القواعد لابن اللحام [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:

فهذه دروس في شرح القواعد لابن اللحام، وقد تطرق المؤلف في القاعدة الأولى إلى مسألة العلم هل يفيد الظن أم اليقين، وهنا أمران:

الأول: إن العلم يفيد اليقين أو يفيد غلبة الظن من حيث نظر المجتهد, ومن حيث وجوب العمل, لأن المسألة ربما تكون واضحةً, وشبه يقينية عند المفتي -وإن كانت غير واضحة عند الآخر- وتفيد علماً عند من يقول به هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني: من حيث وجوب العمل, فإنها لما وجب العمل بها كالمقطوع رجعت إلى العلم بالجامع المذكورة وصارت تفيد اليقين مثل العلم, وذكرنا أيضاً أن قولهم: إن الفقه غالبه يفيد الظن أن هذه لم تكن معروفة عند أهل العلم، بل الصحيح أن أكثر مسائل الفقه من اليقينيات، فوجوب الصلاة، وتحريم المحرمات، ووجوب الصيام، ووجوب الحج كلها من اليقينيات، وإن كان بعض الفقهاء لا يدخلها ضمن المجمع عليها، لكن هذا يقول: ما رأيكم فيمن يقول: إذا شك المتوضئ كم غسل يده مرتين أم ثلاثاً هل يبني على اليقين؟ نقول: لا، يبني على غلبة الظن؛ لأنه إن زاد على ثلاث مرات فقد دخل في الحرام: أساء وتعدى وظلم، وإن نقص عن الثلاث كان وضوءه صحيحاً، بخلاف من شك في ركعات الصلاة.

ولو قال: يبني على غلبة الظن لكان أولى من أن يقول: يبني على اليقين؛ لأنه إذا بنى على غلبة الظن فقد بنى على ما يعلمه، هذا واحد.

الثاني: أن العلماء يقولون: إذا اختلف في نظر المجتهد، أو المسلم، أو المسلمة أمران أيهما الصواب؟ فإنه إذا فعل أحدهما بناءً على مقتضى الشرع فيكون هو الشرع وما عداه فلا، فإذا قلت: غسلتين أو ثلاثاً، فجعلتها غسلتين، وزدت لتبلغ ثلاثاً، فلو أني زدت رابعة في واقع الأمر فلا عبرة بالرابعة إطلاقاً، بل تكون ثلاثاً؛ لأنها في نظري ثلاثاً، لا في حقيقة الأمر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن كان صلى أربعاً كانتا ترغيماً للشيطان، وإن كان قد صلى خمساً شفعن له صلاته ).

دائماً في النظر لا عبرة بما في واقع الأمر، بل العبرة بما في نظر المجتهد، والله سبحانه وتعالى لا يعاقبك إذا كنت قد اجتهدت وفعلت بما هو في نفسك، ولهذا يقول ابن تيمية ، إذا تعارضت مفسدتان في حق المجتهد فإن الواجب أن يقدم أدناهما، وكانت هي المشروع، فصار المشروع منكراً في نظر الحقيقة، لكنها في نظر الشارع ليست بمنكر؛ لأنه لا بد أن يفعل أحدهما، فإذا فعل الأدنى وترك الأعلى صار فعله مشروعاً، وهذا من الفقه، ولهذا قال ابن تيمية: وكان هو المشروع، لكن بعض الناس ما يفهم، مثل الصورة التي ذكرها الفقهاء، قال: كما لو أمر الوالي أحد القضاة أن يقيم القتل على أحد الجناة، وهو لا يستحق القتل، والوالي قاصده لا محالة، فرأى القاضي تخفيفه من القتل إلى السجن أو إلى الضرب، يقول: فكان هذا القاضي قد فعل المشروع، إذ أنجى حياة المحكوم عليه، وفي نظر الناس أنه حكم بغير ما أنزل الله، وهذا ذكره بعض علماء المالكية، وكذلك ذكره بعض علماء الحنابلة.

وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنزل القضية حيث لا يستطيع أن ينفك منها إلا إلى الأدنى أنه مأمور به.

