فقه العبادات - الصلاة [9]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله ممساكم بكل خير ومسرة.

وأحيي الإخوة الذين معنا في الأستديو، وكذلك أرحب بالإخوة والأخوات الذين هم من طلاب الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، وكذلك أرحب بالذين يستمعوننا خلف هذه الشاشة.

وكنا أيها الإخوة والأخوات تحدثنا عن شرط من شروط الصلاة، وهو اجتناب الخبث، وذكرنا المواضع التي ينهى عن الصلاة فيها، فذكرنا منها المقبرة والحمام والحشوش ومعاطن الإبل، وقلنا: لا تصح الصلاة في المقبرة على الراجح حتى ولو قلنا إن الدماء طاهرة، خلافاً للشافعية، وكذلك لا تصح الصلاة في الحمام؛ لأنه مأوى الشياطين، فلا تصح ولو افترض أن الماء الذي يكون في الحمام طاهراً؛ وكذلك لا تصح في معاطن الإبل؛ لأنها خلقت من جن، خلافاً للحنابلة الذين منعوا من ذلك لأجل التعبد. وفي هذه الحلقة سوف نكمل هذه المواضع، وبعد ذلك ندلف إلى شرط آخر من شروط الصلاة.

جوف الكعبة

الشيخ: من المواضع التي تكلم فيها أهل العلم: النهي عن صلاة الفريضة داخل الكعبة، فقالوا: لا تصح الفريضة داخل الكعبة.

ومن ذلك إذا كان ذلك في الحجر، فإن الحجر ليس كله خارج الكعبة، وليس كله داخل الكعبة، فإن الذي داخل الكعبة هو ستة أذرع وشيء، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عائشة ، فقد ذكرت أن فيه خمسة أذرع، وفي حديث ابن عباس عند مسلم : أن عبد الله بن الزبير أدخل فيه مسافة ستة أذرع وشيئاً، كما حكى ذلك أهل العلم، وعلى هذا فالقوس المحيط بالحجر الذي تسميه العامة حجر إسماعيل، ولم يصح تسميته حجر إسماعيل عند الصحابة ولا عند القرون المفضلة، وإنما تداوله الناس والفقهاء من المتأخرين، فهذا ليس هو من البيت، وإنما الذي في البيت هو من مسامتة الكعبة إلى ستة أذرع وشيء من جهة الحجر، وأما الباقي فليس هو من الحجر.

وقد اختلف أهل العلم في حكم صلاة الفريضة داخل الكعبة، أو في سطح بيت الله تعالى على قولين:

القول الأول: هو المنع، فقالوا: لا تصح صلاة الفريضة في الكعبة، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بأدلة:

الدليل الأول: ما رواه الترمذي و ابن ماجه من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المجزرة، والمزبلة، والحمام، وفوق ظهر بيت الله تعالى.. ) الحديث.

قالوا: فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة فوق ظهر بيت الله تعالى، قالوا: والنهي يقتضي الفساد.

والجواب على هذا: أن هذا الحديث ضعيف، فإن مداره على زيد بن جبيرة يرويه عن داود بن الحصين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، و زيد بن جبيرة ليس من أهل العلم الأقوياء، فإن البخاري حكم عليه بأنه منكر الحديث، وإذا قال البخاري في رجل: إنه منكر الحديث فهذا شديد الضعف، والترمذي رحمه الله أشار إلى أن مدار الحديث على زيد بن جبيرة ، و زيد بن جبيرة ليس بالذي يقبل تفرده، فكيف إذا كان ضعيفاً، وعلى هذا فالحديث لا يصح، وقد حكم أكثر أهل العلم عليه بأنه ضعيف.

وقد جاء من طريق آخر عند ابن ماجه من حديث عمر رضي الله عنه، وفي سنده رجل يقال له: عبد الله بن صالح المصري ، كاتب الليث بن سعد ، ورواه عن الليث بن سعد ، عن عبد الله العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وهذا الحديث باطل ولا يصح؛ وذلك لأن عبد الله بن صالح المصري ليس بذاك الذي يحفظ قوله، وقد سئل عبد الله بن نافع مولى عبد الله بن عمر ، فقال: إن هذا باطل عن أبي، يعني عن نافع ، فدل ذلك على أنه لا يصح حديث في الصلاة فوق ظهر بيت الله تعالى.

إذا ثبت هذا فإن ما استدل به القائلون بالمنع حديث ضعيف.

