أرشيف المقالات

الحديث العظيم في رحلة الروح

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
الحديث العظيم في رحلة الروح
 
أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يُلحَد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُستقبل القِبلة، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثًا، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر - مرتين أو ثلاثًا - ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر - ثلاثًا - ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيضُ الوجوه، كأن وجوههم الشمسُ، معهم كفنٌ من أكفان الجنة، وحَنوطٌ[1] من حنوط الجنة؛ حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء مَلَك الموت عليه السلام[2]، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورِضوان، قال: فتخرُجُ تسيلُ كما تسيل القطرةُ من في السقاء، فيأخذها - وفي رواية - حتى إذا خرجت رُوحه صلَّى عليه كل مَلَك بين السماء والأرض، وكلُّ مَلَك في السماء، وفُتِحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يُعرجَ برُوحه من قِبلهم، فإذا أخذها لم يَدَعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحَنوط، فذلك قوله تعالى: ﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مِسك وُجِدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يَمرون - يعني بها - على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمُّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيَستفتِحون له فيُفتَح لهم، فيُشيِّعُه من كلِّ سماء مُقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [المطففين: 19 - 22]، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتُهم، وفيها أُعيدهُم، ومنها أُخرِِجهم تارة أخرى، قال: فيُردُّ إلى الأرض، وتُعاد رُوحُه في جسده، قال: فإنه يسمع خفْق نِعال أصحابه إذا وَلَّوا عنه مدبرين، فيأتيه مَلَكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويُجلِسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولان له: وما عملُك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينتهره فيقول: مَن ربك؟ ما دينك؟ مَن نبيك؟ وهي آخر فتنة تُعرَض على المؤمن، فذلك حين يقول الله: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - فينادي منادٍ في السماء: أن صدَق عبدي، فأفرِشُوه من الجنة، وألبِسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مدَّ بصره، قال: ويأتيه - وفي رواية: يُمثَّل له - رجلٌ حسنُ الوجه، حسنُ الثياب، طيِّبُ الريح، فيقول: أبشِر بالذي يَسُرك، أبشِر برِضوان من الله، وجناتٍ فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت تُوعَد، فيقول له: وأنت فبشَّرك الله بخيرٍ، مَن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتُك إلا كنت سريعًا في طاعة الله، بطيئًا في معصية الله، فجزاك الله خيرًا، ثم يُفتَح له بابٌ من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيتَ الله، أبدَلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة، قال: ربِّ، عجِّل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكُن)).
 
قال: ((وإن العبد الكافر - وفي رواية: الفاجر - إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة غِلاظٌ شدادٌ، سود الوجوه، معهم المُسوحُ[3] من النار، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعُها كما ينتزع السفود الكثيرُ الشعب من الصوف المبلول، فتُقطَّعُ معها العُروقُ والعصبُ، فيلعنه كل مَلك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتُغلَق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تَعرُج رُوحه من قِبَلهم، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المُسُوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وُجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له، فلا يُفتَح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
﴿ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ [الأعراف: 40][4]، فيقول الله: اكتبوا كتابَه في سجين في الأرض السفلى، ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أُعيدُهُم، ومنها أُخْرِجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء طرحًا، حتى تقع في جسده ثم قرأ: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31]، فتُعاد روحه في جسده، قال: فإنه ليسمع خفقَ نعالِ أصحابه إذا ولَّوا عنه، ويأتيه مَلَكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويُجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: هاه هاه[5]، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيُقال: محمد! فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك! قال: فيقال: لا دَرَيت، ولا تَلَوتَ، فينادي منادٍ من السماء أن كذب، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسَمومها، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه - وفي رواية: ويُمثَّل له - رجلٌ قبيحُ الوجه، قبيح الثياب، مُنتنُ الريح، فيقول: أبشِر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنتَ تُوعَد، فيقول: وأنت فبشَّرك الله بالشرِّ من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علِمتُك إلا كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا على معصية الله، فجزاك الله شرًّا، ثم يُقيَّض له أعمى أصم أبكم، في يده مِرْزَبَّة، لو ضرب بها جبلاً كان ترابًا، فيضربه ضربةً حتى يصير بها ترابًا، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربةً أخرى، فيصيح صيحةً يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يُفتَح له باب من النار، ويُمهد من فُرُشِ النار، فيقول: رب لا تُقِم الساعة)
)
.

[1] بفتح المهملة: ما يُخلَط من الطيب بأكفان الموتى وأجسامهم خاصة.

[2] قلت: هذا هو اسمُه في الكتاب والسنة (مَلَك الموت)، وأما تسميتُه بـ: (عزرائيل) فمما لا أصل له، خلافًا لما هو المشهور عند الناس، ولعله من الإسرائيليات.

[3] جمع المِسح: (بكسر الميم) وهو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن؛ تقشفًا وقهرًا للبدن.

[4] أي ثقب الإبرة، والجَمَل هو الحيوانُ المعروف، وهو ما أتى عليه تسع سنوات.

[5] هي كلمة تقال في الضحك وفي الإيعاد، وقد تقال للتَّوجُّع، وهو أليقُ بمعنى الحديث، والله أعلم؛ كذا في "الترغيب".

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