وسئل أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رجل كان يعمل في المكوس، ثم تاب وأراد أن يخرج، فقال أبو العباس بن تيمية: لا، ابق فيها، لكي تخفف الضرر عن الناس، فهذا أولى من أن يأتي بعدك من لا يخفف، فهذا الرجل الذي خفف الضرر عن الناس قد أخذ من أموالهم ما لا يستحقه ومع ذلك هو في نظر المأخوذ منه ظالم، لكنه هو في نظره قد فعل المشروع، فهذه من المسائل التي تفتقر إلى النظر والتؤدة، ولهذا كلما ابتعد الناس من عصر النبوة كلما خفيت المصلحة والمفسدة، كما قال أبو العباس بن تيمية.

ولهذا ألف الجويني كتاب غياث الأمم؛ لأنه أحياناً يظهر الحرام، فلا ينفك الناس عنه، مثل الذين يعيشون في بلاد الغرب، فقد ذهبنا إليهم وكانوا يسألون أسئلة لو كان الإنسان غير فقيه لقال: حرام حرام حرام، يقولون: ماذا نصنع؟ لا نستطيع أن نرجع إلى بلادنا! فإذا أردت أن تفتي فاتئد، لا تفتي بجواز ما هو معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، أو يجدون مندوحة عنه، فالذين يعيشون في الغرب مثلاً يقولون: نحن لا نستطيع أن نشتري فللاً وسكناً إلا عن طريق البنوك الربوية، فهل نقترض من البنوك الربوية؛ لأنها ضرورة ولا نستطيع، ولا يوجد بنوك إسلامية، ولا يوجد شركات، بعض الفقهاء استحضر أنهم يعيشون في مكان لا يوجد فيه بنوك ربوية، فقلنا: اتئد.

سؤال: هل هؤلاء مضطرون لأن يسكنوا؟ قالوا: نعم، ضرورة أن يسكنوا، حسناً، هل وجد طريق آخر للسكن غير الطريقة الأولى؟ قالوا: نعم، إجارة، قلنا: إذاً لا يجوز لهم أن يدخلوا في الربا إذا وجد طريق شرعي، ولو كان فيه نوع ضرر، فلا يجوز لهم أن يدخلوا في الربا؛ لأنه لا يئول إلى الحرام مع وجود مندوحة من الحلال وهو السكن بالإيجار، وغير ذلك من المسائل.

من رأى منيّاً في ثوب لا ينام فيه غيره

قال المؤلف رحمه الله: [ ومنها: إذا رأى منياً في ثوب لا ينام فيه غيره، قال أبو المعالي و الأزجي : لا بطاهر، فاغتسل له ويعمل في الإعارة باليقين، وقيل: بظنه ].

هذا بناءً على أن المني نجس، وإلا فإن الصحيح أن المني ليس بنجس؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ( كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً، ثم يقوم فيصلي فيه )، وفي رواية مسلم : ( كنت أحكه يابساً بظفري )، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما كما عند ابن خزيمة بسند صحيح: إن المني ليس بنجس، إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تميطه عنك بإظفرة.

من أراد الصدقة بماله كله

قال المؤلف رحمه الله: [ ومنها: من أراد الصدقة بماله كله وكان وحده، وعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة، جاز له ذلك، بل يستحب له، جزم به في منتهى الغاية وغيرها، وإن لم يعلم لم يجز له.

قال أبو الخطاب وغيره: قاله أصحابنا.

قلت: وصرح كل من وقفت على كلامه بالعلم في الصورتين ].

من أراد الصدقة بالمال كله وكان وحده، يعني نيته أن يتصدق، وعلم من نفسه حسن التوكل والصبر على المسألة جاز، وقال بعضهم: يستحب، كما روى هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه، عن عمر أنه قال: ( الآن أسبق أبا بكر ، فجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت يا عمر لأهلك؟ قال: أبقيت نصفه، ثم جاء أبو بكر فقال: ما أبقيت يا أبا بكر : قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فبكى عمر ثم قال: والله لا أسابقك يا أبا بكر بعدها ).

