حصول ما تتوقف عليه العبادة التي فيها عبادة, فالوضوء شرط شرعي, بدليل أنه ليس كل وضوء يجزئ؛ لأن من الوضوء غسل اليدين كما قال سلمان الفارسي وروي مرفوعاً عند الترمذي وإن كان في سنده ضعف: ( من سنة الأكل الوضوء قبله والوضوء بعده ), والمقصود بالوضوء هو الاغتسال والتنظف, إذاً الوضوء المقصود هنا وضوء شرط, وحصول الشرط الشرعي يتوقف على التكليف, فلو توضأ الكافر فلا يرفع حدثه؛ لأنهم اشترطوا لهذا الشرط الشرعي الإسلام، وهذا غير موجود.

وقول المؤلف: (فعندنا ليس بشرط), يعني: (ليس بشرط التكليف)؛ لأنه نظر إلى التكليف من حيث الثواب والعقاب, لا من حيث الفعل؛ لأنه من حيث الفعل يكون تكليف شرط, فلو قال كافر: أنا أريد أن أتوضأ, فهل هو شرط في صحة التكليف أم ليس بشرط؟ يقول المؤلف: ليس بشرط في صحة التكليف، وهو المؤاخذة يوم القيامة أن يكون مسلماً, هذا هو المقصود هنا؛ لأن حصول الشرط الشرعي, هل هو شرط في صحة التكليف أم لا؟ المقصود بذلك أن الكافر إذا لم يتوضأ ليس معناه أنه غير مخاطب بالصلاة؛ لأن حصول الشرط في حقه غير موجود, ولكن المقصود أنه مكلف بمعنى معاقب عليه في الآخرة, وإن كان حصول شرط شرعي غير متوقف في حقه.

ثمرة الخلاف في مسألة تكليف الكفار

الملقي: [ إذا تقرر هذا فهل يظهر للخلاف فائدة في الدنيا, أو فائدة التكليف -إذا قلنا به- زيادة العقاب في الآخرة؟ ].

الشيخ: مر وأن قلنا: إن فائدة التكليف في حق الكفار أكثرها أخروية، وهي دنيوية في مسائل الإيمان, وهم مخاطبون بالإيمان, ومأمورون بالإسلام, يأمرهم ولي الأمر, وهذه فائدة دنيوية؛ لأنهم إذا أسلموا صار لهم ما للمسلمين؛ يتزوجون من المسلمين, وينكحون من المسلمين, هذا واحد, وأيضاً فائدة أخروية أنهم مأمورون بالعقوبات فيعاقبون على فعل المنهيات.

إذاً ليس التكليف في حق الكفار أخروياً فقط, وليس دنيوياً فقط، وإن كان الأخروي فيه أكثر، والله أعلم.

ثم قال: [ قال أبو الخطاب في التمهيد ] كتاب التمهيد كتاب في الأصول وهو كتاب جيد, وللفائدة فإن كتب الأصول المتقدمة أنفع لطالب العلم من كتب الأصول المتأخرة, والغريب أن أكثر الكتب التي تقرأ ويحال عليها الطلاب هي من الكتب المتأخرة, والكتب المتأخرة يتعب طالب العلم ويمل بتفكيك العبارات وحل الألغاز والمشكلات, ولو قرأ كتب أهل العلم المتقدمين لوجد فيها سلاسة لا توجد في كتب المتأخرين؛ لأن كتب المتأخرين يقصدون قلة العبارة مع مرادات كثيرة, وأما المتقدمون فإنهم يطلقون الكلام على عواهنه كيفما اتفق؛ لأن قصدهم هو الإفهام وليس الاختصار المخل, كما أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي .

الملقي: [ قال أبو الخطاب في التمهيد: وفائدة المسألة أنا نقول: يعاقب على إخلاله بالتوحيد وبتصديق الأنبياء وبالشرعيات, وعندهم لا يعاقب على ترك الشرعيات, فالخلاف يظهر ههنا حسب ].

الشيخ: (حسب) يعني: فقط.

الملقي: [فقد أجمعت الأمة على أنه لا يلزمه أن يفعل العبادة إذا أسلم في حال كفره, ولا يجب عليه القضاء إذا أسلم, انتهى].

الشيخ: هذا واضح, وهذا المقصود أننا عندما نقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لا نقصد أنهم مأمورون بفعل العبادة حال كفرهم؛ لأن الأمة أجمعت على أن الكافر لا يلزمه أن يفعل العبادة حال كفره, وكذلك لا يجب عليه القضاء, وأما قول المؤلف: (وفائدة المسألة أنا نقول: يعاقب على إخلاله بالتوحيد وبتصديق الأنبياء وبالشرعيات)، يعني: يعاقب على الشرعيات ليس عقاباً دنيوياً إلا فيما فيه من العقوبات الواجبات أو فعل المنهيات, وأما الأخروي فهو يعاقب في التوحيد ويعاقب في الشرعيات.

الملقي: [ وكذا قال غالب الأصوليين, ومن العلماء من قال بخلاف ذلك ].

الشيخ: اقرأ كلام ابن تيمية رحمه الله في التعليق الثامن.

الملقي: [ وذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى: بأن الخلاف في حديث ... وجمع بين من قال ... الكفار في الفروع، ومن نفاه بقوله كما في مجموع الفتاوى ... ].

الشيخ: يعني: هذا من حيث القول بأنهم مخاطبون بالإيمان فقط, والقول الأول أنهم مخاطبون بالإيمان وبفروعه, فالعذاب كلما كفروا بالفروع كلما زاد وخاصة إذا حاربوها, ومنعوا من إطعام المسكين، ومنعوا من الصلاة؛ كما قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى [العلق:9-10], فهذه زيادة في العذاب, فليس هذا مثل الكافر الذي يقول: اجعل المسلمين يصلون في مساجدهم؛ لأن هذا عذابه أخف من عذاب الذين يمنعون, وكذلك الذي يمنع الحجاب ويحارب أهل الإسلام أعظم عند الله سبحانه وتعالى عقوبة من الذي يدع أهل الإسلام على عقائدهم.

الملقي: [ ومن العلماء من قال: للخلاف فائدة, وكلام أبي الخطاب في الانتصار يقتضي ذلك, وهو مخالف لما قاله في التمهيد؛ فقال فيمن أسلم على أكثر من أربع نسوة: قولهم -يعني: الحنفية- النهي عن الجميع قائم حال الشرك لا يصح؛ لأن الكفار عندهم غير مخاطبين وهو رواية لنا ].

الشيخ: هذا ليس له فائدة.

الشيخ: الحمد لله, هذه القاعدة تتحدث عن الكفار, وهل هم مكلفون أم لا، ومن المعلوم أن الذين يذكرون هذا إنما يقصدون التكليف من حيث الثواب والعقاب, لا من حيث رفع العقل وعدم المؤاخذة, فإذا قالوا: إن الكفار مخاطبون بالإيمان فيقصدون شيئاً, وإذا قالوا: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة فيقصدون شيئاً آخر.

فإذا قلنا: إن الكفار مخاطبون بالإيمان -وهذا نقله القرافي بالإجماع- بمعنى أننا نأمرهم أن يؤمنوا, فصار هذا من المسائل العلمية، إذاً العبد مأمور بالاعتقاد في المسائل العلمية؛ ومأمور مع الاعتقاد بالعمل في المسائل العملية, فالمسائل العلمية مثل: الإيمان بالله، والإيمان بالرسل, والإيمان بالقرآن, والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فهؤلاء الكفار مخاطبون بالإيمان, يعني: يتوجب عليهم الإيمان ويجب عليهم أن يفعلوا الإيمان الآن.