فقه العبادات - الصلاة [32]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي المشاهدين والمشاهدات!

أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهذا المجلس، وأن يجعلنا ممن تحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم في الملأ الأعلى عنده، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.

كنا قد شرحنا في درس سابق أحكام الجمع بين الصلاتين، وذكرنا أن الجمع بين الصلاتين إنما هو لأجل السفر أو المرض أو الوحل أو الخوف أو للحاجة، فالأعذار التي تبيح ترك الجماعة ستة، وهي: المرض، والسفر، والمطر، والوحل، والخوف، والحاجة، فهذه الأعذار ذهب إليها جماهير أهل العلم، أو بالأحرى هو مذهب الحنابلة بهذا التقييد، إلا أن مسألة الحاجة قيدوها ببعض الأشياء المحصورة.

أما اليوم فإننا نتحدث عن أحكام صلاة السفر، وبلا شك أن مسألة السفر تستدعي الانتباه؛ وبالمقابل فإن هذه المسائل يحتاج الناس إلى بيانها؛ لأنه يكثر عندهم السفر، والغالب أن الذي يسافر هم العامة وليس العلماء وطلبة العلم، وبالتالي فلا ينبغي أن نذكر الأقوال التي لا يتصورها إلا العلماء أو طلبة العلم؛ لأن أحكام الشريعة يجب أن يعلمها جمهور الناس، كما أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي ، فإن ثمة بعض الأقوال في السفر ربما تكون من حيث التنظير قوية، لكن حين التطبيق تجد الناس يختلفون فيها، ويتشتتون في تطبيقها، حتى إن طالب العلم قد يقطع مسافةً فيقصر الصلاة، والثاني يقطع مسافةً مثلها ولا يقصر، ولهذا لا بد من شيء مضبوط يضبط الناس في عباداتهم؛ لأن الشارع الحكيم حينما أوجب على الناس الصلاة في أوقاتها، ولا يقصرون أو يجمعون إلا لوجود السفر، فلا بد أن يكون ذلك السفر أمراً مضبوطاً معلوماً لعامة الناس قبل علمائها، وقبل طلبة العلم.

الشيخ: والقصر في الصلاة من محاسن الشريعة، ومن محاسن الدين الإسلامي، فإن الله سبحانه وتعالى شرع لأمة محمد القصر، وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.

فأما الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101].

ومن المعلوم أن هذه الآية إنما شرع فيها القصر إذا ضرب الناس في الأرض، ومعنى الضرب في الأرض أن يجد بهم السير في السفر.

وأما قوله: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فإنما كان ذلك في أول مشروعية القصر، وأما بعد ذلك فقد جاز للناس أن يصلوا قصراً من غير خوف، ولهذا جاء في الصحيح من حديث يعلى بن أمية أنه قال لـعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين، إن الله يقول: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101] فقد أمن الناس، يعني: كيف نقصر وقد أمن الناس؟ وإنما قيد الله ذلك بالخوف!!

( فقال عمر : عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هي صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ).

هذا يدل على أن القصر إنما كان لأجل السفر إذا جدَّ السير، ومن المعلوم أن قوله: (وإذا ضربتم في الأرض) يحتمل أمرين:

الاحتمال الأول: أن القصر إنما هو إذا جد السير في السفر.

الاحتمال الثاني: أن المقصود بذلك: أنكم إذا أنشأتم سفراً تضرب له الأرض، سواء جد بكم السير أم وصلتم إلى بلد تضرب لأجلها الأرض، وهذا هو الأقرب، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20]، ومن المعلوم أن الذي يضرب في الأرض حال جد السير ليس هو الذي يبتغي من فضل الله، إنما الذي يصل إلى بلد تضرب لأجله الأرض، فدل ذلك على أن قوله: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ ، ليس المقصود: إذا جد بكم السير، ولكن هذا كناية عن مسافة لا تقطع إلا بالضرب.

ومما يدل على جواز القصر ومشروعيته: ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر )، وهذا الحديث متفق عليه.

وقد روى الإمام أحمد و النسائي من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ( صلاة السفر ركعتان تماماً غير قصر )، فهذا يدل على أن الصلاة في السفر تقصر إلى ركعتين، والذي تقصر إلى ركعتين هي الظهر والعصر والعشاء، وقد أجمع العلماء على ذلك، وأما المغرب والفجر فإنهما لا تقصران بإجماع العلماء كما ذكر ذلك ابن المنذر رحمه الله رحمةً واسعة.

ولهذا أجمع أهل العلم على أن من سافر سفراً تقصر لمثله الصلاة فإنه يجوز له أن يقصر الصلاة التي يجوز أن تقصر، وهي: الظهر والعصر والعشاء، وقد نقل الإجماع ابن المنذر ، و ابن قدامة ، و أبو العباس بن تيمية ، وغير واحد من سلف هذه الأمة.

