القواعد لابن اللحام [22]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد وصلنا إلى القاعدة الثامنة والثلاثين من كتاب القواعد لـابن اللحام ، ونشرح إن شاء الله أثناء القراءة.

الملقي: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القاعدة الثامنة والثلاثون: قاعدة الكلام ونحوه كالقول، والكلمة تطلق عندنا على الحروف المسموعة حقيقة، وتطلق على مدلول ذلك مجازاً، وصححه الإمام في المحصول والمنتخب في الأوامر، ونقل في الكتابين المذكورين عن المحققين أنه مشترك بينهما واقتصر عليه.

وقال بعض المتكلمين: الكلام حقيقة في مدلوله مجاز في لفظه، وقيل: هو مشترك بينهما، والأقوال الثلاثة منقولة عن الأشعري فيما حكاه ابن برهان عنه.

إذا تقرر هذا فمن فروع القاعدة: اختلاف أصحابنا في قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم )، هل يقوله بلسانه أو بقلبه؟ في المسألة ثلاثة أوجه لنا].

الشيخ: هذه القاعدة لها أصل في مسألة علم الكلام، أو في مسائل العقائد، وهذه المسألة تدلك على أن الناس أحياناً ينتشر عندهم القول ولا يلزم أن يكون هذا القول هو الحق، أو هو قول السلف، فكثيرة هي الأقوال التي تنتشر في زماننا، ويظن كثير من الناس أنها على حق، وفي الواقع أنها مخالفة أحياناً لقول بعض السلف، أو أخذت جذوة من أقوال السلف، فظن بعضها أنها بمجموعها كلام السلف وليست كذلك.

أقوال أهل العلم في إطلاق القول على اللفظ أو المعنى

ولعل هذه القاعدة مما نحن بصددها من هذا الباب، وذلك أن الكلام ونحوه من القول هل يطلق على اللفظ أو على المعنى؟ الآن إذا أتيت أنا بكلام هل المقصود به الألفاظ المسموعة فقط، أم هو المقصود ما يحمله هذا الكلام؟ فكلمة (قام) ليس المقصود بها القاف والألف والميم، بل المقصود معناها وهو القيام، وكذلك: يقعد، يجلس، يرفث، يفسق، يقول، هل المقصود الألفاظ أم المقصود المعنى، أم المقصود اللفظ والمعنى؟ وهل الحقيقة في المعنى أم الحقيقة في اللفظ؟

المؤلف ذكر ثلاثة أقوال.

ذكر القول الأول فقال: (هي على الحروف المسموعة حقيقة، وتطلق على مدلول ذلك مجازاً)، مدلول ذلك الذي هو المعنى، فهذا القول هو قول النحاة؛ لأن النحاة إنما ينظرون إلى الألفاظ دون النظر إلى المعاني؛ لأنهم يهتمون بهذا الباب، فقولهم بهذا ليس له أثر إطلاقاً من حيث العقيدة ولا من حيث الفقه, والنتائج المترتبة عليها مما ذكره المؤلف، أما أن ينسب هذا القول إلى أهل العلم أو أهل التوحيد فهذا هو الذي فيه نظر.

والغريب أن هذا القول هو قول أكثر أهل الاعتزال، وأكثر علماء الأصول الذين تأثروا بعلم الكلام، ونسبة هذا القول لـأحمد محل نظر، وإن كان قد قال به بعض الحنابلة المتأخرين، فقول المؤلف: (تطلق عندنا على الحروف المسموعة حقيقة، وتطلق على مدلول ذلك مجازاً)، يقول: (وصححه الإمام في المحصول)، يقصد به الإمام فخر الدين الرازي ، (ونقل في الكتابين المذكورين عن المحققين أنه مشترك بينهما واقتصر عليه) هذا القول الثاني. يقول: (وقال بعض المتكلمين: الكلام حقيقة في مدلوله مجاز في لفظه).

أبو العباس بن تيمية رحمه الله -كما هو موجود في التعليق- ذكر قولاً رابعاً، يقول ابن تيمية عن هذا القول: إن هذا القول هو قول السلف والفقهاء، وإن كان لا يذكر في كثير من كتب الفقهاء، وهذا القول هو الحق، وهو أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً؛ إذ إن الاسم لا ينفك عن المسمى، وإن أريد بالاسم دون المسمى فلا بد من وجود قرينة، وإن أريد المسمى دون الاسم فلا بد من وجود قرينة، فإذا قلت: جاء عبد الله، فأقصد بعبد الله هذا اسمه ومعناه، وإذا قلت: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، غير لو قلت: (وجاء أمر ربك)؛ لأنني إذا قلت: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، أقصد بذلك هو الرب المتصف بصفات الكمال والمسمى بذلك الاسم، وإذا قال الله: قال يا آدم! فيناديه بصوت، قول الله سبحانه وتعالى: يا آدم! إذاً مناداة الله بلفظه، والمقصود به معناه وهو الله ليس الشجرة ولا شيئاً آخر، وهذا هو الصحيح والحق.

يقول ابن تيمية عن هذا القول: وإن كان أكثر الفقهاء لا يذكرونه.

إذاً قلنا: الكلام حقيقة يكون باللفظ والمعنى؛ لأن انفكاك الاسم عن المسمى قول حادث لم يكن معروفاً عند السلف، وهو مخالف للكتاب والسنة، وإنما قصد أهل الكلام بذلك إما قصداً وإما تلبيساً، يعني: لبسوا عليه؛ لأنهم يريدون أن يفكوا العلاقة التي بين الاسم وبين المسمى، فالمعتزلة يقولون: إن الله سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وحينما قال الله سبحانه وتعالى في مناداة آدم عندما أكل من الشجرة، قالوا: إن هذا خلقه كلاماً مسموعاً في الشجرة فنادى آدم، تعالى الله عما يقولون، فهم يوجدون فيصلاً بين الاسم وبين المسمى.

هذا الكلام له أثر من حيث العقيدة، وأما أثره من حيث الفروع فهو وإن حاول المؤلف ذكره لكن المقصود أنه في علم العقيدة أكثر.

أوجه التلفظ بالملفوظ

ثم قال المؤلف: (إذا تقرر ذلك فمن فروع القاعدة)، حتى أبو الحسن الأشعري حينما ذكر هذه الأقوال، لم يذكر قول السلف أنه حقيقة في اللفظ والمعنى جميعاً، وأنه لا ينصرف إلى أحدهما إلا بقرينة.

ثم قال: ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم )، يقول: لفظه: (فليقل: إني صائم)، هل يقولها بلسانه أم بقلبه؟ يقول: (وفي المسألة ثلاثة أوجه).

القاعدة عندنا أن الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم إذا قال في القرآن: فقولا، فليقل، فلا بد من وجود قول وهو تلفظ باللسان، ولهذا أوجب العلماء رحمهم الله على القارئ أن يحرك لسانه بالقرآن، وإلا لم يكن قارئاً؛ لأنه إذا كان قد أريد بالمعنى الذي هو بنفسه فلا بد من تقييد، قال تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8]، فلا بد من تقييد ذلك، فلما قال الله: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [المجادلة:8]، دل على أنهم لم يتلفظوا بألسنتهم.

أما لو أريد بالتلفظ بالملفوظ لقال: قال يكفي، ولهذا تجدون في كثير من أحكام الشريعة لا بد من وجود قول، ولهذا في الحج النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اشترطي فإن لك على ربك ما استثنيت فقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني )، فإنها لو لم تقل، أو قالت ذلك دون أن تتلفظ به فلا ينفعها، لأن المقصود هو اللفظ.

كما أن المرء إذا أراد أن ينذر لا ينفعه نذره إلا أن يتلفظ، كقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به ).

الملقي: ثم قال المؤلف: [فهي على ثلاثة أوجه:

أحدها: يقوله مع نفسه، يعني: يزجرها ولا يطلع الناس للرياء، قاله صاحب الرعاية].

الشيخ: هذا القول نظر إلى المقصود الحقيقي لأجل زجر نفسه، ( فليقل: إني صائم )، يعني: ليقل: إني صائم؛ لأجل أن يذكر نفسه، وتذكير النفس لا يلزم منها التلفظ، هذا قول.

الملقي: [والثاني: يجهر به مطلقاً، حكاه أبو العباس واختاره؛ لأن القول المطلق باللسان].

الشيخ: يقصد بـأبي العباس الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله؛ لأن القول المطلق الصحيح أنه يقوله باللسان، ولكن لا يلزم أن يكون هو اللفظ دون المعنى، هذا هو الصحيح، أنه يقوله بلسانه؛ لأن قوله بلسانه يعتبر تذكيراً لنفسه وليس زجراً، وثانياً يعتبر تذكيراً لغيره، كأنه يقول: ما منعني أن أرد عليك وأن أقيم عليك حجتي بلساني إلا أني كنت صائماً، فهذا كأنه تخفيف للنفس من عدم غلواء المخاصمة، والله أعلم.

الملقي: [يؤيد ما قاله أنه لو حلف إنسان ألا يتكلم أو لا يقرأ أو لا يذكر، فإنه لا يحنث إلا بما تكلم بلسانه دون ما يجري به على قبله، ولا يقال: الأيمان مبناها على العرف، والعرف يقتضي أن الكلام حقيقة في الحروف المسموعة دون النفساني، لأنا نقول: لو أنشأ الإنسان الطلاق أو العتاق أو غيرهما في نفسه ولم يلفظ بلسانه، وكان ناطقاً؛ فإنه لا يلزمه شيء، جزم به الأصحاب].

الشيخ: يقول: (لو أنشأ الإنسان الطلاق أو العتاق أو غيرهما في نفسه ولم يلفظ بلسانه وكان ناطقاً) هذا غير صحيح؛ لأنه ليس بناطق، (وكان ناطقاً فإنه لا يلزمه شيء، جزم به الأصحاب)، لا يسمى ناطقاً، هذا صحيح عند عامة أهل العلم أنه لا يقع الطلاق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به )، لكنه لم يكن ناطقاً؛ لأن النطق إنما يكون باللسان وهو لم يتلفظ.

يقول: لو أنشأ الإنسان الطلاق في نفسه فلا يقع الطلاق؛ لأنه لم يتلفظ، أما لو تلفظ فإنه ولو لم يوقعه في قلبه فإنه يقع الطلاق عند الجمهور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد )، وهذا الحديث يرويه أهل السنن و أحمد من حديث أبي هريرة ، وفي سنده رجل يقال له عبد الرحمن الحبري وهو ضعيف، ولهذا ذهب مالك رحمه الله إلى أنه لا يقع الطلاق إلا أن يكون قاصداً، ولا بد من وجود شاهدين يشهدان أنه قصد بذلك الهزل.

ويظهر لي والله أعلم أن الرجل إذا طلق امرأته باللفظ، فإن خاصمته المرأة بذلك عند القضاء وقع قضاءً، فإن صدقته المرأة أنه كان هازلاً لم يقع شيء، والله أعلم.

الملقي: [والثالث: إن كان في رمضان جهر به، وإن كان في غيره يقوله في نفسه].

الشيخ: يقول: القول الثالث: قول: إني صائم، إن كان في رمضان يرفع صوته؛ لأن صيام الفرض ليس فيه رياء، وأما إذا كان صوم تطوع فإنه يقوله في نفسه، وهذا أيضاً ليس بجيد؛ لأنه حين يرد بهذا فكأنه يقول: ما منعني من أن أرد عليك في خصومتك ليس عجزاً ولا عياً وإنما لأجل أني صائم، فيجعل الخصم ينفك عن المخاصمة بسبب صوم أخيه.

يقول: [واختاره أبو البركات ؛ لأنه لا رياء في رمضان بخلاف غيره]، والذي يظهر والله أعلم: أنه كما قال أبو العباس بن تيمية : يجهر به مطلقاً.

الملقي: قال في الحاشية: [لم أجد هذا النقل في كتب أبي البركات ].

الشيخ: أبو البركات هو جد ابن تيمية رحمه الله، وابن تيمية اسمه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني ، إذاً جد أبي العباس اسمه عبد السلام الحراني وهو من أئمة المذهب، وإذا قالوا في المذهب: الشيخان، يقصدون بذلك الموفق أبو محمد بن قدامة و المجد بن تيمية أبو البركات صاحب المحرر في الفقه.

ولعل هذه القاعدة مما نحن بصددها من هذا الباب، وذلك أن الكلام ونحوه من القول هل يطلق على اللفظ أو على المعنى؟ الآن إذا أتيت أنا بكلام هل المقصود به الألفاظ المسموعة فقط، أم هو المقصود ما يحمله هذا الكلام؟ فكلمة (قام) ليس المقصود بها القاف والألف والميم، بل المقصود معناها وهو القيام، وكذلك: يقعد، يجلس، يرفث، يفسق، يقول، هل المقصود الألفاظ أم المقصود المعنى، أم المقصود اللفظ والمعنى؟ وهل الحقيقة في المعنى أم الحقيقة في اللفظ؟

المؤلف ذكر ثلاثة أقوال.

ذكر القول الأول فقال: (هي على الحروف المسموعة حقيقة، وتطلق على مدلول ذلك مجازاً)، مدلول ذلك الذي هو المعنى، فهذا القول هو قول النحاة؛ لأن النحاة إنما ينظرون إلى الألفاظ دون النظر إلى المعاني؛ لأنهم يهتمون بهذا الباب، فقولهم بهذا ليس له أثر إطلاقاً من حيث العقيدة ولا من حيث الفقه, والنتائج المترتبة عليها مما ذكره المؤلف، أما أن ينسب هذا القول إلى أهل العلم أو أهل التوحيد فهذا هو الذي فيه نظر.

والغريب أن هذا القول هو قول أكثر أهل الاعتزال، وأكثر علماء الأصول الذين تأثروا بعلم الكلام، ونسبة هذا القول لـأحمد محل نظر، وإن كان قد قال به بعض الحنابلة المتأخرين، فقول المؤلف: (تطلق عندنا على الحروف المسموعة حقيقة، وتطلق على مدلول ذلك مجازاً)، يقول: (وصححه الإمام في المحصول)، يقصد به الإمام فخر الدين الرازي ، (ونقل في الكتابين المذكورين عن المحققين أنه مشترك بينهما واقتصر عليه) هذا القول الثاني. يقول: (وقال بعض المتكلمين: الكلام حقيقة في مدلوله مجاز في لفظه).

أبو العباس بن تيمية رحمه الله -كما هو موجود في التعليق- ذكر قولاً رابعاً، يقول ابن تيمية عن هذا القول: إن هذا القول هو قول السلف والفقهاء، وإن كان لا يذكر في كثير من كتب الفقهاء، وهذا القول هو الحق، وهو أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً؛ إذ إن الاسم لا ينفك عن المسمى، وإن أريد بالاسم دون المسمى فلا بد من وجود قرينة، وإن أريد المسمى دون الاسم فلا بد من وجود قرينة، فإذا قلت: جاء عبد الله، فأقصد بعبد الله هذا اسمه ومعناه، وإذا قلت: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، غير لو قلت: (وجاء أمر ربك)؛ لأنني إذا قلت: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]، أقصد بذلك هو الرب المتصف بصفات الكمال والمسمى بذلك الاسم، وإذا قال الله: قال يا آدم! فيناديه بصوت، قول الله سبحانه وتعالى: يا آدم! إذاً مناداة الله بلفظه، والمقصود به معناه وهو الله ليس الشجرة ولا شيئاً آخر، وهذا هو الصحيح والحق.

يقول ابن تيمية عن هذا القول: وإن كان أكثر الفقهاء لا يذكرونه.

إذاً قلنا: الكلام حقيقة يكون باللفظ والمعنى؛ لأن انفكاك الاسم عن المسمى قول حادث لم يكن معروفاً عند السلف، وهو مخالف للكتاب والسنة، وإنما قصد أهل الكلام بذلك إما قصداً وإما تلبيساً، يعني: لبسوا عليه؛ لأنهم يريدون أن يفكوا العلاقة التي بين الاسم وبين المسمى، فالمعتزلة يقولون: إن الله سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وحينما قال الله سبحانه وتعالى في مناداة آدم عندما أكل من الشجرة، قالوا: إن هذا خلقه كلاماً مسموعاً في الشجرة فنادى آدم، تعالى الله عما يقولون، فهم يوجدون فيصلاً بين الاسم وبين المسمى.

هذا الكلام له أثر من حيث العقيدة، وأما أثره من حيث الفروع فهو وإن حاول المؤلف ذكره لكن المقصود أنه في علم العقيدة أكثر.

ثم قال المؤلف: (إذا تقرر ذلك فمن فروع القاعدة)، حتى أبو الحسن الأشعري حينما ذكر هذه الأقوال، لم يذكر قول السلف أنه حقيقة في اللفظ والمعنى جميعاً، وأنه لا ينصرف إلى أحدهما إلا بقرينة.

ثم قال: ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم )، يقول: لفظه: (فليقل: إني صائم)، هل يقولها بلسانه أم بقلبه؟ يقول: (وفي المسألة ثلاثة أوجه).

القاعدة عندنا أن الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم إذا قال في القرآن: فقولا، فليقل، فلا بد من وجود قول وهو تلفظ باللسان، ولهذا أوجب العلماء رحمهم الله على القارئ أن يحرك لسانه بالقرآن، وإلا لم يكن قارئاً؛ لأنه إذا كان قد أريد بالمعنى الذي هو بنفسه فلا بد من تقييد، قال تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8]، فلا بد من تقييد ذلك، فلما قال الله: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [المجادلة:8]، دل على أنهم لم يتلفظوا بألسنتهم.

أما لو أريد بالتلفظ بالملفوظ لقال: قال يكفي، ولهذا تجدون في كثير من أحكام الشريعة لا بد من وجود قول، ولهذا في الحج النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اشترطي فإن لك على ربك ما استثنيت فقولي: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني )، فإنها لو لم تقل، أو قالت ذلك دون أن تتلفظ به فلا ينفعها، لأن المقصود هو اللفظ.

كما أن المرء إذا أراد أن ينذر لا ينفعه نذره إلا أن يتلفظ، كقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به ).

الملقي: ثم قال المؤلف: [فهي على ثلاثة أوجه:

أحدها: يقوله مع نفسه، يعني: يزجرها ولا يطلع الناس للرياء، قاله صاحب الرعاية].

الشيخ: هذا القول نظر إلى المقصود الحقيقي لأجل زجر نفسه، ( فليقل: إني صائم )، يعني: ليقل: إني صائم؛ لأجل أن يذكر نفسه، وتذكير النفس لا يلزم منها التلفظ، هذا قول.

الملقي: [والثاني: يجهر به مطلقاً، حكاه أبو العباس واختاره؛ لأن القول المطلق باللسان].

الشيخ: يقصد بـأبي العباس الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله؛ لأن القول المطلق الصحيح أنه يقوله باللسان، ولكن لا يلزم أن يكون هو اللفظ دون المعنى، هذا هو الصحيح، أنه يقوله بلسانه؛ لأن قوله بلسانه يعتبر تذكيراً لنفسه وليس زجراً، وثانياً يعتبر تذكيراً لغيره، كأنه يقول: ما منعني أن أرد عليك وأن أقيم عليك حجتي بلساني إلا أني كنت صائماً، فهذا كأنه تخفيف للنفس من عدم غلواء المخاصمة، والله أعلم.

الملقي: [يؤيد ما قاله أنه لو حلف إنسان ألا يتكلم أو لا يقرأ أو لا يذكر، فإنه لا يحنث إلا بما تكلم بلسانه دون ما يجري به على قبله، ولا يقال: الأيمان مبناها على العرف، والعرف يقتضي أن الكلام حقيقة في الحروف المسموعة دون النفساني، لأنا نقول: لو أنشأ الإنسان الطلاق أو العتاق أو غيرهما في نفسه ولم يلفظ بلسانه، وكان ناطقاً؛ فإنه لا يلزمه شيء، جزم به الأصحاب].

الشيخ: يقول: (لو أنشأ الإنسان الطلاق أو العتاق أو غيرهما في نفسه ولم يلفظ بلسانه وكان ناطقاً) هذا غير صحيح؛ لأنه ليس بناطق، (وكان ناطقاً فإنه لا يلزمه شيء، جزم به الأصحاب)، لا يسمى ناطقاً، هذا صحيح عند عامة أهل العلم أنه لا يقع الطلاق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به )، لكنه لم يكن ناطقاً؛ لأن النطق إنما يكون باللسان وهو لم يتلفظ.

يقول: لو أنشأ الإنسان الطلاق في نفسه فلا يقع الطلاق؛ لأنه لم يتلفظ، أما لو تلفظ فإنه ولو لم يوقعه في قلبه فإنه يقع الطلاق عند الجمهور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد )، وهذا الحديث يرويه أهل السنن و أحمد من حديث أبي هريرة ، وفي سنده رجل يقال له عبد الرحمن الحبري وهو ضعيف، ولهذا ذهب مالك رحمه الله إلى أنه لا يقع الطلاق إلا أن يكون قاصداً، ولا بد من وجود شاهدين يشهدان أنه قصد بذلك الهزل.

ويظهر لي والله أعلم أن الرجل إذا طلق امرأته باللفظ، فإن خاصمته المرأة بذلك عند القضاء وقع قضاءً، فإن صدقته المرأة أنه كان هازلاً لم يقع شيء، والله أعلم.

الملقي: [والثالث: إن كان في رمضان جهر به، وإن كان في غيره يقوله في نفسه].

الشيخ: يقول: القول الثالث: قول: إني صائم، إن كان في رمضان يرفع صوته؛ لأن صيام الفرض ليس فيه رياء، وأما إذا كان صوم تطوع فإنه يقوله في نفسه، وهذا أيضاً ليس بجيد؛ لأنه حين يرد بهذا فكأنه يقول: ما منعني من أن أرد عليك في خصومتك ليس عجزاً ولا عياً وإنما لأجل أني صائم، فيجعل الخصم ينفك عن المخاصمة بسبب صوم أخيه.

يقول: [واختاره أبو البركات ؛ لأنه لا رياء في رمضان بخلاف غيره]، والذي يظهر والله أعلم: أنه كما قال أبو العباس بن تيمية : يجهر به مطلقاً.

الملقي: قال في الحاشية: [لم أجد هذا النقل في كتب أبي البركات ].

الشيخ: أبو البركات هو جد ابن تيمية رحمه الله، وابن تيمية اسمه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني ، إذاً جد أبي العباس اسمه عبد السلام الحراني وهو من أئمة المذهب، وإذا قالوا في المذهب: الشيخان، يقصدون بذلك الموفق أبو محمد بن قدامة و المجد بن تيمية أبو البركات صاحب المحرر في الفقه.

الملقي: [القاعدة التاسعة والثلاثون.

قاعدة: لا يشترط في الكلام أن يكون من ناطق واحد على الصحيح، ذكره أبو حيان في الارتشاف، إذا تقرر هذا فمن فروع القاعدة إذا قال رجل: امرأة فلان طالق، فقال الزوج: ثلاثاً، قال أبو العباس : هي تشبه ما لو قال: لي عليك ألف، فقال: صحاح، وفيها وجهان، قال: وهذا أصل في الكلام من اثنين: إن أتى الثاني بالصفة ونحوها هل يكون متمم للأول أم لا؟].

الشيخ: إذا قال الرجل: امرأة زيد طالق، فقال زيد: ثلاثاً، قالوا: كأن زيداً هنا قال: امرأتي طالق ثلاثاً، يقول ابن تيمية: (وهذا أصل في الكلام) إن أتى الثاني بالصفة التي تحدث بها الأول فهل يكون متمماً للأول، أو لا يكون متمماً؟ على قولين، فقوله: (ثلاثاً)، كأن هذا إقرار بتوكيل الوكيل، فكأن زيداً قال: نعم امرأتي طالق ثلاثاً.

الملقي: [فائدة: إذا أوصى إلى اثنين في التصرف وأريد اجتماعهما على ذلك، قال الحارثي : من الفقهاء من قال: ليس المراد من الاجتماع تلفظهما بصيغ العقود، بل المراد صدوره عن رأيهما، ثم لا فرق بين أن يباشر أحدهما أو الغير بإذنهما].