فـأبو بكر تصدق بكل ماله؛ لأن عنده ذخيرة من التوكل واليقين، وأما إذا خشي المسلم أنه لو حلف أن يتصدق بكل ماله أن يبقى عالةً هو وأولاده على الناس فلا ينبغي، واستدل العلماء على ذلك بقول كعب بن مالك كما في الصحيحين حينما بلغته توبة الله تعالى عليه، قال: ( يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من كل مالي صدقةً لله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك بعض مالك فهو خير لك )، ولهذا لو حلف أن يخرج من كل ماله جاز أن يخرج بالثلث، وهذا أولى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس ) كما في الصحيحين من حديث جابر .

وأما قصة أبي بكر فهذه خاصة بـأبي بكر رضي الله عنه وبمن كان في منزلته، ولهذا فإن سؤال المخلوق الأصل فيه المنع، لكن سؤالهم في حاجات بعض الناس لا بأس به؛ لقول الله تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً [الزخرف:32]، لكن لو قلت للشيخ صالح مثلاً: أعطني قلمك جزاك الله خيراً، أو قلت: أعطني سيارتك أستعملها قليلاً، أعطني هذه الأشياء البسيطة فإن هذا لا بد منه، أما ما جاء في حديث عوف بن مالك : ( قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لنا كلمة، قال: وما قال؟ قال: ألا تسألوا الناس شيئاً، فكان الواحد إذا سقط سوط أحدهم وهو على راحلته لم يقل لصاحبه: أعطني سوطي)، بل ينزل فيأخذه، فهذه حالة استثنائية أحالهم النبي صلى الله عليه وسلم على حسن توكلهم، وصبرهم، ويقينهم بالله سبحانه وتعالى، وعلى هذا فقوله: [ بل يستحب له ]، هذه حالة ما ينبغي أن تعمم؛ لأننا نقول: الأولى أن الثلث كاف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص .

الشك في عدد الطواف

قال المؤلف رحمه الله: [ ومنها: إذا شك الطائف في عدد الطواف فالمنصوص عن الإمام أحمد الأخذ باليقين، وذكر أبو بكر عبد العزيز وغيره الأخذ بالظن، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وما قاله أبو بكر هنا من الأخذ بالظن مخالف له لما قاله في الشك في عدد الركعات، وأنه يبنى على اليقين ].

لعل أبا بكر عبد العزيز غلام الخلال حينما جوز الأخذ بالظن في الطواف أخذ بمذهب أبي حنيفة ، وهو أن العبرة بالكثرة، فإن أبا حنيفة قال: لو طاف أربعة أشواط صحيحة، وثلاثة أشواط أحدث فيها أو أخطأ فإن طوافه صحيح؛ لأن الله يقول: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، ومن زاد على أربعة فقد أدى الغالب، ومن أدى الغالب فقد أدى الكل، و أبو بكر عبد العزيز لعله رأى مثل هذا فاكتفى بالظن بخلاف الصلاة، فإن الصلاة الرباعية مثلاً لا يمكن أن تنقص أو تزيد عن أربع.

ولكن الذي يظهر -والله أعلم- هو اختيار أبي العباس بن تيمية: أنه إن كان عنده غلبة ظن أو ظن غالب عمل به وإلا فاليقين، وغلبة الظن مثل أن يقول: أنا أذكر أني عندما انتهيت من الثلاث شرع المؤذن بالأذان، وتوقفت عند الإقامة، فاليقين ثلاث، بناءً على ظن، فلو عمل به جاز، والله أعلم.

ومن غلبة الظن، إذا كان يطوف مع صاحبه فشك في عدد الأشواط، أطاف ثلاثاً أم أربعاً، خمساً أم ستاً؟ فقال صاحبه: ستاً، فهذا لا بأس بأن يأخذ بخبر صاحبه، كما قلنا: يأخذ بخبر المؤذن إذا كان عالماً بالوقت، فإذا كان صاحبه عالماً بتحديد ذلك جاز أن يذهب إليه، والله أعلم.

