فقه العبادات - الطهارة [4]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من حضر هذا الاجتماع وهذه الحلقة من حلق العلم ممن تحفهم الملائكة وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم ربنا سبحانه وتعالى عنده في الملأ الأعلى.

أيها الإخوة! ما زلنا نتحدث في كتاب الطهارة وفي باب الاستنجاء والاستجمار، وقد تحدثنا عن آداب قضاء الحاجة، وذكرنا بعض المسائل، ولم يسعفنا الوقت حتى ننتهي من باب آداب قضاء الحاجة، ونحن بإذن الله سوف نسير في هذا الترتيب بناءً على كتب الفقهاء، ونحن وإن لم نختر كتاباً محدداً فإننا بإذن الله لن نترك بعض المسائل المهمة.

نعم بعض الآداب ربما نتركها، وبعضها مما يحتاجها الناس نذكرها، وإلا فإنه يصعب في مثل هذه الدورة أن نذكر كل ما قيل؛ لكن الأصل أن الإنسان يعرف المسائل العامة المشهورة، ثم يعرف كيف يتعامل مع النصوص من حيث الأخذ بالدليل، ومن حيث ترك العمل بالحديث لأجل أنه ضعيف، فبذلك يكتسب طالب العلم وطالبة العلم الملكة الفقهية التي ينشدها كل من سار على هذا الأمر.

أيها الإخوة! ما زلنا نتحدث عن آداب قضاء الحاجة، ومن الآداب التي بقيت هي حكم الاستنجاء أو الاستجمار باليمين.

من آداب قضاء الحاجة عدم الاستنجاء باليمين

الشيخ: أولاً: حكم الاستنجاء باليمين.

من المعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته لا بد أن يتعامل بيديه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم للعبد والأمة كيف يتعامل بيده مع قضاء الحاجة، فبين أن هذه اليمين مكرمة عند الله سبحانه وتعالى، ولأجل هذا فلا ينبغي للإنسان أن يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا أن يبول ويمسك ذكره بيمينه؛ لأن ذلك من باب إهانة اليمين، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة: ( كان يعجبه التيمن في تنعله إذا تنعل، وفي ترجله إذا ترجل، وفي طهوره إذا تطهر ).

وكان إذا أراد أن يتطهر من باب إزالة ما علق في جسده صلى الله عليه وسلم من أوساخ بدأ باليمين، وإذا أراد أن يزيل وصف الحدث القائم بنفسه بدأ بشقه اليمين، وأما ما دون ذلك فإنه يستخدم يده اليسرى، ولأجل هذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء )، والحديث متفق عليه.

اختلاف العلماء بين كراهية الاستنجاء باليمين وتحريمه

الشيخ: والسؤال: هل الاستنجاء باليمين من باب التحريم أم من باب الكراهة؟

اختلف العلماء في ذلك، فذهب الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ، و مالك و الشافعي و أحمد إلى أن النهي إنما هو للكراهة، وليس للتحريم، إذاً النهي عند الجمهور للكراهة.

ولماذا حملوا النهي على الكراهة مع أن الأصل أن النهي يقتضي التحريم؟

فنقول: نحن نعلم أن القاعدة الأصولية تقول: إن النهي يقتضي التحريم، ولا يصرف عن التحريم إلا بقرينة، والقرينة أيها الإخوة! لا يلزم أن تكون نصاً شرعياً من كتاب أو سنة، فيمكن أن تكون ظاهر الكتاب والسنة، ويمكن أن تكون قرائن تعرف بالأدلة والقرائن، فذكر جمهور العلماء أن من الصوارف في هذه المسألة كما أشار إلى ذلك النووي: أن هذا من باب الإرشاد والآداب، وليس من باب العبادات التي هي متوقفة على التوقيف، يعني: لا تعرف حكمتها.

قالوا أيضاً: ولأن في الحديث: ( ولا يتنفس في الإناء )، فإذا كان التنفس في الإناء ليس من باب التحريم، فكذلك التمسح من الخلاء ليس من باب التحريم.

وقالوا أيضاً: ولأن اليمين أو اليسار إنما هي بضعة من جسد الإنسان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما هو بضعة منك)، فإذا كان كذلك فإنه يدل على الكراهة.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن النهي يكون للتحريم، وهذا مذهب داود الظاهري و ابن حزم، وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول )، فدل ذلك على أن المقصود هو حال قضاء الحاجة، فلربما وقع في يده اليمنى بعض النجاسة، واليمنى ينبغي أن تكرم، فلا ينبغي للإنسان أن يخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فإننا نقول: إنه لا يدل على التحريم، لكن نقول مع ذلك: إنه وإن كان القول بالكراهة قولاً قوياً، لكن لا ينبغي للناس أن يخالفوا هذا الأمر؛ لأن القول بالتحريم قول قوي أيضاً، فنقول: الراجح أنه للكراهة، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتهاون في هذا الأمر، ولهذا ينبغي أن يعلم الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته ألا يمسك ذكره بيمينه، ولكنه يمسكه بيساره.

طيب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول )، وقال: ( ولا يتمسح من الخلاء بيمينه )، فإذا أراد الإنسان قضاء حاجته فكيف يستطيع أن يتمسح بيمينه؟ انظر فقه العلماء، قالوا: إذا اضطر إلى استعمال اليمين فإنه يمسك ذكره بيمينه، ويأخذ الحجر ويحركها بشماله، لتكون المتحركة هي اليسار وليست اليمين، كل ذلك لأجل ألا يخالف ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا يا إخوان! شيء يربينا أي: هذا الذي يظن بعض الناس أنه تكلف هو لأجل ألا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتبقى قلوبنا معظمةً أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم حتى في قضاء الحاجة، ولهذا عندما قال اليهود لـسلمان الفارسي : ( قد علمكم رسولكم كل شيء حتى الخراءة ) يعني: حتى أداء قضاء الحاجة، فما استشكل سلمان هذا الأمر ورأى أن الضغط الإعلامي سوف يؤثر عليه، بل قال: ( أجل! نهانا أن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو بعظم، وأن نستقبل القبلة ببول أو غائط ).

وهذا يدل على أننا حينما نقول هذا الأمر أننا ونحن نقضي الحاجة نعلم أن الله قد أمرنا بشيء ينبغي لنا أن نؤديه.

من آداب قضاء الحاجة ألا يكشف الشخص عورته حتى يدنو من الأرض

الشيخ: إذا ثبت هذا فإنه من المعلوم -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته فلا بد أن يكشف عورته، والسؤال: قال أهل العلم: ينبغي للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته ألا يكشف عورته حتى يكون قريباً من الأرض، وقد ذكر النووي استحباب ألا يكشف عورته حتى يدنو من الأرض، لماذا؟

قالوا: لما جاء عند أهل السنن من حديث معاوية بن حيدة قال: ( يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: يا رسول الله! أرأيت إذا كان أحدنا وحده؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه )، يعني: إذا كنت أنت تستحي من أن تكشف عورتك أمام شخص أجنبي فالله أحق أن تستحيا منه، فإذا كان محرماً أن يكشف الإنسان عورته أمام صاحبه، فكذلك يحرم أن يكشف عورته بلا حاجة وحده؛ لأن الله أحق أن يستحيا منه.

قد يقول قائل: ما الدليل على أن الإنسان يحرم عليه أن يكشف عورته أمام صاحبه؟

نقول: الدليل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ليس على عورتهما شيء )، فهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يكشف عورته، ولهذا أثنى الله سبحانه وتعالى على موسى، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69]، فقد كان اليهود إذا أرادوا أن يغتسلوا كشفوا ثيابهم وعوراتهم رجالاً ونساءً، ( فكان موسى عليه السلام استحياءً من الله لا يغتسل إلا وعليه شيء، فكان اليهود يقولون: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر -يعني مجبوب الذكر- فكان الله سبحانه وتعالى يريد أن يظهر عور كلامهم، فوضع موسى ثوبه على حجر، ثم اغتسل، فجعل الحجر يهرب -بأمر الله سبحانه وتعالى- فلما رأى موسى أن الحجر قد هرب بثيابه، فجعل يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! فجعلت اليهود تنظر إلى موسى وقالوا: والله ما بموسى من بأس )، والحديث في صحيح مسلم.

إذا ثبت هذا فإننا نقول: لا ينبغي للإنسان أن يكشف عورته إلا إذا أراد أن يقضي الحاجة، ومن المؤسف أيها الإخوة! أنك تجد بعض الناس بمجرد دخوله دورات المياه يكشف ثيابه وربما من غير حاجة، فإذا أراد أن يقص شاربه، أو أن يصنع شيئاً برأسه، أو أن المرأة تصنع شيئاً برأسها تجد أنهم يكشفون ثيابهم، ولا شيء على عوراتهم، وهم في دورات المياه، وهذا الأمر لا ينبغي، ولو كانوا وحدهم؛ لأن هذا الكشف ليس له حاجة، فلأجل هذا فإن كشف العورة من غير حاجة الراجح أنه محرم؛ لأنه إذا استحيا المرء من الأجنبي فالله أحق أن يستحي منه، ولأجل هذا ينبغي أن نتفطن لمثل هذا.

أما حال إرادة قضاء الحاجة فإننا نقول: يستحب له، ولكن مع ذلك فإن بعض الناس يقضي حاجته وينتهي ويمكث كاشفاً عورته وهذا مكروه.