الشيخ: يقول المؤلف: (إذا أوصى إلى اثنين)، مثل أن يقول: أوصي أن يكون الناظر على وقفي فلان وفلان مجتمعين، وفي حال اجتماعهما لا يلزم أن يتلفظ كل واحد في اتخاذ القرار، لكنه يكفي لو تلفظ أحدهما وسكت الآخر، ولكن عندي هذا ليس له علاقة فيما نحن بصدده من العقد، (لا يشترط في الكلام أن يكون من ناطق واحد)، هذا وإن لم يكن كلاماً من الثاني فلك السكوت في معرض الحاجة إلى البيان قبول أو بيان، فهذا هو المقصود.

ولهذا قلنا أيضاً في قول الزوج: ثلاثاً، إن إقراره وسكوته على ذلك دليل على موافقته، وليس له علاقة في اشتراط أن يكون الكلام من ناطق أو ناطقين.

نحن نقول: إن الأقرب أنه عندما قال الزوج: ثلاثاً، فكأنه أقره على هذا القول، وليس تصرفه فضولياً؛ لأن الحنابلة لا يرون تصرف الفضولي.

الحنابلة يرون أنه إذا قال الرجل: امرأة فلان طالق فقال الرجل: ثلاثاً، فإن الطلاق يقع، ولا يرون تصرف الفضولي، إذاً الحنابلة أوقعوا الطلاق ليس لأجل تصرف الفضولي، وإن كانت النتيجة واحدة؛ بل لأنه حين قال: ثلاثاً، فكأنه هو الذي قال: امرأتي طالق، فصار هذا بمعنى قبول للقول.

فلو أن أحداً قالوا له: امرأتك طالق، قال: صدقت، فهو لم يتلفظ بالطلاق؟ لكن الطلاق يقع؛ لأنه أقره على كلامه، فقول الرجل: ثلاثاً، إقرار على كلام الأول، ولا علاقة لها بالتصرف الفضولي من عدمه. وهذا الذي يظهر لي والله أعلم: أنه حتى الشافعية لا يقولون بتصرف الفضولي، ولهم قول في هذا الباب، فهذا يدل على أن لهم روايتان، لكن الرواية لا يلزم أن تكون مخرجة على التصرف الفضولي، إنما خرجت على معنى آخر، فهذا الذي يظهر أن قول الزوج: ثلاثاً، كأن هذا إقرار وتصديق لقول الأول، فكما أنه لو قال: هل امرأتك طالق؟ فقال: نعم؛ يقع الطلاق في قول عامة أهل العلم، فكذلك يقال هنا، ولا علاقة لها بقاعدة: لا يشترط في الكلام أن يكون من ناطق واحد، والصحيح أن يقال في هذه القاعدة -يعني فيما نحن بصدده-، لا يلزم من الحكم على القول بالتلفظ؛ لأنه يكفي فيه معناه.

ولهذا قالوا في مسألة الإقرار الضمني: لو قال رجل للقاضي: لي في ذمة معاذ مائة ألف، فقال المدعى عليه وهو معاذ: سددت منها خمسين ألفاً، فهذا إقرار منه على أنني استسلفته أو في ذمته لي مائة ألف، ادعى رد نصفها، فيلزمه إثبات ذلك، وإلا لوجب عليه مائة ألف كاملة.

أما هل الإقرار الضمني يأخذ حكم الإقرار الصريح أو لا؟ قولان عند أهل العلم، والذي يظهر أنه إقرار ضمني يحتج به.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
القواعد لابن اللحام [21] 2464 استماع
القواعد لابن اللحام [3] 2347 استماع
القواعد لابن اللحام [23] 2231 استماع
القواعد لابن اللحام [8] 2081 استماع
القواعد لابن اللحام [2] 1923 استماع
القواعد لابن اللحام [16] 1921 استماع
القواعد لابن اللحام [9] 1868 استماع
القواعد لابن اللحام [17] 1823 استماع
القواعد لابن اللحام [27] 1792 استماع
القواعد لابن اللحام [1] 1787 استماع