شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين..

حكم الماء إذا وقعت فيه النجاسة؟ هذا هو السؤال الذي طرح في آخر الجلسة الماضية.

والآن نبدأ في الجواب على هذا السؤال, فإذا انتهينا من الحديث انتقلنا إلى تسميع ما بعده والكلام عليها, فقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن الماء إذا وقعت فيه النجاسة, وتغير بها فهو نجس, وقد ذكر كثير من العلماء الاتفاق على هذا الحكم، ممن ذكر الإجماع الإمام ابن المنذر والإمام الشافعي والنووي وابن حجر والشوكاني وابن تيمية وغيرهم من أهل العلم, قالوا: إن الماء إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فهو نجس إجماعاً, وهذا مما لا كلام فيه.

وقد ورد ما يشهد لهذا الإجماع من حديث النبي صلى الله عليه وسلم, فقد روى ابن ماجه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه وطعمه وريحه ) .

ورواية البيهقي فيها زيادة: ( الماء طهور إلا إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه ) , وهذا الحديث ضعيف ضعفه الشافعي قال: ورد بإسناد لا يثبت أهل الحديث مثله, وغيره من الأئمة, بل قال النووي : اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف .

لكن اختلف مسلك أهل العلم في الاستدلال بالإجماع أم بالحديث، فجماهير أهل العلم يستدلون بالإجماع وإلا فالحديث ضعيف.

ومنهم من يسلك طريقة أخرى فيقول: إن الحديث وإن كان ضعيفاً إلا أن الإجماع على تقبله وصحة معناه يجعله يرتقي إلى درجة الاحتجاج فيحتج به, وهذه طريقه بعض من لا يحتجون بالإجماع وهم ندرة من أهل العلم، وإلا فالإجماع حجة وأصل من أصول الاستدلال.

فالخلاصة: أن ما تغير أحد أوصافه بالنجاسة فهو نجس بلا خلاف. ‏

أقوال العلماء في حكم الماء إذا وقعت فيه النجاسة ولم تغير شيئاً من أوصافه

أما ما لم يتغير شيء من أوصافه بحيث وقعت النجاسة فيه ولم تغير شيئاً من أوصافه, فقد اختلف العلماء فيه على قولين:

القول الأول: التفريق بين الماء الكثير والقليل وأن الكثير لا ينجس إلا بالتغير

الأول: مذهب الإمام الشافعي وأبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد ورواية ضعيفة عن الإمام مالك رواها عنه تلاميذه المصريون أنهم يقسمون الماء إلى قسمين: كثير وقليل، فما كان كثيراً فإنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا بالتغير. أما ما كان قليلاً فإنه ينجس بوقوع النجاسة فيه ولو لم يتغير.

ولا يستثنى من ذلك إلا مسألة واحدة عند الإمام أحمد، وهي: ما إذا وقعت في هذا الماء الكثير عذرة آدمي أو بوله ولم يشق نزحه فحينئذ ينزح.

وهذا الاستثناء هو للإمام أحمد خاصة, ولذلك نبقى عند أصل القول وهو التفريق بين الكثير والقليل, فالكثير لا ينجس إلا بالتغير, والقليل ينجس بمجرد وقوع النجاسة.

وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة؛ منها: قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض, وما ينوبه من السباع والدواب, فقال عليه الصلاة والسلام: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) , وفي لفظ: (لم ينجس) فقالوا: هذا الحديث دليل على أن ما كان فوق القلتين أو قلتين يختلف حكمه عما كان دونهما, فإذا كان قلتين فأكثر لم يحمل الخبث, أي: لم ينجس.

أما ما كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث, أي: ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه, وهذا من أقوى أدلة من قالوا بالتفريق بين الكثير والقليل.

القول الثاني: عدم التفريق بين الماء الكثير والقليل وأن كل ما تغير بالنجاسة فهو نجس

القول الثاني: هو أنه لا فرق بين كثير الماء وقليله, بل كل ما تغير بالنجاسة فهو نجس -وهذا كما سبق إجماع- وكل ما لم يتغير بالنجاسة فليس بنجس ولو وقعت فيه دون تفريق بين كثير وقليل, وهذا القول هو مذهب كثير من الصحابة رضي الله عنهم وجماعة من التابعين, ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله، ورواية عن الإمام مالك وهي المعتمدة في مذهب المالكية؛ لأنها من رواية المدنيين عن مالك , ومذهب كثير من المحققين كـابن تيمية وابن القيم وابن دقيق العيد والشوكاني والصنعاني والإمام محمد بن عبد الوهاب وكثير من أولاده وأحفاده وتلاميذه, قالوا: لا فرق بين الكثير والقليل, ما تغير بالنجاسة فنجس, وما لم يتغير بالنجاسة فليس بنجس ولو وقعت فيه.

وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة، منها:

أولاً: قالوا: إن العبرة دائماً بما غلب على الشيء؛ فإذا كان الماء الذي وقعت فيه النجاسة لم تتغير أحد أوصافه بها, فالغالب على هذا الماء هو الطهورية, والنجاسة فيه منغمرة وغير ظاهرة بخلاف الماء الذي ظهرت فيه النجاسة لوناً أو طعماً أو ريحاً, فقد غلبت عليه النجاسة وظهرت فصار الغالب عليه النجس.

وقالوا: إن هذا معتبر في جميع الأشياء, فنحن مثلاً: لو وصفنا إنساناً بالصلاح كان معنى ذلك أن خصال الخير فيه أكثر وأغلب, وإلا فلا يخلو من نقص أو خطأ, والعكس لو وصفناه بالخبث أو الشر لكان معنى ذلك أن خصال الخبث والشر عليه أغلب وأكثر، وإلا فيبعد ألا يكون فيه خصلة خير, وكذلك سائر الأشياء هي لما غلب عليها, فالماء الذي وقعت فيه النجاسة ولم تغلب عليه لا يزال طهوراً, والغالب عليه الطهورية، والحكم لهذا الغالب.

الدليل الثاني: وهو يكاد أن يكون نصاً في محل النزاع, وهو حديث بئر بضاعة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى حكماً عاماً مطلقاً غير مقيد فقال: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )، وهذا لفظ عام, وإن كان السبب خاصاً، فهو كحديث ماء البحر: ( هو الطهور ماؤه ) هو لفظ عام غير مقيد بسبب ولا بحادثة معينة, وهو يقضي بأن الماء الأصل فيه الطهورية, وأنه لا ينجسه شيء, فإذا أورد علينا أحدهم سؤالاً: الماء الكثير أو القليل المتغير بالنجاسة أليس يكون نجساً؟

فالجواب: بلى، بالإجماع. فكيف تقولون: الماء طهور لا ينجسه شيء؟ بلى ينجسه ما غيره.

فكيف تجيبون على هذا الإيراد؟

الإجابة على هذا الإيراد من أحد وجهين:

الوجه الأول: أن نقول: نعم, الحديث قضية عامة: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) ولا نخرج منه أي فرد من أفراده إلا بدليل صريح صحيح, فأما ما تغير بالنجاسة فهو خارج بالإجماع, فلا كلام فيه لأن الذين يقولون بعدم التفريق بين الكثير والقليل, والذين يقولون بالتفريق -كلا الطائفتين- يخرجون ما تغير بالنجاسة من عموم هذا الحديث.

الوجه الثاني: وقد يفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يقال: إن الماء الذي تغير بالنجاسة لا يصلح أن يسمى ماء مطلقاً, بل لابد إما أن يضاف أو يوصف, أما الإضافة فيضاف إلى المادة التي وضعت فيه, فيقال: هذا ماء كذا, وأما الوصف فيوصف بأن يقال: هذا ماء نجس مثلاً, ولا يقال: (هذا ماء) ويسكت, ولذلك يكون الحديث بهذا عاماً على عمومه: ( الماء طهور لا ينجسه شيء )، فأما إذا تنجس فقد خرج عن مسمى الماء المطلق, وصار ماءً نجساً أو ماءً مضافاً إلى المادة التي وضعت فيه.

هذا هو الدليل الذي يكاد أن يكون نصاً في موضع النزاع, وهو حديث بئر بضاعة: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) , ثم إن في الحديث إشارة إلى أنه لا ينجس إلا بالتغير؛ لأن بئر بضاعة لو تغير لتنجس؛ لو تغير بالنجاسة لصار نجساً, وهذا ظاهر ومجمع عليه كما سبق, فما عداه فهو باق على أصل طهوريته.

كما استدل أصحاب هذا القول بدليل ثالث, قالوا: إن المياه من المسائل التي تكثر حاجة الناس إليها أكثر من حاجتهم إلى أي أمر آخر, ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين أشد الحرص على معرفة أحكام المياه دقيقها وجليلها, فلو أن الشارع فرق بين الكثير والقليل, وجعل للكثير حكماً وللقليل حكماً آخر لكان الصحابة رضي الله عنهم عرفوا ذلك معرفة دقيقة ونقلوه إلى من بعدهم.

القول الراجح في حكم الماء إذا وقعت فيه نجاسة

هذه أدلتهم, وهذا القول هو الراجح؛ لقوة الأدلة التي استدلوا بها, ولضعف أدلة أصحاب القول الأول, ولأنه أقرب إلى يسر الشريعة وسماحتها, ولذلك قال الغزالي رحمه الله وهو شافعي: وددت أن مذهب الشافعي في الطهارات كان كمذهب مالك , يعني: في عدم التفريق بين الكثير والقليل, بل جعل العبرة هي بالتغير بالنجاسة أو عدمه.

ولا شك أن الإنسان إذا عرف الحق وجب عليه الانصياع له ولو كان خلاف مذهبه, فحتى لو كان الإنسان شافعياً ورأى أن الحق في مذهب الإمام مالك فإنه لا يجوز له عند الله عز وجل أن يتبع إمامه فيما يعلم أن الحق والدليل بخلافه، والله عز وجل يقول: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] فالسؤال هو عن إجابتك للمرسلين, وهؤلاء الأئمة العظام إنما كانوا أئمة واتفقت الأمة على جلالة قدرهم وعلى فضلهم؛ لأنهم متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم, سائرون على طريقه, فإذا اتفقوا على أمر فاتفاقهم حجة, أما إذا اختلفت أقوال السلف, وكان عند الإنسان إمكانية في البحث عن الدليل والوصول إلى القول الصحيح فعليه أن يبحث, ويلتزم القول الصحيح, فإن لم يكن كذلك سأل من يثق بعلمه ودينه عن الدليل الذي اعتمد عليه في هذا القول, فهذا لابد منه .

هذا القول الذي هو الراجح لدى كثير من العلماء المحققين قد يشكل عليه الحديث الوارد في دليل أصحاب القول الأول, وهو حديث القلتين, والحديث سيرد معنا إن شاء الله إما في نهاية هذه الحلقة أو في بداية الحلقة القادمة, ولكن سأذكر الجواب عليه الآن فقط, جواب أصحاب القول الراجح على هذا الحديث بإيجاز, فمنهم من ضعف هذا الحديث, وسيأتي ذكر من ضعفوه, والأوجه التي ضعفوه بها.

ومنهم من صححوه لكن لم يعملوا به للاضطراب في تحديد معنى القلتين ومقدارهما.

ومنهم من صححوا الحديث ولكن قالوا: إن الحديث لم يرد من النبي صلى الله عليه وسلم مورد التحديد والتقييد المطلق, بل هو إشارة إلى أن الماء الكثير غالباً لا يتغير بالنجاسة, وأن الماء القليل غالباً يتغير بالنجاسة, فكأن معنى الحديث هنا إذا كان الماء قلتين فأكثر لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه بوقوع النجاسة فيه, وهذا حكم غالب, ولذلك لو تغير لتنجس عند الجميع.

ومفهوم الحديث أن ما كان دون القلتين فإنه يتغير أحد أوصافه بوقوع النجاسة فيه, وهذا أيضاً حكم غالب, فلو وقعت فيه فلم تغيره فهو باق على أصله.

ومنهم من قال: إن التفريق بين الكثير والقليل هو مفهوم الحديث وليس لفظه, أي: إن منطوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن ما كان قلتين فأكثر لم ينجس إلا بالتغير, هذا هو المنطوق, أما المفهوم فهو العكس أن ما كان دون القلتين تغير بوقوع النجاسة فيه, يعني: تنجس بوقوع النجاسة فيه ولو لم يتغير, قالوا: فهذا مفهوم, وأمامنا منطوق يعارضه, وهو منطوق حديث بئر بضاعة, والمنطوق مقدم على المفهوم عند التعارض, فنأخذ بمنطوق حديث بئر بضاعة ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) ونطرح مفهوم حديث القلتين, هذا لو فرض وجود تعارض, مع أن الواقع أنه لا تعارض بينهما كما سبق بيانه, هذه أهم أجوبتهم على هذا الحديث.

وكذلك مما يضعف هذا القول بالتفريق أن أصحابه لم يتفقوا على قدر معين, فمنهم من حدد الكثير بما إذا حركت أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر.

ومنهم من حدد الكثير بما لا يظن الإنسان استعمال النجاسة الموجودة فيه إذا استعمله.

ومنهم من حدد الكثير بالقلتين, ثم اختلف أصحاب القلتين اختلافاً كثيراً سيرد, فقالوا: هذا الاضطراب في تحديد الماء الكثير من القليل يدل على أن هذا القول لم يعتمد على أصل صحيح, حتى قال الإمام ابن القيم رحمه الله في تهذيب سنن أبي داود : إذا كان جهابذة العلماء وفحول الفقهاء قد اختلفوا في تحديد الكثير والقليل, واختلفوا في قدر القلتين اختلافاً بيناً, فمنهم من يجعلها ألف رطل, ومنهم من يجعلها ستمائة رطل, ومنهم من يجعلها خمسمائة, ومنهم من يجعلها أربعمائة, ومنهم من يجعلها دون ذلك، فما بالك بالعوام ودهماء الناس الذين لم يتلقوا شيئاً من العلم؟! أنى لهم بمعرفة الفرق بين الكثير والقليل؟! فهذا الاضطراب في التحديد هو مما أورده الذين لا يفرقون بين الكثير والقليل على من يفرقون بينهما.

ولذلك فالراجح أنه لا يفرق بين كثير الماء وقليله, بل ما تغير بالنجاسة فهو نجس قليلاً أو كثيراً, وما لم يتغير بالنجاسة فهو باق على أصل طهوريته كثيراً كان أو قليلاً, وهذا قريب المأخذ سهل الفهم, هذه هي المسألة الأولى التي تتعلق بحديث بئر بضاعة والتي سبقت الإشارة إليها.

أما ما لم يتغير شيء من أوصافه بحيث وقعت النجاسة فيه ولم تغير شيئاً من أوصافه, فقد اختلف العلماء فيه على قولين:

الأول: مذهب الإمام الشافعي وأبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد ورواية ضعيفة عن الإمام مالك رواها عنه تلاميذه المصريون أنهم يقسمون الماء إلى قسمين: كثير وقليل، فما كان كثيراً فإنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا بالتغير. أما ما كان قليلاً فإنه ينجس بوقوع النجاسة فيه ولو لم يتغير.

ولا يستثنى من ذلك إلا مسألة واحدة عند الإمام أحمد، وهي: ما إذا وقعت في هذا الماء الكثير عذرة آدمي أو بوله ولم يشق نزحه فحينئذ ينزح.

وهذا الاستثناء هو للإمام أحمد خاصة, ولذلك نبقى عند أصل القول وهو التفريق بين الكثير والقليل, فالكثير لا ينجس إلا بالتغير, والقليل ينجس بمجرد وقوع النجاسة.

وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة؛ منها: قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض, وما ينوبه من السباع والدواب, فقال عليه الصلاة والسلام: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) , وفي لفظ: (لم ينجس) فقالوا: هذا الحديث دليل على أن ما كان فوق القلتين أو قلتين يختلف حكمه عما كان دونهما, فإذا كان قلتين فأكثر لم يحمل الخبث, أي: لم ينجس.

أما ما كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث, أي: ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه, وهذا من أقوى أدلة من قالوا بالتفريق بين الكثير والقليل.

القول الثاني: هو أنه لا فرق بين كثير الماء وقليله, بل كل ما تغير بالنجاسة فهو نجس -وهذا كما سبق إجماع- وكل ما لم يتغير بالنجاسة فليس بنجس ولو وقعت فيه دون تفريق بين كثير وقليل, وهذا القول هو مذهب كثير من الصحابة رضي الله عنهم وجماعة من التابعين, ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله، ورواية عن الإمام مالك وهي المعتمدة في مذهب المالكية؛ لأنها من رواية المدنيين عن مالك , ومذهب كثير من المحققين كـابن تيمية وابن القيم وابن دقيق العيد والشوكاني والصنعاني والإمام محمد بن عبد الوهاب وكثير من أولاده وأحفاده وتلاميذه, قالوا: لا فرق بين الكثير والقليل, ما تغير بالنجاسة فنجس, وما لم يتغير بالنجاسة فليس بنجس ولو وقعت فيه.

وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة، منها:

أولاً: قالوا: إن العبرة دائماً بما غلب على الشيء؛ فإذا كان الماء الذي وقعت فيه النجاسة لم تتغير أحد أوصافه بها, فالغالب على هذا الماء هو الطهورية, والنجاسة فيه منغمرة وغير ظاهرة بخلاف الماء الذي ظهرت فيه النجاسة لوناً أو طعماً أو ريحاً, فقد غلبت عليه النجاسة وظهرت فصار الغالب عليه النجس.

وقالوا: إن هذا معتبر في جميع الأشياء, فنحن مثلاً: لو وصفنا إنساناً بالصلاح كان معنى ذلك أن خصال الخير فيه أكثر وأغلب, وإلا فلا يخلو من نقص أو خطأ, والعكس لو وصفناه بالخبث أو الشر لكان معنى ذلك أن خصال الخبث والشر عليه أغلب وأكثر، وإلا فيبعد ألا يكون فيه خصلة خير, وكذلك سائر الأشياء هي لما غلب عليها, فالماء الذي وقعت فيه النجاسة ولم تغلب عليه لا يزال طهوراً, والغالب عليه الطهورية، والحكم لهذا الغالب.

الدليل الثاني: وهو يكاد أن يكون نصاً في محل النزاع, وهو حديث بئر بضاعة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى حكماً عاماً مطلقاً غير مقيد فقال: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )، وهذا لفظ عام, وإن كان السبب خاصاً، فهو كحديث ماء البحر: ( هو الطهور ماؤه ) هو لفظ عام غير مقيد بسبب ولا بحادثة معينة, وهو يقضي بأن الماء الأصل فيه الطهورية, وأنه لا ينجسه شيء, فإذا أورد علينا أحدهم سؤالاً: الماء الكثير أو القليل المتغير بالنجاسة أليس يكون نجساً؟

فالجواب: بلى، بالإجماع. فكيف تقولون: الماء طهور لا ينجسه شيء؟ بلى ينجسه ما غيره.

فكيف تجيبون على هذا الإيراد؟

الإجابة على هذا الإيراد من أحد وجهين:

الوجه الأول: أن نقول: نعم, الحديث قضية عامة: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) ولا نخرج منه أي فرد من أفراده إلا بدليل صريح صحيح, فأما ما تغير بالنجاسة فهو خارج بالإجماع, فلا كلام فيه لأن الذين يقولون بعدم التفريق بين الكثير والقليل, والذين يقولون بالتفريق -كلا الطائفتين- يخرجون ما تغير بالنجاسة من عموم هذا الحديث.

الوجه الثاني: وقد يفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يقال: إن الماء الذي تغير بالنجاسة لا يصلح أن يسمى ماء مطلقاً, بل لابد إما أن يضاف أو يوصف, أما الإضافة فيضاف إلى المادة التي وضعت فيه, فيقال: هذا ماء كذا, وأما الوصف فيوصف بأن يقال: هذا ماء نجس مثلاً, ولا يقال: (هذا ماء) ويسكت, ولذلك يكون الحديث بهذا عاماً على عمومه: ( الماء طهور لا ينجسه شيء )، فأما إذا تنجس فقد خرج عن مسمى الماء المطلق, وصار ماءً نجساً أو ماءً مضافاً إلى المادة التي وضعت فيه.

هذا هو الدليل الذي يكاد أن يكون نصاً في موضع النزاع, وهو حديث بئر بضاعة: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) , ثم إن في الحديث إشارة إلى أنه لا ينجس إلا بالتغير؛ لأن بئر بضاعة لو تغير لتنجس؛ لو تغير بالنجاسة لصار نجساً, وهذا ظاهر ومجمع عليه كما سبق, فما عداه فهو باق على أصل طهوريته.

كما استدل أصحاب هذا القول بدليل ثالث, قالوا: إن المياه من المسائل التي تكثر حاجة الناس إليها أكثر من حاجتهم إلى أي أمر آخر, ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين أشد الحرص على معرفة أحكام المياه دقيقها وجليلها, فلو أن الشارع فرق بين الكثير والقليل, وجعل للكثير حكماً وللقليل حكماً آخر لكان الصحابة رضي الله عنهم عرفوا ذلك معرفة دقيقة ونقلوه إلى من بعدهم.

هذه أدلتهم, وهذا القول هو الراجح؛ لقوة الأدلة التي استدلوا بها, ولضعف أدلة أصحاب القول الأول, ولأنه أقرب إلى يسر الشريعة وسماحتها, ولذلك قال الغزالي رحمه الله وهو شافعي: وددت أن مذهب الشافعي في الطهارات كان كمذهب مالك , يعني: في عدم التفريق بين الكثير والقليل, بل جعل العبرة هي بالتغير بالنجاسة أو عدمه.

ولا شك أن الإنسان إذا عرف الحق وجب عليه الانصياع له ولو كان خلاف مذهبه, فحتى لو كان الإنسان شافعياً ورأى أن الحق في مذهب الإمام مالك فإنه لا يجوز له عند الله عز وجل أن يتبع إمامه فيما يعلم أن الحق والدليل بخلافه، والله عز وجل يقول: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] فالسؤال هو عن إجابتك للمرسلين, وهؤلاء الأئمة العظام إنما كانوا أئمة واتفقت الأمة على جلالة قدرهم وعلى فضلهم؛ لأنهم متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم, سائرون على طريقه, فإذا اتفقوا على أمر فاتفاقهم حجة, أما إذا اختلفت أقوال السلف, وكان عند الإنسان إمكانية في البحث عن الدليل والوصول إلى القول الصحيح فعليه أن يبحث, ويلتزم القول الصحيح, فإن لم يكن كذلك سأل من يثق بعلمه ودينه عن الدليل الذي اعتمد عليه في هذا القول, فهذا لابد منه .

هذا القول الذي هو الراجح لدى كثير من العلماء المحققين قد يشكل عليه الحديث الوارد في دليل أصحاب القول الأول, وهو حديث القلتين, والحديث سيرد معنا إن شاء الله إما في نهاية هذه الحلقة أو في بداية الحلقة القادمة, ولكن سأذكر الجواب عليه الآن فقط, جواب أصحاب القول الراجح على هذا الحديث بإيجاز, فمنهم من ضعف هذا الحديث, وسيأتي ذكر من ضعفوه, والأوجه التي ضعفوه بها.

ومنهم من صححوه لكن لم يعملوا به للاضطراب في تحديد معنى القلتين ومقدارهما.

ومنهم من صححوا الحديث ولكن قالوا: إن الحديث لم يرد من النبي صلى الله عليه وسلم مورد التحديد والتقييد المطلق, بل هو إشارة إلى أن الماء الكثير غالباً لا يتغير بالنجاسة, وأن الماء القليل غالباً يتغير بالنجاسة, فكأن معنى الحديث هنا إذا كان الماء قلتين فأكثر لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه بوقوع النجاسة فيه, وهذا حكم غالب, ولذلك لو تغير لتنجس عند الجميع.

ومفهوم الحديث أن ما كان دون القلتين فإنه يتغير أحد أوصافه بوقوع النجاسة فيه, وهذا أيضاً حكم غالب, فلو وقعت فيه فلم تغيره فهو باق على أصله.

ومنهم من قال: إن التفريق بين الكثير والقليل هو مفهوم الحديث وليس لفظه, أي: إن منطوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن ما كان قلتين فأكثر لم ينجس إلا بالتغير, هذا هو المنطوق, أما المفهوم فهو العكس أن ما كان دون القلتين تغير بوقوع النجاسة فيه, يعني: تنجس بوقوع النجاسة فيه ولو لم يتغير, قالوا: فهذا مفهوم, وأمامنا منطوق يعارضه, وهو منطوق حديث بئر بضاعة, والمنطوق مقدم على المفهوم عند التعارض, فنأخذ بمنطوق حديث بئر بضاعة ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) ونطرح مفهوم حديث القلتين, هذا لو فرض وجود تعارض, مع أن الواقع أنه لا تعارض بينهما كما سبق بيانه, هذه أهم أجوبتهم على هذا الحديث.

وكذلك مما يضعف هذا القول بالتفريق أن أصحابه لم يتفقوا على قدر معين, فمنهم من حدد الكثير بما إذا حركت أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر.

ومنهم من حدد الكثير بما لا يظن الإنسان استعمال النجاسة الموجودة فيه إذا استعمله.

ومنهم من حدد الكثير بالقلتين, ثم اختلف أصحاب القلتين اختلافاً كثيراً سيرد, فقالوا: هذا الاضطراب في تحديد الماء الكثير من القليل يدل على أن هذا القول لم يعتمد على أصل صحيح, حتى قال الإمام ابن القيم رحمه الله في تهذيب سنن أبي داود : إذا كان جهابذة العلماء وفحول الفقهاء قد اختلفوا في تحديد الكثير والقليل, واختلفوا في قدر القلتين اختلافاً بيناً, فمنهم من يجعلها ألف رطل, ومنهم من يجعلها ستمائة رطل, ومنهم من يجعلها خمسمائة, ومنهم من يجعلها أربعمائة, ومنهم من يجعلها دون ذلك، فما بالك بالعوام ودهماء الناس الذين لم يتلقوا شيئاً من العلم؟! أنى لهم بمعرفة الفرق بين الكثير والقليل؟! فهذا الاضطراب في التحديد هو مما أورده الذين لا يفرقون بين الكثير والقليل على من يفرقون بينهما.

ولذلك فالراجح أنه لا يفرق بين كثير الماء وقليله, بل ما تغير بالنجاسة فهو نجس قليلاً أو كثيراً, وما لم يتغير بالنجاسة فهو باق على أصل طهوريته كثيراً كان أو قليلاً, وهذا قريب المأخذ سهل الفهم, هذه هي المسألة الأولى التي تتعلق بحديث بئر بضاعة والتي سبقت الإشارة إليها.

المسألة الثانية المتعلقة بحديث بئر بضاعة هي: كلام أهل العلم في أقسام المياه: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) يدل بظاهره على أن الماء قسمان:

الأول: الطهور. والثاني: المتنجس أو النجس, فالماء طهور لا ينجسه شيء, وليس بينهما ماء وسط، ليس بطهور وليس بنجس، ولذلك اختلف أهل العلم في هذه المسألة أيضاً على قولين:

القول الأول: تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام: طهور وطاهر ونجس

القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم أن الماء ثلاثة أقسام:

طهور: وهو الطاهر في نفسه المطهر لغيره مما يستعمل في الطهارات وغيرها.

الثاني: طاهر أي: طاهر في نفسه يستعمل للشرب وغيره لكن لا يستعمل في الطهارات.

الثالث: النجس, وهو غير الطاهر.

وهذا القول منسوب لأكثر العلماء, وإن كانوا يختلفون في تفاصيله, فهو قول الشافعية ورواية عن الإمام مالك ورواية عن الإمام أحمد، وهي التي عليها أكثر المتأخرين من الحنابلة أن الماء ثلاثة أقسام.

واستدلوا على قولهم ببعض الأدلة, فمن أدلتهم: قالوا: إن قوله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] فقوله: (ماء) هذا لفظ مطلق المقصود به الماء الباقي على أصل خلقته غير المتغير بشيء أو المنتقل عن الطهورية؛ لأنه إذا تغير أو انتقل لم يسم ماء مطلقاً هكذا, هذا دليل لهم.

الثاني: قالوا: لأن وجود ماء طهوركما في قوله: وأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48] , وقوله صلى الله عليه وسلم: ( هو الطهور ماؤه ) كما في قوله: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11] قالوا: هذا دليل على أن (طهور) معناها مطهر, فهو فعول بمعنى فاعل أي: منقولة من فاعل فهو طهور أي: مطهر لغيره, كما تقول: هذا رجل أكول أو شروب أو ظلوم، فكذلك (طهور), هذا عند بعضهم وليس عند جميعهم.

الدليل الثالث: استدل بعضهم بحديث ( هو الطهور ماؤه ) ووجه استدلالهم بهذا الحديث دقيق ولطيف ينبغي الانتباه له, قالوا: لأن سؤال الصحابي رضي الله عنه لم يكن عن طهارة ماء البحر, فإن طهارته كانت مقررة معلومة, وإنما كان سؤاله عن طهوريته أي: عن جواز الوضوء والغسل به ورفع الحدث, وهذا دليل على أنه كان قائماً في ذهن هذا الصحابي أن هناك ماء طاهراً لا يرفع به الحدث, وهو ما اصطلح الفقهاء بعد على تسميته بالطاهر.

واستدلوا -رابعاً- ببعض الأحاديث، كما في نهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد, ونهيه عن الوضوء بفضل وضوء المرأة, ونهيه عن غمس القائم من نوم الليل يده في الإناء.

قال بعضهم: فهذه المياه مع أنها طاهرة ليست بنجسة ورد النهي عن الاغتسال ببعضها كما في حالة فضل وضوء المرأة, وورد النهي عن غمس اليد, أو النهي عن البول في الماء الراكد, والنهي يقتضي الفساد عند بعض الأصوليين. ولذلك قالت الظاهرية: إن هذا الماء الراكد الذي بال فيه البائل, أو هذا الماء الذي غمست فيه يد قائم من نوم ليل لا يجوز الوضوء به, ولا يرفع الحدث؛ لأنه ماء فاسد لا يصلح للطهورية.

هذه أهم الأدلة لأصحاب القول الأول.

القول الثاني: (الماء قسمان: طهور، ونجس)

أما القول الثاني: فهو قول الحسن البصري وسفيان ورواية عن الإمام أحمد وهي المنصوصة في أكثر أجوبته رحمه الله، وهو مذهب كثير من الحنفية, ورجحها عدد من العلماء كـأبي الوفاء بن عقيل وابن تيمية وابن القيم والشوكاني والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهم أن الماء قسمان: طهور ونجس, وأنه لا يوجد ماء وسيط بين هذين النوعين.

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة منها: أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ).

وهذا أيضاً دليل قوي لهم؛ لأنك لو تأملت الحديث وجدت أنه يحكم للماء بالطهورية, وأنه لا ينتقل عن الطهورية إلا إلى النجاسة, فإما طهور وإما نجس.

الدليل الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: ( هو الطهور ماؤه ) قالوا: فإن ماء البحر متغير بالملوحة الزائدة وهذا الذي جعل الصحابي رضي الله عنه يسأل عن حكمه, ومع تغيره فقد حكم له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه طهور, فدل على أن ما تغير بالطاهرات فهو طهور إلا لو غلبت أجزاء المادة الموضوعة فيه, فهو حينئذ ينتقل عن مسمى الماء أصلاً أي: لو أضفت إلى الماء زعفران أو ماء ورد أو باقلاء أو غيرها من المواد إضافات كثيرة فصارت غالبة على الماء، حينئذ نرجع لنقول: إن هذا لما غلب عليه, فلو سميته ماء كنت مخطئاً في ذلك.

الشاي مثلاً هل يسمى ماء مطلقاً؟ لا يسمى ماء, ولو أمرت إنساناً أن يحضر لك كوباً من الشاي فأحضر ماء لما كان ممتثلاً للأمر, والعكس صحيح لو طلبت ماء فجاء الشاي لما كان هذا امتثالاً للطلب.

قالوا: فتغير الماء بالطاهرات لا يخرجه عن مسمى الطهورية، إلا إذا خرج عن مسمى الماء المطلق, وصار أمراً آخر كماء ورد أو ماء زعفران أو ماء باقلاء, فحينئذ انتقل عن كونه ماء أصلاً.

قالوا: ولا فرق بين ما تغير بفعل الإنسان المقصود وما كان تغيره بطبيعته, فلا فرق بين ماء البحر عندهم وبين الماء الذي أضاف إليه الإنسان باختياره ملحاً حتى صار مالحاً.

هذا هو الدليل الثاني لهم, وقالوا: من قال بالفرق بينهما فيلزمه الدليل, ولا دليل هناك.

الدليل الثالث: قالوا: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالغسل بماء خلط فيه غيره من الطاهرات، ففي قصة المحرم الذي وقصته ناقته, قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المتفق عليه: ( اغسلوه بماء وسدر ) ومن المعلوم أن الماء إذا أضيف إليه السدر فإنه يتغير به.

وكذلك في حديث أم عطية المتفق عليه لما جاء صلى الله عليه وسلم والنسوة يغسلن ابنته قال: ( اغسلنها بماء وسدر ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك, واجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور ) فالسدر والكافور يغير الماء غالباً.

وكذلك ورد في أمره للرجل الذي أسلم أن يغتسل بماء وسدر, كم هذه الأدلة؟

الدليل الرابع: ما رواه النسائي والبيهقي وأحمد عن أم هانئ رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وأحد أزواجه من قصعة فيها أثر العجين ), ومن المعلوم أن الماء إذا وضع في قصعة أثر العجين فيها ظاهر فإن العجين يتحلل بوجود الماء فوقه, وترتفع بعض أجزائه في الماء فتغيره, وكان هذا عام الفتح.

الدليل الخامس: أن الصحابة رضي الله عنهم وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون ويحملون الماء في أسقية كان غالبها من الأدم -من الجلود- ومن الطبيعي في مثل هذه الأسقية أنها تؤثر في لون الماء وفي طعمه وفي ريحه, ويتحلل منها مع الوقت أجزاء ترتفع إلى الماء فتؤثر فيه, ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتقون استعمال هذا الماء في سائر الطهارات, أو أنهم كانوا يحملون معهم غيره ويستعملونه في الشرب أو في استعمالات أخرى مثلاً.

الدليل السادس: قالوا: إن أمر الماء من الأشياء التي تكثر حاجة الناس إليها, وسؤالهم عن أحكامها, فحاجتهم إليها أشد من حاجتهم إلى بيان سائر الأحكام, ويبعد جداً أن يوجد تقسيم شرعي للمياه, ولا ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم القول به, إلى غير ذلك من الأدلة.

القول الراجح في تقسيم المياه

قالوا: أما ما استدل به أصحاب القول الأول فهو لا يقوى على مقابلة هذه الأدلة, فأما استدلالهم بأنه لا يسمى ماء مطلقاً في قوله: (فلم تجدوا ماء) فالجواب: أن كلمة (ماء) في الآية نكرة في سياق النفي فتعم كل ماء, فكل ما جاز أن يسمى ماء جاز الوضوء به ولو كان متغيراً, ولا يخرج عن ذلك إلا إذا نقلناه عن مسمى الماء إلى مسمى آخر, أو نقلنا الإجماع على منع استعماله, كما هو الحال في الماء المتنجس.

أما الدليل الثاني, وهو تسميته بطهور: فقالوا: إن الله عز وجل وصف ماء أهل الجنة بذلك وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] مع عدم حاجة أهل الجنة إلى التطهر, فالمقصود وصفه بالطيب والطهارة, ولا يمنع أن نسمي كل ماء غير نجس طهوراً, لا يوجد ما يمنع من ذلك.

أما سؤال الصحابي عن ماء البحر, قالوا: فهذا لو صح هو ظن صحابي, وهو مدفوع بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم الصريح بأن ماء البحر طهور مع تغيره, فالاستدلال بأن ماء البحر طهور مع أنه متغير بالملوحة الزائدة, وهذا لفظ النبي عليه الصلاة والسلام أولى من الاستدلال بالظن الذي وقع في ذهن الصحابي.

أما النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة, فهذا ورد ما يخالفه في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل ميمونة أو اغتسل ) فيكون النهي للتنزيه, ويبقى الماء على طهوريته.

وكذلك الماء الذي غمست فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء, أو الماء الراكد الكثير الذي بال فيه شخص ولم يتغير, كل هذه المياه هي باقية على طهوريتها, وإلا فما رأيكم يا أصحاب القول الأول لو كان عندنا ماء كثير جداً فبال فيه إنسان, هل تقولون بجواز الوضوء به أم لا؟

إذا قال من قسموا الماء: نعم يجوز الوضوء به, قلنا: قد نقضتم الأصل الذي بنيتم عليه. وإن قالوا: يمتنع الوضوء به مع كثرته فإنهم قد خالفوا في ذلك نص النبي صلى الله عليه وسلم, فلابد لهم من هذا التناقض؛ لأنهم يفرقون بين الكثير والقليل.

وبذلك يظهر أن الأقرب للصواب -والله أعلم- أن الماء قسمان: طهور ونجس, وأن ما عدا ذلك من التفريعات فهي اجتهادات أصحابها مأجورون إن شاء الله لبذلهم الوسع في الوصول إلى حكم الله ورسوله, ولكن لا يجب على من عرف خلافها أن يتبعها.