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن القصر يكون على نوعين كما ذكر ذلك ابن تيمية و ابن القيم :

النوع الأول: قصر عدد.

ويقصد بقصر العدد أن يقصر الظهر من أربع ركعات إلى ركعتين، وكذلك العصر والعشاء، وهذا لا يتأتى إلا حال السفر، كما ثبت عند الترمذي و أحمد بسند جيد -كما قال أبو العباس بن تيمية - و الدارقطني وغيره، من حديث أنس بن مالك الكعبي ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة )، فدل على أن ذلك إنما هو في حق المسافر، فهذا يسمى قصر عدد.

النوع الثاني: قصر الأركان، وهذا لا يتأتى إلا حال الخوف، كما قال ابن عباس : وصلاة الخوف ركعة! يعني بذلك أنها تخفف تخفيف أركان إذا وجد الخوف، وقد قال الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً [البقرة:238-239]، يعني: قصرت الأركان، فلا يركع إلا إيماء، ولا يسجد إلا إيماء، ولا يقف بل يتحرك، كل ذلك لأجل الخوف.

وعلى هذا فإذا وجد السفر والخوف قصر المصلي قصر عدد وقصر أركان، وإذا وجد السفر ولم يوجد الخوف قصر قصر عدد، وإذا وجد الخوف ولم يوجد السفر فإنه يقصر قصر أركان، والله أعلم.

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن أهل العلم ذهبوا إلى مشروعية القصر في الصلاة إذا وجد السفر، سواء كان سفره مباحاً أم سفر معصية، هذا هو قول أبي حنيفة و ابن حزم ، ورواية عند أحمد ، اختارها أبو العباس بن تيمية رحمة الله تعالى عليهم جميعاً.

قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى علق القصر على وجود الضرب في الأرض، فقال: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا [النساء:101]، فمتى وجد الضرب في الأرض جاز القصر سواء كان السفر لأجل معصية أم لغير معصية؛ وذلك لأن هذا إنما هو من باب خطاب الوضع، وليس من باب خطاب التكليف، وخطاب الوضع هو ما كان سبباً أو شرطاً أو مانعاً، فمتى ما وجد الأمر فإنه يجوز لك أن تفعل؛ لأنه من أوامر الله وليس من أفعال العباد.

أما خطاب التكليف فإنه مناط بأفعال العباد، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وذهب مالك و الشافعي و أحمد وأكثر الفقهاء إلى أنه يشترط في السفر الذي يبيح القصر أن يكون سفراً مباحاً، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173] قالوا: فإنه جوز للإنسان أن يأكل من الميتة إذا لم يكن باغياً ولا عادياً، والباغي هو الخارج على السلطان، والعادي هو المعتدي على الناس، كما ثبت ذلك عن مجاهد .

قال أبو العباس بن تيمية : والصحيح أن الباغي معناه: الذي يأكل المال الحرام، أو يأكل الميتة الحرام، ومعه شيء حلال، فيكون حينئذ باغياً؛ لأنه اعتدى على ما يحرم أكله مع أن عنده الحلال.

وأما المعتدي: فإن الذي جوز له أن يأكل من الحرام لأجل إزالة مسغبته، فلا يجوز له أن يتجاوز ويتعدى، هذا هو المقصود بالآية.

الشيخ: إذا ثبت هذا وهو أن الإنسان له أن يقصر متى ما وجد السفر، فالسؤال الذي يطرح نفسه:

ما حد السفر الذي يباح للإنسان أن يقصر فيه، هل له حد محدود ومسافة معلومة أم متى ما خرج الإنسان من عامر قريته بمقدار ميل جاز له أن يقصر كما يقول ابن حزم أم أن العبرة بما سماه الناس عرفاً سفراً؟

اختلف العلماء على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أربعة برد

الشيخ: القول الأول: هو قول عامة السلف والخلف، ومنهم الأئمة الأربعة و ابن عباس و ابن عمر ، ولا يعلم لهم مخالف، قالوا: إن الإنسان لا يباح له القصر إلا أن يقطع مسافة أربعة برد والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال بالميل الهاشمي.

فالأربعة البرد تساوي ستة عشر فرسخاً، وهي حاصل ضرب أربعة في أربعة.

وهي بالأميال ثمان وأربعون ميلاً، وهي حاصل ضرب ثلاثة في ستة عشر.

والميل يساوي ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع.

وكم من الكيلو متر يبلغ الميل في الواقع المعاصر؟

قالوا: الميل الهاشمي يساوي كيلو متر واحد وستمائة وثمانية أمتار، وإذا كانت مسافة القصر ثمانية وأربعين ميلاً، فقدرها بالكيلومتر أن نضرب ثمانية وأربعين في كيلو وستمائة وثمانية أمتار يساوي ثمانين كيلو متر وكسور، وعلى هذا قالوا: إنه متى قطع المسافة وهي ثمانون كيلو متراً فإنه يجوز له أن يقصر الصلاة، ولم يقع عندهم خلاف أنه لو قطع هذه المسافة فإنه يعد مسافراً، إلا أن بعض الفقهاء كـابن سيرين وغيره وهي رواية عن عثمان بن عفان قالوا: إذا لم يحمل الزاد والراحلة فإنه لا يقصر؛ لأنه سوف يرجع من يومه.

وعلى هذا فلم يختلفوا على أن ثمانين كيلو متراً تقصر لمثلها الصلاة، ويبقى الخلاف: هل يشترط حمل الزاد أم لا يشترط، وعلى هذا فمن قال: لا يشترط حمل الزاد فإنه يرى القصر إذا قطع ثمانين كيلو متراً.

ومعنى الزاد والراحلة أن يأكل ويجلس ويرتاح، وليس المقصود بحمل الزاد والراحلة أن ينام فقط؛ لأن الزاد هو أن يأكل ويشرب ويرتاح مثل الجالس، وعلى هذا فإن الذي يقطع تلك المسافة ومعه زاده وراحلته فإنه يجوز له أن يقصر بإجماع العلماء، وما وجد من خلاف أنه مائة ميل إنما ذلك لأجل التمثيل، وليس لأجل أنها أقل مسافة القصر.

وعلى هذا فالذين يذهبون مثلاً من أهل الرياض إلى روضة خريم، وهي مسافة أكثر من تسعين كيلو متراً، وقد حملوا الزاد والراحلة معهم إلى مخيمهم، هل لهم أن يقصروا؟

الجواب: إذا حملوا الزاد والراحلة فإن لهم أن يقصروا بإجماع الفقهاء، وأما إذا ذهبوا زيارة بحيث يجلسون إلى العصر ثم يرجعون ولم يحملوا الزاد؛ فإن بعض أهل العلم قالوا: لا يقصرون؛ لأنهم لم يحملوا الزاد، وبعضهم يقولوا: يقصرون، وهو مذهب الجمهور، وسوف نأتي إليها بتفصيل أكثر، لكن الذي نريد أن نبينه أن مسافة ثمانين كيلو متراً سفر طويل، ولم يخالف أحد من أهل العلم أن ذلك سفر طويل يجوز معه القصر، إنما الخلاف إذا لم يحمل الزاد والراحلة، فـابن تيمية رحمه الله يرى أن ثمانين كيلو متراً سفر طويل، لكنه يقول: إن لم يحمل الزاد والراحلة لا يقصر؛ لأنه لا يعد في العرف مسافراً.

فـابن تيمية رحمه الله عنده عرفان: عرف متى يسمى هذا مسافراً؟ وعرف أنه إذا ذهب مسافةً طويلة ثم رجع هل يعد مسافراً أم لا؟

والحاصل أن القول بأن مسافة القصر هي ثمانون كيلو متراً هو قول عامة أهل العلم، بل حكى الليث بن سعد إجماع أهل العلم أنه لا يصح أن يقصر فيما دونها، وقال الشافعي رحمه الله: والذي بلغنا أن أربعة برد يجوز معها أن يقصر، ولم يبلغنا عن أحد أنه منع من القصر في مثل ذلك.

وقال: ولم أحفظ عن غيرهم من أهل العلم من يجوز القصر في أقل من ذلك.

فـالشافعي نقل الإجماع على أن ثمانين كيلو متراً مسافة قصر، وأما أقل من ذلك فإنه يقول: لم أحفظ من أهل العلم الثقات من يقول بذلك.

واستدل العلماء على أن مسافة القصر أربعة برد بأدلة:

أولاً: ما ثبت في الصحيحين -واللفظ للبخاري - من حديث أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم )، وفي رواية مسلم : ( أن تسافر مسيرة يوم )، فقالوا: إن مسافة يوم وليلة مسافة قصر، واليوم إذا أطلق فإنما يقصد به اليوم بليلته، ولهذا يسمى أحياناً يوماً أو يوماً وليلة أو يوماً تاماً، كما قال ابن عباس .

ولهذا قال ابن عباس : إذا سافرت إلى العشاء فلا تقصر، فإن زدت على ذلك فاقصر.

فالعبرة هو بيوم وليلة، وما جاء في بعض روايات الحديث عن أبي هريرة ، و أبي سعيد (يوم) إنما هو اختصار من الراوي، والمقصود به يوم مع ليلته، والله أعلم.

قالوا: وجه الدلالة: أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز أن يقصر في أقل من يوم وليلة.

واليوم والليلة إذا قطعها الإنسان بسير الأقدام أو مع الدواب التي تمشي على الطريق المعتادة، فإن ذلك يكون أربعة برد، ولا حرج أن ينقص قليلاً أو يزيد قليلاً، يعني أن تكون تسعة وسبعين أو سبعة وسبعين كيلو متراً؛ كل ذلك جائز.

لكن الشاهد أن العبرة هي قطع تلك المسافة، وهي أربعة برد، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى سفراً بأقل من ذلك، وهذا دليل قوي جداً.

وأما ابن حزم رحمه الله الذي دائماً يعتمد على ظاهر الحديث فلما جاءه (يوم)، وجاءه (يوم وليلة)، قال: ليس لكم حجة في هذا؛ لأنه جاء في رواية: (يوم)، واليوم هو من الفجر إلى المغرب، أو الليلة من المغرب إلى الفجر.

قلنا لـابن حزم : أنت لم تأخذ بالحديث، حتى على لفظ (يوم)؛ لأنك ترى أنه يجوز للإنسان أن يقصر إذا قطع مسافة ميل واحد، وهو كيلو متراً واحد وستمائة وثمانون متراً.

فـابن حزم يرى أنه إذا قطع هذه المسافة جاز له أن يقصر، ولم يقل أحد من أهل العلم بقول ابن حزم ، وسوف نأتي إلى دليله، لكن القصد أن ابن حزم رحمه الله يقول بالقصر إذا قطع مسافة ميل، ولم يأت ابن حزم بدليل من الكتاب، وإنما اعتمد على آثار الصحابة، وهو لا يحتج بأقوال الصحابة، وهذا من غرائبه رحمه الله، وإن كان فهم فهماً أن العبرة باسم السفر، فمن سافر قصر؛ لأنه خرج من عامر قريته، ولكن هذا ليس حجة؛ لأن النص ثابت في يوم وليلة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، وعادة ابن حزم أنه يعتمد على عمومات النصوص.

الدليل الثاني: ما رواه عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قال: (لا تقصر من مكة إلى عرفة، ولكن من مكة إلى الطائف أو إلى جدة أو إلى عسفان)، وجه الدلالة: أن ابن عباس منع أن يقصر الإنسان إذا أراد أن يخرج من مكة إلى عرفة، ولكن جوز أن يقصر من مكة إلى الطائف، قالوا: ومكة إلى الطائف، أو إلى جدة، أو إلى عسفان هي أربعة برد، وأما الطرق المختصرة الآن فتساوي خمسة وسبعين كيلو متراً، فهذه المسافة سوف نأتي إليها، فإن أهل العلم قالوا: إذا كان بينه وبين بلد طريقان أحدهما طويل والآخر قصير، فإن ذهب إلى القصير لم يقصر، وإن ذهب إلى الطويل قصر، فكذلك هنا، ومما يدل على ذلك أن ابن عباس رضي الله عنه قال في رواية أخرى: (فإذا ذهبت من مكة إلى الطائف أو من مكة إلى جدة، أو قدر ذلك من الأرض فاقصر الصلاة، ولا تقصر فيما دون ذلك)، وهذا إسناد صحيح رواه ابن جرير الطبري ، ورواه ابن أبي شيبة أيضاً وغيره.

وفي رواية عنه أنه قال: (أربعة برد)، كما روي ذلك عن ابن عباس ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الدليل الثالث: ما روي عن سالم أنه قال: ( ما أوفى عبد الله بن عمر أنه قصر الصلاة في أقل من أربعة برد )، يعني: ما أدرك ولا فعل أنه قصر الصلاة في أقل من أربعة برد، وكان رضي الله عنه له أرضان: أرض بالجرف، وأرض بخيبر، فكان رضي الله عنه إذا ذهب إلى الجرف لا يقصر الصلاة، وإذا ذهب إلى خيبر قصر الصلاة، وكانت بينها وبين خيبر تقريباً ثلاثة فراسخ، يعني: ستة وأربعين ميلاً تقريباً، يقدر بالكيلو سبعة وسبعين كيلو متراً، وقد قلنا: إنه لا حرج أن ينقص قليلاً أو يزيد كما أشار لذلك الإمام الشافعي في كتاب الأم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وأما قول ابن حزم : إنه اختلف على ابن عباس فيها، فنقول: نعم، ابن عباس اختلف عليه، لكن لم يختلف عليه أنه لا يصح في أقل من أربعة برد، وإنما اختلف عليه في أنه سئل: هل نقصر في أكثر من ذلك؟ فقال: اقصر، وهذا لا يدل على أن ما دونه لا يصح. ولكنه قال: (ولا تقصروا فيما دون ذلك)، أي: في أقل من مكة إلى الطائف، ولا في أقل من مكة إلى جدة، وهذا حد حده ابن عباس وكذلك ابن عمر ، فما أوفى عبد الله بن عمر أنه قصر في أقل من أربعة برد كما ثبت ذلك عن سالم ، وهذا قول محفوظ عنه.

وأما ما جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: (لا يقصر من رجع من يومه)؛ فإن هذا ليس معناه أنه لا عبرة بقطع المسافة؛ لأنه يرى شرطين: قطع المسافة، وحمل الزاد والراحلة، وهو قول محمد بن سيرين ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

القول الثاني: الأخذ بالعرف ولا حد له شرعاً

الشيخ: القول الثاني: ذهب ابن تيمية رحمه الله إلى أنه ليس ثمة حد محدود في ذلك، قال: ولو كان ثمة حد محدود لبينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا مما توفرت الدواعي على نقله، فلما لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم دل ذلك على أنه لا يصح.

والجواب على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كل أحكامه الشرعية يبينها بياناً قطعياً، فثمة أمور كثيرة يبينها صلى الله عليه وسلم بدلالة التضمن، أو بدلالة الالتزام أو بدلالة المطابقة، فلا يلزم أن تكون كل الأحكام الشرعية بدلالة المطابقة فقط، بل ربما تكون بدلالة الالتزام، أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته )، ما معنى ذلك؟ وهل جاء النهي عن أن يصوم الإنسان في ليلة الشك؟ وهذا أمر مختلف محتمل، ولهذا وقع فيه خلاف. فمثلاً وقت صلاة العشاء اختلف العلماء فيه، فقال قائل: إلى منتصف الليل، وقائل: إلى ثلث الليل، وقائل إلى الفجر، ومع ذلك وجدت الأحاديث، ولم يكن ثمة أدلة قاطعة صارمة في هذا، فكثيرة هي المسائل التي لم يقطع فيها قطعاً بيناً، ولهذا قال كثير من علماء الأصول: إن الشارع الحكيم حينما جعل الناس يختلفون في هذا فهو لأمور:

أولاً: الرحمة؛ لوجود الاختلاف الذي يسعهم.

الثاني: لأجل أن يفضل الله سبحانه وتعالى العلماء المجتهدين الذين يبحثون عن الأدلة، ويستفرغون جهدهم لأجل أن يبحثوا عن مراد الله ومراد رسوله، وفرق كبير بين من يبحث عن مراد الله ومراد رسوله، فيبحث عن هذا الدليل، ويفتش عن ذاك الدليل، يصحح هذا أو يضعف ذلك، ويبحث عن فعل الصحابة رضي الله عنهم، هذا الجهد كله له أجر، فلأجل هذا فضل العلماء على بقية الخلق.

إذاً قول: إنه لم يقطع فيه ليس معناه أنه لا يصح الاستدلال!

الثاني: أن ابن تيمية رحمه الله يقول: وكل ما أتى في الشرع ولم يأت تحديده في اللغة ولا في الشرع فإنما يحدد بالعرف.

والجواب على ذلك أن نقول: إذا كان هذا الأمر بالعرف فإننا نقول: إن ابن عباس و ابن عمر حددا ذلك بعرفهم، فقالوا: إن أربعة برد هي مسافة طويلة، وما دون ذلك ليست مسافة طويلة، فـابن عباس أخذ بالعرف، و ابن عمر أخذ بالعرف، وتابعهم أئمة كبار: مالك و الشافعي و أحمد و أبو حنيفة ، فنقول: ما زال العرف قائماً على أن أربعة برد مسافة طويلة، فأما أن نحتكم بعرف فلان وعلان أو في زمان ربما لم يدركوا ذلك فإن ذلك ليس بصحيح.

ولهذا أقول: حتى على قول ابن تيمية رحمه الله أن العبرة بالعرف، فنقول: إن استدلال ابن عباس و ابن عمر هو أيضاً بالعرف؛ لأنهم جمعوا بين عرفهم الموجود والعرف الذي أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم )، فجعلها مسافرة بذلك.

فعلى هذا فإن القول بأن العرف معتبر بأن نذهب إلى عرف قرية ربما لم يعرف أهلها بعض أحكام الطهارة والصلاة قول بعيد. فهل نسأل هؤلاء، أم نسأل أهل العلم الذين أخذ عنهم الأئمة كابراً عن كابر هذا الأمر، فدل ذلك على أن أربعة برد هي عرف الصحابة وعرف التابعين وعرف أتباع التابعين إلى يومنا هذا، ولهذا قال الليث بن سعد : أجمعوا على أنه لا يصح القصر فيما دون ذلك، فهذا يدل على أنه نوع من الأعراف التي استمرت إلى يومنا هذا، والتي وافقت دلالة النص الشرعي.

القول الثالث: مسافة ميل

الشيخ: القول الثالث: إذا قطع مسافة ميل قصر.

ونقول: أنى لكم ذلك؟ أعطونا دليلاً على ذلك.

وأما استدلال ابن حزم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج صلى بالمدينة الظهر أربعاً، وصلى في ذي الحليفة ركعتين )، قال: وذو الحليفة على بعد ثلاثة أميال، و عمر صلى في مقدار ميل!

فنقول: ليس هذا دليلاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نوى أن يقطع مسافةً تقصر لمثلها الصلاة، ولهذا نحن نقول: إن كل من أراد أن يسافر سفراً تقصر لمثله الصلاة، فإنه يبدأ بالقصر من حين أن يفارق عامر قريته كما سوف يأتي بيانه، وليس معنى ذلك أنه يجوز له أن يقصر بمقدار ميل، فإذا أراد الإنسان أن يخرج من مدينة الرياض لأجل أن يرى عشباً أو ربيعاً أو مطراً أو غير ذلك، وقطع مسافة كيلو وثمانمائة، فلا نقول له: اقصر على قول ابن حزم ، هذا قول بعيد كل البعد، ولعلها زلة من ابن حزم رحمه الله، خالف فيها كبار الأئمة.

ولا عتب أن نبين أن هذه زلة لا ينبغي لطالب العلم أن يقتدي بها، فإنني سمعت عن بعض طلبة العلم الذين لم يؤصلوا أنفسهم على كلام السلف وكلام الأئمة، أنهم يأخذون أقوال ابن حزم ويفتون الناس بمثل هذا!

فلكل عالم كبوة وهفوة وخطأ، فإن القول بقول ابن حزم لا ينبغي أن يذكر إلا على سبيل التحذير منه، فإنني وجدت من بعض طلبة العلم الصغار من يذهب بأهله إلى الثمامة وهي مسافة أكثر من ميل ويقصرون الصلاة، أعوذ بالله! وقد ثبت عن عمر كما روى عنه أبو قتادة العدوي أنه قال: (من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب).

ولأجل هذا لا ينبغي أن يقال: بأنه يجوز له أن يجمع لأجل ميل.

كذلك مسألة العرف أمرها لا ينضبط؛ لأن العلماء أنفسهم لو أردت أن يبينوا لك هل المسافة بين الرياض مثلاً وحريملا، أو الرياض ورماح مسافة قصر أم لا؟ تجد أنه قبل أن يفتيك ينظر إلى المسافة.

إذاً: لا يمكن أن ينفك الإنسان عن المسافة.

ثم إن قوله: هذا عرف وهذا عرف، هل هو سأل الناس وقال: هذا عرفكم أم لا؟ فعليه أن يسأل الناس، والقاعدة في هذا: أن الأحكام الشرعية يجب أن تبين لجمهور الناس، ويفقهها جمهور الناس.

ومما يدل على هذا أيضاً أن أكثر الذين يسافرون هم عوام الناس، فإذا لم يعطوا أمراً منضبطاً وقعوا في حيص بيص، ووقع في عباداتهم إشكال وشك وارتياب، ولأجل هذا فإنني أقول: إنه من أراد أن يسافر سفراً تقصر لمثله الصلاة، فإن الذي تقصر لمثله الصلاة ثمانون كيلو متراً، فإن نقصت قليلاً أو زادت قليلاً فلا حرج في ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: القول الأول: هو قول عامة السلف والخلف، ومنهم الأئمة الأربعة و ابن عباس و ابن عمر ، ولا يعلم لهم مخالف، قالوا: إن الإنسان لا يباح له القصر إلا أن يقطع مسافة أربعة برد والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال بالميل الهاشمي.

فالأربعة البرد تساوي ستة عشر فرسخاً، وهي حاصل ضرب أربعة في أربعة.

وهي بالأميال ثمان وأربعون ميلاً، وهي حاصل ضرب ثلاثة في ستة عشر.

والميل يساوي ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع.

وكم من الكيلو متر يبلغ الميل في الواقع المعاصر؟

قالوا: الميل الهاشمي يساوي كيلو متر واحد وستمائة وثمانية أمتار، وإذا كانت مسافة القصر ثمانية وأربعين ميلاً، فقدرها بالكيلومتر أن نضرب ثمانية وأربعين في كيلو وستمائة وثمانية أمتار يساوي ثمانين كيلو متر وكسور، وعلى هذا قالوا: إنه متى قطع المسافة وهي ثمانون كيلو متراً فإنه يجوز له أن يقصر الصلاة، ولم يقع عندهم خلاف أنه لو قطع هذه المسافة فإنه يعد مسافراً، إلا أن بعض الفقهاء كـابن سيرين وغيره وهي رواية عن عثمان بن عفان قالوا: إذا لم يحمل الزاد والراحلة فإنه لا يقصر؛ لأنه سوف يرجع من يومه.

وعلى هذا فلم يختلفوا على أن ثمانين كيلو متراً تقصر لمثلها الصلاة، ويبقى الخلاف: هل يشترط حمل الزاد أم لا يشترط، وعلى هذا فمن قال: لا يشترط حمل الزاد فإنه يرى القصر إذا قطع ثمانين كيلو متراً.

ومعنى الزاد والراحلة أن يأكل ويجلس ويرتاح، وليس المقصود بحمل الزاد والراحلة أن ينام فقط؛ لأن الزاد هو أن يأكل ويشرب ويرتاح مثل الجالس، وعلى هذا فإن الذي يقطع تلك المسافة ومعه زاده وراحلته فإنه يجوز له أن يقصر بإجماع العلماء، وما وجد من خلاف أنه مائة ميل إنما ذلك لأجل التمثيل، وليس لأجل أنها أقل مسافة القصر.

وعلى هذا فالذين يذهبون مثلاً من أهل الرياض إلى روضة خريم، وهي مسافة أكثر من تسعين كيلو متراً، وقد حملوا الزاد والراحلة معهم إلى مخيمهم، هل لهم أن يقصروا؟

الجواب: إذا حملوا الزاد والراحلة فإن لهم أن يقصروا بإجماع الفقهاء، وأما إذا ذهبوا زيارة بحيث يجلسون إلى العصر ثم يرجعون ولم يحملوا الزاد؛ فإن بعض أهل العلم قالوا: لا يقصرون؛ لأنهم لم يحملوا الزاد، وبعضهم يقولوا: يقصرون، وهو مذهب الجمهور، وسوف نأتي إليها بتفصيل أكثر، لكن الذي نريد أن نبينه أن مسافة ثمانين كيلو متراً سفر طويل، ولم يخالف أحد من أهل العلم أن ذلك سفر طويل يجوز معه القصر، إنما الخلاف إذا لم يحمل الزاد والراحلة، فـابن تيمية رحمه الله يرى أن ثمانين كيلو متراً سفر طويل، لكنه يقول: إن لم يحمل الزاد والراحلة لا يقصر؛ لأنه لا يعد في العرف مسافراً.

فـابن تيمية رحمه الله عنده عرفان: عرف متى يسمى هذا مسافراً؟ وعرف أنه إذا ذهب مسافةً طويلة ثم رجع هل يعد مسافراً أم لا؟

والحاصل أن القول بأن مسافة القصر هي ثمانون كيلو متراً هو قول عامة أهل العلم، بل حكى الليث بن سعد إجماع أهل العلم أنه لا يصح أن يقصر فيما دونها، وقال الشافعي رحمه الله: والذي بلغنا أن أربعة برد يجوز معها أن يقصر، ولم يبلغنا عن أحد أنه منع من القصر في مثل ذلك.

وقال: ولم أحفظ عن غيرهم من أهل العلم من يجوز القصر في أقل من ذلك.

فـالشافعي نقل الإجماع على أن ثمانين كيلو متراً مسافة قصر، وأما أقل من ذلك فإنه يقول: لم أحفظ من أهل العلم الثقات من يقول بذلك.

واستدل العلماء على أن مسافة القصر أربعة برد بأدلة:

أولاً: ما ثبت في الصحيحين -واللفظ للبخاري - من حديث أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم )، وفي رواية مسلم : ( أن تسافر مسيرة يوم )، فقالوا: إن مسافة يوم وليلة مسافة قصر، واليوم إذا أطلق فإنما يقصد به اليوم بليلته، ولهذا يسمى أحياناً يوماً أو يوماً وليلة أو يوماً تاماً، كما قال ابن عباس .

ولهذا قال ابن عباس : إذا سافرت إلى العشاء فلا تقصر، فإن زدت على ذلك فاقصر.

فالعبرة هو بيوم وليلة، وما جاء في بعض روايات الحديث عن أبي هريرة ، و أبي سعيد (يوم) إنما هو اختصار من الراوي، والمقصود به يوم مع ليلته، والله أعلم.

قالوا: وجه الدلالة: أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز أن يقصر في أقل من يوم وليلة.

واليوم والليلة إذا قطعها الإنسان بسير الأقدام أو مع الدواب التي تمشي على الطريق المعتادة، فإن ذلك يكون أربعة برد، ولا حرج أن ينقص قليلاً أو يزيد قليلاً، يعني أن تكون تسعة وسبعين أو سبعة وسبعين كيلو متراً؛ كل ذلك جائز.

لكن الشاهد أن العبرة هي قطع تلك المسافة، وهي أربعة برد، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى سفراً بأقل من ذلك، وهذا دليل قوي جداً.

وأما ابن حزم رحمه الله الذي دائماً يعتمد على ظاهر الحديث فلما جاءه (يوم)، وجاءه (يوم وليلة)، قال: ليس لكم حجة في هذا؛ لأنه جاء في رواية: (يوم)، واليوم هو من الفجر إلى المغرب، أو الليلة من المغرب إلى الفجر.

قلنا لـابن حزم : أنت لم تأخذ بالحديث، حتى على لفظ (يوم)؛ لأنك ترى أنه يجوز للإنسان أن يقصر إذا قطع مسافة ميل واحد، وهو كيلو متراً واحد وستمائة وثمانون متراً.

فـابن حزم يرى أنه إذا قطع هذه المسافة جاز له أن يقصر، ولم يقل أحد من أهل العلم بقول ابن حزم ، وسوف نأتي إلى دليله، لكن القصد أن ابن حزم رحمه الله يقول بالقصر إذا قطع مسافة ميل، ولم يأت ابن حزم بدليل من الكتاب، وإنما اعتمد على آثار الصحابة، وهو لا يحتج بأقوال الصحابة، وهذا من غرائبه رحمه الله، وإن كان فهم فهماً أن العبرة باسم السفر، فمن سافر قصر؛ لأنه خرج من عامر قريته، ولكن هذا ليس حجة؛ لأن النص ثابت في يوم وليلة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، وعادة ابن حزم أنه يعتمد على عمومات النصوص.

الدليل الثاني: ما رواه عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قال: (لا تقصر من مكة إلى عرفة، ولكن من مكة إلى الطائف أو إلى جدة أو إلى عسفان)، وجه الدلالة: أن ابن عباس منع أن يقصر الإنسان إذا أراد أن يخرج من مكة إلى عرفة، ولكن جوز أن يقصر من مكة إلى الطائف، قالوا: ومكة إلى الطائف، أو إلى جدة، أو إلى عسفان هي أربعة برد، وأما الطرق المختصرة الآن فتساوي خمسة وسبعين كيلو متراً، فهذه المسافة سوف نأتي إليها، فإن أهل العلم قالوا: إذا كان بينه وبين بلد طريقان أحدهما طويل والآخر قصير، فإن ذهب إلى القصير لم يقصر، وإن ذهب إلى الطويل قصر، فكذلك هنا، ومما يدل على ذلك أن ابن عباس رضي الله عنه قال في رواية أخرى: (فإذا ذهبت من مكة إلى الطائف أو من مكة إلى جدة، أو قدر ذلك من الأرض فاقصر الصلاة، ولا تقصر فيما دون ذلك)، وهذا إسناد صحيح رواه ابن جرير الطبري ، ورواه ابن أبي شيبة أيضاً وغيره.

وفي رواية عنه أنه قال: (أربعة برد)، كما روي ذلك عن ابن عباس ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الدليل الثالث: ما روي عن سالم أنه قال: ( ما أوفى عبد الله بن عمر أنه قصر الصلاة في أقل من أربعة برد )، يعني: ما أدرك ولا فعل أنه قصر الصلاة في أقل من أربعة برد، وكان رضي الله عنه له أرضان: أرض بالجرف، وأرض بخيبر، فكان رضي الله عنه إذا ذهب إلى الجرف لا يقصر الصلاة، وإذا ذهب إلى خيبر قصر الصلاة، وكانت بينها وبين خيبر تقريباً ثلاثة فراسخ، يعني: ستة وأربعين ميلاً تقريباً، يقدر بالكيلو سبعة وسبعين كيلو متراً، وقد قلنا: إنه لا حرج أن ينقص قليلاً أو يزيد كما أشار لذلك الإمام الشافعي في كتاب الأم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وأما قول ابن حزم : إنه اختلف على ابن عباس فيها، فنقول: نعم، ابن عباس اختلف عليه، لكن لم يختلف عليه أنه لا يصح في أقل من أربعة برد، وإنما اختلف عليه في أنه سئل: هل نقصر في أكثر من ذلك؟ فقال: اقصر، وهذا لا يدل على أن ما دونه لا يصح. ولكنه قال: (ولا تقصروا فيما دون ذلك)، أي: في أقل من مكة إلى الطائف، ولا في أقل من مكة إلى جدة، وهذا حد حده ابن عباس وكذلك ابن عمر ، فما أوفى عبد الله بن عمر أنه قصر في أقل من أربعة برد كما ثبت ذلك عن سالم ، وهذا قول محفوظ عنه.

وأما ما جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: (لا يقصر من رجع من يومه)؛ فإن هذا ليس معناه أنه لا عبرة بقطع المسافة؛ لأنه يرى شرطين: قطع المسافة، وحمل الزاد والراحلة، وهو قول محمد بن سيرين ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.