من شك في حصاة من أي الجمار تركها

قال المؤلف رحمه الله: [ ومنها: إذا شك رامي حصاة الجمار في حصاة من أي الجمار تركها، قال غير واحد من الأصحاب: يبني على اليقين ].

صورة المسألة: إذا شك قال: أنا رميت الصغرى أم الوسطى؟ فإن اليقين أن يسقط الصغرى، فيرميها بواحدة أو اثنتين، ثم يرمي الوسطى ويعيد الكبرى؛ لأنه لم يكملها على مذهب الحنابلة؛ لأن الحنابلة يرون الترتيب، وإذا شك هل أسقط حصاةً أو حصاتين في الوسطى أم الكبرى فإن اليقين أن يجعلها في الوسطى، فيرمي حصاتين ثم يعيد الكبرى، وعلى هذا فقس.

وأما من أخذ بغلبة الظن فهذا كاف ولا يلزمه الإعادة؛ لأن الترتيب واجب مع الذكر، أما مع الجهل والنسيان فالذي يظهر -والله أعلم- جواز ذلك؛ لما روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: ( فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مما يجهل المرء أو ينسى إلا قال: افعل ولا حرج )، وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله بن عمرو بعدما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة، مما يدل على أن هذا مما يخفف فيه، والله أعلم.

الشك في وقوع الحصاة في المرمي

قال المؤلف رحمه الله: [ ومنها: أن حصى الرمي لا بد أن يحصل في المرمى، وهل يشترط علمه بحصوله في المرمى أو ظنه؟ في المسألة قولان، الأصح العلم ].

الذين يرمون من بعيد لا بد من حصول الحصى في المرمى، والمرمى ما هو؟ بعض الناس يظن أن المرمى هو الحوض، والصحيح وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وقول عند المالكية: أن المرمى هو مجتمع الحصى لا مثيله، ومعنى مثيله: الحصى البعيد الذي يتدحرج عن الحصى المجتمع، لكن الحصى المجتمع هو المرمى، وعلى هذا فإنه لو اجتمع الحصى وسقط أعلى فوقع خارج المرمى وفي مجتمع الحصى جاز؛ لأن الحجاج يختلفون قلةً وكثرة، وهذا هو المرمى.

إذا ثبت هذا فهل يلزم العلم أم يكفي غلبة الظن؟

الأقرب -والله أعلم- التفصيل، وهو أن يقال: إن كان العلم حاصلاً من غير مشقة فيجب، وإلا فالظن، فالذين يرمون تطبيقاً للسنة في النهار ربما يشق معهم العلم، لكن الذين يرمون في الليل ما يشق معهم العلم، وعلى هذا فالعلم واليقين وغلبة الظن مبنية على إمكانية ذلك، فإن أمكن فالعلم واليقين واجب، وإن لم يمكن جاز الظن، ولهذا العلماء صرحوا في استقبال القبلة حال الحضر بالوجوب، وأما في السفر فخففوا فيه؛ قالوا: لأن الحضر يمكن فيه معرفة ذلك بأن ينزل وينظر المساجد والمحاريب فيعلمها، كما هو مذهب الحنابلة والشافعية.

بيع ما يمكن أن يقصد به الحرام

قال المؤلف رحمه الله: [ ومنها: أن المذهب المنصوص عن أحمد الذي نقله الجماعة: أنه لا يصح بيع ما قصد به الحرام، كالعصير لمن يتخذه خمراً ونحوه قال غير واحد من الأصحاب: إذا علم ذلك، ولنا قول آخر أو ظنه.

قال أبو العباس : مؤيداً لأصله معارضاً لما قاله الأصحاب في هذه المسألة؛ لأنهم قالوا -يعني الأصحاب-: لو ظن الآجر أن المستأجر يستأجر الدار لمعصية، كبيع الخمر ونحوه، لم يجز له أن يؤجره تلك الدار، ولم تصح، والإجارة والبيع سواء، والله أعلم ].