واستدلوا على ذلك أيضاً بما جاء في البخاري: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج فركع ركعتين قبل الكعبة، ثم قال: هذه القبلة ).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل القبلة داخل الكعبة، وإنما قال: هذه القبلة حينما توجه إليها، والمصلي داخل الكعبة لا يكون متوجهاً إليها، بل متوجهاً فيها، فقالوا: إن هذا مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (هذه القبلة)، وقد توجه إليها؛ ولهذا قال الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، قالوا: فإن توجه الإنسان إلى الشيء لا يكون مثل توجهه فيه، فدل ذلك على أن هذا مخالف للمأمور؛ لأن الشارع أمر أن نتوجه إلى الكعبة، فإذا كنا في الكعبة فلا نكون قد توجهنا إليها، هذا هو دليل القول الأول.

القول الثاني: هو مذهب الحنفية والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد قواها أبو محمد بن قدامة رحمة الله تعالى على الجميع، قالوا: إن الصلاة داخل الكعبة تصح، واستدلوا على ذلك بأدلة:

الدليل الأول: ما ثبت في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة )، وقد رواه أهل السنن من حديث ابن عمر : ( أنه سأل بلالاً ، فقال: كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى؟ قال: بين الساريتين إذا دخلت من يسارها )، فأشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة.

وكذلك ما روي في الصحيحين أن ابن عباس حينما سئل عن ذلك قال: ( إنما حدثني أسامة : أنه كبر في نواحيها، ولم يذكر صلاة )، وجه الدلالة: أنهم أنكروا على ابن عباس كيف روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل، فأخبر أن أسامة أخبره أنه كبر في نواحيها كلها، والصحيح هو رواية ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في داخل الكعبة ).

الدليل الثاني: قالوا: ( إن عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي في البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلي من الحجر إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت ).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت، وأمر عائشة أن تصلي في البيت، ولم يفصل عليه الصلاة والسلام بين أن تصلي فرضاً أو تصلي نفلاً، وإذا أجمعوا على جواز الصلاة نفلاً في الكعبة فكذلك الفريضة، فإنه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تصلي في الحجر إن أرادت الصلاة في الكعبة، فدل ذلك على أنه لا فرق بين الفرض والنفل؛ لأنه لو كان ثمة فرق لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة ؛ لأن هذا مقام يستدعي التفصيل، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فلما قال صلى الله عليه وسلم: ( صلي في الحجر إن أردت الصلاة في الكعبة )، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: هذا في الفرض وهذا في النفل، مع قيام هذا الاحتمال، فلما لم يفصل دل على أن المقصود هو كلتا الصلاتين: الفرض والنفل.

وهذا الدليل قوي، وعلى هذا فالراجح والله أعلم أن صلاة الفريضة تصح داخل الكعبة، إلا أننا حينما نقول: تصح، لا يلزم أن يكون ذلك مستحباً؛ لأن غالب أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصل الفرض، وفرق كبير بين أن نقول: هذا جائز، أو نقول: هذا مستحب، فنقول: تجوز صلاة الفريضة في الكعبة لكن لا يلزم أن يكون ذلك مستحباً، فهو جائز، ولكن الأفضل أن يستقبل القبلة كلها؛ لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].

فوق ظهر الكعبة

الشيخ: إذا ثبت هذا فما تقولون في الصلاة فوق ظهر بيت الله تعالى؟

الجواب على ذلك: إذا قلنا: إن الصلاة في البيت صحيحة، فكذلك فوق ظهر بيت الله تعالى، شريطة أن يبقى شاخص من الكعبة يتوجه إليه المصلي، مثل أن يكون بعض الجدر قدر سترة يصلي إليها، فإن لم يوجد شيء فإن أهل العلم قالوا: لا يصح أن يصلي فوق ظهر بيت الله تعالى، كما ذكر ذلك الحنابلة و أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وسواء كان هذا الشاخص منها أو من غيرها، فالصلاة صحيحة.

ومعنى قولنا: (منها) أي جزء من بناء الكعبة، مثل الجدار الصغير الموجود اليوم فوق السطح، فهذا منها، فلو صلى إليه فلا حرج.

أو يكون الشاخص داخلاً فيها ولو لم يكن منها، مثل أن يضع سترة داخل الكعبة، فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى؛ وذلك لأن الأزرقي روى أن ابن عباس أخبر عبد الله بن الزبير حينما جاء الحجاج فرمى الكعبة بالمنجنيق فهدمت فقال: مر بالكعبة أن توضع لها الخشب والستور، كيف يطوف الناس على ذلك أو يصلون إليه، ومن المعلوم أن الستور والخشب ليست من الكعبة، ومع ذلك فإن ابن عباس أفتى بذلك، وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله.

وعلى هذا فلو أن إنساناً صلى في الحجر، في الجهة التي هي منحنية، لكنه داخل الحجر، فجعل الكعبة خلفه ثم صلى، لم تصح صلاته؛ لأنه لم يتجه إلى شيء شاخص؛ نعم سوف يتجه إلى شيء شاخص خارج الكعبة؛ لأننا نقول: إن الشيء المنحني هذا آخره ليس من الكعبة.

ولو وضع سترة فقد اختلف العلماء، فالحنابلة يقولون: حتى في النفل لا يصح؛ لأنه لا بد أن تكون السترة من الكعبة نفسها، وذهب ابن قدامة رحمه الله إلى جواز الصلاة إلى سترة، ولو لم تكن من الكعبة، بل جوز رحمه الله الصلاة ولو لم تكن إلى سترة، استدلالاً بقصة صحة الصلاة لـأبي قبيس ، وأنكر أبو العباس عليه هذا الاستدلال، وقال: لأن ثمة فرقاً بين أن يصلي إلى جهتها ولو كان غير مسامت لها، وبين أن يصلي فوق ظهرها، وقول أبي العباس أقوى، ولهذا نقول: الأولى أن يصلي إلى شاخص، والأفضل أن يكون الشاخص منها، فإن لم يكن فليضع سترة، فإن لم يكن فلا يصح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

المجزرة

الشيخ: وأما الصلاة في المجزرة فاختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة في المجزرة لا تصح، وهذا مذهب الحنابلة، سواء كان فيها دم مسفوح، أو لم يكن فيها دم مسفوح فإن الصلاة فيها منهي عنها، والنهي يقتضي الفساد، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر الذي مر معنا، وهو: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبع مواطن، وذكر منها: المجزرة )، وقلنا: إن الحديث في سنده ضعف.

وعلى هذا فإن الحنابلة يمنعون من الصلاة في المجزرة سواء كان فيها دم مسفوح؛ لأن الدم المسفوح نجس، أو لم يكن فيها دم مسفوح؛ لأن هذا فيه نوع من الاستقذار.

والقول الثاني في المسألة: هو مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية، فقالوا: إن الصلاة في المجزرة على نوعين: إن كان فيها دم مسفوح فلا تصح؛ لأنه صلى في مكان نجس؛ لأن الدم المسفوح نجس؛ لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام:145]، فإنه رجس.

وإن لم يكن فيها دم مسفوح فإن الصلاة تصح، إلا أنها مكروهة، أما دليل الصحة فقالوا: لأنها بقعة طاهرة، ولم يأت ما يدل على المنع، والحديث الوارد فيها ضعيف.

قالوا: وأما قولنا: إنها مكروهة فلأمور:

أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول ولا القذر )، ومن المعلوم أن المجازر لا بد أن يحصل فيها شيء من القذر، ولو لم يكن فيها إلا وسوسة الإنسان حال صلاته وعدم خشوعه، لكفى في ذلك كراهة، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة : ( اذهبوا بهذه الخميصة وائتوني بأنبجانية أبي جهم ؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي )، ومن المعلوم أن الذي يصلي في مثل هذه الأماكن لا يخلو من انشغال في الذهن أو في الجوارح، ولأجل هذا قالوا: إن ذلك مكروه.

المزبلة

الشيخ: المسألة الأخرى: الصلاة في المزبلة.

والمزبلة مكان القمامة، فإن الحنابلة رحمهم الله قالوا: إن الصلاة في المزبلة لا تصح، سواء كان فيها نجاسة، أو لم يكن فيها نجاسة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول ولا القذر )، قالوا: فدل ذلك على أن هذه ليست من المساجد؛ لأن المساجد محمية من القذر والبول. هذا هو القول الأول.

والقول الثاني: هو مذهب جماهير أهل العلم، فقالوا: إن الصلاة في المزبلة على حالتين:

الحالة الأولى: إذا كان فيها نجاسة فإن الصلاة فيها لا تصح؛ لأنه يجب أن تكون البقعة حال الصلاة طاهرة، وهذا لا إشكال فيه كما مر معنا، وقلنا: إن عامة أهل العلم على عدم الصحة مع العمد، وأما مع الجهل فبعض أهل العلم -وهو مذهب مالك - يرى أنها واجبة، تسقط مع العجز أو الجهل أو النسيان.

الحال الثانية: إذا كانت المزبلة ليس فيها نجاسة، إنما فيها شيء من الأطعمة العفنة أو الروائح، قالوا: فإن الصلاة تصح مع الكراهة.

قالوا: أما قولنا بأن الصلاة تصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فأينما أدركتك الصلاة فصل؛ فإنما هو مسجد )،كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي ذر ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم كل بقعة مسجداً، قالوا: ولم يستثن صلى الله عليه وسلم من ذلك إلا شيئين كما عند الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة، والحمام )، فإذا لم تكن هناك مقبرة أو حمام فالصلاة صحيحة.

قالوا: وأما قولنا إنها مكروهة فلأن الصلاة في مثل هذه الأماكن لا يخلو من انشغال، والدليل على ذلك أن الإنسان إذا صلى في المزبلة فإنه يتأذى بالرائحة أو عدم الانشراح في السجود، ولا شك أن مثل هذه الأشياء مدعاة إلى أن ينشغل الإنسان في صلاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في حضرة طعام، أو وهو يدافعه الأخبثان، وعن الصلاة فيما يشغله من الألبسة، فقال: ( إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي )، فدل ذلك على أن أقل الأحوال أنها مكروهة.

قالوا: ومما يدل على الصحة: أن المزبلة هي ما يستقذره الإنسان في الغالب، وقد سئل صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: ( أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: صل في مرابض الغنم )، ومن المعلوم أن مرابض الغنم فيها بعرها، ومع ذلك جاز الصلاة فيها، فدل ذلك على أن ما يستقذر لا يمنع من الصحة إذا كانت البقعة طاهرة، وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

قارعة الطريق

الشيخ: من المواطن أو المواضع التي تكلم فيها أهل العلم هي قارعة الطريق، ومن المعلوم أن الطريق إما إنها مما تسلك أو لا تسلك.

فإن كانت لا تسلك فالأقرب وهو قول عامة أهل العلم: أن ذلك لا بأس به.

وإن كانت تسلك فإن الحنابلة منعوا من الصلاة في قارعة الطريق؛ قالوا: لأن الإنسان لا يسلم من مار بين يديه، ومن أذية له أو عليه.

قالوا: ولورود ذلك في حديث ابن عمر .

وكل هذه التعاليل لا تقوى بجانب حديث أبي سعيد الخدري : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )، فدل ذلك على أن قارعة الطريق مسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فأينما أدركتك الصلاة فصل؛ فإنما هو مسجد )، لكننا مع قولنا بجواز الصلاة نقول: إن ذلك مكروه؛ لأن الإنسان لا يسلم فيها من انشغال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا صلى أحدكم فليصل إلى شيء، فإذا أراد أحد أن يمر بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان )، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ، ومن المعلوم أن الذي يصلي في قارعة الطريق خاصةً إذا كانت مسلوكة سابلة فإن الناس يشغلونه أو هو يشغلهم، وهذا بلا شك مدعاة إلى أن الإنسان يَذهب عنه الخشوع، ويكون مقاتلاً للمصلين الذين يمرون بين يديه.

الشيخ: من المواضع التي تكلم فيها أهل العلم: النهي عن صلاة الفريضة داخل الكعبة، فقالوا: لا تصح الفريضة داخل الكعبة.

ومن ذلك إذا كان ذلك في الحجر، فإن الحجر ليس كله خارج الكعبة، وليس كله داخل الكعبة، فإن الذي داخل الكعبة هو ستة أذرع وشيء، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عائشة ، فقد ذكرت أن فيه خمسة أذرع، وفي حديث ابن عباس عند مسلم : أن عبد الله بن الزبير أدخل فيه مسافة ستة أذرع وشيئاً، كما حكى ذلك أهل العلم، وعلى هذا فالقوس المحيط بالحجر الذي تسميه العامة حجر إسماعيل، ولم يصح تسميته حجر إسماعيل عند الصحابة ولا عند القرون المفضلة، وإنما تداوله الناس والفقهاء من المتأخرين، فهذا ليس هو من البيت، وإنما الذي في البيت هو من مسامتة الكعبة إلى ستة أذرع وشيء من جهة الحجر، وأما الباقي فليس هو من الحجر.

وقد اختلف أهل العلم في حكم صلاة الفريضة داخل الكعبة، أو في سطح بيت الله تعالى على قولين:

القول الأول: هو المنع، فقالوا: لا تصح صلاة الفريضة في الكعبة، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بأدلة:

الدليل الأول: ما رواه الترمذي و ابن ماجه من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المجزرة، والمزبلة، والحمام، وفوق ظهر بيت الله تعالى.. ) الحديث.

قالوا: فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة فوق ظهر بيت الله تعالى، قالوا: والنهي يقتضي الفساد.

والجواب على هذا: أن هذا الحديث ضعيف، فإن مداره على زيد بن جبيرة يرويه عن داود بن الحصين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، و زيد بن جبيرة ليس من أهل العلم الأقوياء، فإن البخاري حكم عليه بأنه منكر الحديث، وإذا قال البخاري في رجل: إنه منكر الحديث فهذا شديد الضعف، والترمذي رحمه الله أشار إلى أن مدار الحديث على زيد بن جبيرة ، و زيد بن جبيرة ليس بالذي يقبل تفرده، فكيف إذا كان ضعيفاً، وعلى هذا فالحديث لا يصح، وقد حكم أكثر أهل العلم عليه بأنه ضعيف.

وقد جاء من طريق آخر عند ابن ماجه من حديث عمر رضي الله عنه، وفي سنده رجل يقال له: عبد الله بن صالح المصري ، كاتب الليث بن سعد ، ورواه عن الليث بن سعد ، عن عبد الله العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وهذا الحديث باطل ولا يصح؛ وذلك لأن عبد الله بن صالح المصري ليس بذاك الذي يحفظ قوله، وقد سئل عبد الله بن نافع مولى عبد الله بن عمر ، فقال: إن هذا باطل عن أبي، يعني عن نافع ، فدل ذلك على أنه لا يصح حديث في الصلاة فوق ظهر بيت الله تعالى.

إذا ثبت هذا فإن ما استدل به القائلون بالمنع حديث ضعيف.

واستدلوا على ذلك أيضاً بما جاء في البخاري: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج فركع ركعتين قبل الكعبة، ثم قال: هذه القبلة ).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل القبلة داخل الكعبة، وإنما قال: هذه القبلة حينما توجه إليها، والمصلي داخل الكعبة لا يكون متوجهاً إليها، بل متوجهاً فيها، فقالوا: إن هذا مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (هذه القبلة)، وقد توجه إليها؛ ولهذا قال الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، قالوا: فإن توجه الإنسان إلى الشيء لا يكون مثل توجهه فيه، فدل ذلك على أن هذا مخالف للمأمور؛ لأن الشارع أمر أن نتوجه إلى الكعبة، فإذا كنا في الكعبة فلا نكون قد توجهنا إليها، هذا هو دليل القول الأول.

القول الثاني: هو مذهب الحنفية والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد قواها أبو محمد بن قدامة رحمة الله تعالى على الجميع، قالوا: إن الصلاة داخل الكعبة تصح، واستدلوا على ذلك بأدلة:

الدليل الأول: ما ثبت في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة )، وقد رواه أهل السنن من حديث ابن عمر : ( أنه سأل بلالاً ، فقال: كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى؟ قال: بين الساريتين إذا دخلت من يسارها )، فأشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة.

وكذلك ما روي في الصحيحين أن ابن عباس حينما سئل عن ذلك قال: ( إنما حدثني أسامة : أنه كبر في نواحيها، ولم يذكر صلاة )، وجه الدلالة: أنهم أنكروا على ابن عباس كيف روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل، فأخبر أن أسامة أخبره أنه كبر في نواحيها كلها، والصحيح هو رواية ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في داخل الكعبة ).

الدليل الثاني: قالوا: ( إن عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي في البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلي من الحجر إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت ).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت، وأمر عائشة أن تصلي في البيت، ولم يفصل عليه الصلاة والسلام بين أن تصلي فرضاً أو تصلي نفلاً، وإذا أجمعوا على جواز الصلاة نفلاً في الكعبة فكذلك الفريضة، فإنه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تصلي في الحجر إن أرادت الصلاة في الكعبة، فدل ذلك على أنه لا فرق بين الفرض والنفل؛ لأنه لو كان ثمة فرق لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة ؛ لأن هذا مقام يستدعي التفصيل، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فلما قال صلى الله عليه وسلم: ( صلي في الحجر إن أردت الصلاة في الكعبة )، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: هذا في الفرض وهذا في النفل، مع قيام هذا الاحتمال، فلما لم يفصل دل على أن المقصود هو كلتا الصلاتين: الفرض والنفل.

وهذا الدليل قوي، وعلى هذا فالراجح والله أعلم أن صلاة الفريضة تصح داخل الكعبة، إلا أننا حينما نقول: تصح، لا يلزم أن يكون ذلك مستحباً؛ لأن غالب أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصل الفرض، وفرق كبير بين أن نقول: هذا جائز، أو نقول: هذا مستحب، فنقول: تجوز صلاة الفريضة في الكعبة لكن لا يلزم أن يكون ذلك مستحباً، فهو جائز، ولكن الأفضل أن يستقبل القبلة كلها؛ لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].

الشيخ: إذا ثبت هذا فما تقولون في الصلاة فوق ظهر بيت الله تعالى؟

الجواب على ذلك: إذا قلنا: إن الصلاة في البيت صحيحة، فكذلك فوق ظهر بيت الله تعالى، شريطة أن يبقى شاخص من الكعبة يتوجه إليه المصلي، مثل أن يكون بعض الجدر قدر سترة يصلي إليها، فإن لم يوجد شيء فإن أهل العلم قالوا: لا يصح أن يصلي فوق ظهر بيت الله تعالى، كما ذكر ذلك الحنابلة و أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وسواء كان هذا الشاخص منها أو من غيرها، فالصلاة صحيحة.

ومعنى قولنا: (منها) أي جزء من بناء الكعبة، مثل الجدار الصغير الموجود اليوم فوق السطح، فهذا منها، فلو صلى إليه فلا حرج.

أو يكون الشاخص داخلاً فيها ولو لم يكن منها، مثل أن يضع سترة داخل الكعبة، فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى؛ وذلك لأن الأزرقي روى أن ابن عباس أخبر عبد الله بن الزبير حينما جاء الحجاج فرمى الكعبة بالمنجنيق فهدمت فقال: مر بالكعبة أن توضع لها الخشب والستور، كيف يطوف الناس على ذلك أو يصلون إليه، ومن المعلوم أن الستور والخشب ليست من الكعبة، ومع ذلك فإن ابن عباس أفتى بذلك، وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله.

وعلى هذا فلو أن إنساناً صلى في الحجر، في الجهة التي هي منحنية، لكنه داخل الحجر، فجعل الكعبة خلفه ثم صلى، لم تصح صلاته؛ لأنه لم يتجه إلى شيء شاخص؛ نعم سوف يتجه إلى شيء شاخص خارج الكعبة؛ لأننا نقول: إن الشيء المنحني هذا آخره ليس من الكعبة.

ولو وضع سترة فقد اختلف العلماء، فالحنابلة يقولون: حتى في النفل لا يصح؛ لأنه لا بد أن تكون السترة من الكعبة نفسها، وذهب ابن قدامة رحمه الله إلى جواز الصلاة إلى سترة، ولو لم تكن من الكعبة، بل جوز رحمه الله الصلاة ولو لم تكن إلى سترة، استدلالاً بقصة صحة الصلاة لـأبي قبيس ، وأنكر أبو العباس عليه هذا الاستدلال، وقال: لأن ثمة فرقاً بين أن يصلي إلى جهتها ولو كان غير مسامت لها، وبين أن يصلي فوق ظهرها، وقول أبي العباس أقوى، ولهذا نقول: الأولى أن يصلي إلى شاخص، والأفضل أن يكون الشاخص منها، فإن لم يكن فليضع سترة، فإن لم يكن فلا يصح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه العبادات - الطهارة [4] 2579 استماع
فقه العبادات - الطهارة [17] 2560 استماع
فقه العبادات - الطهارة [5] 2437 استماع
فقه العبادات - الطهارة [15] 2388 استماع
فقه العبادات - الصلاة [11] 2237 استماع
فقه العبادات - الصلاة [16] 2234 استماع
فقه العبادات - الطهارة [7] 2184 استماع
فقه العبادات - الصلاة [14] 2111 استماع
فقه العبادات - الطهارة [14] 2089 استماع
فقه العبادات - الصلاة [23] 2056 استماع