تفسير سورة الأنعام [95-101]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:95]. قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) هذا شروع في ذكر بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وفي هذا تقرير شأن توحيده تبارك وتعالى، وقد بين الله عز وجل وقرر في الآيات السابقة التوحيد، وحاجَّ القرآن الكريم المشركين، ودحضهم، وأبطل شبهاتهم، وشرع الله عز وجل هنا في بيان بعض المبدعات، وما استبعدوه من المخلوقات الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله، وأنه مبدع الأشياء وخالقها، ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، وفي هذا التعريف بخطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه. والمعنى أن الذي يستحق العبادة دون غيره هو الذي فعل كذا وكذا وكذا مما سيأتي من الآن فصاعداً، فالذي يستحق العبادة دون غيره هو الذي فلق الحب عن النبات، وخلق من النواة النخلة. وفي معنى قوله تعالى تبارك وتعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) قولان: أحدهما: أن (فالق) بمعنى (خالق) والثاني: أن الفلق هو الشق. أما القول الأول في (فالق): فهو أنه بمعنى (خالق) أي: إن الله خالق الحب والنوى. وهذا قول ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال الضحاك ومقاتل ، قال الواحدي : ذهبوا بـ (فالق) مذهب (ثاقب)، يعني: خالق. وأنكر الطبري هذا، وقال: لا يعرف في كلام العرب (فلق الله الشيء) بمعنى (خلق)، ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه، يعني: جواز أن يعبر عن (خلق) بـ (فلق)، وكذا المجد في القاموس. قال الرازي : الفطح هو الشق، وكذلك الفلق، فالشيء قبل أن يدخل في الوجود كان معدوماً محضاً ونفياً صرفاً، والعقل يتصور من العدم ظلمةً متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق ولا انشقاق، فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه -يعني: أوجده- وأخرج ذلك المحدث من ذلك الشق، فبهذا التأويل لا يزعم حمل الفالق على الموجد والمبدع. فهنا الرازي يذكر وجه التعبير عن (خلق) بـ (فلق)، أو عن (خالق) بـ (فالق): فهذا هو وجه القول الأول، وهو أن (فالق الحب والنوى) بمعنى: خالق الحب والنوى. أما القول الثاني -وهو قول الأكثرين- فهو أن (فالق) بمعنى الشاق الذي يشق الحب والنوى. وكون الفلق هو الشق في معناه وجهان: أحدهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة. وهو قول الحسن والسدي وابن زيد ، قال الزجاج : يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقاً أخضر. أما الوجه الثاني فهو أن الفلق هنا بمعنى الشق الذي يوجد في الحب والنواة، كحبة الشعير -مثلاً-، حيث يوجد فلق ونوع من الشق في الحبة نفسها، وكذلك النواة كما في نواة التمر، فإنه يوجد فيها شق يقسم الحبة إلى اثنتين. لكن ضعف هذا الوجه الثاني بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة، أما الحب فهو ما ليس له نواة، كالحنطة والشعير والأرز، وأما النوى فهو جمع نواة، وهو الموجود في داخل الثمرة، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما. قال الرازي : إذا عرفت ذلك فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مر به قدر من المدة أظهر الله تبارك وتعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً آخر، فالأول يخرج منه الشجر الصاعد إلى الهواء، والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض المسماة بعروق الشجرة، وهي التي نعبر عنها بالجذور، وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض. وذكر الإمام الرازي -كما نقل القاسمي - كلاماً بديعاً جداً في عجائب صنع الله سبحانه وتعالى في فلق الحب والنوى، والحقيقة أن الكلام في غاية الإبداع، وباختصار فإنه لا شك في أن من يدرس علم النبات فإنه يطلع على أسرار وعجائب عظيمة جداً في خلق الحب والنوى. ونلاحظ هنا أن الرازي هو كـابن القيم وكـالغزالي وغيرهما من العلماء الذين اجتهدوا في محاولة إعمال العقل البشري في التدبر في آيات الله سبحانه وتعالى الكونية. وكلهم كانوا يتحدثون على مستوى الثقافة التي كانت في عصرهم، وهذا أقصى ما وصل إلى علم البشر في ذلك الوقت، ولا شك في أنه يوجد اليوم من مظاهر الإبداع وعلامات وآثار التوحيد في خلق الله سبحانه وتعالى في عالم النبات ما يبهر العقول. والكلام هنا هو عن طبيعة إحدى الشجرتين، فالتوجه إلى أسفل هو المقصود بالجذور، وطبيعة الشق الآخر التوجه إلى أعلى، وهو الذي يخرج منه الشجر، فواحدة منهما تقتضي الهوي إلى عمق الأرض، ومع ذلك تولدت منها الشجرة التي تصعد في الهواء، فالحس والعقل يشهد بكون طبيعة تلك مضادة للطبيعة الأخرى، لكن اجتمعتا، فعلمنا بذلك أنه ليس هذا مقتضى الطبع والخاصية، وإنما هو مقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع، فلو أنك بذرت بذرة فول أو نحوها فبقدرة الله سبحانه وتعالى تنمو الجذور من جهة معينة، فلو أن الحبة وضعت في الأرض مقلوبة بحيث يكون الجذر إلى أعلى فسنجد الحبة نفسها بقدرة الله عز وجل تعدل وضعها، بحيث يتجه الجذر إلى أسفل، والنبات يتجه إلى أعلى، والعجائب في هذا كثيرة جداً. ومن هذه العجائب التي أشار إليها أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ الأسنة القوية فيه، فلو أنك أتيت بسكين حاد وحاولت أن تغوص به في داخل الأرض فإن لم تكن تربة لينة فستكون هناك مقاومة، وهذه الجذور بعضها في غاية دقتها ولطافتها ولينها، ولو أتيت بهذه الجذور أو الشعيرات الجذرية ودلكتها بيدك فإنها تصير مثل الماء، وتلين في يدك وتتمزق بمجرد ضغط الأصابع عليها، ومع أنها في غاية الدقة وفي غاية اللطافة تقوى بقدرة الله سبحانه وتعالى على النفوذ في الأرض الصلبة، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة، فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لابد من أن يكون بتقدير العزيز الحكيم سبحانه وتعالى. ومن سافر من مصر ماراً في الطريق البري فإنه يرى العجائب في سيناء، ويرى الجبال التي في سيناء وفيها عجائب مذهلة من عجائب قدرة الله سبحانه وتعالى. وهكذا ترى النخيل صنوان وغير صنوان خارجاً من أعماق صخر عتيد في غاية الصلابة والقوة، وفي تلك الصخور العاتية تجد النخل قد نبت من هذه الصخور، فما يكون ذلك إلا بقدرة الله عز وجل. ومن هذه العجائب أنه يتولد من تلك النواة شجرة، وهذه الشجرة يحصل فيها طبائع مختلفة، فإن قشر الخشبة له طبيعة خاصة، وفي داخل ذلك القشر الخشبة، وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش، ثم يتولد من جسم الشجرة أغصانها، ويتولد من الأغصان الأوراق أولاً، ثم الأزهار والأنوار -جمع نَورة، وهي البراعم- ثانياً، ثم الفاكهة ثالثاً، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر، مثل الجوز، فالجوزة من الخارج يكون فيها قشرة خضراء، لكن هذه لا تراها؛ لأنك تتعامل مع الطبقة التي تليها، والذين يبيعونه يأخذون هذا القشر، فالأول طبقة تتكون من هذه القشرة الخضراء، وبعد ذلك يكون القشر الذي نراه نحن وهو الذي يشبه الخشب، ثم تحت القشرة ذلك الخصل الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب، وتحته ذلك اللب، ثم ذلك اللب مشتمل على جرم كثيف، وهو أيضاً كالقشر، وهذا الجرم اللطيف هو الدهن، وهو المقصود الأصلي، فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها يدل على أنها نفسها تتعرض لمؤثرات واحدة في تربة واحدة متجانسة، وتسقى من ماء واحد، والشمس واحدة، وهكذا العوامل التي تؤثر عليها واحدة، ومع ذلك بقدرة الله عز وجل يخرج منها هذه الأنواع التي لا حصر لها من خلق الله سبحانه وتعالى من أنواع الفواكه التي تذهل العقول إذا تدبرت وتفكرت ملياً في عظم قدرة الله سبحانه وتعالى فيها، فهذا التنوع كله من ماء واحد، وتربة واحدة، وعوامل محيطة واحدة، ومع ذلك يخرج هذا حلواً وهذا حامضاً مختلفاً ومتفاوتاً، والنوع الواحد يتفرع إلى أنواع، كالتمر مثلاً، كل ذلك يدل على تدبير الحكيم الرحيم المختار القادر لا تدبير العناصر والطبائع. وكذلك نجد أحوال الفواكه مختلفة، وبعضها يكون اللب في الداخل والقشر في الخارج كما في الجوز واللوز، وبعضها تكون الفاكهة المطلوبة منه في الخارج وتكون النواة في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضها تكون النواة فيه لها لب، كما في نوى المشمش والخوخ، وبعضها لا لب له، كما في نوى التمر، وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر، بل يكون كله مطلوباً في الداخل والخارج، مثل التين، فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه. وأيضاً الحبوب مختلفة في الأشكال والصور، فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما، وشكل العدس كأنه دائرة، وشكل الحمص على وجه آخر. فهذه الأشكال المختلفة لابد من أن تكون لأسرار وحكم، وقد علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل، وبعض الحبوب يكون لها خاصية، والأخرى تكون لها خواص ومنافع أخرى، وقد تكون ثمرة واحدة غذاءً لحيوان وسماً لحيوان آخر، فهذا كله يدل على توحيد الله سبحانه وتعالى وقدرته عز وجل. وإذا أخذت ورقةً واحدة من ورق الشجر تجد خطاً واحداً مستقيماً في وسطها، ثم ينفصل إلى يمنةً ويسرةً، وإلى شعب أخرى لا تزال تزداد حتى تخرج عن الإدراك بسبب ذلك الصغر، حتى لا تكاد تُرى، والخالق تعالى إنما فعل ذلك لتقوى القوى المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة، حتى إ

قدرة الله تعالى في إخراج الحي من الميت والميت من الحي

يقول عز وجل: (( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ )) فأنت ترى البيضة التي هي تعتبر أكبر خلية نواة والمادة الحيوانية -البروتوبلازم- حولها، ولو فتحت البيضة تجد أن الذي فيها ميت، ثم بقدرة الله عز وجل يخرج منها هذا المخلوق الحي بكل ما فيه من إبداع خلق الله سبحانه وتعالى، فمن الذي فعل هذا؟! وهل يقوى جميع علماء الكرة الأرضية بأمريكا وبالغرب وبالشرق بكل ما معهم من قوى وعلم على فعل ذلك؟! وهل يقدرون -لا نقول: على خلق فرخ من بيضة- بل على خلق نملة أو خلق بكتيريا أو فيروس؟! وهل يقوون على ذلك؟! الجواب: مستحيل، فالتحدي قائم، ومع ذلك يجحدون، ولا يعترفون بجهلهم وضعفهم أمام قدرة الله تبارك وتعالى. وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74]. وهكذا الجاحدون في كل وقت (ما قدروا الله حق قدره) فلا يعظمون الله عز وجل تعظيمه اللائق به، ولا يقدرونه حق قدره عز وجل. فقوله عز وجل: (( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ )) كالحيوان من النطفة، والنبات الغض الطري من الحب اليابس (ومخرج الميت) كالنطفة والحب (من الحي) كالحيوان والنبات. وقوله تعالى: (ذلكم الله) الفالق للحب والنوى، والمخرج الحي من الميت وعكسه هو الله القادر العظيم الشأن المستحق للعبادة وحده، (فأنى تؤفكون) أي: أنى تصرفون عنه إلى غيره؟! والمقصود أن الحي والميت متضادان متنافيان، فلعله إذا كان يحصل المثل من المثل -أي: حي يخرج من حي- فقد يتوهم الإنسان أن هذا بسبب الطبيعة والخاصية، أما حصول الضد من ضده، كالحياة من الموت والموت من الحياة فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن كان ميتاً فكيف هو بذاته يعطي حياة، فخروج الضد من الضد دليل على أنه لابد من أن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم تبارك وتعالى.

يقول عز وجل: (( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ )) فأنت ترى البيضة التي هي تعتبر أكبر خلية نواة والمادة الحيوانية -البروتوبلازم- حولها، ولو فتحت البيضة تجد أن الذي فيها ميت، ثم بقدرة الله عز وجل يخرج منها هذا المخلوق الحي بكل ما فيه من إبداع خلق الله سبحانه وتعالى، فمن الذي فعل هذا؟! وهل يقوى جميع علماء الكرة الأرضية بأمريكا وبالغرب وبالشرق بكل ما معهم من قوى وعلم على فعل ذلك؟! وهل يقدرون -لا نقول: على خلق فرخ من بيضة- بل على خلق نملة أو خلق بكتيريا أو فيروس؟! وهل يقوون على ذلك؟! الجواب: مستحيل، فالتحدي قائم، ومع ذلك يجحدون، ولا يعترفون بجهلهم وضعفهم أمام قدرة الله تبارك وتعالى. وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74]. وهكذا الجاحدون في كل وقت (ما قدروا الله حق قدره) فلا يعظمون الله عز وجل تعظيمه اللائق به، ولا يقدرونه حق قدره عز وجل. فقوله عز وجل: (( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ )) كالحيوان من النطفة، والنبات الغض الطري من الحب اليابس (ومخرج الميت) كالنطفة والحب (من الحي) كالحيوان والنبات. وقوله تعالى: (ذلكم الله) الفالق للحب والنوى، والمخرج الحي من الميت وعكسه هو الله القادر العظيم الشأن المستحق للعبادة وحده، (فأنى تؤفكون) أي: أنى تصرفون عنه إلى غيره؟! والمقصود أن الحي والميت متضادان متنافيان، فلعله إذا كان يحصل المثل من المثل -أي: حي يخرج من حي- فقد يتوهم الإنسان أن هذا بسبب الطبيعة والخاصية، أما حصول الضد من ضده، كالحياة من الموت والموت من الحياة فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن كان ميتاً فكيف هو بذاته يعطي حياة، فخروج الضد من الضد دليل على أنه لابد من أن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم تبارك وتعالى.

ثم قال عز وجل: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:96]. قوله: (فالق الإصباح) هذا خبر آخر لـ(إن)، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو فالق الإصباح والإصباح مصدر سمي به الصبح، يقال: أصبحت إصباحاً. لكن عبر هنا عن الصبح نفسه بالمصدر، وهو الإصباح، قال امرؤ القيس : ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ بصبح وما الإصباح منك بأمثل يعني: وما الإصباح الذي يولد منك. لأن الإصباح أول ما يخرج منه ضوء الفجر، وهو يولد من الليل، فمثل هذا الإصباح ليس بأمثل من هذا الليل الطويل. وقوله: (فالق الإصباح) يعني: يشق بهذا الصباح ظلمة الليل. وقوله: (( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا )) يعني: صير الظلام يُسكن إليه ويُطمأن به استرواحاً من تعب النهار، أو (سكناً) يسكن فيه الخلق، أي: يقرون ويهدءون، فيكون هذا من السكون، كقوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس:67]، وقُرئ: (وجاعل الليل سكناً). وقوله: (( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا )) أي: على أدوار مختلفة؛ لتحسب بهما الأوقات التي نيطت بها العبادات والمعاملات، كما ذكروا في سورة يونس في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس:5]. قوله: (ذلك) يعني: التسيير من الحساب المعلوم (تقدير العزيز) أي: الغالب على أمره (العليم) بتدبيرهما ومراعاة الحكمة في شأنهما، وهنا استدلال بالأحوال الفلكية على دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته؛ لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية. وقوله: (فالق الإصباح) قرأ (فالق الأصباح) على أنه جمع صبح، كقفل وأقفال، وإذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر فكثيراً ما يختم الكلام بالعزة والعلم، كما في هذه الآية، وكما في قوله: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:37-38]. وقال هنا: (ذلك تقدير العزيز العليم)، ولما ذكر الله خلق السموات والأرض وما فيهن في أول سورة (فصلت) قال: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:12]. وفي العزة معنى القهر، أي: الذي قهرهما بجعلهما مسخرين، ولا يتيسر لهما إلا ما أريد بهما، كما قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54] وفيها معنى القدرة الكاملة أيضاً. و(العزيز) إشارة إلى كمال قدرته، و(العليم) إشارة إلى كمال علمه، ومعناه أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة وحركاتها المقدرة في المقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، فهذا يدل أن هذا التخصيص إنما هو بفعل الفاعل المختار سبحانه وتعالى، لا بفعل الطبع أو الخاصية.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:97]. ثم بين تعالى نعمته في الكواكب إثر بيان نعمته في النيرين -أي: في الشمس والقمر- إعلاماً بكمال قدرته وحكمته ورحمته، فقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام:97]. قوله: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) يعني: في ظلمات الليل أثناء سيركم في طرق البر أو البحر. وقوله: (قد فصلنا الآيات) يعني: بينا الآيات على قدرته تعالى وحكمته واليوم الآخر (لقوم يعلمون) يعني: يعلمون وجه الاستدلال بها، فإنما خلقت للاستدلال المتأكد بالعمل بموجبها، أي: الاستدلال بها على معرفة الصانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه، واستحقاقه العبادة وحده تبارك وتعالى. وإذا تأملنا قوله تعالى هنا: (قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون)، وتأملنا آيات الله سبحانه وتعالى في مثل هذه المواضع (قوم يتفكرون)، (قوم يعقلون)، (آيات للمتوسمين)، (أفلا تتفكرون)، (أفلا تعلقون) ندرك مدى تعظيم الإسلام للعلم والعقل وللتدبر والتفكر، وعدم التقليد والانقياد، فالإسلام هو دين العلم، لكن العلم الصحيح بمعناه الحقيقي الذي يقود إلى توحيد الله عز وجل. العالمانيون لأن العلمانيين أعداء الله وأعداء رسول الله عليه الصلاة والسلام يخدعون السذج من الناس، وذلك أنهم يستغلون التشابه اللفظي في الحروف بين كلمة العلمانية وكلمة العلم، وفي الحقيقة لا توجد علاقة على الإطلاق بين العلمانية وبين العلم أبداً؛ لأن أصل كلمة (العلمانية) هذه الذي ينطقونها كلمة أجنبية، وكلمة حديثة، فلذلك احتاروا في ترجمتها، وأصلها كلمة (سيكيولارزم) أي: الحاجة اللادينية المتعلقة بهذا العالم، بغض النظر أو مع إهمال أي عالم آخر، كعالم الآخرة أو العالم الغيبي، فهي تعني العالم الدنيوي الذي لا علاقة له بأي غيبيات أو آخره أو دين أو غير ذلك. فلذلك اختلفوا في ترجمتها، ونحن نعلم أن القواميس الأولى التي وضعت إنما وضعها النصارى، وبعض القواميس تقول في ترجمة هذه الكلمة: اللادينية. وهذا أدق التعابير عن معنى العلمانية، ومعنى اللادينية: رفض الدين. ثم إن نسبة (العلمانية) نسبة غير قياسية، فكلمة (العلمانية) ليست مأخوذة من العلم، وإنما هي مأخوذة من العالم. فينبغي أن نفوت عليهم الفرصة، فبدلاً من أن نستعملها بكسر العين الذي يخدعون الناس به، ويزعمون أن (العلمانية) مأخوذة من العلم نبين لهم أنها مأخوذة من كلمة العالم، بمعنى هذه الحياة الدنيوية. فمعناها: الدنيوية أو اللادينية أو العالمانية، وهذا المصطلح هو أدق. وبعضهم يقول: علينا أن نهجر استعمالها بلفظ (العلمانية) حتى لا نخدم أهداف أعداء الدين في نسبتها إلى العلم، وهي لا علاقة لها بالعلم على الإطلاق، بل هي في الحقيقة جهل؛ لأن الذي يجهل آيات الله سبحانه وتعالى سواء التكوينية أو التنزيلية ويعرض عن هداها ويدرس كل العلوم بغض النظر عن صانعها، وعن خالقها سبحانه وتعالى جاهل أشد الجهل بلا شك، وعلى هذا فهذه جهلانية وليست علمانية. فمن أجل ذلك علينا أن نتحرى دائماً أن ننطقها (العالمانية) حتى تأخذ معناها الصحيح، وهو نسبتها إلى هذا العالم الدنيوي الذي يغفل ويهمل ويتجاهل العالم الأخروي أو العقيدة الدينية. وبعض الشيوخ المشهورين تكلم في هذا الأمر، فسئل فأجاب وقال: إن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية. لأنه يحسب أن العلمانية بمعنى العلم، و(العالمانية) أو (العلمانية) إنما هي بمعنى العالم، أي: الاقتصار فقط على الدنيا وعلى المادة، وإهمال جانب الغيبيات وجانب الآخرة وجوانب الدين كلها. فانظر إلى قوله تعالى هنا: (( قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )) فهذا هو العلم الحقيقي الذي ينسب الفضل إلى صاحبه، وينسب الخلق إلى خالقه عز وجل.

يقول تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام:98]. قوله: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) يعني آدم عليه السلام (فمستقر ومستودع) تُقرأ: (مستقَر) وتقرأ: (مستَقِر ومستودَع) بفتح الدال لا غير، أي أن الكسر والفتح هو فقط في كلمة (مستقِر) أما (مستودع) فبفتح الدال لا غير. وقوله: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) يعني: فلكم استقرار واستيداع. أو: موضع استقرار واستيداع. وهذا الاستقرار إما في الأصلاب أو فوق الأرض؛ لقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأعراف:24] يعني: على أنها مكان، أو في الأرحام؛ لقوله تعالى: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ [الحج:5] أو: (مستقر) في أصلاب الرجال و(مستودع) في أرحام النساء، فجعل الصلب مستقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب، يقول عز وجل: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:6-7]. وهذا أمر معروف الآن في علم التشريح، وهو أن الغدة التي تخرج منها الحيوانات المنوية التي تكون سبباً في خلق الإنسان تكون موجودة أساساً بين الصلب والترائب، ثم بعد ذلك يحصل الهبوط لها إلى موضعها في أسفل الجذع، لكنها توجد بين الصلب والترائب ثم بعد ذلك تنزل. فهذه -أيضاً- يعتبرونها من آيات الإعجاز العلمي، فقوله تعالى: (يخرج من بين الصلب والترائب) يعني: يخرج من الغدة والخصية التي تكون في هذا الموضع، ثم تنزل بعد ذلك حتى بعد أن يولد المولود. فقوله: (فمستقر ومستودع) مستقر النطفة الصلب، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر، وإنما من قبل الأب، فأشبهت الوديعة، ثم تخرج من صلب الرجل، فكأن هذا الشخص نفسه هو الذي استودعها في هذا الموضع. أو يكون المعنى: تحت الأرض أو فوقها؛ فإنها عليها، أو وضعت فيها لتخرج منها مرةً أخرى، يقول الشاعر: وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع وعلى قراءة: (فمستقِرٌ ومستودَع) يكون المعنى: منكم قار ومنكم مستودع.

وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:99]. ثم بين تبارك وتعالى وتعالى حجةً كبرى على كمال قدرته، ومنةً أخرى من مننه ونعمه، فقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيء [الأنعام:99]. قوله: (وهو الذي أنزل من السماء ماء) أي: من السحاب. لقوله: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة:68-69]، و(المزن) السحاب، وسمى السحاب سماءً لأن العرب تسمي كل ما علا سماءً، فسماء الحجرة هو السقف، والدليل قوله تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] وفي هذه الآية إشارة إلى حتمية نصر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن لا يصدق هذا وكان يظن أن الله لن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم ويعز دينه فليس له حل إلا أن يموت، وهذا مثل أن تقول لواحد: اذهب ومت، حيث لا توجد فائدة إلا كذلك. فمن كان يظن أن الله لن ينصر محمداً ويعز دينه صلى الله عليه وسلم فلا يوجد أمامه غير أنه يموت؛ لأن هذا لن يقع. فقوله: (فليمدد بسب) أي: ليربط حبلاً في السماء، والمراد: يربط الحبل في سقف الحجرة ويثبته حوله عنقه -بنفس نظرية الشنق- ويقف على الكرسي ويحرك الكرسي ثم يتدلى ثم ليقطع صلته بالأرض فيتدلى في الهواء، (فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) يعني: هو لا يكيد إلا نفسه، ولن يستطيع بهذا الظن أو بهذا الأمل في خذلان الإسلام أن يضر إلا نفسه. فهذا منتهى كيده أنه يكيد نفسه، لكن لا يستطيع أبداً أن يعطل وعد الله بنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا معنى: (فليمدد بسبب إلى السماء). وكذلك هنا قوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الأنعام:99]، ففي لغة العرب كل ما علاك فهو سماء. فقوله: (وهو الذي أنزل من السماء ماء) أي: من السحاب (فَأَخْرَجْنَا بِهِ) هنا أسلوب بلاغي يسمى أسلوب التفات، وهذا التفات بشأن ما أنزل الماء لأجله، أي: فأخرجنا بعظمتنا ذلك الماء مع وحدته مَاءً نبات كل شيء، إشارة بهذا الالتفات إلى بيان كمال اعتناء الله سبحانه وتعالى بهذا الذي أخرجه من ماء واحد، ومع ذلك أخرج بماء واحد نبات كل شيء، أي: كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة الطعوم والألوان، كقوله تعالى: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ [الرعد:4]. وقوله: (فأخرجنا منه)، الهاء تعود على النبات في قوله: (( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ )) يعني: من النبات. والمقصود: من أصول النبات (خضراً) أي: شيئاً غضاً أخضر. يقال: أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. وقوله: (نخرج منه) صفة لـ (خضراً)، أي: نخرج من هذا الخضر (حباً متراكباً) أي: متراكماً بعضه على بعض، مثل سنابل البر والشعير والأرز. قال الرازي : ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الإبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة. ونحن نلاحظ هذا، فمن نظر إلى السنابل يجد فيها أشياء مثل الإبر حتى لا تأتي الطيور فتلتقط تلك الحبوب من السنبلة. وهذا -أيضاً- علم عجيب جداً من العلوم، فمن كان يقرأ في هذه الأشياء والوسائل الدفاعية التي يزود الله سبحانه وتعالى بها الكائنات من أجل الحفاظ على بقائها وعلى حياتها؟! ومما سمعته من إخواننا الذين يشتغلون بزراعة التين أنهم يقولون: إن التينة ما لم تصل إلى استوائها ونضجها يوجد في أسفلها مادة لبنية تظهر إذا عصرت أسفلها، وهذه المادة اللبنية هي التي تحدث الشقوق والجروح في الشفتين وفي اللسان، فالذي يأكل تيناً كثيراً يحس أنه يوجد جرح في الشفتين وفي اللسان، فإذا استوت التينة لا توجد فيها هذه المادة، يقولون: كأن هذه عقوبة لمن يقطف الثمرة قبل أوانها. فعليك أن تعرف ذلك، وأن تتجنب أكل الشيء قبل أن يستوي وينضج، ومن تعجل الثمرة قبل أوانها وقبل نضجها واستوائها فإنه يفيد حلقه ولسانه هذا الإفراز اللبني الموجود في أسفل التينة. وهذا سمعته من الذين عندهم خبرة في زراعة التين، فهذا من الوسائل الدفاعية، حتى النبات يزوده الله سبحانه وتعالى بما يدفع عنه. وبعض الحيوانات البحرية يفرز حبراً أسود إذا ما تعرض لخطر وهذه المادة تعكر الرؤية على العدو القادم الذي يريد أن يلتهمه أو يؤذيه، وهكذا العالم كله عجيب جداً، وكل هذا الذي نقوله من آيات الله عز وجل. فبين تعالى ما يخرج عن النوى من الشجر فقال: (( وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا )) يعني: متراكماً بعضه فوق بعض ثم بين تعالى ما ينشأ عن النوى من الشجر إثر بيان ما ينشأ عن الحب من النبات فقال سبحانه: (( وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ )) أي: الطلع أول ما يبدو من ثمر النخيل، فإن أول ما يظهر من ثمر النخيل هو الطلع، يكون كالكيزان الذي فيه العذق، فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقاً، وهو القنو، وهو -أيضاً- العرجون بما فيه الشماريخ، وجمعه قنوان، والجمع والمثنى سواء، فالمثنى قنوان والجمع -أيضاً- قنوان، ولا يفرق بينهما إلا الإعراب. و(دانية) بمعنى: ملتفة يقرب بعضها من بعض، أو قريبة من المتناول، ولذا اقتصر على ذكرها لدلالتها على مقابلها، أي: البعيدة، كقوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81] ولزيادة النعمة فيها؛ لأنه قال عز وجل هنا: (( وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ))، (دانية) أي: إما أنها قريبة من بعضها، وإما قريبة لمن يتناولها، ولذا يجدها دانية. فهي تشمل الدانية والبعيدة، لكن لإظهار كمال النعمة اقتصر على ذكر الدانية، وإن كان السياق من حيث التفسير والمعنى يشمل -أيضاً- نعمة الله فيه البعيدة، لكن اقتصر على إحداهما لدلالة السياق عليه، كما اقتصر في قوله: (سرابيل تقيكم الحر) يعني: والبرد. قوله: (( وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ )) عطف على: (نبات كل شيء) أي: وأخرجنا به جنات. أو عطف على (خضراً). (مشتبهاً وغير متشابه) حال من الزيتون، واكتفى به عن حال ما بعده، أو حال من الرمان لقربه، والمحذوف حال الأول. قال الزمخشري : اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك: استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً، ولذلك قال هنا: (مشتبهاً) من فعل (اشتبه) (وغير متشابه) من الفعل (تشابه). وقُرئ: (متشابهاً وغير متشابه)، والمعنى: بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها. وقوله: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) أي: ثمر كل واحد من ذلك إذا أخرج ثمره، انظروا كيف يكون ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به (وينعه) يعني: انظروا إليه في بداية خروج الثمر، وكيف يكون هذا الثمر ضئيلاً وضعيفاً، ثم انظروا إلى (ينعه) أي: إلى حال ينعه ونضجه، وكيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، أي: انظروا إلى ذلك نظر اعتبار واستفسار واستدلال، وليس المقصود أي نظر، ولا مجرد حاسة النظر المادي، وإنما المقصود التدبر والتفكر والاستبصار، ولا شك في أن الإنسان يعتبر بذلك. ولو سألك أحد عن دليل توحيد الله سبحانه وتعالى وعظم قدرته وعمله عز وجل فافتح له ثمرة الرمان، وقل: هذه دليل الوحدانية وتأمل في العجائب في مثل هذه الثمرة، وهذا مجرد أنموذج، والقرآن يدلنا على ما هو أكثر من ذلك، فتأمل في خلق ثمرة الرمان، وبدائع صنع الله سبحانه وتعالى فيها، سواء في منظرها، أو في مذاقها، أو في طريقة تركيبها، وحاول أن تعمل عقلك: كيف يخرج هذا من بين ماء وطين؟! ويُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ [الرعد:4] فانظر إلى هذه الثمار وتفكر فيها، والإنسان يعتقد أن ثمرة الرمان خاصة من أعظم ما يتجلى فيه عجيب صنع الله سبحانه وتعالى، فافتح مرة ثمرة الرمان لا لتأكلها ولكن لتتأمل فيها، ودقق في تراكب حباتها وعظم صنع الله سبحانه وتعالى فيها! يقول عز وجل: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) يعني: تأملوا حالة الثمر، سواء في بداية خروج الثمرة، وهي حالة الضعف؛ إذ لا يمكن أن ينتفع بهذه الثمرة، أو إلى حالة ينعها، وهي حالة النضج، وكيف ينتقل إلى هذه المرحلة من النضج والاستواء والانتفاع والملاذ. والمقصود: انظروا نظر اعتبار واستدلال على توحيد الله وقدرته، وعلى وقع الرحمة والحكمة من حال إلى حال، فإن في ذلك آيات عظيمة دالةٍ على ذلك، كما قال عز وجل: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، فلا ينظر نظر اعتبار واستدلال على قدرة الله إلا هؤلاء العقلاء الذين يؤمنون، يعني: يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار هو المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه هو القادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم. وقوله: (إن في ذلكم لآيات لقومٍ يؤمنون) يعني: يؤمنون بأن بالذي يخرج هذا الثمار هو الله وحده الذي يستحق العبادة، أو (يؤمنون) أي: يستدلون بها على البعث والن

أشرف أنواع الأشجار

وقد تكلم هنا -أيضاً- الرازي بكلام يبخل الإنسان بأن يتجاوزه، يقول: اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل، والعنب، والزيتون، والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، ولذلك قدم الزرع أولاً، ثم تكلم عن الشجر، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهةً في خواص كثيرة، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات، وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال، فأول ما يظهر على الشجر تظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم بعدها يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، وهو من ألذ الطبائخ الحامضة، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، فيمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات، وهي الزبيب والدبس والخل، ومنافع هذه لا يمكن أن يذكروها إلا في المجلدات، وأحسن ما في العنب عجمه، والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة، فثبت أن العنب سلطان الفواكه. وأما الزيتون فهو -أيضاً- كثير النفع؛ لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل -أيضاً- عنه دهن كثيف عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمالات. وأما الرمان فحاله عجيب جداً، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشره وشحمه وعجمه وماؤه، أما الأقسام الثلاثة الأول -وهي: القشر والشحم والعجم- فكلها باردة يابسة قابضة قوية في هذه الصفات، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال، وأشدها مناسبةً للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغيرين، فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم. واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة، التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقي.

وقد تكلم هنا -أيضاً- الرازي بكلام يبخل الإنسان بأن يتجاوزه، يقول: اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل، والعنب، والزيتون، والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، ولذلك قدم الزرع أولاً، ثم تكلم عن الشجر، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهةً في خواص كثيرة، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات، وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال، فأول ما يظهر على الشجر تظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم بعدها يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، وهو من ألذ الطبائخ الحامضة، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، فيمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات، وهي الزبيب والدبس والخل، ومنافع هذه لا يمكن أن يذكروها إلا في المجلدات، وأحسن ما في العنب عجمه، والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة، فثبت أن العنب سلطان الفواكه. وأما الزيتون فهو -أيضاً- كثير النفع؛ لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل -أيضاً- عنه دهن كثيف عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمالات. وأما الرمان فحاله عجيب جداً، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشره وشحمه وعجمه وماؤه، أما الأقسام الثلاثة الأول -وهي: القشر والشحم والعجم- فكلها باردة يابسة قابضة قوية في هذه الصفات، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال، وأشدها مناسبةً للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغيرين، فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم. واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة، التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقي.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع