شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فهذا هو استئناف الدروس العلمية في هذا المسجد جامع الراجحي ببريدة.

في الإجازة الصيفية ضمن الدورة شرحنا نحو اثني عشر درساً من دروس بلوغ المرام، وكان آخر درس شرحناه هو حديث ابن عباس ليلة مبيته عند خالته ميمونة رضي الله عنها، وذكرنا في ذلك الحديث عدداً من المسائل المتعلقة بالإمامة، وموضع الإمام، وبعض فوائد الحديث.

أما اليوم فعندنا حديث آخر في باب الإمامة أيضاً, ويكون هذا الدرس هو رقم مائة وثمانية وخمسون؛ لأن حديث ابن عباس كان رقم مائة وسبعة وخمسين, وهذه الليلة ليلة الإثنين أعتقد أنها 18 من شهر الله المحرم لسنة 1425هـ.

أما الحديث الذي عندنا اليوم فهو برقم أربعمائة وثمانية عشر، مع اختلاف النسخ اختلافاً كبيراً في الترقيم، ولكن هذا الحديث هو حديث أنس رضي الله عنه قال: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقمت أنا واليتيم وراءه, وأم سليم خلفنا ).

والمصنف رحمه الله عزا الحديث أنه متفق عليه، وذكر أن هذا لفظ البخاري .

تخريج الحديث

أما فيما يتعلق بتخريج الحديث:

فقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه، منها: كتاب الأذان، باب صلاة النساء خلف الرجال, وقد رواه بأطول مما ذكره المصنف، وذكر فيه قصة جميلة سنقف عندها، ورواه في مواضع أخرى كما أشرت، وفيه: أن أنساً رضي الله عنه قال: ( إن جدته مليكة

دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعته له، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: قوموا فلأصلي لكم, قال أنس

رضي الله عنه: فقمنا إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحناه بماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين, ثم انصرف
).

ورواه البخاري في الصلاة في الثياب، باب الصلاة على الحصير؛ لأن أنساً رضي الله عنه ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الحصير.

كما رواه أيضاً في صفة الصلاة، باب وضوء الصبيان, ومتى يجب عليهم الغسل والطهور .. إلى آخر الباب؛ وذلك لأن أنساً رضي الله عنه صف مع اليتيم، واليتيم عادة إنما يطلق على من هو دون البلوغ، على من هو دون الاحتلام.

وكذلك رواه البخاري في التطوع، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى؛ لأن فيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لهم ركعتين )، وهما تطوع، ليستا نافلة بالاتفاق، وربما كانت وقت الضحى، ولذلك خرج الإمام مالك رحمه الله هذا الحديث أيضاً في موطئه , باب صلاة الضحى.

فهذه المواضع التي روى البخاري فيها الحديث.

أما مسلم فكعادته يجمع روايات الحديث في موضع واحد، وقد رواه في كتاب المساجد, باب صلاة الجماعة نافلة.

كما خرجه أصحاب السنن, خرجه أبو داود في الصلاة, باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون؟

وخرجه الترمذي أيضاً في باب ما جاء في الرجل يصلي ومعه النساء والرجال.

وخرجه النسائي في الصلاة أيضاً, باب إذا كانوا ثلاثة ومعهم امرأة, وخرجه مالك في الصلاة كما ذكرت, باب صلاة الضحى, أو باب سبحة الضحى, والبيهقي والدارمي وأحمد .. وغيرهم.

هذا ما يتعلق بالفقرة الأولى, وهي تخريج الحديث.

معاني ألفاظ الحديث

أما الفقرة الثانية: فهي ما يتعلق بمعاني الحديث وألفاظه.

فأولاً: قول أنس رضي الله عنه: ( أن جدته مليكة

دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ), ومليكة هي بضم الميم وفتح اللام، مليكة، يعني: تصغير ملكة، هذا عند جمهور الشراح، وبعضهم سماها: مَليكة , وهذا خطأ.

( أن جدته مليكة

دعت النبي صلى الله عليه وسلم ). اختلف الشراح فيمن هي التي دعت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هي جدة أنس ؟ أو جدة إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الراوي عن أنس؟

فإن الحديث جاء من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة , إسحاق بن عبد الله هذا من يكون؟ يعني: عبد الله هذا هو أخو أنس بن مالك من أمه، فـإسحاق بن عبد الله يكون أنس بن مالك على هذا عمه، فتكون الإشكالية هنا: هل المرأة العجوز التي دعت الرسول صلى الله عليه وسلم هي أم أنس رضي الله عنه التي هي أم سليم ؟ أو هي جدة أنس ؟ هذا فيه إشكال, وفيه كلام كثير جداً، حتى إن من أهل العلم من قال: إنها أم سليم، هي أم أنس بن مالك، وهذا رجحه ابن عبد البر في التمهيد والاستذكار، وقواه جماعة، ومال إليه النووي .

ولكن يشكل على هذا المعنى أن أم سليم هل اسمها: مليكة، يمكن أكثركم يعرف اسم أم سليم، التي هي أم أنس بن مالك زوج أبي طلحة، ما هو اسمها؟

قيل: اسمها: الغميصاء، وقيل: الرميصاء، يعني: أسماء عديدة, لكن لم يذكر عند أهل التراجم أن من أسماء أم سليم مليكة.

وبناءً عليه يقع هذا الإشكال، ولذلك ذهب آخرون ورجحه أكثر المحققين إلى أن المرأة العجوز الجدة هذه التي دعت النبي صلى الله عليه وسلم هي جدة أنس بن مالك، وليست أمه، يعني: أم أمه، أم سليم أمها هي مليكة، وهي جدة أنس كما قال: ( أن جدته دعت النبي صلى الله عليه وسلم ). وأيضاً هي جدة إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الراوي عن أنس، فيصدق أنها جدة إسحاق، ويصدق أنها جدة أنس بن مالك رضي الله عنه. فهذه اسمها مليكة كما ذكر الذين ترجموها، وهي التي دعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وتلاحظ أن هذه المسألة وإن كثر كلام العلماء والشراح حولها، إلا أنها قضية ليست مشكلة، العبرة بالقصة وبالنتيجة، وأما أن تكون الداعية هي أم سليم أو مليكة والدتها وجدة أنس، فالأمر في ذلك يسير, وليس فيه إشكال كبير.

طيب قوله: ( أنها دعت النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته )، هذا فيه دليل على أن مجيء النبي صلى الله عليه وسلم لبيتها كان لأجل أن يأكل من هذا الطعام، ويجيب دعوتها، وقد تكرر منها ومن آل بيت أنس دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاءت قصص كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم عندهم، وقد يقيل وينام عندهم، ويأكل من طعامهم رضي الله عنهم.

قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قوموا فلأصلي لكم )، يعني: قوموا وسوف أصلي لكم، فقد تكون اللام هذه (فلأصلي) هي لام الأمر أو لام التعليل، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أكلوا قال لهم: قوموا لأعلمكم الصلاة، لأؤمكم في الصلاة، وتصلون ورائي، وهذا يقع بسببه أكثر من فائدة.

الفائدة الأولى: أن يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، بقيامها وركوعها وخشوعها وسجودها وأحكامها.

الفائدة الثانية: المباركة، البركة في بيوتهم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، كما طلب عتبان بن مالك من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته في مكان يتخذه هو مصلى، والحديث في البخاري، وسبق.

والفائدة الثالثة: هي الصلاة نفسها، يعني: أن يصلوا هذه الصلاة التي قد تكون سبحة الضحى، أو نافلة غيرها، فيكتب لهم أجرها، وثوابها.

( قوموا فلأصلي لكم. قال أنس

رضي الله عنه: فقمنا إلى حصير لنا ). والحصير: هو نوع من الفرش، والغالب أنها من الفرش التي تصنع من الخوص ونحوها، وقد يسميها الناس أو بعضهم: البارية، أما عندنا في نجد فيسمونها: السفيف, وهذا الاسم عربي أيضاً، وموجود في عدد من المراجع، أنها تسمى: السفيف.

وكذلك من أسماء الفراش الصغير: الخمرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : ( ناوليني الخمرة ). وكان معتكفاً، وهي في حجرتها، وهو في المسجد, فقال: ( ناوليني الخمرة )، يعني: فراش صغير يصلي عليه، وقد تكون الخمرة أصغر من الحصير -والله أعلم- كما ذكره بعضهم.

طيب. قوله: ( قد اسود من طول ما لبس )، يعني: هذا الفراش، أي: من كثرة ما جلس عليه، وهذا فيه دليل على أن الجلوس يسمى: لبساً، وأن لبس كل شيء بحسبه، فلبس الثوب معروف, وهو أن يضعه الإنسان على بدنه ويستتر به، لكن لبس الحصير والفراش هو القعود عليه.

ولذلك نسأل سؤالاً: لو أن إنساناً حلف ألا يلبس هذا الثوب مثلاً، ثم قعد عليه، فهل يلزمه كفارة ويكون حنث في يمينه أم لا؟ نقول: لا يلزمه كفارة؛ لأن هذا ثوب، ولبس الثوب يكون بأن يدخل جيبه في رأسه، وكميه في ذراعيه، على ما هو متعارف عليه، أما إذا فرش الثوب وقعد عليه، فهذا لا يسمى لبساً، ولذلك أخطأ من قال: إن عليه في ذلك كفارة, كما قد يفهم من كلام بعض الشراح؛ لأننا نقول: إن اللبس لكل شيء بحسبه، وإلا الله سبحانه وتعالى قال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا [النبأ:10]. فلباس الليل ليس كلباس الثوب، ليس كلباس الفراش .. إلى غير ذلك من الأشياء, التي تختلف بحسب ما هو جار في عرف الناس ولغتهم.

إذاً: هنا: ( قد اسود من طول ما لبس )، أي: من طول ما قعد عليه، ومن هنا بعض الفقهاء بحثوا: هل يكون لبس الحرير مثل القعود عليه؟ أو بمعنى آخر: إذا كان لبس الحرير محرماً على الرجال، فلو أنه قعد على حرير هل يكون قد لبسه؟ فنقول: الظاهر لا؛ لأن اللبس هو غير القعود، والمنهي عنه هو لبسه.

ثم قال أنس رضي الله عنه: ( فنضحته )، يعني: هذا الحصير، ومعنى النضح: هو الرش، أنه رشه بشيء من الماء، وقد يجوز أن يكون المعنى غسله، والأقرب أن النضح أقل من الغسل، يعني: مجرد الرش بشيء من الماء.

وهنا نسأل: لماذا نضح أنس رضي الله عنه هذا الحصير؟

قال بعض الفقهاء: إنه نضحه لتطهيره, فقد يكون نجساً، أو شك في نجاسته، وهذا ضعيف، لأننا نقول:

أولاً: الأصل في الأشياء هو الطهارة، ولم يكن الأمر محتاجاً إلى أن يغسله.

ثانياً: أن النضح أو الرش لا يزيده إلا خبثاً، لو كان فيه نجاسة، فإن هذا الرش لا يزيلها، قد تكون يابسة, فالماء يثيرها ويظهرها.

فلهذا نقول: إن الأقرب في رشه ونضحه أنه كان لتنظيفه، وتطييبه، وتليينه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن العادة أن الحصير الذي يكون مصنوعاً من الخوص يكون يابساً وخشناً، فإذا رشه بشيء من الماء صار به نعومة وسهولة، فهذا هو الأقرب الذي أراده أنس رضي الله عنه.

قال: ( فقمت أنا ويتيم وراءه ). وراء النبي صلى الله عليه وسلم، هذا اليتيم اسمه: ضميرة بن أبي ضميرة، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه يقال له: سعد الحميري، فهو كان مولى لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما العجوز التي قامت من ورائهم فهي مليكة جدة أنس أم أمه, كما ذكرت.

ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف، وقد ذكرنا أن الركعتين كانتا نافلة، وكانت في وقت الضحى.

هذا ما يتعلق بمعاني الحديث وألفاظه.

موطن وقوف المأمومين من الإمام إذا كان المأمومان اثنين فأكثر

النقطة الثالثة: ما يتعلق بالمسائل الفقهية في الحديث:

وفيه عدد من المسائل كلها سهلة يسيرة:

المسألة الأولى: موقف المأمومين إذا كانوا اثنين، يعني: إذا وجد إمام ومعه رجلان, هم ثلاثة يصلون جماعة, فكيف يقف الإمام؟ وكيف يقف المأموم؟

هذه المسألة فيها قولان مشهوران:

القول الأول: مذهب الجمهور، مذهب الأئمة الأربعة بما في ذلك أبو حنيفة رحمه الله يقولون: إن الإمام يقف أمامهم، وأما المأمومان فيقفان وراء الإمام، كما لو كانوا ثلاثة أو عشرة, يتقدم الإمام ويتأخر بقية الجماعة إذا كانوا اثنين فأكثر.

هذا هو القول الأول وهو مذهب الأئمة الأربعة كما ذكرت.

ويستدلون بأدلة، منها حديث الباب، كيف نستدل بحديث الباب على هذه المسألة؟

نستدل على ذلك بأن أنس بن مالك رضي الله عنه واليتيم صفوا خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم, صفوا وراءه, وأن العجوز كانت من ورائهم.

إذاً: نقول: إذا كان المأمومون اثنين فأكثر فإنهم يقفون وراء الإمام، بدلالة هذا الحديث, وهو كما سبق متفق عليه.

وهناك أدلة أخرى لهذا القول، مثل ما سبق أن ذكرنا حديث جابر، وهو في صحيح مسلم في قصته وقصة جبار، لما صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، فأزاحهما النبي صلى الله عليه وسلم, وجعلهما من ورائه.

والدليل الثالث: ما هو معروف في عهد الصحابة رضي الله عنهم أن المأمومين إذا كانوا اثنين فأكثر كانوا يقفون وراء الإمام، وهذا ثبت عن أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.

فهذا هو القول الأول, وهو مذهب الجمهور.

القول الثاني: وهو مذهب ابن مسعود رضي الله عنه وصاحبيه علقمة والأسود، من تلاميذ عبد الله بن مسعود، قالوا: إنهما يقفان مع الإمام، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وهذا جاء في صحيح مسلم، ( أن علقمة والأسود صليا مع ابن مسعود فجعل أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، ثم طبق بيديه في أثناء الركوع -يعني: جعل إحدى يديه على الأخرى، وجعلهما على ركبتيه هكذا- ولما سلم قال: هكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ).

فمن هنا نقول: إن ابن مسعود وعلقمة والأسود يرون أن المأمومين إذا كانوا اثنين فقط، يقف أحدهما عن يمين الإمام، ويقف الآخر عن شماله.

وبعض الذين كتبوا وذكروا الخلاف الفقهي، نسبوا هذا القول لـأبي حنيفة وقد رأيت هذا في كتاب الإمام ابن عبد البر رحمه الله في أكثر من موضع، نسبه لأهل الكوفة أو لأهل الرأي، والواقع أن هذا ليس مذهب أبي حنيفة، وقد راجعت كتب الأحناف، كتب الحديث عندهم ككتب الطحاوي، وكتب الفقه .. وغيرها، فوجدت أن مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن هو كمذهب الجمهور، أن الاثنين يقفان وراء الإمام.

وإنما أبو يوسف من الحنفية فقط هو الذي وافق ابن مسعود على هذا القول.

إذاً: هل يصح أن نقول: إن هذا مذهب الحنفية أو مذهب أهل الكوفة أو أهل الرأي، كلا, وإنما يقال: هذا مذهب أبي يوسف، ومع ذلك كلام الطحاوي يدل على أن أبا يوسف لم يكن يقول به إلزاماً، وإنما كان يقول به تخييراً، يعني: أبو يوسف يقول حسب ما في شرح معاني الآثار : ( إن شاءا وقفا معه عن يمينه وشماله، وإن شاءا وقفا وراءه ). فإنه يجعل الأمر واسعاً، وهذا ربما يصح أن نقول: إنه قول أو اختيار ثالث لـأبي يوسف، أنه يرى أن الأمر واسع إن كان المأمومان اثنين وقفا وراءه أو عن يمينه وشماله، وأن ذلك سواء. وأما مذهب الحنفية فهو كمذهب الجمهور كما ذكرت.

وأما الحديث الذي استدل به من قال بهذا القول، وهو أثر ابن مسعود رضي الله عنه وقوله: ( هكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )، فإنه عليه أكثر من اعتراض:

الاعتراض الأول: بأن القول بأن هذا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضعيف، وأكثر الرواة جعلوه موقوفاً على ابن مسعود، فهو من فعله واجتهاده رضي الله عنه، وليس من النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم كون ابن مسعود فعله فهذا له أكثر من وجه:

الوجه الأول: كما ذكره ابن سيرين في شرح معاني الآثار وغيره: أن المكان كان ضيقاً لا يتسع لأن يتقدم الإمام ويتأخر المأمومون، فلذلك جعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. هذا نوع من التأويل.

الاحتمال الثاني: أن يكون أحدهما لم يبلغ، كما نقله بعضهم، ولذلك جعله ابن مسعود معه؛ لئلا ينفرد أحدهما.

ويحتمل أن يكون هذا رأياً واجتهاداً لـابن مسعود رضي الله عنه.

ويحتمل أن يكون منسوخاً، وقرينة النسخ هي التطبيق كما ذكرنا، أن يضع الإنسان يديه هكذا بين ركبتيه أثناء الركوع، فإن هذا كان أول الأمر, ثم نسخ، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يضعوا أيديهم على ركبهم، فيكون ما معه أيضاً من كون المأمومين عن يمين الإمام وعن شماله منسوخاً أيضاً.

إذاً: هذه الحجج كلها تضعف الاستدلال بأثر ابن مسعود رضي الله عنه، ونقول بناءً على ذلك: إن القول الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور والأئمة الأربعة، من أن المأمومين إذا كانوا اثنين فصاعداً فإنهم يقفون وراء الإمام.

موطن وقوف المرأة الواحدة من الإمام والمأمومين في الصلاة ومع غيرها من النساء

المسألة الثانية في الباب أيضاً هي: مسألة موقف المرأة من الإمام، والحديث دل على أن المرأة إذا صلت مع الرجال وكانت واحدة، يعني: لم تجد امرأة أخرى تقف معها، أنها تقف لوحدها، ولا يجوز للمرأة أن تقف مع الرجال مثلاً، وهذا إجماع من أهل العلم ولم أقف على من خالف فيه من المتقدمين ولا المتأخرين، إلا أن ابن رجب الحنبلي في شرحه للبخاري فتح الباري ذكر رواية عن أبي الدرداء : ( أنها إن كانت جارية لم تبلغ الحلم ولم تحض، فإنها تقف مع الرجال )، وحتى هذا القول فهو قول مفرد لـأبي الدرداء رضي الله عنه، ولا يعلم أحد من الأئمة انتحل هذا القول أو ذهب إليه.

وبناءً عليه نقول: إن المرأة إذا وجدت نساءً صفت معهن، فإن لم تجد نساءً صفت لوحدها ولا يضرها ذلك، لأنه ليس من شأنها مصافة الرجال؛ وذلك لما في ذلك من الفتنة والضرر، وإذا كان هذا يقع في الصلاة التي يقبل الناس فيها على ربهم، فأولى أن يتفطن الناس إلى حرص الشريعة على حماية المرأة، وبعدها عن الاختلاط بالرجال، والاحتكاك بهم في غير ذلك من الأحوال.

يبقى أنه إذا كان هناك ضرورة، أو ضيق في المكان، أو عدم استطاعة للبعد عن النساء، كما يقع أحياناً في الحرم المكي أو الحرم المدني, مما يقع فيه اضطراب في الصفوف, وقد يصلي الإنسان فيجد امرأة أمامه، أو قد يجد امرأة إلى جواره, ولا سبيل له إلى التخلص من ذلك .. أو ما أشبه هذا، فإن هذا الباب إذا دعت إليه الحاجة باب آخر، وإنما الكلام في حال الاختيار.

وأما إذا كان هناك ضيق في المكان، كما هو الحال بالنسبة للحرم المكي أو المدني .. أو غيرهما، فليس على الإنسان في ذلك حرج، لأن الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

أما إذا وجدت المرأة نساء أخريات تقف معهن، فهل يجوز لها أن تنفرد عنهن؟

نقول: لا, بل يجب عليها أن تصف مع النساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير صفوف النساء آخرها ). فدل على أن النساء ينبغي ويجب أن يكن صفوفاً كالرجال، وليس جائزاً للنساء أن يصلين كيفما اتفق، هذه في مكان, وهذه في مكان آخر, يجب أن يكن صفوفاً على استقامة واحدة، كما هي صفوف الرجال.

لكن لو أن المرأة صفت بمفردها مع وجود النساء، فما حكم صلاتها؟

في المسألة وجهان للحنابلة وغيرهم:

الوجه الأول: أن صلاتها صحيحة، وهذا هو الراجح أن صلاتها صحيحة؛ لأن المرأة يجوز لها الانفراد كما ذكرنا، حتى مع المخالفة، ولا دليل على بطلان صلاتها.

وأما الوجه الثاني: وهو مذهب الأحناف, فهم يرون أنها لا تصح صلاتها حينئذ, وأنه يجب عليها أن تصاف النساء الأخريات.

والإمام أحمد رحمه الله كان يقول: ( المرأة وحدها صف ) وهكذا البخاري في صحيحه بوب في أحد المواضع التي ذكرناها قبل قليل: باب المرأة تكون وحدها صفاً، ومقصود البخاري وأحمد رحمهما الله يعني: أن المرأة تكون في حكم الصف، يعني: إذا لم توجد إلا امرأة واحدة، فإنها تصف وحدها، وتكون بمثابة صف مكتمل، ولا يجوز لها أن تتم صفوف الرجال.

حكم مصافة الصبي الذي لم يبلغ الحلم في الصلاة

المسألة الثالثة: حكم مصافة الصبي، وهذه مسألة تكثر الحاجة إليها، لو أن إنساناً لم يجد إلا صبياً دون البلوغ ليصلي معه، أو لم يجد إلا صبياً يصف معه في الصف الثاني بعدما اكتمل الصف الأول، فما هو الحكم؟

هذه المسألة: مصافة الصبي الذي لم يبلغ الحلم، فيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: هو الجواز مطلقاً، أنها جائزة مطلقاً، وهذا القول نسبه ابن رجب وغيره لجمهور العلماء، وهو قول الثوري , ومذهب جماعة من الحنابلة منهم ابن عقيل أبو الوفاء وغيره، فعلى هذا القول يجوز أن تصف مع الصبي، ونص عليه الإمام النووي في المجموع، أنه مذهب الشافعية وغيرهم، فعلى هذا القول يجوز مصافة الصبي، كأن تكون إماماً وهو مأموم، أو تصف معه في صف واحد.

ودليلهم حديث أنس رضي الله عنه في الباب، فإنه صف هو واليتيم، وقالوا: إنه لا يطلق عليه اليتم إذا بلغ، فدل على أنه كان صبياً صغير السن لم يحتلم، ومع ذلك صف معه أنس رضي الله عنه, فدل ذلك على الجواز.

القول الثاني في المسألة: المنع مطلقاً، يعني: أنه لا يجوز أن يصف الكبير مع الصبي دون البلوغ، وقولنا: مطلقاً، يعني: لا في الفرض ولا في النفل، وهذا القول أيضاً ذكره ابن رجب , ونسبه لبعض الأصحاب من الحنابلة، ولم يعين أحداً منهم.

وحجتهم أن الصبي لا يعتد بعبادته أو بصلاته؛ لكونه غير مكلف، وقد لا يحسن الطهور والصلاة، وغير ذلك.

القول الثالث في المسألة: أنه تجوز مصافة الصبي في النفل دون الفرض، وهذا أيضاً رواية في مذهب الإمام أحمد، وربما الإمام أحمد نص عليها في لفظ عنه، وقال: ( إن حديث أنس في الباب كان في النافلة ) كان في التطوع.

فهم استدلوا بحديث الباب، لكن قصروه على النافلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين نفلاً، كما ذكرنا صلاة الضحى .. أو غيرها.

والواقع أو الأقرب أن القول الأول أصح: أنه تجوز مصافة الصبي في الفرض والنفل، وذلك لأن ما جاز في النفل جاز في الفرض، والذي يقول بالتفريق بين الفريضة والنافلة عليه الدليل.

فوائد الحديث

الفقرة الرابعة: فوائد الحديث: حقيقة هذا الحديث - يعني- زاخر بعدد من الفوائد التي يحسن أن نقف عندها، خصوصاً وقد تلوت عليكم قصة الحديث: ( أن أنساً

رضي الله عنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم -أو دعته جدته مليكة

- إلى طعام صنعته له، فجاء صلى الله عليه وآله وسلم وأكل من الطعام، ثم قال لهم: قوموا لأصلي بكم، فقام أنس

إلى ذلك الحصير المسود، فنضحه بالماء, ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ). ‏

أما فيما يتعلق بتخريج الحديث:

فقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه، منها: كتاب الأذان، باب صلاة النساء خلف الرجال, وقد رواه بأطول مما ذكره المصنف، وذكر فيه قصة جميلة سنقف عندها، ورواه في مواضع أخرى كما أشرت، وفيه: أن أنساً رضي الله عنه قال: ( إن جدته مليكة

دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنعته له، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: قوموا فلأصلي لكم, قال أنس

رضي الله عنه: فقمنا إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحناه بماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين, ثم انصرف
).

ورواه البخاري في الصلاة في الثياب، باب الصلاة على الحصير؛ لأن أنساً رضي الله عنه ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الحصير.

كما رواه أيضاً في صفة الصلاة، باب وضوء الصبيان, ومتى يجب عليهم الغسل والطهور .. إلى آخر الباب؛ وذلك لأن أنساً رضي الله عنه صف مع اليتيم، واليتيم عادة إنما يطلق على من هو دون البلوغ، على من هو دون الاحتلام.

وكذلك رواه البخاري في التطوع، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى؛ لأن فيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لهم ركعتين )، وهما تطوع، ليستا نافلة بالاتفاق، وربما كانت وقت الضحى، ولذلك خرج الإمام مالك رحمه الله هذا الحديث أيضاً في موطئه , باب صلاة الضحى.

فهذه المواضع التي روى البخاري فيها الحديث.

أما مسلم فكعادته يجمع روايات الحديث في موضع واحد، وقد رواه في كتاب المساجد, باب صلاة الجماعة نافلة.

كما خرجه أصحاب السنن, خرجه أبو داود في الصلاة, باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون؟

وخرجه الترمذي أيضاً في باب ما جاء في الرجل يصلي ومعه النساء والرجال.

وخرجه النسائي في الصلاة أيضاً, باب إذا كانوا ثلاثة ومعهم امرأة, وخرجه مالك في الصلاة كما ذكرت, باب صلاة الضحى, أو باب سبحة الضحى, والبيهقي والدارمي وأحمد .. وغيرهم.

هذا ما يتعلق بالفقرة الأولى, وهي تخريج الحديث.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4820 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4214 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4097 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4023 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3974 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3900 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف - حديث 504-509 3870 استماع