خطب ومحاضرات
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة - حديث 232-234
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما أحاديث اليوم فعندنا أربعة أحاديث:
الحديث الأول: حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر: فإن رأى في نعليه أذى أو قذراً فليمسحه وليصل فيهما ).
تخريج الحديث
أبو داود رحمه الله أخرج هذا الحديث في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل، وذكر في أوله قصة، وهي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه، ثم خلع نعليه فجعلهما عن يساره فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال لأصحابه: ما بالكم خلعتم نعالكم؟! قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إن جبريل أتاني آنفاً فأخبرني أن فيهما أذى -أو قال: قذراً-، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر: فإن رأى في نعليه أذى أو قذراً فليمسحه وليصل فيهما).
وفى إسناد أبي داود في النسخة المطبوعة المتداولة ذكر في الإسناد: عن حماد بن زيد، وهذا خطأ من بعض النساخ، وإنما الصواب أنه: عن حماد بن سلمة، فليصحح في موضعه، ذكروا عن حماد بن زيد (ابن زيد ) ضعوها بين قوسين وهو خطأ، وإنما الصواب عن حماد بن سلمة كما تدل عليه المصادر الأخرى للحديث.
وذلك أن الحديث رواه جماعة من أهل العلم، رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه وابن أبي شيبة، وأبو داود الطيالسي والدارمي والبيهقي وأبو يعلى وغيرهم، وفي هذه المصادر كما سبق، وفيها ما يدل على أن إسناد الحديث عن حماد بن سلمة كما ذكرت.
الحديث صححه جماعة من أهل العلم، ممن صححه الحاكم كما أسلفت، قال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وكذلك صححه ابن خزيمة وابن حبان .
وقال الإمام النووي في مواضع من كتاب المجموع : إسناده صحيح، وكذلك صححه من المعاصرين الشيخ الألباني في إرواء الغليل وفي غيره من كتبه، مثل صحيح أبي داود أيضاً وسواه.
شواهد الحديث
وجوب إزالة النجاسة في الصلاة
المسألة الأولى: وهي التي ساقه المصنف من أجلها، وهي وجوب إزالة النجاسة، يعني: من البدن والثوب ونحوهما، وأن ذلك شرط لصحة الصلاة، هذا هو الأمر الذي ساقه المصنف من أجله، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أزال هذا النعل حينما علم أن فيه أذى أو قذراً.
وهذه المسألة -مسألة طهارة البدن والثوب ونحوهما في الصلاة- سبق معنا بحثها، والكلام عن هذا هل هو شرط أم واجب أم سنة من يدرى أين سبق؟ أين مر معنا هذا؟
العلماء رحمهم الله كانوا يعتنون بقضية الإحالات، أن يحيل أحدهم على بحث المسألة في موضع معين، وكذلك الطالب ينبغي أن يتفطن إلى موضوع الإحالة، فالبحث هذا مر معنا في باب آداب قضاء الحاجة في حديث: ( استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه ) بحثنا هناك فيما أذكر -وأظن هذا إن شاء الله صحيحاً- قضية طهارة الثوب في الصلاة وما حكمها.
وخلاصة هذا البحث أن المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن إزالة النجاسة شرط، وهذا مذهب الجمهور، واستدلوا بأدلة كثيرة جداً، منها قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] على أحد الوجهين في تفسير الآية أن المقصود تطهير الثياب.
ومنها: حديث ابن عباس في قصة صاحبي القبرين: ( أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول ).
ومنها حديث: ( عامة عذاب القبر من البول ) وهو صحيح وقد مضى.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته عن الثوب الذي تحيض فيه, فأمر أن تغسله بالماء ثم تصلي فيه .. إلى غير ذلك من الأدلة التي استدل بها الجمهور على شرطية طهارة وإزالة النجاسة لصحة الصلاة، وحكاه بعضهم إجماعاً.
القول الثاني في المسألة: رواية عن الإمام مالك: أن ذلك واجب وليس بشرط.
القول الثالث: أنه سنة، وهذا أيضاً قول عن مالك، وهو منقول عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
هذا خلاصة المسألة التي سبقت.
من صلى وعليه نجاسة جاهلاً لها أو ناسياً
مثاله: إنسان وقع على ثوبه بول ولم يعلم بذلك حتى انتهى من الصلاة، فلما رجع إلى البيت قالت زوجته: في أي ثوب صليت؟ قال: صليت في هذا الثوب، قالت: هذا قد بال عليه فلان فهو ثوب نجس، فلم يعلم بالنجاسة إلا بعد الصلاة، فهذا جاهل.
أو ناسي، مثل أن يذكر في ثوبه نجاسة وقال: إن شاء الله أغسلها بعد قليل، لكنه غفل وقام وصلى في هذا الثوب، فلما انتهى من الصلاة تذكر أن هذا الثوب فيه نجاسة، فمن صلى وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة جاهلاً بالنجاسة أو ناسياً لها فما حكم صلاته حينئذ.
فيها قولان:
الأول: أن صلاته غير صحيحة وعليه الإعادة، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وهو مذهب أبي قلابة، أن عليه أن يعيد في الحالين.
القول الثاني -وهو مذهب الجمهور-: أنه لا إعادة عليه، وهذا هو مذهب ابن عمر رضي الله عنه، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وسالم بن عبد الله، وعطاء، ومجاهد، والشعبي، والنخعي وجماهير من السلف والخلف، وهو مذهب جماعة من الأئمة المتبوعين كـالأوزاعي، وأبي ثور، وإسحاق وغيرهم من الأئمة، وهو أيضاً مذهب ربيعة، ومالك، واختاره ابن المنذر، وقال الإمام النووي في كتاب المجموع : وهو قول قوي من حيث الدليل وهو المختار، يقول النووي : وهو المختار، يعني: المختار عنده فيما أفهم وأعلم، يعني: المختار عنده -وهو الراجح- أنه لا إعادة عليه، سواء كان ناسياً أو جاهلاً، أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه، ومن أقوى الأدلة في ذلك حديث الباب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بعض صلاته وعليه نجاسة لم يكن يعلم بها، ومع ذلك لم يستأنف الصلاة بل استمر فيها، فدل على أنه لا يجب عليه أن يعيد الصلاة لو لم يذكر إلا بعد انتهائها.
ومن الأدلة قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله تعالى: قد فعلت. فلا مؤاخذة على ناسٍ ولا مخطئ، ولا يقوم دليل على وجوب الإعادة، فالصحيح أنه لا إعادة عليه سواء كان جاهلاً أو ناسياً.
الصلاة بالنعال
السنن الواردة في الصلاة بالنعال
السنّة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعمد خلع النعلين للصلاة أحياناً، ومن ذلك ما رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وغيرهم، عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عام فتح مكة فخلع نعليه وجعلهما عن يساره )، والحديث إسناده صحيح، صححه الحاكم وابن حبان وغيرهما، وصححه أيضاً الألباني كما في صحيح أبي داود، وسنده صحيح.
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يتعمد أنه إذا أراد أن يصلي خلع نعليه فوضعهما عن يساره.
السنّة الثانية: أنه كان أحياناً صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في نعليه، ومن الأحاديث الواردة في ذلك حديث أبي مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال: ( قلت لـ
السنة الثالثة وردت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أحياناً حافياً ويصلي أحياناً منتعلاً، وهذا الحديث جاء عند أبي داود وابن ماجه في سننهما، من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص وسنده حسن.
السنة الرابعة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلي إذا صلى أن يضع نعليه بين رجليه ولا يضعهما عن يمينه ولا عن يساره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد فيضعهما عن يساره )؛ لأنه إن وضعهما عن يساره وعن يساره أحد فإنهما يكونان عن يمين الذي بجانبه، والمطلوب تنزيه اليمين عن أن يكون النعل بجوارها وإليها وبجانبها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المصلي أن يضع نعليه بين رجليه أو يضعهما عن يساره إذا لم يكن عن يساره أحد، وهذا المعنى جاء في سنن أبي داود وعند الحاكم وابن حبان بسند صحيح من حديث أبي هريرة .
وله شاهد آخر عن أبي هريرة عند أبي داود وابن حبان والحاكم أيضاً، وسنده صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليلبسها ويصلى فيها أو يضعها بين رجليه ).
إذاً: السنّة الرابعة فيها الأمر بوضعهما بين رجليه أو عن يساره إذا لم يكن عن يساره أحد.
السنّة الخامسة: ما رواه أبو داود والحاكم -وقال: صحيح على شرط الشيخين-, عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم )، وهذا الحديث -حديث شداد بن أوس رضي الله عنه كما ذكرت لكم- رواه أبو داود والحاكم وابن حبان، ورواه أيضاً البغوي في شرح السنة والبيهقي في سننه والطبراني في معجمه الكبير وغيرهم وسنده صحيح، وفيه الأمر بالصلاة في النعال.
حكم الصلاة بالنعال
في المسألة ثلاثة أقوال ذكرها العراقي في شرح الترمذي وغيره من أهل العلم.
القول الأول: أنه يكره أن يصلي الإنسان في نعليه، وذلك لأن النعل مظنة أن يكون فيها نجاسة أو أذى، وهذا نسب إلى ابن عمر رضي الله عنه، ونسب إلى أبي موسى الأشعري، فإن صح أنه مذهب ابن عمر فإنه يكون من المسائل التي خالف فيها ابن عمر والده؛ لأن عمر كان يرى الصلاة في النعال.
هل تذكرون مسائل مرت معنا خالف فيها ابن عمر عمر رضي الله عنه، نريد مسألة واحدة فقط خالف فيها ابن عمر مذهب أبيه ومرت معنا في هذه الدروس؟
إنها مسألة أوقات النهي.
إذاً: المذهب الأول: كراهية الصلاة في النعال، هذا مذهب ابن عمر وأبي موسى الأشعري فيما نسب إليهما.
القول الثاني: جواز ذلك، أي أن ذلك جائز من غير استحباب ومن غير كراهة، وهذا مذهب كثير من الفقهاء، صرح به كثير من الفقهاء كـالخطابي، وابن بطال، والنووي قال: جواز الصلاة في النعال إذا كانت طاهرة، أخذ من الحديث فائدة، وهي جواز الصلاة في النعال إذا كانت طاهرة، وهو كذلك مذهب ابن دقيق العيد، حتى إن ابن دقيق العيد رحمه الله قال في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام وهو يتكلم على حديث أنس رضي الله عنه: ( أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم )، قال: الحديث دليل على جواز الصلاة في النعلين، ولا ينبغي أن يؤخذ منه الاستحباب؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب في الصلاة، يعنى: الصلاة في النعلين.
قال: فإن قلت: إن لبس النعلين في الصلاة يدخل في باب الزينة المطلوبة فهو كلبس الثوب والرداء؟ قلت لك: ولكن لبس النعلين يقصر عن ذلك بسبب ملابستها وملامستها للأرض التي تكثر فيها النجاسة؛ ولهذا قصر النعل عن أن يكون كالثوب -يعنى: من باب أخذ الزينة- وغاية ما فيه أنه جائز.
ثم قال رحمه الله وجهاً آخر: إن الطهارة في الصلاة من باب الضروريات أو من باب الحاجيات، والزينة من باب التحسينات، ولا شك أن الضروري والحاجي يقدم على التحسيني؛ لأن الأشياء التي هي ضرورية أو يحتاج إليها حاجة قوية تقدم على الأشياء التي هي من باب التحسين والتجميل.
قال رحمه الله: إلا أن يرد في ذلك دليل بخصوصه فيقدم الدليل ويترك هذا النظر، هذه خلاصة كلام ابن الدقيق العيد في إحكام الأحكام .
القول الثالث في الصلاة في النعال: أن ذلك مستحب، وهذا -والله تعالى أعلم- مذهب الأكثرين، فقد نقله العراقي وغيره عن جماعة من الصحابة والتابعين كثيرين، منهم عمر وعثمان وابن مسعود وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وعويم بن ساعدة، وجماعة من التابعين كـابن المسيب والقاسم وعروة وسالم بن عبد الله وعطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح أيضاً ومجاهد وطاوس وشريح وأبي مجلز، وكان أبو عمرو الشيباني يضرب الناس على خلعهم لنعالهم في الصلاة، ونقل عن النخعي أنه كان يكره خلع النعل في الصلاة، فهو مذهب الأكثرين، قالوا باستحبابه، وكذلك رجحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري أخذاً من حديث شداد بن أوس لثبوت الدليل بذلك.
والواقع أن الإنسان إذا أراد أن يكون وقافاً عند الأدلة الشرعية منصاعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدم عليها رأياً ولا اختياراً ولا نظراً ولا ذوقاً ولا مزاجاً؛ فإنه لابد أن يقول: إن الصلاة في النعلين سنة، وكانت سنة مشهورة عند الصحابة رضي الله عنهم، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما التفت إلى أصحابه فقال لهم: ( ما لكم خلعتم نعالكم؟ ) لماذا سألهم؟ لو كان خلع النعال معتاداً، هل يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا السؤال لو كان مألوفاً؟!
لم يكن ليسأل هذا السؤال، ما سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب في خلعهم لنعالهم إلا أن العادة -والله تعالى أعلم- جرت أنهم كانوا يصلون في النعال، فلما التفت فوجدهم قد أخلفوا هذه العادة فخلعوها تعجب من ذلك صلى الله عليه وسلم وسألهم: ( ما لكم خلعتم نعالكم؟ )، فدل على أنها سنة كانت مشهورة عند الصحابة رضي الله عنهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها على مرأى منهم وهو يصلى بهم صلاة الجماعة، فيقتدون به في ذلك، كما في حديث أبي سعيد هذا، وكما في حديث أنس حينما سأله سعيد بن يزيد : ( أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم )، فأثبت ذلك.
ما ينبغي مراعاته في الصلاة بالنعال
الأمر الأول: أن يتثبت الإنسان من طهارتها، وذلك لأنها مظنة وجود الأذى والقذر والخبث فيها، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد : ( إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر: فإن رأى في نعليه أذى فليمسحها ).
إذاً: نقول لمن أراد أن يصلي في نعليه: أولاً: ينبغي لك أن تنظر في نعليك قبل أن تدخل المسجد، فإن رأيت فيهما أذى أو قذراً مسحتهما، مسحت أحدهما بالآخر ومسحتهما بالتراب والأرض حتى يزول ما فيها من الأذى، أما أن يصلي الإنسان في نعليه دون أن ينظر فيهما فهذا -والله تعالى اعلم- ليس من السنة، هذه الأولى.
الأمر الثاني الذي تنبغي مراعاته: أن لا يترتب على الصلاة في النعلين تلويث الأشياء النظيفة التي يحرص الناس على نظافتها، وذلك مثلما إذا كان الناس يصلون في أماكن ومساجد مفروشة كما هو الغالب على حال الناس اليوم، وفي فرش يحرصون على نظافتها وتعاهدها، بل ويخصص لذلك من قبل الجهات الرسمية من يقوم بتنظيفها بكرة وعشيا، تنظيفها من التراب -فضلاً عن غيره- ومن الغبار، فإذا كان في الصلاة بالنعل ضرر فإن الأولى تجنبه بتجنب هذه المفسدة.
الأمر الثالث الذي ينبغي مراعاته: أنه إن ترتب على ذلك نوع من التشويش كان الأجدر بالإنسان تركه؛ وذلك لأن كثيراً من الناس أصبحوا بجهلهم بالسنة يستغربون أن يصلي الإنسان في نعليه، فإذا رأوا من يصلي في نعليه أشاروا إليه بأبصارهم، وربما عاتبوه وتكلموا عليه، وربما حصل في المسجد قيل وقال وتشويش وارتفاع الأصوات، وفوق ذلك كله فإن هذا مدعاة إلى أنه أحياناً قد يشوه صورة طالب العلم في نفوس العامة، فيقولون: هذا إنسان فيه وفيه، هذا إنسان قذر وهذا إنسان لا يراعي النظافة، ولا يراعي الأشياء المطلوبة والمستحبة، وليس عنده ذوق، ونحن لا نقول هذا فقط من أجل أنه لا يتكلم في عرض طالب العلم، قد نقول: طالب العلم يتحمل ذلك في سبيل الله، ومن أجل نشر السنة، لكن أقول ذلك لأننا نقول لطالب العلم: نحن نريدك لما هو أعظم من ذلك، وما بيننا وبين الناس أربى وأعظم من قضية الصلاة في النعال فحسب.
أيضاً: بعض طلاب العلم يقول: دعهم يقولون، إذا راعيناهم فمتى تنتشر السنة، تبقى السنة مغمورة؟
نقول له: رويدك رويدك، من جهة الناس فإننا نطمع ونريد منهم أموراً كثيرة، الناس واقعون في ارتكاب محرمات كثيرة، مثل أكل الربا وسماع الغناء، وارتكاب المحرمات، وإهمال تربية الأولاد، والإخلال بقضية الولاء والبراء، وكثير منهم يرتكبون مخالفات في الاعتقاد، وعندهم جهل عظيم في أمور الدين الأساسية، فلماذا نبدأ بالسنن التي تكون سبباً في التنفير وربما تحول بيننا وبين تعليمهم الواجبات والمفروضات، بل وربما كانت سبباً في الحيلولة بيننا وبين تعليمهم العقائد والأصول والأمور الأساسية، هل من الحكمة أن أعلم الناس سنة وهم لم يتعلموها في الواقع؛ لأنهم لما رأوني أفعلها ما تعلموها بل نفروا منها وأنكروها، ولكن في ظني أني علمتهم أو في تقديري ونيتي أني أعلمهم السنة، لكن في مقابل ذلك بقوا جاهلين بأمور كثيرة هي أركان، وبعضها أصول، وبعضها واجبات، وبعضها سنن أعظم من قضية الصلاة في النعال، فليس من المصلحة أن نكون كمن يبنى قصراً ويهدم مصراً، هذا من جهة الناس.
نقول: حتى لو بقى الناس جاهلين لقضية الصلاة في النعال، الناس الآن جاهلون لما هو أعظم منها، ابدأ بالأمور الكبيرة، يعني: إذا وجدت فرصة وتعلم الناس الأركان والواجبات والفروض وما بقي عليهم إلا الصلاة في النعال فعلمهم هذه السنة، كل شيء في وقته حسن وجميل، هذا فيما يتعلق بالناس.
أما فيما يتعلق بك أنت فبإمكانك أن تطبق السنة في مواضعها، هناك مواضع كثيرة يمكن أن تطبق السنة وألا تنساها أو ينساها الناس، مثل ماذا هذه المواضع؟
مثل الصلاة في المنزل تطبق السنة فيراك أهلك ويعرفون أن هذا سنة.
إذا خرجت في البر، في رحلة أو سفر أو حج أو عمرة ومعك مجموعة من رفقتك تصلي في نعليك حتى تبين لهم أن هذه سنة.
أيضاً من المواضع -إذا انتفى المحذور- مثلاً: بعض المساجد مساجد قديمة أو في القرى أو في الطرقات، مساجد غير مفروشة -مثلاً- تصلي في نعليك لا محذور في ذلك، أو مسجد يوجد فيه طلاب علم، بعض المساجد وهذا قليل في الواقع، يعني: عامة الجماعة من طلاب العلم الواعين الفاهمين العارفين بالسنة، فإذا صلى إنسان في نعليه النظيفتين لم يكن في ذلك حرج ولا ضرر، فيصلي في نعليه.
إذاً: الإنسان يتحرى أن يطبق هذه السنة في مواقعها وأماكنها، لكن لا يجعل قضيته الفيصل بينه وبين الناس الصلاة في النعال: أنا ما عندي ولا علي من الناس، أنا أطبق سنة الرسول عليه السلام، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط!
نقول له: لا، قد يترتب على تطبيق السنة وقوع منكر محظور محرم فتكون آثماً بذلك، وقد سبق في هذه الدروس الكلام عن قضية المصلحة، الرسول عليه السلام ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مع أنه كان يتوق إلى ذلك ويتشوق إليه؛ كراهية أن يؤدي ذلك إلى فتنة؛ لأن الناس حدثاء عهد بكفر، وكذلك ترك قتل المنافقين صلى الله عليه وسلم مع أنهم مستحقون للقتل؛ لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وأمور كثيرة ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأفضل والأولى فيها مراعاة لمصلحة أخرى جعلت الفاضل مفضولاً وجعلت الراجح مرجوحاً، فالإنسان يكون فاهماً مدركاً لمقاصد الشرع، ولا يتمسك ببعض الأمور التي أنكرها الناس وجهلوها فيجعلها الفيصل بينهم وبينه، حتى كأنه ليس له قضية إلا هذه القضية.
كما أننا أيضاً ينبغي أن نحذر من مسلك بعض الناس الذين أصبحوا يحذرون من الصلاة في النعال، أو يستخفون بمن يصلي في نعاله، ويقولون: هذه توافه وهذه قشور وهذه أمور لا وزن لها ولا قيمة. لا، ليس في ديننا توافه وليس في ديننا قشور، وبحمد الله نحمد الله جل وعلا أنه جمعنا في هذا المكان الآن، ونحن نصرف جزءاً من وقتنا -عشر دقائق أو ربع ساعة- نتعلم سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذه السنة ما هي؟
أن الصلاة في النعلين سنة، تعلمنا هذه السنة, ويوصي بعضنا بعضاً أن يعمل بها حينما يكون العمل بها سائغاً ولائقاً ومناسباً، كما أنه يوصي بعضنا بعضاً بتركها حينما تكون المصلحة في تركها ليس عجزاً ولا خوفاً من ألسنة العامة، ولا جبناً عن مواجهتهم، كلا ثم كلا، ولكن حرصاً على تحصيل مصلحة أعظم منها تتعلق بأركان الدين وأصوله العظام ومبانيه وعقائده وواجباته وسننه الكبار أيضاً.
فوائد الحديث
من هذه الفوائد: أن العمل لمصلحة الصلاة لا يبطلها ولو كثر، أما العمل القليل فهو لا يبطل الصلاة إجماعاً، أما العمل الكثير فإنه لا يبطلها إذا كان لمصلحتها، وإن كان العمل في الحديث يسيراً لكنه كان لمصلحة الصلاة؛ ولذلك ليس فيه ولا حتى كراهة؛ لأنه لمصلحه الصلاة، أما العمل الكثير لمصلحة الصلاة فذلك مثل التحول إلى جهة القبلة كما مر معنا، فإنه عمل كثير، خاصة بالنسبة للإمام، الإمام صار في القبلة هنا ومشى وصار في القبلة هناك، ففيه عمل كثير، وله أمثلة كثيرة أيضاً.
ومن فوائد حديث أبي سعيد : وجوب إزالة النجاسة إذا علم بها وهو في الصلاة، كأن تكون النجاسة في نعله فيخلعه أو في غترته أو في ثوبه، فإنه يجب عليه أن يخلعه وإن كان في الصلاة، إذا كان لا يترتب على ذلك انكشاف عورته، فإن كان يترتب على ذلك انكشاف العورة فإنه ينصرف من صلاته.
ومن فوائد حديث أبي سعيد : أنه لا إعادة على من صلى وفي ثوبه أو على بدنه نجاسة جاهلاً أو ناسياً كما سبق.
ومن فوائده: شدة اقتداء الصحابة وتأسيهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم لما رأوه خلع نعليه صلى الله عليه وسلم خلعوا نعالهم.
ومن فوائده أيضاً: أن من رأى على المصلي نجاسة وجب عليه أن يخبره، من أين نأخذ هذه الفائدة؟ هذه من الفوائد الطريفة، وأنا في الواقع ما وجدتها في كتاب، لكني رأيت أنها ظاهرة في الحديث، من أين نأخذها؟
من إخبار جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من التعاون على البر والتقوى، فلو رأى إنسان على بدن المصلى نجاسة فإنه يجب عليه أن يخبره، وهو أيضاً من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب عليه أن يخبره بذلك.
يقول المصنف: أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة .
أبو داود رحمه الله أخرج هذا الحديث في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل، وذكر في أوله قصة، وهي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه، ثم خلع نعليه فجعلهما عن يساره فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال لأصحابه: ما بالكم خلعتم نعالكم؟! قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إن جبريل أتاني آنفاً فأخبرني أن فيهما أذى -أو قال: قذراً-، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر: فإن رأى في نعليه أذى أو قذراً فليمسحه وليصل فيهما).
وفى إسناد أبي داود في النسخة المطبوعة المتداولة ذكر في الإسناد: عن حماد بن زيد، وهذا خطأ من بعض النساخ، وإنما الصواب أنه: عن حماد بن سلمة، فليصحح في موضعه، ذكروا عن حماد بن زيد (ابن زيد ) ضعوها بين قوسين وهو خطأ، وإنما الصواب عن حماد بن سلمة كما تدل عليه المصادر الأخرى للحديث.
وذلك أن الحديث رواه جماعة من أهل العلم، رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه وابن أبي شيبة، وأبو داود الطيالسي والدارمي والبيهقي وأبو يعلى وغيرهم، وفي هذه المصادر كما سبق، وفيها ما يدل على أن إسناد الحديث عن حماد بن سلمة كما ذكرت.
الحديث صححه جماعة من أهل العلم، ممن صححه الحاكم كما أسلفت، قال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وكذلك صححه ابن خزيمة وابن حبان .
وقال الإمام النووي في مواضع من كتاب المجموع : إسناده صحيح، وكذلك صححه من المعاصرين الشيخ الألباني في إرواء الغليل وفي غيره من كتبه، مثل صحيح أبي داود أيضاً وسواه.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 | 4761 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 | 4393 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 | 4212 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 | 4094 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 | 4045 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 | 4019 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 | 3972 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 | 3916 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 | 3898 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 | 3877 استماع |