إذاً عندنا ثلاث مراتب: الأول: كشف العورة من غير حاجة وحكمه حرام، والدليل ( فالله أحق أن يستحيا منه ).

الثاني: كشف العورة إذا أراد أن يقضي حاجته، فيستحب له ألا يكشف ثيابه إلا إذا كان يريد قضاء الحاجة أو يدنو منها.

الثالث: يقضي حاجته وينتهي من ذلك كاشفاً عورته، قلنا: إن ذلك مكروه، بل بالغ بعضهم فقالوا: إن ذلك محرم، والراجح أن ذلك مكروه؛ لأنه ربما يبقى أكثر من هذا، ولهذا ينبغي أن نعلم أن الموسوس والموسوسة -هداهم الله ونسأل الله أن يشفيهم- حينما يبقون في دورات المياه كاشفي عوراتهم ويقولون: إنه من باب الطهارة فإنهم قد أطاعوا إبليس من وجهين: أطاعوا إبليس من الوجه الأول أنهم بالغوا في التطهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( سيكون في آخر الزمان قوم يعتدون في الطهور والدعاء ).

الثاني: أنهم كشفوا عوراتهم، وقد نهى الله ونهى رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نكشف عوراتنا من غير حاجة.

الشيخ: أولاً: حكم الاستنجاء باليمين.

من المعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته لا بد أن يتعامل بيديه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم للعبد والأمة كيف يتعامل بيده مع قضاء الحاجة، فبين أن هذه اليمين مكرمة عند الله سبحانه وتعالى، ولأجل هذا فلا ينبغي للإنسان أن يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا أن يبول ويمسك ذكره بيمينه؛ لأن ذلك من باب إهانة اليمين، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة: ( كان يعجبه التيمن في تنعله إذا تنعل، وفي ترجله إذا ترجل، وفي طهوره إذا تطهر ).

وكان إذا أراد أن يتطهر من باب إزالة ما علق في جسده صلى الله عليه وسلم من أوساخ بدأ باليمين، وإذا أراد أن يزيل وصف الحدث القائم بنفسه بدأ بشقه اليمين، وأما ما دون ذلك فإنه يستخدم يده اليسرى، ولأجل هذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء )، والحديث متفق عليه.

الشيخ: والسؤال: هل الاستنجاء باليمين من باب التحريم أم من باب الكراهة؟

اختلف العلماء في ذلك، فذهب الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ، و مالك و الشافعي و أحمد إلى أن النهي إنما هو للكراهة، وليس للتحريم، إذاً النهي عند الجمهور للكراهة.

ولماذا حملوا النهي على الكراهة مع أن الأصل أن النهي يقتضي التحريم؟

فنقول: نحن نعلم أن القاعدة الأصولية تقول: إن النهي يقتضي التحريم، ولا يصرف عن التحريم إلا بقرينة، والقرينة أيها الإخوة! لا يلزم أن تكون نصاً شرعياً من كتاب أو سنة، فيمكن أن تكون ظاهر الكتاب والسنة، ويمكن أن تكون قرائن تعرف بالأدلة والقرائن، فذكر جمهور العلماء أن من الصوارف في هذه المسألة كما أشار إلى ذلك النووي: أن هذا من باب الإرشاد والآداب، وليس من باب العبادات التي هي متوقفة على التوقيف، يعني: لا تعرف حكمتها.

قالوا أيضاً: ولأن في الحديث: ( ولا يتنفس في الإناء )، فإذا كان التنفس في الإناء ليس من باب التحريم، فكذلك التمسح من الخلاء ليس من باب التحريم.

وقالوا أيضاً: ولأن اليمين أو اليسار إنما هي بضعة من جسد الإنسان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما هو بضعة منك)، فإذا كان كذلك فإنه يدل على الكراهة.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن النهي يكون للتحريم، وهذا مذهب داود الظاهري و ابن حزم، وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول )، فدل ذلك على أن المقصود هو حال قضاء الحاجة، فلربما وقع في يده اليمنى بعض النجاسة، واليمنى ينبغي أن تكرم، فلا ينبغي للإنسان أن يخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فإننا نقول: إنه لا يدل على التحريم، لكن نقول مع ذلك: إنه وإن كان القول بالكراهة قولاً قوياً، لكن لا ينبغي للناس أن يخالفوا هذا الأمر؛ لأن القول بالتحريم قول قوي أيضاً، فنقول: الراجح أنه للكراهة، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتهاون في هذا الأمر، ولهذا ينبغي أن يعلم الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته ألا يمسك ذكره بيمينه، ولكنه يمسكه بيساره.

طيب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول )، وقال: ( ولا يتمسح من الخلاء بيمينه )، فإذا أراد الإنسان قضاء حاجته فكيف يستطيع أن يتمسح بيمينه؟ انظر فقه العلماء، قالوا: إذا اضطر إلى استعمال اليمين فإنه يمسك ذكره بيمينه، ويأخذ الحجر ويحركها بشماله، لتكون المتحركة هي اليسار وليست اليمين، كل ذلك لأجل ألا يخالف ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا يا إخوان! شيء يربينا أي: هذا الذي يظن بعض الناس أنه تكلف هو لأجل ألا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتبقى قلوبنا معظمةً أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم حتى في قضاء الحاجة، ولهذا عندما قال اليهود لـسلمان الفارسي : ( قد علمكم رسولكم كل شيء حتى الخراءة ) يعني: حتى أداء قضاء الحاجة، فما استشكل سلمان هذا الأمر ورأى أن الضغط الإعلامي سوف يؤثر عليه، بل قال: ( أجل! نهانا أن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو بعظم، وأن نستقبل القبلة ببول أو غائط ).

وهذا يدل على أننا حينما نقول هذا الأمر أننا ونحن نقضي الحاجة نعلم أن الله قد أمرنا بشيء ينبغي لنا أن نؤديه.

الشيخ: إذا ثبت هذا فإنه من المعلوم -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته فلا بد أن يكشف عورته، والسؤال: قال أهل العلم: ينبغي للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته ألا يكشف عورته حتى يكون قريباً من الأرض، وقد ذكر النووي استحباب ألا يكشف عورته حتى يدنو من الأرض، لماذا؟

قالوا: لما جاء عند أهل السنن من حديث معاوية بن حيدة قال: ( يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: يا رسول الله! أرأيت إذا كان أحدنا وحده؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه )، يعني: إذا كنت أنت تستحي من أن تكشف عورتك أمام شخص أجنبي فالله أحق أن تستحيا منه، فإذا كان محرماً أن يكشف الإنسان عورته أمام صاحبه، فكذلك يحرم أن يكشف عورته بلا حاجة وحده؛ لأن الله أحق أن يستحيا منه.

قد يقول قائل: ما الدليل على أن الإنسان يحرم عليه أن يكشف عورته أمام صاحبه؟

نقول: الدليل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ليس على عورتهما شيء )، فهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يكشف عورته، ولهذا أثنى الله سبحانه وتعالى على موسى، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69]، فقد كان اليهود إذا أرادوا أن يغتسلوا كشفوا ثيابهم وعوراتهم رجالاً ونساءً، ( فكان موسى عليه السلام استحياءً من الله لا يغتسل إلا وعليه شيء، فكان اليهود يقولون: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر -يعني مجبوب الذكر- فكان الله سبحانه وتعالى يريد أن يظهر عور كلامهم، فوضع موسى ثوبه على حجر، ثم اغتسل، فجعل الحجر يهرب -بأمر الله سبحانه وتعالى- فلما رأى موسى أن الحجر قد هرب بثيابه، فجعل يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! فجعلت اليهود تنظر إلى موسى وقالوا: والله ما بموسى من بأس )، والحديث في صحيح مسلم.

إذا ثبت هذا فإننا نقول: لا ينبغي للإنسان أن يكشف عورته إلا إذا أراد أن يقضي الحاجة، ومن المؤسف أيها الإخوة! أنك تجد بعض الناس بمجرد دخوله دورات المياه يكشف ثيابه وربما من غير حاجة، فإذا أراد أن يقص شاربه، أو أن يصنع شيئاً برأسه، أو أن المرأة تصنع شيئاً برأسها تجد أنهم يكشفون ثيابهم، ولا شيء على عوراتهم، وهم في دورات المياه، وهذا الأمر لا ينبغي، ولو كانوا وحدهم؛ لأن هذا الكشف ليس له حاجة، فلأجل هذا فإن كشف العورة من غير حاجة الراجح أنه محرم؛ لأنه إذا استحيا المرء من الأجنبي فالله أحق أن يستحي منه، ولأجل هذا ينبغي أن نتفطن لمثل هذا.

أما حال إرادة قضاء الحاجة فإننا نقول: يستحب له، ولكن مع ذلك فإن بعض الناس يقضي حاجته وينتهي ويمكث كاشفاً عورته وهذا مكروه.

إذاً عندنا ثلاث مراتب: الأول: كشف العورة من غير حاجة وحكمه حرام، والدليل ( فالله أحق أن يستحيا منه ).

الثاني: كشف العورة إذا أراد أن يقضي حاجته، فيستحب له ألا يكشف ثيابه إلا إذا كان يريد قضاء الحاجة أو يدنو منها.

الثالث: يقضي حاجته وينتهي من ذلك كاشفاً عورته، قلنا: إن ذلك مكروه، بل بالغ بعضهم فقالوا: إن ذلك محرم، والراجح أن ذلك مكروه؛ لأنه ربما يبقى أكثر من هذا، ولهذا ينبغي أن نعلم أن الموسوس والموسوسة -هداهم الله ونسأل الله أن يشفيهم- حينما يبقون في دورات المياه كاشفي عوراتهم ويقولون: إنه من باب الطهارة فإنهم قد أطاعوا إبليس من وجهين: أطاعوا إبليس من الوجه الأول أنهم بالغوا في التطهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( سيكون في آخر الزمان قوم يعتدون في الطهور والدعاء ).

الثاني: أنهم كشفوا عوراتهم، وقد نهى الله ونهى رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نكشف عوراتنا من غير حاجة.

الشيخ: أيها الإخوة! بعدما انتهينا من هذه المسألة فإننا سوف نتحدث عن المواضع التي ينهى عن التخلي فيها؛ لأنه ليس كل موضع يجوز للإنسان أن يقضي فيه حاجته، وهذه المواضع المنهي عنها تصل إلى سبعة مواضع، وإذا أردنا أن نجملها نقول: هي ستة مواضع، وسوف نذكرها إن شاء الله.

الطريق المسلوكة

الشيخ: أولاً: طريق الناس، من المعلوم أن الإنسان أحياناً إذا قضى حاجته في طريق الناس المسلوكة فإن الناس تتأذى منه، وتأذيهم يكون من وجهين:

الوجه الأول: من استقذار المرور على هذا الطريق.

الثاني: لربما وطأت أرجل بعضهم بعض هذه النجاسة، أو أصابت بعض ثيابهم، فتقذروا من هذا الوضع، ولربما كان السبب هو من فعل ذلك، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا اللعانين. قالوا: يا رسول الله! وما اللعانان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم ).

إذاً الأمر الأول: طريق الناس، أما الطريق التي تكون غير مسلوكة أو مهجورة، أو مثل الطرق التي تكون في البراري، فتجدون في البر أحياناً يكون هنا طريق، وهنا طريق، فهذه لم تكن من عادة الناس السلوك فيها؛ لأنها مهجورة، فحينئذ نقول: لا حرج، لكن إذا كان الطريق مسلوكاً وهو معتاد أن يسير الناس عليه، فإنه يحرم على الإنسان أن يقضي حاجته فيه.

الظل الذي يستظل به الناس

الشيخ: ثانياً: ظل الناس، فلا يجوز للإنسان أن يقضي حاجته فيما يستظل الناس فيه، ومثل ذلك الأماكن التي يتشمس الناس فيها في وقت البرد؛ فإنه من المعلوم أن الناس أحياناً يجلسون في أماكن الشمس وقت الشتاء، فكل مكان يجلس الناس فيه سواء كان للتشمس أو للاستظلال من الشمس، أو في مكان الحدائق والمتنزهات، فإنه لا يجوز للإنسان أن يقضي حاجته هناك، ومن المؤسف أن تجد بعض الناس في وقت الشتاء يخرجون إلى أماكن الربيع، وإلى أماكن الروضات التي تكون بسبب هطول الأمطار، فتجد بعض الناس لا يبالي في أي مكان قضى حاجته، وهذا لا ينبغي له أن يصنع ذلك، وقد ( نهى رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نتخلى في طريق الناس أو في ظلهم )، إذاً: الظل المقصود به الظل الذي يحتاجه الناس.

أما الظل الذي لا يحتاجه الخلق، ولا يستفاد منه، فهذا لا حرج، ودليل ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن جعفر أنه قال: ( كان أحب ما استتر به صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل )، ومن المعلوم أن الهدف فيه ظل، لكن هذا الظل لا ينتفع بالجلوس فيه، وكذلك حائش النخل فليس مكاناً للظل، أما الطلح التي يستظل الناس فيها فلا يجوز كما سوف يأتي.

إذاً الدليل على النهي عن قضاء الحاجة في الظل هو ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا اللعانين. قالوا: وما اللعانان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم )، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللعانين) محتملة معنيين:

المعنى الأول: الذي سبب لنفسه اللعن.

المعنى الثاني: الملعون، يعني اتقوا الملعونين، والله تبارك أعلى وأعلم.

موارد المياه

الشيخ: ثالثاً ومن المواضع التي ينهى عن قضاء الحاجة فيها موارد المياه.

فإننا نعلم -أيها الإخوة- أن موارد المياه التي يرد الناس إليها لسقياهم، أو لسقي مواشيهم كالآبار والوديان لا يجوز للإنسان أن يقضي حاجته فيها، سواء كان ببول أو غائط، ولا يقول متعذراً: لم أجد مكاناً، فقد أعطى الله سبحانه وتعالى لك فسحة في جميع البراري، أما أن تجلس في موارد المياه بدعوى أنك لا تجد ماءً إلا في هذا الموطن، فإنك تستطيع أن تحمل الماء وتذهب، أما أن تقضي حاجتك في موارد المياه فإن هذا أذىً للناس، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].

والمشكلة أن الناس حينما يقال لهم: حرام عليكم قضاء حاجتكم في موارد المياه، ربما بعض الناس لا يبالي، لكن إذا قيل له: سوف نأخذ عليك غرامة ربما يمتنع.

فالفرق بين القوانين الوضعية والقوانين الربانية التي أمر الله بها هي العلاقة بين العبد وربه، ولهذا قالت المرأة عندما قالت أمها: يا بنية! شوبي اللبن بالماء، قالت: إن عمر قد نهى عن ذلك، قالت: عمر اليوم لا يرانا، قالت: إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر قد رآنا.

هذه هي المراقبة التي تكون بين العبد وربه، ولهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته فليعلم أن الله مطلع عليه.

يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع

فيستحي من الله سبحانه وتعالى، ولأجل هذا نهي العبد عن أن يتكلم حال قضاء الحاجة؛ لأنه نوع من الحياء، فأنت إذا خلعت ثيابك أمام الناس لا تستطيع أن تتحدث، وتجد أنك تنزوي ولا تتكلم، فكذلك كن أمام نفسك، والله أحق أن يستحيا منه، فلا تقض حاجتك في أماكن يتأذى الناس فيها.

وقد جاء عند أبي داود من حديث معاذ بن جبل رواه أبو سعيد الحميري عن معاذ أنه قال: ( اتقوا الملاعن الثلاث: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم، أو في الموارد )، ولكن هذا الحديث ضعيف؛ فإن أبا سعيد الحميري مع أنه مجهول لم يسمع من معاذ بن جبل ، فهو حديث ضعيف، لكن أهل العلم قالوا: إن موارد المياه هي ما ينتفع به مثل طريق الناس أو ظلهم.

فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( اتقوا اللعانين )، إنما ذكر بعض أفراد المنهي، ويدخل فيه كل ما ينتفع الناس به سواء كان في ظل، أو في طريق، فإنه يمنع منه، ومن ذلك الموارد، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتبول الإنسان في الماء الدائم، فقال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه )، وفي رواية: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )، لأجل ألا يستقذر الناس استعمال هذا الماء، فيفسد الماء من غير استعمال، فلأجل المصلحة العامة نهي العبد أن يتبول في الماء الدائم، أو أن يتبول قريباً منه.

وقد روى الطبراني بإسناد حسنه المنذري : ( من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم )، ومعنى لعنة الناس، أي: سبابهم.

نقع الماء

الشيخ: رابعاً من المواضع التي ينهى عن التخلي فيها: نقع الماء.

ونقع الماء أي: مجتمع الماء، فأحياناً يكون في وقت الشتاء تهطل الأمطار، فيقصد الناس بمواشيهم هذا المكان فيسقونها، فإذا استقذر الناس هذا المكان فإنهم لم ينتفعوا من الماء لتأذيهم بسبب قضاء الحاجة هناك، وربما نرى في وقت الشتاء أماكن يتمنى الناس أن يحضروها، وأن يجلسوا أمامها لأن ينتفعوا، فيجدون أنها ملأى بأذية الناس من قضاء حوائجهم، فيتركونها، وربما سبوا من فعل ذلك، ومن المعلوم أن من آذى المسلمين وجبت عليه لعنتهم كما جاء عند الطبراني بسند جيد.

تحت الشجرة

الشيخ: خامساً من المواضع أيضاً: تحت الشجر.

فإنه يمنع للإنسان أن يقضي حاجته تحت الشجر؛ لأن الشجر إما أن تكون ظلاً للناس، وإما أن تكون مثمرة، فربما وقعت تلك الأثمار على الأوساخ، فيترك الناس الأكل من هذه الأطعمة، فلأجل هذا لا ينبغي ولا يجوز للمسلم أن يقضي حاجته تحت الأشجار المثمرة.

ضفاف الأنهار والبحار

الشيخ: سادساً من المواطن أيضاً جوانب الأنهار والبحار.

فإنك تأسف أشد الأسف حينما تجد من يقضي حاجته في الشواطئ التي يرتادها الناس.

ومن المعلوم أيها الإخوة! أنه ينبغي للإنسان إذا انتهى من أعماله -حتى ولو قلنا: إنه لم يقض حاجته- أن ينظف مكانه لأن مجرد وجود الأوساخ مؤذن بأذية، وإن لم نقل بحرمة ذلك؛ لكنه لا ينبغي فهو مكروه؛ لأن الناس سوف تتقذر من هذا المكان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( كان فيمن كان قبلكم رجل أزال شوكةً عن الطريق فغفر الله له )، أي: لأجل أنه أزال شوكة لأجل ألا يؤذي الناس، فما بالك ببعض الأماكن التي تؤذي الناس، ولربما كان وطء الشوك أهون عليهم من النظر إلى مثل هذه المواطن، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يبين الأدنى فالأعلى من باب أولى، وهذه قاعدة معروفة عند أهل العلم: أن ذكر الأدنى دليل على أن ما فوقه من باب أولى، والله أعلم.

المقابر

الشيخ: سابعاً من المواطن أيضاً ما بين القبور.

فيحرم على الإنسان أن يمشي بين القبور أو يطأ القبر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( لأن يعمد أحدكم إلى جمرة فتخرق ثيابه أهون على الله من أن يجلس على قبر ) كما ثبت ذلك في الصحيح؛ لأن هذا أذية للمسلم الميت، وحرمة المسلم حياً كحرمته ميتاً.

وقال صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد لـبشير بن الخصاصية عندما رآه يمشي بين القبور وهو على نعاله فقال: ( يا صاحب السبتيتين اخلع سبتيتيك )، والحديث حسنه الإمام أحمد ، فإذا نهي العبد أن يمشي بين القبور بنعلين خوفاً من أذية أهل القبور المسلمين، فقضاء الحاجة من باب أولى.

وقد جاء حديث رواه ابن ماجه و أبو يعلى بسند صحيح، صححه الحافظ ابن حجر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لأن أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي، أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق )، وهذا يدل على أنه قضاء الحاجة وسط السوق ممنوع محرم؛ لأن هذا أذية للناس في هذا المكان فإذا كان قضاء الحاجة وسط السوق ممنوع فإن قضاء حاجته بين القبور مثله، ولأجل هذا فإن قضاء الحاجة بين القبور محرم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: أولاً: طريق الناس، من المعلوم أن الإنسان أحياناً إذا قضى حاجته في طريق الناس المسلوكة فإن الناس تتأذى منه، وتأذيهم يكون من وجهين:

الوجه الأول: من استقذار المرور على هذا الطريق.

الثاني: لربما وطأت أرجل بعضهم بعض هذه النجاسة، أو أصابت بعض ثيابهم، فتقذروا من هذا الوضع، ولربما كان السبب هو من فعل ذلك، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا اللعانين. قالوا: يا رسول الله! وما اللعانان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم ).

إذاً الأمر الأول: طريق الناس، أما الطريق التي تكون غير مسلوكة أو مهجورة، أو مثل الطرق التي تكون في البراري، فتجدون في البر أحياناً يكون هنا طريق، وهنا طريق، فهذه لم تكن من عادة الناس السلوك فيها؛ لأنها مهجورة، فحينئذ نقول: لا حرج، لكن إذا كان الطريق مسلوكاً وهو معتاد أن يسير الناس عليه، فإنه يحرم على الإنسان أن يقضي حاجته فيه.

الشيخ: ثانياً: ظل الناس، فلا يجوز للإنسان أن يقضي حاجته فيما يستظل الناس فيه، ومثل ذلك الأماكن التي يتشمس الناس فيها في وقت البرد؛ فإنه من المعلوم أن الناس أحياناً يجلسون في أماكن الشمس وقت الشتاء، فكل مكان يجلس الناس فيه سواء كان للتشمس أو للاستظلال من الشمس، أو في مكان الحدائق والمتنزهات، فإنه لا يجوز للإنسان أن يقضي حاجته هناك، ومن المؤسف أن تجد بعض الناس في وقت الشتاء يخرجون إلى أماكن الربيع، وإلى أماكن الروضات التي تكون بسبب هطول الأمطار، فتجد بعض الناس لا يبالي في أي مكان قضى حاجته، وهذا لا ينبغي له أن يصنع ذلك، وقد ( نهى رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نتخلى في طريق الناس أو في ظلهم )، إذاً: الظل المقصود به الظل الذي يحتاجه الناس.

أما الظل الذي لا يحتاجه الخلق، ولا يستفاد منه، فهذا لا حرج، ودليل ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن جعفر أنه قال: ( كان أحب ما استتر به صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل )، ومن المعلوم أن الهدف فيه ظل، لكن هذا الظل لا ينتفع بالجلوس فيه، وكذلك حائش النخل فليس مكاناً للظل، أما الطلح التي يستظل الناس فيها فلا يجوز كما سوف يأتي.

إذاً الدليل على النهي عن قضاء الحاجة في الظل هو ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا اللعانين. قالوا: وما اللعانان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم )، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللعانين) محتملة معنيين:

المعنى الأول: الذي سبب لنفسه اللعن.

المعنى الثاني: الملعون، يعني اتقوا الملعونين، والله تبارك أعلى وأعلم.

الشيخ: ثالثاً ومن المواضع التي ينهى عن قضاء الحاجة فيها موارد المياه.

فإننا نعلم -أيها الإخوة- أن موارد المياه التي يرد الناس إليها لسقياهم، أو لسقي مواشيهم كالآبار والوديان لا يجوز للإنسان أن يقضي حاجته فيها، سواء كان ببول أو غائط، ولا يقول متعذراً: لم أجد مكاناً، فقد أعطى الله سبحانه وتعالى لك فسحة في جميع البراري، أما أن تجلس في موارد المياه بدعوى أنك لا تجد ماءً إلا في هذا الموطن، فإنك تستطيع أن تحمل الماء وتذهب، أما أن تقضي حاجتك في موارد المياه فإن هذا أذىً للناس، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].

والمشكلة أن الناس حينما يقال لهم: حرام عليكم قضاء حاجتكم في موارد المياه، ربما بعض الناس لا يبالي، لكن إذا قيل له: سوف نأخذ عليك غرامة ربما يمتنع.

فالفرق بين القوانين الوضعية والقوانين الربانية التي أمر الله بها هي العلاقة بين العبد وربه، ولهذا قالت المرأة عندما قالت أمها: يا بنية! شوبي اللبن بالماء، قالت: إن عمر قد نهى عن ذلك، قالت: عمر اليوم لا يرانا، قالت: إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر قد رآنا.

هذه هي المراقبة التي تكون بين العبد وربه، ولهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته فليعلم أن الله مطلع عليه.

يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع

فيستحي من الله سبحانه وتعالى، ولأجل هذا نهي العبد عن أن يتكلم حال قضاء الحاجة؛ لأنه نوع من الحياء، فأنت إذا خلعت ثيابك أمام الناس لا تستطيع أن تتحدث، وتجد أنك تنزوي ولا تتكلم، فكذلك كن أمام نفسك، والله أحق أن يستحيا منه، فلا تقض حاجتك في أماكن يتأذى الناس فيها.

وقد جاء عند أبي داود من حديث معاذ بن جبل رواه أبو سعيد الحميري عن معاذ أنه قال: ( اتقوا الملاعن الثلاث: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم، أو في الموارد )، ولكن هذا الحديث ضعيف؛ فإن أبا سعيد الحميري مع أنه مجهول لم يسمع من معاذ بن جبل ، فهو حديث ضعيف، لكن أهل العلم قالوا: إن موارد المياه هي ما ينتفع به مثل طريق الناس أو ظلهم.

فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( اتقوا اللعانين )، إنما ذكر بعض أفراد المنهي، ويدخل فيه كل ما ينتفع الناس به سواء كان في ظل، أو في طريق، فإنه يمنع منه، ومن ذلك الموارد، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتبول الإنسان في الماء الدائم، فقال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه )، وفي رواية: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )، لأجل ألا يستقذر الناس استعمال هذا الماء، فيفسد الماء من غير استعمال، فلأجل المصلحة العامة نهي العبد أن يتبول في الماء الدائم، أو أن يتبول قريباً منه.

وقد روى الطبراني بإسناد حسنه المنذري : ( من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم )، ومعنى لعنة الناس، أي: سبابهم.

الشيخ: رابعاً من المواضع التي ينهى عن التخلي فيها: نقع الماء.

ونقع الماء أي: مجتمع الماء، فأحياناً يكون في وقت الشتاء تهطل الأمطار، فيقصد الناس بمواشيهم هذا المكان فيسقونها، فإذا استقذر الناس هذا المكان فإنهم لم ينتفعوا من الماء لتأذيهم بسبب قضاء الحاجة هناك، وربما نرى في وقت الشتاء أماكن يتمنى الناس أن يحضروها، وأن يجلسوا أمامها لأن ينتفعوا، فيجدون أنها ملأى بأذية الناس من قضاء حوائجهم، فيتركونها، وربما سبوا من فعل ذلك، ومن المعلوم أن من آذى المسلمين وجبت عليه لعنتهم كما جاء عند الطبراني بسند جيد.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه العبادات - الطهارة [17] 2561 استماع
فقه العبادات - الطهارة [5] 2438 استماع
فقه العبادات - الطهارة [15] 2389 استماع
فقه العبادات - الصلاة [9] 2348 استماع
فقه العبادات - الصلاة [11] 2238 استماع
فقه العبادات - الصلاة [16] 2234 استماع
فقه العبادات - الطهارة [7] 2185 استماع
فقه العبادات - الصلاة [14] 2112 استماع
فقه العبادات - الطهارة [14] 2090 استماع
فقه العبادات - الصلاة [23] 2056 استماع