أرشيف المقالات

شرح حديث «ما تقرب إليّ عبدي... »

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها بي يسمع بي يبصر بي يبطش وبي يمشى، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن من يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

فتضمن هذا الحديث الشريف الإلهي- الذي حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه- والمراد به حصر أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه والتقرب إليه بالنوافل.

وأخبر سبحانه أنّ أداء فرائضه أحب مما يتقرب إليه المتقربون ثم بعدها النوافل، وأنّ المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله فإذا صار محبوبا لله أوجبت محبة الله له محبة منه أخرى فوق المحبة الأولى فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه وملكت عليه روحه ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكا لزمام قلبه مستوليا على روحه استيلاء المحبوب على محبه الصادق في محبته التي قد اجتمعت قوى حبه كلها له.

ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع لمحبوبه وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به وإن مشي مشي به فهو في قلبه ومعه ومؤنسه وصاحبه.

فالباء هاهنا باء المصاحبة وهي مصاحبة لا نظير لها ولا تدرك أنزل الأخبار عنها والعلم بها فالمسألة حالية لا علمية محضة.
وإذا كان المخلوق يجد هذا في محبة المخلوق التي لم يخلق لها ولم يفطر عليها كما قال بعض المحبين:

 

خيالك في عيني وذكرك في فمي *** ومثواك في قلبي فأين تغيب

وقال الآخر:

 
ومن عجب أني أحن إليهم *** فاسأل عنهم من لقيت وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم *** قلبي وهم بين أضلعي

وهذا ألطف من قول الآخر:

 
إن قلت غبت فقلبي لا يصدقني *** إذ أنت فيه مكان السر لم تغب

أو قلت ما غبت قال الطرف ذا كذب *** فقد تحيرت بين الصدق والكذب

فليس شيء أدنى من المحب لمحبوبه وربما تمكنت المحبة حتى يصير في المحبة أدنى إليه من نفسه بحيث ينسى نفسه ولا ينساه كما قال:

 
أريد لأنسى ذكره فكأنما *** تمثل لي ليلي بكل سبيل

وقال ال?خر:

 
يراد من القلب نسيانكم *** وتأبي الطباع على الناقل

وخص في الحديث السمع والبصر واليد والرجل بالذكر، فإن هذه الآلات آلات الإدراك وآلات الفعل والسمع والبصر يوردان على القلب الإرادة والكراهة ويجلبان إليه الحب والبغض فتستعمل اليد والرجل، فإذا كان سمع العبد بالله وبصره به كان محفوظا في آلات إدراكه فكان محفوظا في حبه وبغضه فحفظ في بطشه ومشيه.
تأمل كيف اكتفى بذكر السمع والبصر واليد والرجل عن اللسان فإنه إذا كان إدراك السمع الذي يحصل باختياره تارة وبغير اختياره تارة، وكذلك البصر قد يقع بغير الاختيار فجأة وكذلك حركة اليد والرجل التي لا بد للعبد منها فكيف بحركة اللسان التي لا تقع إلاّ بقصد واختيار؟ وقد يستغني العبد عنها إلاّ حيث أمر بها.
وأيضا فانفعال اللسان عن القلب أتم من انفعال سائر الجوارح فإنه ترجمانه ورسوله.

وتأمل كيف حقق تعالى كون العبد به عند سمعه وبصره الذي يبصر به وبطشه ومشيه بقوله: «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها».
تحقيقا لكونه مع عبده وكون عبده في إدراكاته بسمعه وبصره وحركته بيديه ورجله.

وتأمل كيف قال: «بي يسمع وبي يبصر وبي يبطش».
ولم يقل: فلي يسمع ولي يبصر ولي يبطش وربما يظن الظان إن اللام أولى بهذا الموضع إذ هي أدل على الغاية ووقوع هذه الأمور لله وذلك أخص من وقوعها به وهذا من الوهم والغلط إذ ليست الباء هاهنا أنزل الاستعانة فإن حركات الأبرار والفجار وإدراكاتهم إنما هي بمعونة الله لهم وإن الباء هاهنا للمصاحبة إنما يسمع ويبصر ويبطش ويمشي وأنا صاحبه ومعه كقوله في الحديث الآخر: «أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه».
وهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في قوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إن اللَّهَ مَعَنَا} وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، وقوله: {وَاصْبِرُوا إن اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وقوله: {قَالَ كَلا إن مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، وقوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} فهذه الباء مفيدة بمعنى هذا المعية دون اللام ولا يتأتى للعبد الإخلاص والصبر والتوكل ونزوله في منازل العبودية إلاّ بهذه الباء وهذه المعية.

فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاق وانقلبت المخاوف في حقه أمانا؛ فبالله يهون كل صعب ويسهل كل عسير ويقرب كل بعيد، وبالله تزول الأحزان والهموم والغموم: فلا هم مع الله ولا غم مع الله ولا حزن مع الله وحيث يفوت العبد معنى هذه الباء فيصير قلبه حينئذ كالحوت إذا فارق الماء يثب وينقلب حتى يعود إليه.

ولما حصلت هذه الموافقة من العبد لربه تعالى في محابه حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه فقال: «ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه» أي كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتقرب إلي بمحابي فانا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني إن أفعل به، ويستعيذني إن يناله مكروه وحقق هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى ذلك تردد الرب سبحانه في إماتة عبده ولأنه يكره الموت والرب تعالى يكره ما يكره عبده ويكره مساءته فمن هذه الجهة تقتضي أنه لا يميته ولكن مصلحته في إماتته فإنه ما أماته إلاّ ليحييه وما أمرضه إلاّ ليصحه وما أفقره إلاّ ليغنيه وما منعه إلاّ ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة في صلب أبيه إلاّ ليعيده إليها على أحسن الأحوال ولم يقل لأبيه اخرج منها إلاّ ليعيده إليها فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، بل لو كان في كل منبت شعرة لعبد محبة تامة لله لكان بعض ما يستحقه على عبده.

 
نقل فؤادك حيث شئت *** من الهوى ما الحب إلاّ للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدا لأول منزل

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير