شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

هذه ليلة الأحد الخامس والعشرين من شهر رجب من سنة (1430هـ)، وهذه الدورة العلمية المكثفة المباركة في جامع المهاجرين بحي الخالدية في مكة المكرمة تنعقد في عامها الثالث، وقد سبق أن شرحنا في العام الماضي كتاب الصيام، وفي هذا العام بإذن الله تعالى خلال ستة أيام اثني عشر درساً بإذن الله تعالى سوف نستكمل كتاب الحج، وقبل الدخول في الأحاديث التي اختارها المصنف رحمه الله لابد من الإشارة إلى عدد من المقدمات المهمة التي عادة ما يستعرضها العلماء والباحثون في هذا الموضوع.

عنوان كتاب الحج

المقدمة الأولى متعلقة بعنوان الكتاب، فالمصنف رحمه الله جعل عنوان الكتاب: كتاب الحج، وإذا قيل: كتاب الحج فإنه يدخل فيه العمرة، إما من باب التبع لكون العمرة تبعاً للحج وداخلة فيه، أو من باب أن العمرة تسمى الحج الأصغر كما سوف يأتي، فيكون المقصود بالحج الحج الأكبر والحج الأصغر الذي هو العمرة كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

وبعض أهل العلم يطلقون على الكتاب نفسه كتاب الحج والعمرة، وهذا مشهور عند الفقهاء والمحدثين وغيرهم، فيكون ذلك تفصيلاً.

وبعضهم يطلق كتاب المناسك، ولعل هذا أولى؛ لأنه يجمع بين الاختصار والشمول، فإذا قيل: المناسك دخلت فيه أحكام الحج وأحكام العمرة، والأحاديث الواردة فيهما معاً، والمناسك: جمع منسك، ومعناه العبادة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34] فلكل أمة منسك، ولهذه الأمة مناسك وعبادات، منها مناسك الحج، ومنها مناسك العمرة، وغالب ما يطلق لفظ المنسك أو النُّسك أو النَّسك على الذبح: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] وهذه الآية كقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1-2] يعني: صلاتي وذبحي وسائر عباداتي وأعمالي لله رب العالمين، والأمر في ذلك يسير.

المعنى اللغوي للحج

المقدمة الثانية: متعلقة بمعنى الحج، فالحج في اللغة معناه: القصد إلى الشيء، هذا المعنى الأول: أن تقصد إلى الشيء، فهذا الحج.

وكذلك من معاني الحج: التردد إلى الشيء، أن تقصد إليه مرة بعد أخرى، فهذا يسمى حجاً، فلما نقول: حج البيت أو حِج البيت نعني: قصد البيت والذهاب إليه، ونعني أيضاً: التردد عليه مرة بعد أخرى، مع أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة، ولكن يكون المقصود بالتردد عليه أنه حتى في الحجة الواحدة، فالإنسان يبدأ حجه بطواف القدوم، ثم طواف الزيارة بعد الوقوف بعرفة، ثم طواف الوداع الذي يختم به أعمال الحج.

فكأنه يذهب ثم يعود إلى البيت العتيق، فالبيت مثل بيت الإنسان الذي يذهب الإنسان ويضرب في الآفاق ثم يعود إليه، ويضرب في الأرض ثم يرجع إليه، فكذلك هذا البيت العتيق جعله الله تعالى مثابة للناس وأمناً، وجعل عبادة الحج وأعماله مرتبطة ومتصلة بهذا البيت.

فالمعنى اللغوي إذاً للحج هو القصد والتردد إلى البيت، ومنه قولنا: المحجة، والمحجة هي الطريق، فإذا قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، معناه: تركنا على طريق مستقيم. قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر:41] فهذه تسمى المحجة، وإنما سميت المحجة؛ لأن الإنسان يسلكها في الوصول إلى مقصوده، في الوصول إلى مراده، أو لأن الإنسان والناس يترددون عليها، ففيها معنى القصد وفيها معنى التردد، ولذلك سميت المحجة.

وكذلك الحجة حينما يتجادل أو يتناظر أقوام فيقول هذا حجته ويقول الآخر حجته، فإن الحجة هنا مأخوذة من المعنى ذاته، مأخوذة أولاً من القصد، أن الإنسان يقصد إليها، ولذلك إذا لم يكن عند الإنسان حجة أحياناً تجد أنه يرتج عليه فلا يدري ماذا يقول، أو ربما يقول كلاماً ليس تحته طائل، وإنما لمجرد ألا يظهر انقطاعه وتوقفه، فيقول أي كلام، أما الحجة فهو أن يقصد الإنسان إلى بيان واضح يدعم ويسند ويدل على ما قاله وعلى ما ادعاه، وكذلك الحجة يتردد الإنسان عليها؛ لأنه يذهب ويعود ويرجع إلى هذه الحجة التي يدعم بها قوله.

إذاً: هذا ما يتعلق بمعنى الحج، وفي أشعار العرب قول المخبل السعدي يقول:

وأشهد من عوف حلـولاً كثيرة يحجون سِب الزبرقان المزعفرا

وهذا البيت على القول الراجح هو ثناء ومدح للزبرقان، أن الناس يحجون يعني يأتون إليه، يحجون سب الزبرقان، السب إما أن يكون المقصود العمامة أو الثوب، والمقصود الزبرقان ذاته، فهم يأتون إليه ويترددون عليه أيضاً، هذا معنى قوله: يحجون، ولهذا قال: حلولاً كثيرة، فهذا معنى الحج.

وأيضاً قول الآخر:

قالت تغيرتم بعدي فقلت لها لا والذي بيته يا سلمى محجوج

فالمحجوج هو المقصود المذهوب إليه، المتردد عليه، فهذا ما يتعلق بمعنى الحج.

إذاً: الحج هو القصد، أو هو التردد. والفاعل يسمى حاجاً، المفرد يسمى حاجاً، ويجمع على حجاج، ويجمع على حجيج، ويجمع أيضاً على حاج، وقد يكون هذا اسم جمع، كما قال سبحانه: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [التوبة:19] فالمقصود سقاية الحجاج، وقد يكون جمعاً لحاج مفرد، أو يكون جنساً، والعرب عادة والناس ما يقرنون الحاج بالداج، فيقولون: الحاج والداج، وهذا يسمى في اللغة باب المشاكلة، يعني: جمع لفظين متقاربين أو متقابلين، مثلما يقال: هي بن بي مثلاً، بعضها قد لا يكون له معنى ولكن على سبيل المشاكلة، إنما هنا له معنى.

ولذلك ذكر بعض أهل اللغة: أن الحاج هو المعروف الذي حج بيت الله الحرام، وأما الداج فقالوا: هو التابع الذي ليس من همه ووقته الحج، وإنما هو جاء تبعاً، مثل الخدم والسائقين والأتباع، ويدخل فيهم التجار الذين ما جاءوا يبغون حسبة ولكن جاءوا لغرض التجارة.

ومن الطريف أنه في عاميتنا الآن الداج يعبر بها عن الإنسان الفقير الذي لم يحصل على مال، فإذا سألنا: هل فلان غني؟ قالوا: لا، فلان داج، يعني: ليس عنده شيء حتى قوته، يعني: شديد الفقر، وهذه مناسبة لطيفة وتقابل لطيف ما بين الحاج الذي حصل على الربح الوفير والخير الكثير، وما بين الداج الذي ربما يكون ذهب بقصد التجارة ولكنه ما كسب التجارة ولا كسب الثواب والأجر عند الله سبحانه وتعالى.

وأيضاً ذكر الجوهري -فيما أحسب وأعتقد- معنىً آخر وهو: الزاج، والزاج قالوا: هو الذي حج ولكنه حج للرياء والسمعة وليس لوجه الله تعالى .

أيضاً مما يتعلق بالمعنى: أن الحجَ والحِج هما اسمان لمعنىً واحد كما ذكره سيبويه، يقال: الحج بفتح الحاء أو الحج بكسرها، والمعنى واحد، وكلاهما مصدر، فأما المصدر الأول فهو مثل قولنا: رد الشيء يرده رداً، حج يحج حجاً بفتح الحاء أو بفتح الفاء.

وأما الثاني فهو مثل أن تقول: ذكر الشيء يذكره ذكراً بكسر الذال أو بكسر فاء الفعل، حج أو الحَج أو الحِج، وبكلاهما قرئ في القرآن، بكلا القراءتين قرئ في القرآن الكريم في الموضعين: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] أو وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ وكلاهما في السبع.

وكذلك قوله سبحانه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]، أو وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحِجِّ فهما مصدران بمعنىً واحد كما ذكرت.

المعنى الشرعي للحج

أما معنى الحج في الشريعة وفي اصطلاح الفقهاء، فالحج هو: قصد بيت الله الحرام في وقت وزمن مخصوص لعمل مخصوص، وهذا المعنى وإن كان لا بأس به؛ لأن المقصود بالتعريف هو تحديد الماهية وتوضيحها، إلا أنه قد يشكل عليه مثلاً من أتى مكة في وقت الحج لقصد التجارة، فهذا قصد مكة بالذات وفي وقت معين ولمكان معين، ولكن لم يكن قصده العبادة بذاتها، فيشكل عليه؛ ولذلك فالأولى أن يقال في التعريف: أن الحج هو قصد بيت الله الحرام في زمن مخصوص لأداء النسك، فإذا أدخلنا كلمة: (لأداء النسك) كان ذلك محدداً لمقصد الحج، وأن المقصود فيه العبادة لله سبحانه وتعالى.

وقولنا في التعريف: قصد بيت الله الحرام؛ فإن المقصود به مكة البلد الحرام، ولذلك فإن من ذهب مثلاً إلى المدينة المنورة لا يسمى حاجاً، ماذا يسمى من جاء إلى المدينة ؟ يسمى زائراً، ومن باب أولى من ذهب إلى غير المدينة كمن يقصدون المزارات البدعية التي لا أصل لها، وبعضهم يفعلون عندها من القرابين والنذور والعبادات ما لا يفعلونه في البلد الحرام، فهذا أيضاً من أكبر الخطأ أن يسمى حجاً، مع أن بعضهم يطلق عليه لفظ الحج، وتجد في المناسك التي تؤلف لهذا الخصوص وتوزع وتباع أنها تستخدم لفظ الحج، مما يقع فيه لبس المعاني الشرعية؛ لأن الحج -كما سوف يأتي- هو أحد أركان الإسلام العظام، وهو لا يطلق إلا على هذه الفريضة، يعني: حتى من الناحية الشرعية اندرس المعنى الأصلي في قصد الحج، ولم يعد الناس يستخدمون لفظ الحج إلا بمعناه الشرعي المتعارف، فإطلاق الحج على أعمال أخرى ليست من الشريعة، بل بعضها مما يخالف هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما بعث به مما ينبغي التنبيه عليه والحذر منه.

وأما مقصودنا بالأعمال المخصوصة التي يفعلها الإنسان فهي أعمال المناسك التي تبدأ بماذا؟

تبدأ بالإحرام، ولا نريد أن نقول: تبدأ بطواف القدوم، وإن كان طواف القدوم هو أول أعمال الحج المتعلقة بالبيت نفسه، لكن لابد قبل ذلك من نية الدخول في النسك وهو ما يسمى بالإحرام، فهذه الأعمال المخصوصة تبدأ بالإحرام، أي: الدخول في النسك وتنتهي بطواف الوداع.

فهذه هي الأعمال المخصوصة أو المناسك المخصوصة.

هذا هو الحج الأكبر، وسماه الله تعالى كذلك في كتابه الكريم، فقال: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3]، وأما ما يقابله فهو الحج الأصغر، كما صح عند الدارقطني بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [ أما يوم الحج الأكبر فهو يوم النحر، وأما الحج الأصغر فالعمرة ] .

وكذلك قال الترمذي رحمه الله في جامعه : كانوا يقولون: الحج الأكبر هو يوم النحر، والحج الأصغر العمرة، فهذا محتمل.

وبناءً عليه نقول: إن ما سبق هو الحج الأكبر، وأما الحج الأصغر فهو العمرة، وهي أيضاً مع نية الدخول في النسك، الطواف والسعي بالبيت بنية، فهذه هي العمرة، ولذلك نقول: من ذهب إلى مكة لزيارة قريب مثلاً أو لتجارة أو حتى لطلب علم أو لغير ذلك مما لا يدخل في مقاصد الحج لا يسمى حاجاً، وإنما الحاج هو من ذهب لأداء النسك .

وأما الوقت المخصوص المقصود، فهي المواقيت الزمانية كما سوف تأتي، ويسميها الفقهاء بالمواقيت الزمانية تفريقاً بينها وبين المواقيت المكانية، فالمواقيت المكانية هي التي يحرم منها القادم مثل: ذي الحليفة وذات عرق ويلملم، وغيرها من المواقيت الواردة في الحديث وسوف تأتي. هذه مواقيت مكانية.

أما المواقيت الزمانية فهي الأزمنة والأوقات المخصصة للحج، والمواقيت الزمانية سوف تأتي أيضاً هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وبعضهم يقول: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فهذه هي المواقيت الزمانية التي يوقع فيها الحج وينوى فيها الحج، ولذلك كثير من الفقهاء بل أكثرهم يقولون: لا يجوز أن يحرم بالحج قبل هذه الأشهر، فيرون أنه لو أحرم بالحج في رمضان ثم بقي إلى الحج أنه قد ارتكب إثماً، ومع ذلك فإحرامه صحيح وعليه البقاء حتى يؤدي حجه، وإنما السنة أن يحرم بالحج في هذه الأشهر، ويؤدي الحج في العام ذاته، فهذه هي المواقيت الزمانية.

المقدمة الأولى متعلقة بعنوان الكتاب، فالمصنف رحمه الله جعل عنوان الكتاب: كتاب الحج، وإذا قيل: كتاب الحج فإنه يدخل فيه العمرة، إما من باب التبع لكون العمرة تبعاً للحج وداخلة فيه، أو من باب أن العمرة تسمى الحج الأصغر كما سوف يأتي، فيكون المقصود بالحج الحج الأكبر والحج الأصغر الذي هو العمرة كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

وبعض أهل العلم يطلقون على الكتاب نفسه كتاب الحج والعمرة، وهذا مشهور عند الفقهاء والمحدثين وغيرهم، فيكون ذلك تفصيلاً.

وبعضهم يطلق كتاب المناسك، ولعل هذا أولى؛ لأنه يجمع بين الاختصار والشمول، فإذا قيل: المناسك دخلت فيه أحكام الحج وأحكام العمرة، والأحاديث الواردة فيهما معاً، والمناسك: جمع منسك، ومعناه العبادة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34] فلكل أمة منسك، ولهذه الأمة مناسك وعبادات، منها مناسك الحج، ومنها مناسك العمرة، وغالب ما يطلق لفظ المنسك أو النُّسك أو النَّسك على الذبح: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] وهذه الآية كقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1-2] يعني: صلاتي وذبحي وسائر عباداتي وأعمالي لله رب العالمين، والأمر في ذلك يسير.

المقدمة الثانية: متعلقة بمعنى الحج، فالحج في اللغة معناه: القصد إلى الشيء، هذا المعنى الأول: أن تقصد إلى الشيء، فهذا الحج.

وكذلك من معاني الحج: التردد إلى الشيء، أن تقصد إليه مرة بعد أخرى، فهذا يسمى حجاً، فلما نقول: حج البيت أو حِج البيت نعني: قصد البيت والذهاب إليه، ونعني أيضاً: التردد عليه مرة بعد أخرى، مع أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة، ولكن يكون المقصود بالتردد عليه أنه حتى في الحجة الواحدة، فالإنسان يبدأ حجه بطواف القدوم، ثم طواف الزيارة بعد الوقوف بعرفة، ثم طواف الوداع الذي يختم به أعمال الحج.

فكأنه يذهب ثم يعود إلى البيت العتيق، فالبيت مثل بيت الإنسان الذي يذهب الإنسان ويضرب في الآفاق ثم يعود إليه، ويضرب في الأرض ثم يرجع إليه، فكذلك هذا البيت العتيق جعله الله تعالى مثابة للناس وأمناً، وجعل عبادة الحج وأعماله مرتبطة ومتصلة بهذا البيت.

فالمعنى اللغوي إذاً للحج هو القصد والتردد إلى البيت، ومنه قولنا: المحجة، والمحجة هي الطريق، فإذا قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، معناه: تركنا على طريق مستقيم. قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر:41] فهذه تسمى المحجة، وإنما سميت المحجة؛ لأن الإنسان يسلكها في الوصول إلى مقصوده، في الوصول إلى مراده، أو لأن الإنسان والناس يترددون عليها، ففيها معنى القصد وفيها معنى التردد، ولذلك سميت المحجة.

وكذلك الحجة حينما يتجادل أو يتناظر أقوام فيقول هذا حجته ويقول الآخر حجته، فإن الحجة هنا مأخوذة من المعنى ذاته، مأخوذة أولاً من القصد، أن الإنسان يقصد إليها، ولذلك إذا لم يكن عند الإنسان حجة أحياناً تجد أنه يرتج عليه فلا يدري ماذا يقول، أو ربما يقول كلاماً ليس تحته طائل، وإنما لمجرد ألا يظهر انقطاعه وتوقفه، فيقول أي كلام، أما الحجة فهو أن يقصد الإنسان إلى بيان واضح يدعم ويسند ويدل على ما قاله وعلى ما ادعاه، وكذلك الحجة يتردد الإنسان عليها؛ لأنه يذهب ويعود ويرجع إلى هذه الحجة التي يدعم بها قوله.

إذاً: هذا ما يتعلق بمعنى الحج، وفي أشعار العرب قول المخبل السعدي يقول:

وأشهد من عوف حلـولاً كثيرة يحجون سِب الزبرقان المزعفرا

وهذا البيت على القول الراجح هو ثناء ومدح للزبرقان، أن الناس يحجون يعني يأتون إليه، يحجون سب الزبرقان، السب إما أن يكون المقصود العمامة أو الثوب، والمقصود الزبرقان ذاته، فهم يأتون إليه ويترددون عليه أيضاً، هذا معنى قوله: يحجون، ولهذا قال: حلولاً كثيرة، فهذا معنى الحج.

وأيضاً قول الآخر:

قالت تغيرتم بعدي فقلت لها لا والذي بيته يا سلمى محجوج

فالمحجوج هو المقصود المذهوب إليه، المتردد عليه، فهذا ما يتعلق بمعنى الحج.

إذاً: الحج هو القصد، أو هو التردد. والفاعل يسمى حاجاً، المفرد يسمى حاجاً، ويجمع على حجاج، ويجمع على حجيج، ويجمع أيضاً على حاج، وقد يكون هذا اسم جمع، كما قال سبحانه: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [التوبة:19] فالمقصود سقاية الحجاج، وقد يكون جمعاً لحاج مفرد، أو يكون جنساً، والعرب عادة والناس ما يقرنون الحاج بالداج، فيقولون: الحاج والداج، وهذا يسمى في اللغة باب المشاكلة، يعني: جمع لفظين متقاربين أو متقابلين، مثلما يقال: هي بن بي مثلاً، بعضها قد لا يكون له معنى ولكن على سبيل المشاكلة، إنما هنا له معنى.

ولذلك ذكر بعض أهل اللغة: أن الحاج هو المعروف الذي حج بيت الله الحرام، وأما الداج فقالوا: هو التابع الذي ليس من همه ووقته الحج، وإنما هو جاء تبعاً، مثل الخدم والسائقين والأتباع، ويدخل فيهم التجار الذين ما جاءوا يبغون حسبة ولكن جاءوا لغرض التجارة.

ومن الطريف أنه في عاميتنا الآن الداج يعبر بها عن الإنسان الفقير الذي لم يحصل على مال، فإذا سألنا: هل فلان غني؟ قالوا: لا، فلان داج، يعني: ليس عنده شيء حتى قوته، يعني: شديد الفقر، وهذه مناسبة لطيفة وتقابل لطيف ما بين الحاج الذي حصل على الربح الوفير والخير الكثير، وما بين الداج الذي ربما يكون ذهب بقصد التجارة ولكنه ما كسب التجارة ولا كسب الثواب والأجر عند الله سبحانه وتعالى.

وأيضاً ذكر الجوهري -فيما أحسب وأعتقد- معنىً آخر وهو: الزاج، والزاج قالوا: هو الذي حج ولكنه حج للرياء والسمعة وليس لوجه الله تعالى .

أيضاً مما يتعلق بالمعنى: أن الحجَ والحِج هما اسمان لمعنىً واحد كما ذكره سيبويه، يقال: الحج بفتح الحاء أو الحج بكسرها، والمعنى واحد، وكلاهما مصدر، فأما المصدر الأول فهو مثل قولنا: رد الشيء يرده رداً، حج يحج حجاً بفتح الحاء أو بفتح الفاء.

وأما الثاني فهو مثل أن تقول: ذكر الشيء يذكره ذكراً بكسر الذال أو بكسر فاء الفعل، حج أو الحَج أو الحِج، وبكلاهما قرئ في القرآن، بكلا القراءتين قرئ في القرآن الكريم في الموضعين: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] أو وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ وكلاهما في السبع.

وكذلك قوله سبحانه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]، أو وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحِجِّ فهما مصدران بمعنىً واحد كما ذكرت.

أما معنى الحج في الشريعة وفي اصطلاح الفقهاء، فالحج هو: قصد بيت الله الحرام في وقت وزمن مخصوص لعمل مخصوص، وهذا المعنى وإن كان لا بأس به؛ لأن المقصود بالتعريف هو تحديد الماهية وتوضيحها، إلا أنه قد يشكل عليه مثلاً من أتى مكة في وقت الحج لقصد التجارة، فهذا قصد مكة بالذات وفي وقت معين ولمكان معين، ولكن لم يكن قصده العبادة بذاتها، فيشكل عليه؛ ولذلك فالأولى أن يقال في التعريف: أن الحج هو قصد بيت الله الحرام في زمن مخصوص لأداء النسك، فإذا أدخلنا كلمة: (لأداء النسك) كان ذلك محدداً لمقصد الحج، وأن المقصود فيه العبادة لله سبحانه وتعالى.

وقولنا في التعريف: قصد بيت الله الحرام؛ فإن المقصود به مكة البلد الحرام، ولذلك فإن من ذهب مثلاً إلى المدينة المنورة لا يسمى حاجاً، ماذا يسمى من جاء إلى المدينة ؟ يسمى زائراً، ومن باب أولى من ذهب إلى غير المدينة كمن يقصدون المزارات البدعية التي لا أصل لها، وبعضهم يفعلون عندها من القرابين والنذور والعبادات ما لا يفعلونه في البلد الحرام، فهذا أيضاً من أكبر الخطأ أن يسمى حجاً، مع أن بعضهم يطلق عليه لفظ الحج، وتجد في المناسك التي تؤلف لهذا الخصوص وتوزع وتباع أنها تستخدم لفظ الحج، مما يقع فيه لبس المعاني الشرعية؛ لأن الحج -كما سوف يأتي- هو أحد أركان الإسلام العظام، وهو لا يطلق إلا على هذه الفريضة، يعني: حتى من الناحية الشرعية اندرس المعنى الأصلي في قصد الحج، ولم يعد الناس يستخدمون لفظ الحج إلا بمعناه الشرعي المتعارف، فإطلاق الحج على أعمال أخرى ليست من الشريعة، بل بعضها مما يخالف هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما بعث به مما ينبغي التنبيه عليه والحذر منه.

وأما مقصودنا بالأعمال المخصوصة التي يفعلها الإنسان فهي أعمال المناسك التي تبدأ بماذا؟

تبدأ بالإحرام، ولا نريد أن نقول: تبدأ بطواف القدوم، وإن كان طواف القدوم هو أول أعمال الحج المتعلقة بالبيت نفسه، لكن لابد قبل ذلك من نية الدخول في النسك وهو ما يسمى بالإحرام، فهذه الأعمال المخصوصة تبدأ بالإحرام، أي: الدخول في النسك وتنتهي بطواف الوداع.

فهذه هي الأعمال المخصوصة أو المناسك المخصوصة.

هذا هو الحج الأكبر، وسماه الله تعالى كذلك في كتابه الكريم، فقال: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3]، وأما ما يقابله فهو الحج الأصغر، كما صح عند الدارقطني بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [ أما يوم الحج الأكبر فهو يوم النحر، وأما الحج الأصغر فالعمرة ] .

وكذلك قال الترمذي رحمه الله في جامعه : كانوا يقولون: الحج الأكبر هو يوم النحر، والحج الأصغر العمرة، فهذا محتمل.

وبناءً عليه نقول: إن ما سبق هو الحج الأكبر، وأما الحج الأصغر فهو العمرة، وهي أيضاً مع نية الدخول في النسك، الطواف والسعي بالبيت بنية، فهذه هي العمرة، ولذلك نقول: من ذهب إلى مكة لزيارة قريب مثلاً أو لتجارة أو حتى لطلب علم أو لغير ذلك مما لا يدخل في مقاصد الحج لا يسمى حاجاً، وإنما الحاج هو من ذهب لأداء النسك .

وأما الوقت المخصوص المقصود، فهي المواقيت الزمانية كما سوف تأتي، ويسميها الفقهاء بالمواقيت الزمانية تفريقاً بينها وبين المواقيت المكانية، فالمواقيت المكانية هي التي يحرم منها القادم مثل: ذي الحليفة وذات عرق ويلملم، وغيرها من المواقيت الواردة في الحديث وسوف تأتي. هذه مواقيت مكانية.

أما المواقيت الزمانية فهي الأزمنة والأوقات المخصصة للحج، والمواقيت الزمانية سوف تأتي أيضاً هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وبعضهم يقول: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فهذه هي المواقيت الزمانية التي يوقع فيها الحج وينوى فيها الحج، ولذلك كثير من الفقهاء بل أكثرهم يقولون: لا يجوز أن يحرم بالحج قبل هذه الأشهر، فيرون أنه لو أحرم بالحج في رمضان ثم بقي إلى الحج أنه قد ارتكب إثماً، ومع ذلك فإحرامه صحيح وعليه البقاء حتى يؤدي حجه، وإنما السنة أن يحرم بالحج في هذه الأشهر، ويؤدي الحج في العام ذاته، فهذه هي المواقيت الزمانية.

المقدمة الثالثة: ما يتعلق بالحج في القرآن الكريم، وذلك أن المصنف رحمه الله في بلوغ المرام جمع طائفة طيبة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام المتعلقة بأحكام الحج، فيناسب أن نقدم لها بما ذكر في القرآن الكريم من أمر الحج.

فرضية الحج

وقد ذكر الحج في القرآن الكريم ثنتي عشرة مرة، منها ثمان مرات ذكر الحج فيها في سورة البقرة، وهي من أوائل السور المدنية نزولاً، ومن هذه المواضع قوله سبحانه في سورة البقرة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] فقال بعض الفقهاء: إن هذه الآية هي التي أوجب الله تعالى بها الحج، وبناءً عليه أيضاً قالوا: أوجب بها العمرة؛ لأنه قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [البقرة:196] وهذا ليس بقوي؛ لأن الآية لم تأمر بأداء الحج والعمرة وإنما أمرت بالإتمام، يعني: أن من دخل فيها يجب عليه إتمامها والمضي فيها، ولا يجوز له أن يقطعها أو يرفضها كائناً من كان عذره، إلا من عليه فوات أو إحصار أو نحوهم فله حكمه الخاص وسوف يأتي أيضاً.

فالآية إذاً تأمر بالإتمام وليست تأمر بالإقامة أو الأداء، ولذلك ليست دليلاً على وجوب الحج ولا على وجوب العمرة، وهي متقدمة في نزولها على السنة التي فرض فيها الحج، وهي السنة التاسعة على الراجح من أقوال أهل السير والمفسرين وغيرهم.

إذاً: هذه الآية الكريمة ليست دليلاً على وجوب الحج كما ذكرت.

وكذلك ذكر الحج في سورة آل عمران، وهذه السورة -سورة آل عمران- أيضاً هي سورة مدنية نزلت متراخية عن سورة البقرة، والغالب أن سورة آل عمران نزلت طائفة كبيرة منها بعد مجيء وفد نجران من النصارى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمجادلة معهم، وكان في السورة بيان أنهم ليسوا على شيء مما يزعمون أنهم عليه من التوحيد واتباع ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ولذلك جاءت هذه السورة تجادلهم وتقول: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]، فذكرت هذا الاسم الشريف المعظم بكة، وبكة هي مكة، ذكرت بهذا اللفظ في القرآن في سورة آل عمران: لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] بالباء.

ومكة ذكرت في سورة الفتح، في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24]، فذكر الله تعالى بكة وذكر مكة، والغريب أنه حتى في الإنجيل مذكورة بهذا الاسم: وادي البكة، ثم حرفوه عمداً وسموه: وادي البكاء، ومما يفضح تحريفهم: أن الاسم مكتوب في الإنجيل بالحرف الكبير، وهذا لا يكتب به إلا أسماء الأعلام، فهكذا الله سبحانه وتعالى بين لهم هذه الحجة عليهم في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بل وذكر بلاده، والمكان الذي بعث فيه، وجبل فاران موجود في التوراة أيضاً ذكر جبل فاران وهو جبل معروف بمكة، إلى غير ذلك من الحجج.

الشاهد: بكة، وسميت بكة لأن الناس يتباكون فيها، يعني: يزدحمون، فلذلك قال جماعة من السلف كما ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه قالوا: إن بكة هو اسم للبيت وما حوله، وأما مكة فهي اسم لـمكة كلها، مثلاً: أنتم الآن في الخالدية على هذا القول تسمى مكة بالميم، ولكن إذا اقتربت من الحرم نفسه وما حوله يسمى بكة بالباء؛ لأن الازدحام يكون فيه والناس أصلاً يقصدونه، وهذا تقسيم لطيف، وإن كان لا يعني قصر أحد اللفظين على جزء منه، وإنما بكة ومكة اسمان للمدينة، ولكن لو أنهما جمعا معاً في سياق واحد لكانت مكة اسم لـمكة كلها كمدينة وبكة اسم للحرم وما حوله.

فالله سبحانه وتعالى ذكر هذا المعنى في قوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:96-97]، وهو القريب من الكعبة، إلى قوله سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، هذه الآية هي التي فيها -والله أعلم- فرض الحج؛ لأن فيها الأمر به: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] فجعله على الناس، يعني: واجباً على الناس طاعة لربهم عز وجل.

تارك الحج .. وحكمه

ثم قال: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، والتعريض بالكفر إشارة إلى من لم يحج، ومن هنا قال بعض السلف: إن من ترك الحج متعمداً مع القدرة عليه فهو كافر لهذه الآية، وهي رواية عن الإمام أحمد، لكن القول الصحيح المختار الذي عليه جماهير السلف والخلف والأئمة المتبوعين: أنه لا يكفر بمجرد ترك الحج، ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية نفسها: وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران:97] أنه من لم يعتقد فرض الحج، ولا رأى في أداء الحج قربة لله سبحانه وتعالى، ولا رأى في ذمة المكلف أن يحج، فهذا هو الذي كفر؛ لعدم إيمانه بشرعية الحج، وليس من ترك الحج، فإن من ترك الحج مثله مثل من ترك كثيراً من المباني، يكون قد ارتكب إثماً وجرماً، لكنه لا يكفر، وكوننا نقول: لا يكفر لا يعني التهوين من شأن هذه الأعمال كما قد يقع لبعض الناس حتى الصلاة نفسها لا، يعني: تعظيم أمر الكفر وعدم الجرأة على إطلاقه على الناس، وفي الوقت ذاته تعطى الواجبات والأحكام الشرعية حقها، كما في بيان الوعيد والعقوبة الشديدة والإثم العظيم، وخاصة أن هذه الأحكام وهذه الفرائض هي ليست واجبات فحسب، وإنما هي أركان من أركان الإسلام، فلذلك قال الله سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

يوم الحج الأكبر

وكذلك ذكر الله تعالى الحج في سورة التوبة في قوله: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3]، فقوله سبحانه: يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] هذا إشارة إلى الحج وذكرٌ له، وقد قيل: إن الحج الأكبر هو يوم عرفة، ونقل هذا عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وأرضاهم.

وذهب الجماهير من الصحابة والخلف والسلف والأئمة إلى أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر الذي يلي يوم عرفة، وهو الذي تقع فيه أعمال الحج من الرمي والنحر والحلق والطواف، فلذلك سمي يوم الحج الأكبر، بل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماه يوم الحج الأكبر في الحديث المعروف: لما بعث علياً وجماعة من الصحابة ينادون في الناس يوم الحج الأكبر بهذا النداء، فحدده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والحديث جاء في البخاري معلقاً وهو عند أبي داود وابن ماجه وغيرهما من حديث ابن عمر وسنده جيد.

فلذلك نقول: إن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر وليس يوم عرفة، وفيه نادى المنادي بما أمر الله عز وجل: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3] ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

قصة الحج وبناء البيت

وكذلك الموضع الأخير في القرآن الكريم في سورة الحج وهي السورة التي سميت باسم هذه الشعيرة العظيمة، وفيها قوله سبحانه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]، وفي هذه السورة بسط الله عز وجل ما يتعلق بالحج وبناء البيت: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26]، وأكد على المعاني المقصودة من الحج, والتي أهمها ولبها وأساسها هو: العبودية لله سبحانه وتعالى وإفراده بالوحدانية، ونبذ الآلهة المدعاة من دونه، وهذا ما بعث به الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولذلك كان البيت للرسل كلهم جميعاً، فما من نبي إلا وقد حج البيت، كما قال القائل:

نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعاً في الكتاب وعدناه

فقد حج الرسل هذا البيت، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم هوداً وهو يحج البيت، وذكر موسى وهو يحج البيت، بل ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه سيحج هذا البيت مفرداً أو قارناً أو متمتعاً، يعني: محرماً بالحج أو بالعمرة أو ليثنينهما كما في صحيح مسلم.

فالبيت إذاً هو دار لكل الرسالات، وحتى اسم الإسلام هو اسم لجميع رسالات التوحيد التي بعث بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم هو وارث هداياتهم ومجدد شريعتهم, ومحيي ما اندرس من أمر الوحدانية، والمبعوث بختم الرسالات وبالتشريع الأخير الذي لا ينسخ ولا يزول حتى يشاء الله عز وجل.