فقه العبادات - الصلاة [23]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً,

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إخوتي المشاهدين والمشاهدات!

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً, وأن ينفعنا بما نسمع ونقول, إنه ولي ذلك والقادر عليه.

كنا قد توقفنا في بعض مسائل من صلاة التطوع التي اختلف أهل العلم هل هي صلاة أم لا؟ وقد تحدثنا عما أجمع أهل العلم على أنها صلاة كصلاة الضحى وصلاة الليل وصلاة الوتر.

ثم ندلف في هذه الحلقة إلى ما يسمى بسجود التلاوة وسجود الشكر, فقد اختلف أهل العلم في سجود التلاوة هل هو صلاة أم لا؟ وكم عدد سجدات التلاوة؟ وما حكم سجدة التلاوة؟ وهل يسجد المستمع كما يسجد القارئ؟ وإذا لم يسجد القارئ فهل يسجد المستمع؟

مسائل سوف نتحدث عنها إن شاء الله في هذا اليوم.

حكم سجود التلاوة

الشيخ: فنبدأ بالحديث على حكم سجود التلاوة؛ فأقول والله أعلم: أجمع أهل العلم على أن سجود التلاوة مشروع, وأنه يشرع للإنسان إذا سمع آية فيها سجدة أن يسجد. وبعد اتفاقهم على أن ذلك مشروع اختلفوا: هل هذا واجب أم هو مستحب؟

فذهب جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن سجود التلاوة مستحب وليس بواجب, وهو قول عمر رضي الله عنه, خلافاً لـأبي حنيفة الذي قال إن ذلك واجب, وهو اختيار ابن تيمية رحمهم الله جميعاً.

والراجح -والله أعلم- أن سجود التلاوة مستحب، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر أنه قال: ( أيها الناس! إنا نمر بالسجدة فنسجد، فمن سجد فقد أصاب, ومن لم يسجد فلا إثم عليه ), وفي رواية لـمالك في الموطأ: ( إن الله لم يأمرنا بالسجود إلا أن نشاء ).

ومما يدل أيضاً على أن سجود التلاوة مستحب ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فسجد فيها ), وهذا فعل، والفعل يقتضي الاستحباب.

وروى البخاري من حديث زيد بن ثابت أنه قال: ( قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم ولم يسجد فيها ).

فدل سجوده في حديث ابن عباس على مشروعيته, ودل تركه في حديث زيد بن ثابت على أنه يجوز للإنسان تركه, وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

مدى اعتبار سجود التلاوة صلاة

الشيخ: وهنا مسألة أخرى: هل سجود التلاوة صلاة -أي: يعامل معاملة الصلاة- أم أنه سجود لا يشترط فيه ما يشترط للصلاة؟

نقول: اختلف أهل العلم في هذه المسألة: فذهب جماهير الفقهاء من الأئمة الأربعة على أن سجود التلاوة صلاة, وعلى هذا فيشترط فيه ما يشترط للصلاة, مثل: الطهارة واستقبال القبلة والتكبير، ومثل أن المستمع لا يسجد إذا كانت ستسجد سجود التلاوة امرأة؛ لأنه لا تصح صلاة رجل خلف امرأة, وهذا بناء على أنها صلاة.

واستدلوا على ذلك بما رواه البيهقي عن ابن عمر بسند صحيح أنه قال: (لا يسجد الرجل إلا على طهارة), قالوا: فدل ذلك على أن الصحابة فهموا أن سجود التلاوة يشترط فيه ما يشترط للصلاة.

والراجح والله أعلم أن سجود التلاوة ليس بصلاة, وهذا هو مذهب ابن حزم ، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.

ومما يدل على ذلك أمور:

أولاً: صح عند البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه سجد للتلاوة وهو على غير طهر, فدل ذلك على أن ابن عمر حينما أمر بالطهارة في سجود التلاوة -كما هو هنا-، فإنما كان ذلك على سبيل الاستحباب, وعندما سجد على غير طهارة فهذا دليل على أن ذلك ليس بواجب ولا شرط.

ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح البخاري و مسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ), قالوا: ومن المعلوم أن سجود التلاوة لا يشرع فيها قراءة الفاتحة، فدل على أن سجود التلاوة ليس بصلاة.

ومما يدل على ذلك: أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه كبر لها في غير الصلاة.

وأما ما جاء عند الحاكم أنه: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم السجدة فسجد فسجدنا ), وفي رواية: ( فكبر ), فإن رواية التكبير رواية ضعيفة في سندها رجل يقال له: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو يسمى عبد الله العمري المكبر، وحديثه حديث ضعيف كما ذكر ذلك أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.

عدد سجدات التلاوة في القرآن

الشيخ: إذا ثبت هذا فإننا ندخل في المسألة الأخرى؛ وهي كم عدد سجدات التلاوة؟

اختلف العلماء في عدد السجدات التي تشرع في القرآن:

فذهب الحنابلة ومن وافقهم إلى أن عدد السجدات أربع عشرة سجدة, ليس منها سجدة (ص).

وذهب بعضهم إلى أنها ثلاث عشرة سجدة, ليس منها سجدة (ص) ولا السجدة الثانية من سورة الحج.

والذي يظهر هو ما روي عن ابن عباس و ابن عمر ، وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص أنه قال: ( أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة منها سجدتان في سورة الحج ), وهذا الحديث في سنده رجل يقال له: عبد الله بن منين ، وهو ضعيف, ضعفه بعض أهل العلم, ولكن نقول: الأقرب والله أعلم أن عدد السجدات خمس عشرة سجدة.

وأما دليل سجوده صلى الله عليه وسلم في (ص)، فقول ابن عباس كما عند البخاري : ( إنها ليست من عزائم السجود, ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها ), فهذا دليل على أن سجود (ص) إنما سجده داود شكراً, وهذا لا أثر له؛ لأننا اقتدينا بفعله صلى الله عليه وسلم, فقد ثبت أنه سجد, فدل ذلك على أن الأقرب أن عدد سجدات التلاوة خمس عشرة سجدة.

الذكر المشروع في سجود التلاوة

الشيخ: إذا ثبت هذا فماذا يقال في سجود التلاوة؟

نقول: جاء في حديث رواه أبو داود و الترمذي وقالا: حديث حسن صحيح, من طريق خالد الحذاء عن أبي العالية عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده في الليل: سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ), وفي رواية بزيادة: ( تبارك الله أحسن الخالقين ). وهذا الحديث الأقرب -والله أعلم- أن فيه جهالة؛ وذلك لأن الصحيح في رواية خالد الحذاء أنه قد رواه عن رجل عن أبي العالية عن عائشة , فدل ذلك على أن في هذا الحديث رجلاً لم يسم, كما أشار إلى ذلك الإمام الدارقطني , وعلى هذا فالحديث في سنده ضعف, لكن لو قاله الإنسان في سجود التلاوة فلا بأس.

وقد جاء عند أهل السنن من حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي رأى في المنام كأنه يصلي خلف شجرة، قال:( فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي, فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً, وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً, وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام ), فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال هذا.

وهذا الحديث في سنده رجل يقال له: الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد يرويه عن ابن جريج , و ابن جريج يرويه عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس , و الحسن بن محمد بن عبيد الله حديثه ضعيف.

ولهذا حينما سئل الإمام أحمد : ماذا يقول في سجود التلاوة؟ قال: يسبح؛ لحديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( حينما نزل قول الله تعالى: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1], قال: اجعلوها في سجودكم ), والحديث رواه أبو داود وقلنا: إنه إسناده جيد, وقد حسنه أبو العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.

فدل ذلك على أن الإنسان لو قال في سجود التلاوة: (سبحان ربي الأعلى) لكفاه ذلك, فإن أحب أن يدعو بخيري الدنيا والآخرة فلا حرج في ذلك, وإن أحب أن يدعو بحديث عائشة وإن كان في سنده ضعف فلا حرج إن شاء الله, وإن دعا بحديث ابن عباس وإن كان في سنده الحسن بن محمد بن عبيد الله أيضاً فلا حرج إن شاء الله تبارك وتعالى.

التكبير لسجود التلاوة

الشيخ: ومن المسائل أيضاً: أن الحنابلة وجمهور أهل العلم قالوا: إذا أراد أن يسجد للتلاوة يكبر, فأقول: إن هذه المسألة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: سجود تلاوة في صلاة, والقسم الثاني: سجود تلاوة خارج الصلاة.

فإن كانت سجود التلاوة داخل الصلاة، فقد ذهب جمهور الفقهاء -وهو الراجح- من الحنابلة والمالكية والشافعية أن للإنسان أن يكبر, بل هو واجب أن يكبر إذا أراد أن يسجد، وأن يكبر إذا أراد أن يرفع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث أبي هريرة : ( أنه كان يكبر في كل خفض ورفع ), فهذا يدل على أن الإنسان إذا أراد أن يخفض فإنه يكبر, وإذا أراد أن يرفع فإنه يكبر؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( فإذا كبر فكبروا, وإذا ركع فاركعوا, وإذا سجد فاسجدوا ), فدل ذلك على أن التكبير مشروع في الصلاة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه.

القسم الثاني: إذا سجد للتلاوة خارج الصلاة: فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يشرع للإنسان أن يكبر إذا أراد أن يسجد, وإذا أراد أن يرفع.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه يكبر في الخفض ولكنه لا يكبر في الرفع.

والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم: أنه لم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير للخفض ولا للرفع خارج الصلاة؛ وذلك لأن الحديث الوارد فيه حديث ضعيف, وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة فيها سجدة, فسجد فسجدنا معه, حتى ما يجد أحدنا موضعاً لمكان جبهته ), وجه الدلالة: أنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر.

وأما ما جاء عند الحاكم من طريق عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر : ( فكبر فسجد فكبرنا فسجدنا ), فهذه زيادة منكرة أنكرها كثير من أهل العلم؛ وذلك لأن عبد الله بن عمر العمري رجل ضعيف لا يعول على مفرداته فضلاً عما إذا كان ذلك مخالفاً لما جاء في الصحيحين, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

استقبال القبلة في سجود التلاوة

الشيخ: ومن المسائل أيضاً: أن الإنسان يستحب له إذا سجد للتلاوة أن يستقبل القبلة -ولكن ليس بواجب خلافاً للجمهور- لأن الكعبة هي قبلتنا أحياءً وأمواتاً, والحديث رواه البيهقي من حديث ابن عمر : ( هي قبلتكم أحياءً وأمواتاً ), ومر معنا في أبواب سابقة أن هذا الحديث في سنده ضعف, لكن هذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعادته, وسنة الصحابة وعادتهم؛ أنهم يستقبلون القبلة في مثل هذا, وقد قال الله تعالى: فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90], فدل ذلك على أنه يشرع للإنسان أن يستقبل القبلة في ذلك.

سجود التلاوة للمستمتع والسامع

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن عندنا مستمعاً وسامعاً, فذهب الحنابلة والمالكية إلى أنه يشرع للمستمع أن يسجد إذا سجد القارئ, وأن السامع لا يشرع له السجود.

وذهب الشافعي إلى أنه المستمع والسامع يسجد, وإن كان في حق المستمع أولى وآكد منه في حق السامع.

وجاء في ذلك أثران:

الأثر الأول: حديث عثمان رضي الله عنه: (أنه مر برجل قرأ سورة السجدة, فأراد الرجل أن يسجد عثمان معه, فقال عثمان : إنما السجود على من استمع لها).

الأثر الثاني: حديث ابن عباس بسند صحيح: (إنما السجود على من جلس لها), قالوا: فهذا معناه أن السجود في حق المستمع, وأما السامع فإنه وإن جلس لكنه لم يجلس للقراءة.

وأقول: إن هذه هي سنة الصحابة, فقد ثبت عن عثمان و ابن عباس أن السجود للتلاوة إنما يشرع في المستمع والقارئ, وأما السامع فالذي يظهر والله أعلم أنه غير مخاطب, فإن سجد فلا حرج إن شاء الله، ولا يقال: يسن, بل يقال: إنه حسن منه، لكنه ليس بمخاطب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

سجود التلاوة للمستمع إذا لم يسجد القارئ

الشيخ: وهنا مسألة أخرى، وهي: إذا لم يسجد القارئ فهل يسجد المستمع؟

وبعبارة أخرى: إذا قرأ قارئ السجدة فلم يسجد, فهل يسجد المستمع أم لا؟

نقول: هذا على أقسام:

القسم الأول: إن كان في صلاة فإذا لم يسجد الإمام فلا يشرع للمأموم أن يسجد, وإنه يأثم في ذلك؛ لأنه خالف إمامه, وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه ).

القسم الثاني: إذا كان ذلك خارج الصلاة, فإن الذي يظهر أنه إذا لم يسجد القارئ فقد روى ابن أبي شيبة أن ابن مسعود قال لغلام اسمه سليمان بن حنظلة حين قرأ السجدة: أنت إمامنا، فاسجد نسجد معك، وهذا يدل على أن الأفضل للمستمع ألا يسجد إلا أن يسجد إمامه.

وجاء حديث آخر رواه أبو داود في مراسيله من حديث زيد بن أسلم قال: (قرأ قارئ سجدة فلم يسجد، فقال له صلى الله عليه وسلم: إنما أنت إمامنا فلو سجدت لسجدنا), ولكن هذان الحديثان ضعيفان, فإن أحدهما من مراسيل عطاء بن يسار والآخر من مراسيل زيد بن أسلم ، ومراسيلهما كمهب الريح, يعني: أن ذلك لا يصح.

ولكني أقول: إن المستمع إذا كان قد استمع الآية، فإن كان القارئ سوف يسجد فيشرع للمستمع ألا يسجد حتى يسجد القارئ, وأما إذا لم يسجد القارئ فالذي يظهر والله أعلم أن له أن يسجد؛ لأن المستمع يأخذ حكم القارئ، ومما يدل على ذلك أن المستمع كالداعي، فيأخذ حكمه كما في قول الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89], والذي دعا هو موسى عليه السلام، وهارون إنما أمن على دعائه، فجعل سبحانه وتعالى أن الدعاء صار منهما جميعاً, فكذلك المستمع له أن يسجد, ولكن الأفضل إذا سجد إمامه ألا يسجد حتى يسجد إمامه, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: فنبدأ بالحديث على حكم سجود التلاوة؛ فأقول والله أعلم: أجمع أهل العلم على أن سجود التلاوة مشروع, وأنه يشرع للإنسان إذا سمع آية فيها سجدة أن يسجد. وبعد اتفاقهم على أن ذلك مشروع اختلفوا: هل هذا واجب أم هو مستحب؟

فذهب جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن سجود التلاوة مستحب وليس بواجب, وهو قول عمر رضي الله عنه, خلافاً لـأبي حنيفة الذي قال إن ذلك واجب, وهو اختيار ابن تيمية رحمهم الله جميعاً.

والراجح -والله أعلم- أن سجود التلاوة مستحب، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر أنه قال: ( أيها الناس! إنا نمر بالسجدة فنسجد، فمن سجد فقد أصاب, ومن لم يسجد فلا إثم عليه ), وفي رواية لـمالك في الموطأ: ( إن الله لم يأمرنا بالسجود إلا أن نشاء ).

ومما يدل أيضاً على أن سجود التلاوة مستحب ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فسجد فيها ), وهذا فعل، والفعل يقتضي الاستحباب.

وروى البخاري من حديث زيد بن ثابت أنه قال: ( قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم ولم يسجد فيها ).

فدل سجوده في حديث ابن عباس على مشروعيته, ودل تركه في حديث زيد بن ثابت على أنه يجوز للإنسان تركه, وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: وهنا مسألة أخرى: هل سجود التلاوة صلاة -أي: يعامل معاملة الصلاة- أم أنه سجود لا يشترط فيه ما يشترط للصلاة؟

نقول: اختلف أهل العلم في هذه المسألة: فذهب جماهير الفقهاء من الأئمة الأربعة على أن سجود التلاوة صلاة, وعلى هذا فيشترط فيه ما يشترط للصلاة, مثل: الطهارة واستقبال القبلة والتكبير، ومثل أن المستمع لا يسجد إذا كانت ستسجد سجود التلاوة امرأة؛ لأنه لا تصح صلاة رجل خلف امرأة, وهذا بناء على أنها صلاة.

واستدلوا على ذلك بما رواه البيهقي عن ابن عمر بسند صحيح أنه قال: (لا يسجد الرجل إلا على طهارة), قالوا: فدل ذلك على أن الصحابة فهموا أن سجود التلاوة يشترط فيه ما يشترط للصلاة.

والراجح والله أعلم أن سجود التلاوة ليس بصلاة, وهذا هو مذهب ابن حزم ، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.

ومما يدل على ذلك أمور:

أولاً: صح عند البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه سجد للتلاوة وهو على غير طهر, فدل ذلك على أن ابن عمر حينما أمر بالطهارة في سجود التلاوة -كما هو هنا-، فإنما كان ذلك على سبيل الاستحباب, وعندما سجد على غير طهارة فهذا دليل على أن ذلك ليس بواجب ولا شرط.

ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح البخاري و مسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ), قالوا: ومن المعلوم أن سجود التلاوة لا يشرع فيها قراءة الفاتحة، فدل على أن سجود التلاوة ليس بصلاة.

ومما يدل على ذلك: أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه كبر لها في غير الصلاة.

وأما ما جاء عند الحاكم أنه: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم السجدة فسجد فسجدنا ), وفي رواية: ( فكبر ), فإن رواية التكبير رواية ضعيفة في سندها رجل يقال له: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو يسمى عبد الله العمري المكبر، وحديثه حديث ضعيف كما ذكر ذلك أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.

الشيخ: إذا ثبت هذا فإننا ندخل في المسألة الأخرى؛ وهي كم عدد سجدات التلاوة؟

اختلف العلماء في عدد السجدات التي تشرع في القرآن:

فذهب الحنابلة ومن وافقهم إلى أن عدد السجدات أربع عشرة سجدة, ليس منها سجدة (ص).

وذهب بعضهم إلى أنها ثلاث عشرة سجدة, ليس منها سجدة (ص) ولا السجدة الثانية من سورة الحج.

والذي يظهر هو ما روي عن ابن عباس و ابن عمر ، وروي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص أنه قال: ( أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة منها سجدتان في سورة الحج ), وهذا الحديث في سنده رجل يقال له: عبد الله بن منين ، وهو ضعيف, ضعفه بعض أهل العلم, ولكن نقول: الأقرب والله أعلم أن عدد السجدات خمس عشرة سجدة.

وأما دليل سجوده صلى الله عليه وسلم في (ص)، فقول ابن عباس كما عند البخاري : ( إنها ليست من عزائم السجود, ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها ), فهذا دليل على أن سجود (ص) إنما سجده داود شكراً, وهذا لا أثر له؛ لأننا اقتدينا بفعله صلى الله عليه وسلم, فقد ثبت أنه سجد, فدل ذلك على أن الأقرب أن عدد سجدات التلاوة خمس عشرة سجدة.

الشيخ: إذا ثبت هذا فماذا يقال في سجود التلاوة؟

نقول: جاء في حديث رواه أبو داود و الترمذي وقالا: حديث حسن صحيح, من طريق خالد الحذاء عن أبي العالية عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده في الليل: سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ), وفي رواية بزيادة: ( تبارك الله أحسن الخالقين ). وهذا الحديث الأقرب -والله أعلم- أن فيه جهالة؛ وذلك لأن الصحيح في رواية خالد الحذاء أنه قد رواه عن رجل عن أبي العالية عن عائشة , فدل ذلك على أن في هذا الحديث رجلاً لم يسم, كما أشار إلى ذلك الإمام الدارقطني , وعلى هذا فالحديث في سنده ضعف, لكن لو قاله الإنسان في سجود التلاوة فلا بأس.

وقد جاء عند أهل السنن من حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي رأى في المنام كأنه يصلي خلف شجرة، قال:( فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي, فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً, وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً, وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام ), فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال هذا.

وهذا الحديث في سنده رجل يقال له: الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد يرويه عن ابن جريج , و ابن جريج يرويه عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس , و الحسن بن محمد بن عبيد الله حديثه ضعيف.

ولهذا حينما سئل الإمام أحمد : ماذا يقول في سجود التلاوة؟ قال: يسبح؛ لحديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( حينما نزل قول الله تعالى: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1], قال: اجعلوها في سجودكم ), والحديث رواه أبو داود وقلنا: إنه إسناده جيد, وقد حسنه أبو العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.

فدل ذلك على أن الإنسان لو قال في سجود التلاوة: (سبحان ربي الأعلى) لكفاه ذلك, فإن أحب أن يدعو بخيري الدنيا والآخرة فلا حرج في ذلك, وإن أحب أن يدعو بحديث عائشة وإن كان في سنده ضعف فلا حرج إن شاء الله, وإن دعا بحديث ابن عباس وإن كان في سنده الحسن بن محمد بن عبيد الله أيضاً فلا حرج إن شاء الله تبارك وتعالى.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه العبادات - الطهارة [4] 2563 استماع
فقه العبادات - الطهارة [17] 2558 استماع
فقه العبادات - الطهارة [5] 2436 استماع
فقه العبادات - الطهارة [15] 2385 استماع
فقه العبادات - الصلاة [9] 2345 استماع
فقه العبادات - الصلاة [11] 2235 استماع
فقه العبادات - الصلاة [16] 2207 استماع
فقه العبادات - الطهارة [7] 2181 استماع
فقه العبادات - الصلاة [14] 2108 استماع
فقه العبادات - الطهارة [14] 2085 استماع