هذا الشك شك في المعاملة وليس في العبادة، وهذه مبنية على قاعدة أخذ بها مالك و أحمد وهي: سد الذرائع، وسد الذرائع ليست على إطلاقها، بمعنى أن قاعدة سد الذرائع تكون كما هو مذهب الحنابلة والمالكية في ما ترجحت مفسدته فيحرم وإن كان ثمة مصلحة، وما ترجحت مصلحته أبيح وإن كان ثمة مفسدة، والترجيح هنا مبني على غلبة الظن أحياناً، فإذا جاءني شخص يريد أن يشتري سلاحاً زمن الفتنة، والعلماء هنا غلبوا الشر، فمنعوا بيع السلاح في زمن الفتنة؛ خوفاً من أن يستعمله في الحرام، ولو غلب على ظنه أن يستعمله في الشر في غير زمن الفتنة هل يجوز؟

لا يجوز، وإلا فالأصل الجواز، وحينما لا يقع عندنا غلبة ظن ولا شيء فيجوز، مع أنه جائز أن يستخدمه في الحرام، لكن نقول: نحن لسنا في زمن فتنة، ولم يقع في قلبي أنه يستخدمه في شر، فلم أعمل بهذا الظن غير الغالب، إذاً عملت بالأصل وهو السلامة، كذلك إذا آجر المؤجر المستأجر العين، فإن كان المستأجر سوف يستخدمها في الحرام كبيع الخمر، أو بيع الدخان، أو بيع الشيشة، أو بيع الأجهزة المحرمة، أو يستخدمها في آلات الصراف الآلي الربوي، فهذا لا يجوز أن يعطيها لذلك، وكذلك إذا استأجر منه أجير استراحة يريد أن يضع فيها أطباقاً فضائية محرمة معلوم من الدين بالضرورة حرمتها فلا يجوز.

لكن إذا جاء شخص يريد أن يستأجر منه منزلاً فيمكن أن يضع فيه طبقاً، ويمكن ألا يضع، يمكن أن يضع فيه بعض المحرمات، ويمكن ألا يضع، فالأصل الجواز، والله تبارك وتعالى أعلم، ولو منعنا هذا لوقع الناس في حرج، ولما جاز لنا أن نؤجر أهل الذمة الذين جاز لنا أن نبقيهم في بلاد المسلمين؛ لأنه معلوم أن أهل الذمة سوف يصنعون فيه محرماً، من شرب خمر؛ لأنهم يشربون الخمر، ومن أكل الربا، فهم يأكلون الربا، وكذلك المستأمن من الوثنيين كالمجوس ونحوهم وغير ذلك من الأشياء، والمعروف أن مثل هذه الأشياء مما يستأنس به الفقهاء.

لكن الذي نقول: إذا غلب على ظنه فعل الحرام لا محالة، فإنه يمنع، ولا يجوز أن يبيعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيع العصير: ( لمن يتخذه خمراً )، فمعنى ( لمن يتخذه ) أنه سوف يفعل فيه الحرام أو يغلب على ظنه، أما إذا كان لا يعلم فلا بأس، ومن ذلك بيع الجوالات، فبيع الجوالات الأصل أنه اشتراه لأجل الاتصال، ولو كان فيه كاميرا، ولا عبرة بظن أنه ربما يستخدمه في الحرام، ولو كانت هذه الكاميرا ما وضعت إلا للعمل، لكن الأصل الجواز، وعلى هذا فالذين يبيعون جوالاتهم ولو كان فيها كاميرا الأصل فيها أنها مباح، إلا إذا غلب على ظن البائع أن هذا الشخص إنما اشتراها لفعل الحرام، وحينئذ نقول: لا يجوز أن تبيعه.

نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
القواعد لابن اللحام [21] 2466 استماع
القواعد لابن اللحام [3] 2349 استماع
القواعد لابن اللحام [23] 2233 استماع
القواعد لابن اللحام [22] 2224 استماع
القواعد لابن اللحام [8] 2083 استماع
القواعد لابن اللحام [2] 1925 استماع
القواعد لابن اللحام [16] 1923 استماع
القواعد لابن اللحام [9] 1871 استماع
القواعد لابن اللحام [17] 1825 استماع
القواعد لابن اللحام [27] 1795 استماع